1 - نشأة محمد علي
2 - في السبيل إلى الذروة
3 - العمل على الثبوت فوق القمة
4 - بعد التثبت فوق القمة
5 - أيام محمد علي الأخيرة
6 - وصف محمد علي وتقدير عمله
1 - نشأة محمد علي
2 - في السبيل إلى الذروة
3 - العمل على الثبوت فوق القمة
4 - بعد التثبت فوق القمة
5 - أيام محمد علي الأخيرة
6 - وصف محمد علي وتقدير عمله
محمد علي
محمد علي
سيرته وأعماله وآثاره
تأليف
إلياس الأيوبي
محمد علي في أواخر أيامه.
الفصل الأول
نشأة محمد علي
ألق أيها القارئ نظرة على خريطة شبه جزيرة البلقان تر في جنوب إقليم مكدونيا، على ضفاف خليج كونتسا، من جهته الشمالية، ما بين نهري الهبرو والستريمون المكتنفين سهل «سرس»، وعند نهاية هذا السهل صخرة تلج البحر كأنها فرس جمحت براكبها، فلما توسطت الماء أفاقت إلى نفسها، فوقفت تتفكر.
وقف أنت أيضا متفكرا، فإنك إنما ترى أرضا تزدحم فيها تذكارات التاريخ؛ فمكدونيا وطن الإسكندر الأكبر، أول من جمع العالم القديم المعروف تحت لوائه، وساسه بصولجانه، ووطن البطالسة الفخام، خلفاء ذلك البطل العظيم على عرش مصر ومؤسسي مدرسة الإسكندرية العلمية الفلسفية ومكتبتها النفيسة، التي قضت عليها يد الأقدار، فيد الحمق الديني، وفي سهل «سرس» بتت معركة فيلپي في مصير العالم الروماني، ففاز فيها أنطونيس وأكتاڨيس (العاملان - تحت ستار الانتقام لقيصر والثأر لمقتله - على الاستئثار بالأمر لنفسيهما) على بروتس وكسيس، آخري الرومانيين والمدافعين عن الحقوق الجمهورية، ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي انحازت الأقدار فيها إلى جانب الباطل، ونصرته على الحق؛ فالأقدار عمياء القلب، ووقوفها في غالب الأحيان مؤازرة للغشمرية، علة من العلل الكبرى التي تجعل تقدم البشرية نحو الكمال بطيئا، كثير الاضطراب. •••
على تلك الصخرة الفرسية الشكل أقيمت منذ القدم مدينة صغيرة، ما مر بها الإسكندر الأكبر ورأى شكل قاعدتها؛ إلا وأبدل اسمها (جالپسو) باسم بوسيفلا نسبة لبوسفلس، جواده الشهير.
فبقيت معروفة بهذا الاسم، المذكر بالمكدوني العظيم، حتى وردها البندقيون، فينيقيو الأعصر الوسطى، وهم يجولون رايتهم التجارية الاستعمارية على سواحل بحر الأرخبيل، فلما رأوا هم أيضا شكلها - وكانوا كفينيقيي القدم - لا يهتمون لمفاخر التاريخ وتذكاراته ولا يعنون إلا بالاتجار وأرباحه، أطلقوا عليها اسم «لاكافالا»؛ أي الفرس باللغة الإيطالية، واتخذوها مستودعا لبضائعهم، فلما آلت إلى حكم الأتراك حرفوا الاسم وجعلوه «قوله». •••
في هذه المدينة، وفي سنة من أخصب سني التاريخ البشري برجال عظام، ولد محمد علي الباشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية الكريمة، وخليفة الإسكندر والبطالسة مواطنيه، على عرش مصر السني.
إن التاريخ لا يدري بالتمام في أي يوم من أي شهر ولد؛ لأن العادة الحميدة - عادة تقييد المواليد في سجلات رسمية مدنية - لم يعرفها الشرق إلا قبيل أيامنا هذه، بفضل عواهل الأسرة المصرية النبيلة، ولكنه يعرف أنه ولد في سنة 1769؛ لأنه هو نفسه أكد ذلك فيما بعد.
