المختار من شعر شعراء الأندلس
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ أبو القاسم علي بن منجب الصيرفي ابن سليمان: الحمد لله على سابغ نعمته، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله.
ودراسة البلاغة تنقسم إلى نظم ونثر، وقد اختلف الناس في التفضيل بينهما، والذي نرغب أن يكون مذكرًا وبمحاسنه محاضرًا له منه على ما يسمعه. والعناية بما يعلقه ويجمعه، ومن جعل الحق مقصوده، والإنصاف مطلوبه، علم أن الفضائل ليست مخصوصة ببعض الأمكنة، ولا مقصورة على قديم الأزمنة، على أن الإقليم الرابع وإن كان أفضل من غيره، فذلك لا يوجب سلب الفضيلة مما سواه، ولا عدم الحسنة فيما عداه، فكل زمان لا يخلو من أفكار تستنبط، وقرائح تؤلف، وهذا لمن تأمله واضح، ولمن تدبره جلي.
ولقد وقفت للعصرين من شعراء الأندلس على ما لا عذر في جحد إحسانه، ولا حجة في ترك استحسانه، فرأيت أن أعلق في هذا الجزء ما تيسر لي: (وقال ابن عباذ وقد أمره أبوه أن يصف مجنًا فيه كواكب فضة:)
1 / 15
مجنٌ حكى صانعوه السماء ... لتقصر عنه طوال الرماح
وقد صوروا فيه شبه الثريا ... كواكب تقضي له بالنجاح
وقال في شمعة:
وشمعةٍ تنفي ظلام الدجى ... نفي أذى العدم عن الناس
ساهرتها والكأس يسعى بها ... من ريقه أشهى من الكاس
ضياؤها لاشك من وجهه ... وحرها من حر أنفاسي
وقال في وصف قصيدة:
إليك روضة فكر جاد منبتها ... ندى يمينك لا طل ولا مطر
جعلت ذكرك في أرجائها زهرا ... فكل أوقاتها للمجتني ثمر
وقال يستدعي عودًا للغناء:
غلب الكرى ودنت مطايا الراح ... واشتقن شدو حداتها النصاح
فابعث نشاط سؤومها وحسيرها ... بغناء حاديها أخي الإفصاح
ليقيم ذاك العود من رسم السرى ... ويعود في الأجسام بالأرواح
فنسير في طوق السرور ونهتدي ... لخفيهن بأنجم الأقداح
وقال في توديع بعض جواريه:
1 / 16
ساريتهم والليل غفلٌ ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما
فوقفت ثم مودعًا وتسلت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما
ولم تزل أيام المعتمد صافية من الكدر، محميةً من الغير إلى أن دهي من يوسف بن تاشفين بداهية خلعته عن سلطانه، وأزعجته عن أوطانه، فعاد من كان يمدحه راثيًا له ناعيًا، ومن كان يرجوه منتجعًا عليه باكيًا.
ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيونٍ سرها وقلوب
قال أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة: كنت بين يدي الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه، فورد الخبر بأخذ غرناطة في رجب
1 / 17
سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، فتفجع وتلهف، واسترجع وتأسف، وذكر قصر غرناطة، فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام، وأمر ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
فاستحالت مسرته، وتجمعت أسرته، وأمر بالغناء من ستارته، فغنى:
إن شئت أن لا ترى صبرًا لمصطبر ... فانظر على أي حالٍ أصبح الطلل
فتأكد تطيره، واشتد اربداد وجهه وتغيره، وأمر مغنية أخرى بالغناء فغنت:
يا لهف نفسي على مالٍ أفرقه ... على المقلين من أهل المروات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما لست أملك من إحدى المصيبات
قال: فتلافيت الحال بأن قمت فقلت:
محل مكرمةٍ لا هد مبناه ... وشمل مأثرةٍ لا شته الله
البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفًا ... أن الرشيد مع المعتد ركناه
ثاوٍ على أنجم الجوزاء مقعده ... وراحلٌ في سبيل السعد مسراه
حتمٌ على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأسٌ توقد فاحمرت لواحظه ... ونائلٌ شب فاخضرت عذاراه
فلعمري لقد بسطت من نفسه، وأعدت عليه بعض أنسه، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل، لقولي: البيت كالبيت، وأمر اثر ذلك بالغناء أبا بكر، فغنى:
ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب
فأيقنا أن هذه الطير تعقب الغير.
