ومما يذكر له في هذا الباب أنه كان في مفاوضات سنة 1921، وجرى الكلام في الاحتلال الإنجليزية، وأصر المفاوضون المصريون على طلب الجلاء، فقال لهم اللورد كرزن في شيء من التهكم: وإذا سحبنا عسكرنا من بلادكم، ألا يجوز أن تحتلها اليونان في اليوم الثاني؟! فانتفض رشدي انتفاضة شديدة، وأجابه من فوره: لا تنس يا لورد أن أسلافك حين حاولوا غزو مصر ألقاهم هؤلاء المصريون في البحر، وكان ذلك بقيادة جدي أنا! (يريد رحمه الله موقعة رشيد)، فوجم اللورد كرزن ووجم الحاضرون جميعا، وبعد سكوت طويل أو قصير صرف اللورد الحديث إلى شأن آخر!
نزاهته
تقلب رشدي في مناصب الحكم حتى صارت إليه رياسة الوزارة، وحتى طرح القدر بين يديه يوما أمر مصر كلها، وكان طوال زمن الحرب كل شيء، في الجهة المصرية على الأقل؛ فما التمس قط لنفسه ولا لأحد ممن يلوذون به مغنما من أي نوع كان، وعزيز علي أن أنوه بشرف رشدي وأن أشيد بنبل نفسه، فإن مثله لأجل من أن تلحق ذمته التهم، ولقد وافقته مرة في مكتب المرحوم أحمد الأزهري بك من كبار موظفي مصلحة الأملاك، وهو يسأله في تأجيل دين عليه للمصلحة، ذهب عني قدره بالضبط، على أنه على كل حال يضطرب بين الستمائة جنيه والثمانمائة، ثم التفت إلى بعض الحاضرين وقال في مرارة أردفها بضحكة مصنوعة: يقولون إني بعت مصر بثلاثة ملايين، فهلا دفعوا منها لمصلحة الأملاك هذا المبلغ وأخذوا لأنفسهم الباقي؟
عطفه وبره
كان رشدي نبيل الإحساس، بالغا من طيبة القلب مبلغا لا يكاد يلحقه فيه إنسان، فما أصاب عانيا أو مدنفا أو امرأ تغير له الزمن إلا أحس بأنه هو المسئول عما ضربته به الأيام، وكثيرا ما تتضح عينا هذا الرجل الشجاع بالدمع إذا رأى مكلوما في جسمه، أو ممتحنا في أسباب حياته، أما ماله وأما جاهه العريض فذلك كله نهب مقسم بين العافين من الناس، ولو كان رشدي باشا يملك كل ما في الدنيا من مال لخرج عنه لطالبيه في سماحة وارتياح، ولقد تقسم وقته في أخريات سنيه، بين أن يفرق على الناس كل ما احتوته محفظته، وبين أن يطوف بهم الدواوين يشفع لهم في قضاء الحاجات، ولقد أسرف في هذا حتى ابتذلت شفاعته أو كادت تبتذل عند الحكام لشدة إفراطه في الرجاء، على جلالة محله لديهم، وسمو قدره عندهم، وحتى خرج من الدنيا صفرا إلا من الشرف، وإلا من أعلى الذكرى لأعلى الرجال. •••
وبعد، فلقد خسرت مصر - من غير شك - بموت رشدي باشا مجموعة من المواهب جليلة غالية، وإذا كانت الأيام تنجب لنا رجلا في علمه، أو في عبقريته، أو في شجاعته، أو في وطنيته، أو في طيبة قلبه، أو في نبل أخلاقه، أو في كرم يده؛ فهيهات أن تنجب رجلا جمع معا كل هذه الخلال كما جمعها فقيدنا العظيم، وإن لم يكن ذلك على الله بعسير.
الشيخ علي يوسف1
في يوم 25 أكتوبر من سنة 1913 والقلوب واجفة، والأبصار زائغة، ومصاير الأمور تتواثب للأوهام في صور مبهمة غامضة، تضطرب بين اليأس كله وبين الرجاء كله، والناس يتساءلون متهامسين من الخوف ومن الورع: ترى ماذا عسى أن يكون قسم مصر من هذه الحرب العامة، وماذا كتبت لها الأقدار، في صفحتي الليل والنهار؟
في ذلك اليوم من تلك الأيام السود، مات رجل ليس كمثله في مصر كثير، رجل إذا أحبه ناس أشد الحب، فلأنه قوة كبيرة في مصر، وإذا كرهه ناس أشد الكره، فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تفرق الأهواء فيه، كان قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعا لها كل حساب.
ولقد كنت من الذين أبغضوا الشيخ عليا أبعد البغض، ثم كنت من الذين يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيته في حالي بغضي وحبي له إلا رجلا عظيما!
अज्ञात पृष्ठ