20 - حدثني هارون بن ملول، قال: حدثني ياسين بن زرارة، قال:
((كان ببعض أرياف مصر نصراني من أهلها كثير المال، فاشي النعمة، سمح النفس؛ وكانت له دار ضيافة، وجرايات واسعة على ذوي الستر #36# بالفسطاط، فهرب من المتوكل رجل -كنى عن اسمه- خطير المنزلة. لميل كان من المنتصر إليه، وتبرأ من حاشيته ولبس جبة صوف، فانتهى به المسير إلى مصر. فلما دخلها رأى فيها كثيرا من أهل بغداذ. فخاف أن يعرف فنزع إلى أريافها، فانتهى به المسير إلى ضياع النصراني، فرأى فيها منه رجلا جميل الأمر. وسأله النصراني عن حاله، فذكر أن الاختلال انتهى به إلى ما ظهر عليه، فغير هيأته، وفوض إليه شيئا من أمره فأحكمه فيما أسند إليه واضطلع به، ولم يزل حاله يتزايد عنده حتى غلب على جميع أمره، وقام به أحسن قيام، فكان محل الرجل الهارب من النصراني، يفضل كل ما ذهب له.
وورد على النصراني مستحث بحمل مال وجب عليه، [وسأله] النصراني عن خبر الناس بالفسطاط، فقال: ((ورد خبر قتل المتوكل وتقلد المنتصر، ووافى رسول من المنتصر في طلب رجل هرب في أيام المتوكل يعرف بفلان بن فلان، ويوعز إلى عمال مصر والشام بأن يتلقوه بالتكرمة والتوسعة، فيلحق أمير المؤمنين في حال تشبه محله عنده)).
فعدل النصراني بالمستحث إلى بعض من أنزله عليه، وخلا الهارب بالنصراني فقال: ((أحسن الله جزاءك فقد أوليت غاية الجميل، وأحتاج إلى أن تأذن لي في دخول الفسطاط))، فقال: ((يا هذا! إن كنت استقصرتني فاحتكم في مالي، فإني لا أرد أمرك، ولا أزول عن حكمك، ولا تنأى عني، فقال له: ((أنا الرجل المطلوب بالفسطاط، وقد خلفت شملا جما ونعمة واسعة، وإنما عدل بي #37# الخوف على نفسي))، فقال له: ((يا سيدي! فالمال في يدك، وما عندك من الدواب فأنت أعرف به مني، فاحتكم فيه)) فأخذ بغالا وما صلح لمثله، وخرج النصراني معه، وقدم كتابا إلى عامل المعونة من مستقره)) فتلقاه عامل المعونة في بعض طريقه، ووصاه وجميع العمال بالنصراني. وصار إلى الحضرة، فأصدر إليهم الكتب في الوصاة به؛ إلى أن قدم بعض العمال المتجرة، فتتبع النصراني ورام الزيادة عليه، فخرج إلى بغداذ.
قال لي هارون: إن ياسين قال له: إن النصراني حدثه، أنه دخل بغداذ فلم ير بها أوفى محلا وأكثر قاصدا منه.
((ثم استأذنت عليه وعنده جمع كثير، فخرج أكثر غلمانه حتى استقبلوني، فلما رآني قام على رجليه ثم قال: ((مرحبا بأستاذي وكافلي والقائم بي حين قعد الناس عني))، وأجلسني معه. وانكب علي ولده وشمله، وأنا أتأمل مواقع الإحسان من الأحرار. وسألني عن حالي في ضياعي، فأخبرته خبر العامل، وكان أخوه في مجلسه ، فنظر إليه من كنا عنده وقال له: ((كنت السبب في تقليد أخيك، فصار أكبر سبب في مساءتي!)). فكتب من مجلسه كتابا إليه بجلية الخبر وأنفذه. وأقمت عنده حولا في أرغد عيشة وأعظم ترفه. وورد علي كتب أصحابي، فخبروني بانصراف العامل عن جميع ما كان اعترض عليه في أمري، وأخرج أمر السلطان في إسقاط أكثر خراج ضياعي، والاقتصار بي على يسير من مالها.
قال ياسين، فكتب النصراني ببغداذ حجة أشهد فيها على نفسه أن أسهمه في جميع الضياع التي في يده -وسماها وحددها- لهذا الرجل الذي كان هرب، وصار بها إليه، فقال له: ((قد سوغك الله هذه الضياع، فإني أراك #38# أحق بها من سائر الناس))، فامتنع الرجل من ذلك، وقال له: ((عليك فيها عادات تحسن ذكرك، وترد الأضغان عنك، ولست أقطعها بقبض هذه الضياع عنك)).
ورجع النصراني إلى الفسطاط فجدد الشهادة له فيها. فلما توفي النصراني أقرها في يد أقاربه، ولم يزالوا معه بأفضل حال)).
पृष्ठ 35