1 / 18
وقد كان المعتضد عباد حين تصرمت أيامه، وتدانى حمامه استحضر مغنيًا يغنيه، ليجعل ما يبدأ به فالًا، وكان المغني السوسي فأول شعر قاله:
نطوي المنازل علمًا أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا
فمات بعد خمسة أيام، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات. قال ابن اللبانة في كتاب"نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العبادية" أن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأعلم باعتقادها وكشف له عن مرادها، وحض على هتك حرمها، وأغري بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله به من حسن اليقين وصحة الدين، إلى أن أمكنتهم الغرة، فانتصروا ببغاث مستنسر، وقاموا بجمع غير مستبصر، فبرز من قصره متلافيا لأمره، عليه غلالة ترف على جسده، وسيفه يتلظى في يده:
وذاك السيف راق وراع حتى ... كأن عليه شيمة منتضيه
1 / 19
كأن الموت أودع فيه سرًا ... ليرفعه إلى يومٍ كريه
فلقي على باب من أبواب المدينة فارسًا مشهورًا بنجدة، فرماه الفارس برمح التوى في غلالته، وعصمه الله تعالى منه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه، فخر صريعًا سريعًا، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها، وبعد ما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها، وأخذوا على غير طريق، وهوت بهم ريح الهيبة في كمان سحيق، فظننا أن البلد من أقذائه قد صفا، وثوب العصمة علينا قد ضفا، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب، فعظم الخطب في الأمر الواقع، واتسع الخرق فيه على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية بادية، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه وتراميه على الموت بنفسه، بما لا مزيد عليه، ولا تناهى خلق من خلق الله إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس عن منازلهم، يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشف وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب منه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في أتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف، استنقذه الله منه، فذكرت به شعرًا كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك في الشهر بعينه من العام الماضي وهو الأمير أبو عبد الله بن الصفار وهو:
لم نقل في الثقاف كان ثقافًا ... كنت قلبًا به وكان شغافا
يمكث الزهر في الكمام ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيمٍ ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درةٌ للمعالي ... ركب الدهر فوقها أصدافا
1 / 20
حجب البيت منك شخصًا كريمًا ... مثلما تحجب الدنان السلافا
أنت للفضل كعبةٌ ولو أني ... كنت استطيع لاستطعت الطوافا
وقال أبو بكر: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألد من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح من فجر على صباح.
