328

ومنهم كذلك أبطال الطعام، ولهؤلاء من الخبرة بالطعام، وقوة تذوقه، وعظم تجويده، والتأنق فيه، وحسن تخيره، وانتقاء أطايبه، ما لا ينفذ إلى مكنون سره، ولا يحيط بظاهر أمره، إلا من رزق الموهبة، فلفن الطعام - لو تعلمون - مواهب لقد ترفع أصحابها إلى جبابرة الأبطال!

ولربما أقبل عليك «البطل» من هؤلاء يسألك ويمتحنك، ويدلك على قدرك في هذا، أو على الصحيح ليبعث فيك الحسرة على ما فاتك من أسعد حظوظ الحياة، وراح يلقي عليك درسا سابغا فيما يحسن أن يزيد بقله، وما يجمل أن يكثر زيته ويقل خله، وما يصهر في الشمس قبل قليه، وما يطمر في «الدمس» قبل شيه، وما يترك للندى بعد غليه، وما يحشى زبيبا ولوزا، وما ترصع حواشيه صنوبرا وجوزا، وما يكمخ سكره في بصله، وما يخلط عسله بخردله، إلخ، ثم جعل يقص عليك ما أصاب في غدائه، فتلا عليك، بظهر الغيب، قائمة طويلة لو كتبت لعاني النظر فيها سفرا طويلا، ولو تهيأ لجراح أن يبقر بطنه لساعته، لكشف المبضع عن أفخر معرض لأفخر الأطعمة في العالم! •••

وهناك بطولات وبطولات في غير هاتيك الفنون.

ولقد طال هذا الحديث، فحسبنا هذا القدر اليوم، على أن نتم الحديث، في «الأبطال» المطلقين، وفي إيراد صدر من نوادر هؤلاء جميعا، وذلك في العدد القادم إذا أحياني الله!

بطولة (2)

رأيت في العدد الماضي من «المصور» بعض صفة سادتنا الإخصائيين هؤلاء «الأبطال»، وعرفت كذلك بعض الفروع التي تخصص فيها كل منهم والآن نحدثك عن الأبطال «المطلقين» أو «العموميين»، وهؤلاء الذين لا تتوافر بطولتهم على فن، ولا تقتصر على فرع، ولا تنتهي من أسباب الدنيا عند حد، فهي تتناول كل شيء، ولا ينشز عنها في جميع مظاهر الحياة شيء.

ولعلك رأيت أو سمعت بمحل «سلفريدج» مثلا في لندرة، ففيه مكتب للسياحة، وفيه مكان لبيع جميع صحف العالم، وفيه مطعم فاخر، وبهو (صالة) لتناول الشاي، ومكان للمطالعة، وآخر لبيع جميع المأكولات، ومخزن كبير لبيع الأثاث القديم، و«صالونات» فاخرة للحلاقة، للرجال والسيدات، وغير ذلك كثير، فإذا أعوزك شيء مما ليس عنده، وافاك به عجلا ولو كان في أقصى أطراف المعمورة، ومثل هذا المحل في بلاد الغرب كثير!

أما أنا فلم أشخص طوال حياتي إلى أوروبا، ولا إلى أمريكا، ولا أستراليا، ولم أشهد حتى بيت المقدس، ولا الصخرة المقدسة، ولا المبكى الشريف الذي تدور حوله كل هذه المعارك بين المسلمين وبين من صبهم وعد بلفور عليهم من الصهيونيين!

ولكن أرجوك يا سيدي القارئ أن تصدقني إذا زعمت لك أنني سافرت إلى بنها، وأعني بنها العسل، وكان هذا السفر من نحو ثلاثين سنة خلت.

وكتب لي يومئذ أن أشهد فيها متجر المرحوم إبراهيم باشا عبده (سر) تجارها، يومئذ، فإذا هو أشبه بسوق عظيمة رفعت من بين خاناتها ودكاكينها الحدود والحوائل، ومن هذا المتجر تشتري الحرير، و«الباتستا»، والبياض، ومنه تشتري الفحم، والجير، والإسمنت، ومنه تشتري المصوغات الذهبية والفضية، كما تشتري الحديد والخشب والطوب الأحمر!

अज्ञात पृष्ठ