ولقد ظلت هذه الحال زهاء عشرين ثانية، أعني قرابة ثلث الدقيقة، وينفجر البركان الأعظم يتطاير عنه الحمم، وترى الخلق يموج بعضهم في بعض، لا يدري والله أحد أين مذهبه، ولا تسل كيف قدرت الحناجر من الشهيق، ولا كيف بريت الأكف بالتصفيق، وخرج الأمر ساعة عن عرس مقام إلى مستشفى مجانين، رفعت فيه الحوائل وفتحت الأبواب، ونحى عنه أحراسه من الشرط والحجاب!
تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1
سيداتي، سادتي
لست أثقل عليكم الليلة بنحو سيبويه ولا بلغة أبي عبيدة؛ لأنني لا أحدثكم هذه المرة بلسان أعرابي بشملة، بل لقد أتدلى بالحديث إلى العامية الخالصة ما اقتضاها المقام، وللعامية أيضا بلاغاتها ودقة تصويرها، وخاصة في مثل بعض المقامات التي سأعرض لها بالحديث اليوم.
سأتكلم في هذه الأغاني الشائعة الآن، ولا يظنن أحد أنني بهذا أنحرف عن الحديث في الأدب، فالقول في الأغاني إنما هو قول في صميم الأدب، ولا تنسوا أن أغزر كتاب وأجمعه وأكفاه صنف في الأدب العربي، فأتى على عصارته وعيون روائعه من أول العلم ببلاغات الجاهلية إلى غاية ثلاثة قرون في الإسلام، إنما كان موضوعه الأغاني، بل اسمه الأغاني!
وقبل أن أمعن في موضوعي أخير من عندهم منكم فتيات إحدى اثنتين: إما أن يقفوا «الراديو» بتاتا حتى ينقضي الزمن المقسوم لحديثي، وإما أن يصرفوا عنه فتياتهم، على أنكم تستطيعون أن تطمئنوا من هذه الناحية إلى ما قبيل مختتم الحديث، وعلى أنني أستطيع أن أؤكد لكم جميعا أن فتياتكم جميعا قد سمعن هذا الذي سأتمثل به، وسمعن ما هو أنكر منه وأكره، ولقد سمعته محسنا مبهجا لآذانهن الكريمة بالتوقيع والتطريب؛ بينا أنا لا أعرض منه ما أعرض إلا في مقام التقبيح والتهجين، فأنتم الآن بالخيار، وقد أعذرت، فاللهم اشهد وأنت خير الشاهدين!
وبعد، فأرجو ألا يتهاون أحد منكم شأن الأغاني، على اختلاف ضروبها وألوانها، فالأغاني كما هي عرض من أعراض الأمة، وترجمان صادق الأداء عن حالها وعقليتها، ومبعث مواجعها وآلامها، ومتناجى آمالها في الحياة وأحلامها، فإن لها كذلك لأثرا بعيدا في بناء النشء وتربيتهم، وفي تسوية الأذواق العامة، بل إن لها وراء ذلك لأثرا أبعد مدى يوم تكون الجلى، ويوم تستنفر الجمهرة للعظائم!
على أن أثر الأغاني، في هذا الباب، لا يحتاج مني إلى بيان، فلقد طالما قال فيه أفاضل الأدباء وبينوا، وأفاضوا فأجملوا وأحسنوا، وصدق المتقدمون حين قالوا: إن توضيح الواضحات من بعض المشكلات، ولله أبو الطيب المتنبي حين يقول:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل!
अज्ञात पृष्ठ