ما أخرج من شعره في مدة أسره، قال من قطعة:
أبى الدهر أن يفني الحياء ويندما ... وأن يمحو الذنب الذي قد تقدما
فان يتلقى وجه عتبي وجهه ... بعذرٍ فغشى صفحتيه التذمما
ستعلم بعدي من تكون سيوفه ... إلى كل صعبٍ من مراقيك سلما
سترجع إن حاولت دوني فتكةً ... بأخجل من خد المبارز احجما
وقال:
سلت علي يد الخطوب سيوفها ... فجذذن من جلدي الحصيف الأمتنا
ضربت بها أيدي الصروف وإنما ... ضربت رقاب الآملين بها المنى
يا آملي العادات من نفحاتنا ... كفوا فإن الدهر كف أكفنا
وقال من قصيدة يصف فيها الكبل:
تعطف في ساقي تعطف أرقم ... يساورها عضًا بأنياب ضيغم
وإني من كان الرجال بسيبه ... ومن سيفه في جنةٍ وجهنم
1 / 21
وطلب خباء من أهل يوسف يسافر به، فوعد بذلك، ثم أخلف عند حركته فقال:
هم أوقدوا بين جنبيك نارا ... أطالوا لها في حشاك استعارا
أما يخجل المجد أن رحلوك ... ولم يصحبوك خباءً معارا
تراهم نسوا حين جبت القفارا ... حنينًا إليهم وخضت البحارا
بعهد لزومٍ لسبل الوفاء ... إذا حاد من حاد عنها وجارا
وقلبٍ نزوعٍ إلى يوسفٍ ... فلولا الضلوع عليه لطارا
ويوم العروبة ذدت العدى ... وحطت الهدى وأبيت الفرارا
فررت هناك وإن القلو ... ب بين الضلوع لتأبى الفرارا
كأنك تحسبها نرجسًا ... تدير الدماء عليها عقارا
وقال:
قبح الدهر فماذا صنعا ... كلما أعطى نفيسًا نزعا
قد هوى ظلمًا بمن عاداته ... أن ينادي كل من يهوى لعا
من إذا قيل الخنا صمّ وإن ... نطق العافون همسًا سمعا
قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا
راح لا يملك إلا دعوة ... جبر الله العفاة الضيعا
وقال:
1 / 22
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... أسرك العيد في أغمات مأسورا؟
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلًا ... فردك الدهر منهيًا ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
وتعرض له قوم من ملحفي أهل الكرية فقال:
سألوا اليسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق منهم فاعجب
لولا الحياء وعزةٌ لخميةٌ ... طي الحشا لحكاهم في المطلب
وكان قد أبلى بلاءً حسنًا عند خلعه، فأشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف فقال:
قالوا الخضوع سياسةٌ ... فليبد منك لهم خضوع
إن يسلب القوم العدى ... ملكي ويسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
كم رمت يوم نزالهم ... ألا تحصنني الدروع
ما سرت قط إلى القتا ... ل فكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
قوله: ما سرت قط إلى القتال من باب ما تمثل به أحد الخوارج في وقعة قديد أيام مروان بن محمد الجعدي.
1 / 23
وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجع
وقال يرثي ولديه الفتح ويزيد:
يقولون صبرًا لا سبيل إلى الصبر ... سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
أفتح لقد فتحت لي باب رحمةٍ ... كما بيزيد الله قد زاد في ذخري
هوى بكما المقدار عني ولم أمت ... فأدعى وفيًا قد نكصت إلى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
أبا خالدٍ أورثتني البث خالدًا ... أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري
وقال من قطعة يرثي بها سعدًا ابنه:
إذا كان قد أودى الزمان بمثله ... ولم يبق في عودٍ له طمعٌ بعد
فلا بترت بترٌ ولا قنيت قنى ... ولا زأرت أسدٌ ولا صهلت جرد
ولا زال ملدوغًا على سيد الحشا ... ولا انفك ملطومًا على ملكٍ خد
1 / 24
وقال من قطعة:
نارٌ وماءٌ صميم القلب أصلهما ... متى حوى القلب نيرانًا وطوفانا
ضدان ألف صرف الدهر بينهما ... لقد تلون في الدهر ألوانا