وكأني بالعناية الإلهية قصدت غرضا معينا لديها في أنها أنبتته في السنة عينها التي تشرفت بمولد
Cuvier ؛ العالم الفرنساوي الذي اكتشف من مكنونات الطبيعيات أكثر مما اكتشفه كولمبس من مجهول البلدان، و
Humboldt ؛ العالم الألماني، منشئ علم الجغرافيا النباتية وعلم المناخ المقارن، وشاتو بريان؛ الكاتب الفرنساوي البليغ الناثر نثرا أعذب من الشعر، صاحب كتاب «رينيه» و«أتلا» و«كتاب الشهداء» وكتاب «آخر بني سراج»، وولتر سكت؛ الشاعر الإسكتلندي، صاحب الروايات التاريخية الممتعة، التي تلذذ كل منا بمطالعتها في صباه، ومن أهمها «إيفانهو» و«الطلسم»، وهذه الأخيرة هي المنجم الذي أخذ منه فقيد العلم والأدب، المرحوم الشيخ نجيب الحداد روايته التمثيلية الشهيرة المسماة «صلاح الدين الأيوبي»، وشلر؛ الشاعر الألماني الأكبر ذي الروح الأبية الزكية والشعور الرقيق، صاحب رواية «غليوم تل»، منقذ سويسرا من الاسترقاق النمساوي، ورواية «عذراء أورليان»، منقذة فرنسا من الاسترقاق الإنجليزي، وولنجتن؛ القائد البريطاني السعيد الطالع، الذي كتبت له الأقدار الفوز على ناپوليون في واقعة واترلو، وناپوليون، وكفى باسمه تعريفا.
ويلوح لنا أن الغرض المعين الذي قصدته العناية الإلهية من جعلها مولد محمد علي في سنة ميلاد جميع هؤلاء الأعاظم هو أن يرى الشرق في شخصه وفي أعمال حياته مجموعة مصغرة للمجهودات والأعمال التي سجلها التاريخ لأولئك النوابغ، كما سنرى ذلك في حينه. •••
وكان اسم والد محمد علي إبراهيم أغا، وأما اسم والدته فإن التاريخ - بفضل العادات الشرقية التي كانت ولا تزال تأبى على المرأة أن يعرف اسمها خارج بيتها - جهله، فلم يعرفنا به، على أننا كنا نود معرفته، لنحيطه بهالة المجد التي تبدو لنا أسماء أمهات الرجال العظام محاطة بها؛ لأننا موقنون أن محمد علي مدين لتلك الأم - أكثر مما هو مدين لأبيه - بالصفات الكريمة، والأخلاق القويمة، والعقلية السامية التي نهضت به من الحضيض إلى ذروة العلاء والفخار.
فقد كانت أمه هذه امرأة حادة الشعور، حمساء الخيال، يدل على ذلك المنام الذي يقال إنها رأته وهي حامل بابنها المجيد، وفسره لها بعض العرافين، فأكد لها أنه يبشر بمستقبل عظيم لثمرة بطنها، فلما بلغ ولدها - في أول صباه - من السن ما جعله قادرا على التفهم، فإنها ما فتئت تخبره بذلك المنام، لتوجد في فؤاده الميل إلى عظائم الأمور وتنميه وتعززه.
وأما إبراهيم أغا، والده، رئيس خفر الطرق في بلده، فإن هم المعيشة كان يكده كدا لم تكن صفات نفسه - على فرض وجودها - تجد معه سبيلا إلى الانتشار؛ وذلك لأن مربوط وظيفته كان ضئيلا، لا يقوم أود عائلته، حتى لو قبضه كاملا، فكيف به وهو لم يكن يتقاضاه إلا ناقصا، أو لا يتقاضاه البتة؟! (شأن موظفي الدولة العثمانية في ذلك العهد، وحتى أواخر القرن الماضي، بل حتى أواخر حكم عبد الحميد في عصرنا هذا.) ولولا أن الموت قصف زهرة كل أولاده، وهم في صباهم الأول، لما استطاع إلى القيام بشئون تربيتهم سبيلا. ولكنه، ولم يبق له منهم سوى محمد علي، فإنه حصر كل حنانه واهتمامه فيه، وحاطه بعناية خاصة، تجلت في المظهر الذي تتجلى فيه العناية عند الوالدين الجهلاء؛ أي إنه تركه يشب وشأنه، دون أن يعلمه - على أن العلم لم يكن في ذلك العهد مرغوبا فيه إلا قليلا، لا سيما في الشرق، حيث لم يكن من علم سوى ما كان الدين أساسه، أو ما اصطبغ منه بصبغة الدين - ودون أن يفكر في تهذيب ميوله، وتوجيهها نحو غرض معلوم في الحياة، يكون للفتى في البلوغ إليه أمان من الحاجة والفقر، فأخذت الجيرة، لذلك، تتحدث في شأن الصبي، وتندب حظه، وتتداول قولا كهذا: «ماذا عسى أن يكون نصيب هذا الغلام التعس من الحياة، إذا أفقده الدهر والديه فجأة، وهو لا يملك شروى نقير، ولا علم عنده، ولا صنعة لديه؟!»
