1
طوينا في الأزهر بضع سنين، مقصورا جهدنا كله على درس الفقه والنحو، ثم استشرفنا على العادة، لدرس شيء من علوم البلاغة في أبسط كتبها المعروفة يومئذ لأهل الأزهر، ولم يرعني في تلك الأيام إلا أن هجم على نفسي سؤال شغلني وأهمني، حتى كان في بعض الحين يملك علي مذاهب تفكيري! وإني لأخشى أن أبادي به أشياخي أو لداتي في الطلب، لئلا أرمى بالجهل المطبق بما يعلم الناس جميعا، بدليل أن أحدا لم يراجع فيه من بين الطلاب جميعا!
هذا السؤال هو أنه ما دامت للبلاغة علوم مقررة، ومعارف واضحة، وقواعد مفصلة مقسومة، وقضايا محدودة مرسومة، فقد أصبح من السهل اليسير على كل من يجيد علمها، ويحذق فهمها، أن يجيء بالبليغ من القول إذا نظم أو نثر، بل لتهيأ له أن يجيء بأبلغ الكلام، بل بما ينتهي منه إلى حدود الإعجاز! وما له لا يصنع، وقواعد البلاغة تشير بأوضح الإشارة إليه، وتدل بأفصح العبارة عليه؟
ماذا على المرء إذا أرسل الكلام أن يخرجه مطابقا لمقتضى الحال، ويجريه على أحكام الفصل والوصل، ولا ينحرف به عن مقتضيات الإيجاز والإطناب والمساواة؟ وهذه أحوال التشبيه بين يديه، فما يمنعه أن يصوغ الكلام على غرارها، ويترسم فيه أجلى آثارها؟ وهكذا ...
ولكن الواقع ... الواقع القاسي يأبى مع الأسف إلا أن يزعجني عن الاستراحة إلى هذا الفكر القويم، والمنطق السليم! فهؤلاء متقدمو الطلاب الذين درسوا علوم البلاغة في أفحل كتبها المقسومة وأعلاها مكانا، لا حظ لأكثرهم الكثير في فصاحة ولا في بيان! بل هؤلاء أشياخهم الذين استهلكوا الدهر الأطول في درس هذه الكتب وتحقيق قضاياها ومسائلها، حتى فروا أبوابها فريا، وبروا فصولها بريا، هؤلاء كثير منهم لا غناء لهم في فصاحة لسان، ولا في نصاحة بيان!
هذا طالب كبير يجاورني في خزانة حوائجي في الأزهر، وهو يتلقى علم الأصول في كتاب «جمع الجوامع»، أي أنه فرغ من درس كتاب «السعد»، أي أنه ختم علوم البلاغة، ولم تبق له بشيء منها أية حاجة، لقد جمعنا هذا الطالب المنتهي ليسمعنا قصيدة رائعة من نظمه يهجو بها أهل بلدة «كوم زمران» المجاورة لبلده، فأسرعنا إلى الاستواء بين يديه وقد أرهفنا الآذان، وحددنا الأذهان، وعلقنا الأنفاس، حرصا على المتاع بما لا يظفر بمثله عامة الناس!
ولست أروي لكم أيها السادة، من هذه القصيدة الرائعة حقا، والجديرة بمن أتم دروس «السعد» وحواشيه حقا، إلا هذه الستة الأبيات.
أما مطلع القصيدة فهو بمشيئة الله تعالى.
دع كوم زمران كي تنجو من العلل
وتستريح أخي من كثرة الزلل
अज्ञात पृष्ठ