وقال ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات فلما قارب الصدر، وأزمعت السفر، صرف حياه، واستنفذ ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ولده -وهذا من بنيه أحسن الناس سمتًا، وأكثرهم صمتًا، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في اقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح من خطه فيها زهر البساتين- بعشرين مثقالًا مرابطية، وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتًا منها:
إليك النزر من كف الأسير ... وإن تقنع فكن عين الشكور
تقبل ما يذوب له حياءً ... وإن عذرته حالات الفقير
فامتنعت من ذلك عليه، وأجبته بأبيات منها:
تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا ... إذا أصبحت أجحف بالأسير
جذيمة أنت والزباء خانت ... وما أنا من يقصر عن قصير
تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من قليلٍ بالكثير
وأعجب منك أنك في ظلامٍ ... وترفع للعداة منار نور
رويدك سوف تسعدني سرورًا ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور
1 / 25
تزيد على ابن مروانٍ عطاءً ... بها وأزيد ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوعٍ ... فليس الخسف ملتزم البدور
وأتبعتها أبياتًا منها:
حاش لله أن أجيح كريمًا ... يشتكى فقرًا وكم سد فقرا
وكفاني كلامك الرطب نيلًا ... كيف ألفي درًا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
ما أخرج مما قيل فيه بعد نكبته، قال أبو بكر محمد بن عيسى الداني يندب المعتمد عملها بأغمات في سنة خمس وثمانين وأربعمائة:
أفكر في عهدٍ مضى لك مشرقٍ ... فيرجع ضوء الشمس عندي مظلما
لئن عظمت فيك الرزية إننا ... وجدناك منها في المزية أعظما
قناةٌ سعت للطعن حتى تقصدت ... وسيف أطال الضرب حتى تثلما
وطودٌ غريبٌ في الشواهق أفره ... بنى ظلةً من فوقنا وتهدما
صباحهم كنا به نحمد السرى ... فلما عدمناه سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حماهم ... فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
قصورٌ خلت من ساكنيها فما بها ... سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى
يجيب بها الهام الصدى ولطالما ... أجاب القيان الطائر المترنما
كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى ... بها الوفد جمعًا والخميس عرمرما
1 / 26
ولا جر فيها صعدة الرمح خلفه ... فتاها فقلنا: الصل اتبع ضيغما
ولم يصدع النقع المثار سنانه ... كما صدع الظلماء برقٌ تضرما
ولا صورت في جسمه الدرع شكلها ... فأشبه مما صورت فيه أرقما
جرى القدر الجاري إلى نقض أمره ... فعاد سحيلًا منه ما كان مبرما
مصابٌ هوى بالنيرات من العلى ... ولم يبق في أرض المكارم معلما
حكيت وقد فارقت ملكك مالكًا ... ومن ولهي أحكي عليك متمما
ندبتك حتى لم يخل لي الأسى ... دموعًا بها أبكي عليك ولا دما
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها ... عليك وناح الرعد باسمك معلما
وحار ابنك الإصباح وجدًا فما اهتدى ... وغاض أخوك البحر غيظًا فما طما
قضى الله أن حطوك عن متن أشقر ... أشم وإن أمطوك أسأم أدهما
قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت ... قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا ... لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى الجب يوسفًا ... ويؤويك من آوى المسيح بن مريما
وقال من أخرى:
تبكي السماء بدمعٍ رائح غادي ... على البهاليل من أبناء عباد
عريسةٌ دخلتها النائبات على ... أساودٍ منهم فينا وآساد
1 / 27
وكعبةٌ كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي
كم من دراري سعدٍ قد هوت ووهت ... منهم وكم دررٍ للمجد أفراد
نورٌ ونورٌ فهذا بعد نضرته ... ذوى وذاك خبًا من بعد إيقاد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم لتسكنه ... خف القطين وجف الزرع بالوادي
ضللت سبل الندى يا ابن السبيل ... فسر لغير قصدٍ فما يهديك من هادي
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا ... وقد خلت قبل حمصٍ أرض بغداد
