ولئن اكتنفها مظالم ومغارم كثيرة، ودخل في القاعدة التي أقيمت عليها مزيج كبير من الأثرة والاستبداد - كاحتكار محمد علي الاستغلال الزراعي والاتجار بمحصولات البلاد - فإنما كان ذلك لأنها أعمال إنسان، ولا يمكن ألا يمتزج الشر بالخير في أي عمل يعمله البشر، والشر ممتزج بالخير امتزاجا كبيرا في طبيعة الوجود ذاتها.
على أن الشر الفردي المرافق للخير والممزوج معه لا يلبث أن يتلاشى ويزول، وأما الخير فيبقى إلى الأبد، وهذا هو الذي يحبب إلى الإنسان الحياة.
فإذا طبقنا هذا المبدأ على أعمال محمد علي نجد أنه لو لم يستأثر بالأطيان لما خدد الأرض المصرية ترعا وجداول، ولما أدخل إلى الزراعة المصرية شتى النباتات الجديدة، لا سيما القطن والزيتون؛ فاستئثاره بالأطيان زال، وأما الترع والجداول والنباتات الجديدة فباقية.
ولو لم يستأثر بالمحصول والاتجار لاستمر القطر منفصلا عن العالم إلا قليلا، كما كان في عهد المماليك، وما انتشرت فيه حركة المدنية الحالية، التي كيفته فجعلته في مدة وجيزة من الرقي والتقدم، بما لم يتيسر مثلهما للأقطار المجاورة له شرقا وغربا، أما الاستئثار بالمحصول والاتجار فقد زال، وأما حركة المدنية فباقية، ورقي القطر وتقدمه نبني اليوم عليهما تأكيدنا بأنا بلغنا النضوج، ونحتج بهما للمطالبة بالاستقلال.
ولو لم يجمع المال بكل وسيلة؛ فأرهق أجدادنا إرهاقا عظيما في جمعه، لما تمكن من إبراز أي إنشاء كان إلى الوجود من المنشآت العجيبة التي ذكرناها، والتي غيرت وجه القطر تغييرا تاما، فأما الإرهاق فزال، وأما المنشآت فباقية.
ورب معترض يقول هنا: «أجل، ولكن هذه المنشآت عينها أو غالبها ما أقامها على قواعدها إلا الإرهاق.» فأجيب: نعم، نعم، ولكنه لم يكن عنه بد، وإني أكرر أن الإرهاق مضى، وأما هي فباقية.
خذوا مثالا ترعة المحمودية؛ فإن الرواة الطاعنين على محمد علي يزعمون أن في تراب جسريها مدفونة عظام أكثر من عشرين ألفا من الفلاحين الذين اشتغلوا في حفرها.
قد يكون ذلك، وإن قلبنا ليذوب حسرة على نكد طالع أولئك البؤساء، ولكنهم زالوا، وزال معهم بؤسهم، وأما المحمودية فباقية، وليس بين ألوف الألوف، الذين يستفيدون منها - إما للارتواء، وإما للري - من لا يذكر بخير محمد علي منشئها ويبارك اسمه!
هكذا لو لم يستعمل العسف والاستبداد في التجنيد والتعليم، لما وجد لمصر جيش ولا عمارة بحرية، ولا وجدت فيها حركة معارف وعلوم وفنون، فإذا اعترض معترض وقال: «ولكنه لم يبق شيء من الجيش والعمارة، وزالت في أيام محمد علي عينها معظم معاهد العلم والصناعة التي أنشأها.» قلت: نعم، هذا صحيح، ولكن الفائدة الأدبية التي اكتسبتها مصر من ذلك جميعه لم تزل، بل استمرت ثمرتها يانعة؛ فلولا الجيش والعمارة لما قامت بين عنصرينا قوائم الوحدة التي تم بناؤها اليوم، والتي نفاخر بها أيما مفاخرة، ولولا الفتوحات لما تغيرت النفسية، ولاستمرت القلوب مستكينة إلى الذل، ولولا معاهد العلم والصناعة لاستمرت روح اقتباسها نائمة فينا، ولما نالت مصر شبه استقلالها.
ومهما دفع في الاستقلال من ثمن، لا يعتبر غاليا.
अज्ञात पृष्ठ