والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تعلم في الأزهر وقرأ طرفا من كتب الأدب، واستظهر صدرا من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - إلا أنه لم يكن مدينا في بيانه لشيء من هذا بقدر ما كان مدينا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحدا لم ينته في البيان منتهاه، ثم تقبل على صيغه تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبا، أو على الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع البلاغات.
ثم إليك صورة للمرحوم محمد المويلحي، أعجب ما فيها إبانتها عن سر فلسفته الخاصة في حمله على نفسه وصبره على مضض الأيام، موفقا في ذلك بين مذهبه الفكري وسيرته العقلية في الحياة، قال الأستاذ:
ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله أنه كان أقل خلق الله تأثرا بما يغمر المرء من متعارف الناس ومصطلحهم في عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم، بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حكمه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من هذه الأحكام، لا يبالي أحدا، ولا يتأثر، كما قلت، بأثر خارجي ولو كان مما انعقد عليه إجماع الناس، وإذا كنت قد نعته «بالفيلسوف» فإنما أعني هذه الصفة فيه؛ فإنني لم أكد أرى رجلا لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل بحكم ملابستي له السنين الطوال.
إلى هنا انتهيت بك أيها القارئ الكريم من الطواف عاجلا بأقسام المتحف، وليس يذهب عني أنني لم أزدك شيئا على ما يعطيك عامة الأدلاء في المتاحف من الإرشاد الساذج الناقص، إلى مواضع مختلفة من مواقع الجمال والجلال.
فانصرف الآن موفقا إلى تروية نفسك من اللذائذ الذهنية التي توحيها إليك - بلا وساطة - مطالعة ما في هذا الكتاب من الآيات الفنية.
كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد، فما كنت أقدر في يوم من الأيام أن يستوي من بعض هذا الذي أرسله في الصحف الدائرة الحين بعد الحين كتاب مجموع، وإن عادة لي لزمتني من يوم ضبطت القلم ألا أحرص على حفظ شيء من آثاره المنشورة في هذه الصحف، فإذا وقع لي شيء من ذلك أسرعت إلى إتلافه تمزيقا أو تحريقا.
وسبيل هذه العادة إلي أنني أول ما عالجت الكتابة وتعلقت بصنعة القلم، كنت أدرك تمام الإدراك أنني ناشئ لا أجيد البيان، فإذا كانت لي طبيعة فلن تتهيأ لي الإجادة إلا بعد شدة معاناة وطول تمرين، وظللت على هذا دهرا وأنا في ارتقاب الأحسن مما يثبت للأنظار لأحفظه وأدخره للجمع ثم للطبع، فلا أراه قد تهيأ لي، فلا أبرح أهمل كل ما ينتضح به القلم، ولا أبقي منه على كثير ولا قليل.
अज्ञात पृष्ठ