ذلوا وكانت لهم في العز مرتبةٌ ... تحط مرتبتي عادٍ وشداد
سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي
وقال من أخرى:
لكل شيءٍ من الأشياء ميقات ... وللمنى من مناياهن عايات
والدهر في صبغة الحرباء منغمسٌ ... ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات
وطوت مظلتها لا بل مذلتها ... من لم يزل فوقه للعز رايات
وكان ملء عيان العين تبصره ... وللأماني في مرآه مرآة
رماه من حيث لم تستره سلبغةٌ ... دهرٌ مصيباته نبلٌ مصيبات
1 / 28
له المهاباة بالأرواح آخذةٌ ... وإن تكن أخذت منه المهابات
وبدر سبعٍ وسبعٍ تستنير به الس ... بع الأقاليم والسبع السماوات
له وإن كان أخفاه السرار سنى ... مثل الصباح به تجلى الدجنات
لهفي على آل عبادٍ فإنهم ... أهلةٌ ما لها في الأفق هالات
تمسكت بعرى اللذات ذاتهم ... يا بئسما جنت اللذات والذات
ومنها:
فجعت منها بإخوانٍ ذوي ثقةٍ ... فاتوا، وللدهر في الإخوان آفات
واعتضدت في آخر الصحراء طائفةً ... لغاتهم من جميع الكتب ملغاة
بمغرب العدوة القصوى دجا أملي ... فهل له بديار الشرق مشكاة
وقال من أخرى:
ابكوا المؤيد بالنجيع فما قضى ... حق المعالي من بكاه بدمعه
كتابه في روض عزً مثمرٍ ... نجني الأماني غضةً من ينعه
والآن لا حظٌ لنا فكأنما ... وقفت مجاري الرزق ساعة خلعه
وقال ابن حمديس:
1 / 29
جرى بك جدٌ بالكرام عثور ... وجار زمانٌ كنت منه تجير
لقد أصبحت بيض الظبا في غمودها ... إناثًا بترك الضرب وهي ذكور
ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير
قال ابن اللبانة: كان أبو الإصبع بن الأعلم وزير الرشيد ومدبر أمره، فاغتبط، وولي الوزارة بعده من لم يسد مسده، رجل قصير باع المعرفة، قبيح المنظر والمخبر والصفة، ولقد يقال بأنه ولعله كذب ورور ما يقال عليه.
وكتب ابن اللبانة إلى المعتمد جوابًا عن أبيات أنفذها إليه وذلك بعد خلعه:
بروق الأماني دون لقياك خلب ... ومشرق أفق لم تلح فيه مغرب
عدمت مرادي منك لا الماء نافعٌ ... ولا الظل ممدودٌ ولا الروض مخصب
ولا أنا في تلك الحديقة زهرةٌ ... ولا أنا في تلك المجرة كوكب
سقى الله عهدًا كنت صيب عهده ... بمثل الذي قد كنت تسقي وتشرب
زمانٌ بماء المكرمات مفضضٌ ... لديك ومن نار الكؤوس مذهب
لئن فلت الأيام منك فإنما ... يفل من الأسياف ما كان يضرب
بعثت بها يا واحد الدهر قطعةً ... هي الماء إلا أنها تتلهب
وجئت بها في الحسن ورماء أيكةٍ ... ولكنها في العدم عنقاء معزب
رأى ابن اللبانة أحد أبناء المعتمد وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة فقال:
1 / 30
صرفت في آلة الصباغ أنملةً ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يدٌ عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا أن تكون فما
النفخ في الصور هولٌ ما حكاه سوى ... هولٌ رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
ما حطك الدهر لما حط عن شرفٍ ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبًا إن لم تلح قمرًا ... وقم بها ربوةً إن لم تقم علما
واصبر فربتها أحمدت عاقبةً ... من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفي لك دمع الغيث لانسجما
ولعبد الجليل بن وهبون من قصيدة يصف فيها ركوبه البحر لوقت إخراجه:
كأنما البحر عين أنت ناظرها ... وكل خطٍ بأشخاص الورى سفر
كان الراضي يزيد بن محمد بن عباد لا يشرب النبيذ، وبلغه أن أخاه عبيد الله الرشيد شرب به سرورًا به، فكتب إليه:
أتاني ما تأبى لمجدك غيره ... فدب له في كل جارحةٍ شكر
1 / 31
لئن كان لي فضلٌ فمنك استفدته ... ولولا ضياء الشمس ما بهر البدر
أتشرب في ودي المدامة سيدي ... وينساغ لي في تركها أبدًا عذر
سأشربها شكرًا لما ظلت موليا ... وفي مثل ذاك الود يستسهل الوعر
وقال من أبيات يشكو فيها نكدًا..
هي الدار غادرةٌ بالرجال ... وقاطعةٌ لحبال الوصال
نفجع منها بغير اللذيذ ... ونشرق منها بغير الزلال
ونزداد مع ذاك عشقًا لها ... ألا إنما سعينا في ضلال
كمعشوقةٍ ودها لا يدوم ... وعاشقها أبدًا غير سال
وقال يخاطب أباه وقد دعاه مؤنسًا له بعد وحشة تقدمت من أبيات:
دعوت فطار بقلبي السرور ... إليك وإن كان منك الوجل
فما يستطيرك حب الوغى ... إليها وفيها الظبا والأسل
وليس لأنك قاسي الفؤاد ... ولكن لأن اجترامي جلل
فمثلك وهو الذي لم نجده ... يعود بحلمٍ على من جهل
وقد وعدتني سحاب الرضى ... بولبلها حين جادت بطل
وقال من قصيدة في أبيه وذكر الروم:
فإن أتته فمن جبنٍ ومن خورٍ ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري
ومن أنصاف الأبيات التي جاءت أمثالًا قوله:
ومن عجبٍ شكوى الجريح إلى النصل
1 / 32
وقوله:
على العذب لا الملح نخش الأسن
ابن زيدون
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زيدون القرطبي وزير آل عباد، وشاعر تلك الطبقة، والمتقدم منهم، فمن شعره في الغزل:
ما للمداما تديرها عيناك ... فيميل من نشواتها عطفاك
هلا مزجت لعاشقيك سلافها ... ببرود ظلمك أو بعذب لماك
بل ما عليك وقد محضت لك الهوى ... في أن أفوز بحظوة الوسواك
ناهيك ظلمًا أن أضر بي الصدى ... برحا ونال الري عود أراك
إن تألفي سنة النؤوم خليةً ... فلطالما نافرت في كراك
أو تحتبي بالهجر في نادي القلى ... فلكم حللت إلى الوصال خباك
أما منى نفسي فأنت جميعها ... يا ليتني أصبحت بعض مناك
يدنو بوصلك حين شط مزاره ... وهمٌ أكاد به أقبل فاك
وقال:
ما بال خدك لا يزال مضرجًا ... بدمٍ ولحظك لا يزال مريبا
لو شئت ما عذبت مهجة عاشقٍ ... مستعذب في حبك التعذيبا
1 / 33
ولزرته بل عدته إن الهوى ... مرضٌ يكون له الوصال طبيبا
وقد تقدم قول المعتمد لأبيه مما أحسن فيه غاية الإحسان وهو:
سخطك قد زادني سقاما ... فابعث إليه الرضا مسيحا
ولا أدري أيهما أخذ من صاحبه، وقال أبو الوليد:
متى أخف الغرام يصفه جسمي ... بألسنة الضنى الخرس الفصاح
فلو أن الثياب نزعن عني ... خفيت خفاء خصرك في الوشاح
وقال:
يا قمرًا مطلعه المغرب ... قد ضاق بي في حبك المذهب
وإن من أعجب ما مر بي ... أن عذابي فيك مستعذب
ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت فاصفح أيها المذنب
وقال:
وبنفسي وإن أضر بنفسي ... قمرٌ لا ينال منه السرار
جال ماء النعيم منه بخدٍ ... فيه للمستشف نورٌ ونار
متجنٍ يحلو تجنيه عندي ... فهو يجني ومني الاعتذار
وقال: يا قاطعًا صلتي من غير ما سببٍ=تالله إنك عن روحي لمسؤول
ما شئت فاصنعه كل منك محتملٌ ... والذنب مغتفرٌ العذر مقبول
1 / 34