فبلغ الحديث مسامع محمد علي، وكانت أمه - على ما قلنا - مجتهدة في جعل فؤاده حادا وروحه كريمة، فأثر فيه تأثيرا عميقا، وأوقد فيه جذوة نار ما فتئت متقدة منذ ذلك الحين. وقد قال محمد علي فيما بعد: «إني، مذ سمعت ذلك القول، عزمت عزما أكيدا على تغيير ما بي، وترويض نفسي على امتلاك زمام أهوائي، فقد حدث لي، بعد ذلك، أني استمررت، أحيانا، على الجري يومين كاملين لا أتناول من الطعام إلا القليل، ولا أنام إلا اليسير؛ لأقوي عضلاتي، وأتمرن على خشونة المعيشة. ولم يعد يهدأ لي بال حتى فقت جميع أقراني في جميع التمارين الرياضية. وإني لأذكر سباقا بالمجداف قمنا به في بحر عجاج متلاطم الأمواج، كان الغرض منه البلوغ بالقوارب إلى جزيرة قريبة من الشاطئ، فإن أقراني ما لبثوا أن كلوا، وخارت عزائمهم، وأما أنا، فإني بالرغم من تسلخ جلد راحتي، وقد كان لا يزال ناعما، ما فتئت أجدف، مقاوما الموج والريح، حتى أدركت الجزيرة، وهي اليوم ملكي!» - وهي جزيرة طشيوز!
على أن الموت - ولا نخطئ إذا دعوناه ملاكا أعمى؛ فإنه جدير بهذه التسمية أكثر مما كان جديرا بها إله الغرام عند قدماء اليونان والرومان - مر يوما بمنجله ببيت إبراهيم أغا، فحصد حياة أم محمد علي، والشاب في أول يفاعته. ولم يكد الغلام يجفف دموعه إلا وعاد ذلك الملاك إلى المرور بالبيت عينه، وما غادره إلا وخرج منه وراءه النعش الراقدة فيه جثة إبراهيم أغا. •••
فبات محمد علي يتيما وحيدا، يرى الدنيا حوله كأنها قفر مقفر ولا يدري ما المصير! فما كان أشبه حاله - إذ ذاك - بحال فتى آخر سبقه إلى الوجود بنحو ألف ومائتي سنة ، فتيتم من أبيه، وهو في بطن أمه، وتيتم من أمه، وهو في السادسة من عمره، فبات والله وحده كفيله ونصيره.
وكما أنه - سبحانه وتعالى - وكل بذلك اليتيم المعد له أبهى الطوالع جده أولا، ولما لبى جده داعي المنون، فعمه، فكان له مربيا وعئولا، هكذا وكل بمحمد علي، الذي كان أعده لإخراج مصر - كنانته في أرضه - من الظلمات إلى النور، عمه طوسن أغا، أولا، فلما داهم ملاك الموت ذلك العم بعد ذلك بقليل - كأنه يأبى أن يبقي من أسرة محمد علي أحدا حيا - عطف عليه قلب شوربجي قوله - أي حاكمها - وقد كان صديقا قديما لعائلته فضمه إلى بيته، وآواه تحت سقفه، ورباه مع ابنه.
فما أقام محمد علي قليلا في تلك الدار، إلا وتعرف به فرنساوي يقال له المسيو ليون، كان على رأس محل تجاري في قوله منذ سنة 1771، فاستوقف انتباهه ذكاء الغلام الفطري النادر، وحسن حكمه على الأمور في شئون قلما يدركها من كان في مثل سنه، فأحبه كثيرا، وأخذ يزوده بالنصائح والإرشادات الثمينة، ويبشره على مسمع من الشوربجي وعائلته بمستقبل سعيد، فيما لو وجد من صروف الدهر تعضيدا، فكان لحب هذا الفرنساوي الأبوي أثر عميق في قلب محمد علي، جعله منذ ذلك الحين ميالا إلى الفرنساويين أكثر منه إلى كل جنسية غربية أخرى. وحمله في سنة 1820 - لما استتبت قدماه على السدة المصرية - على البحث عن المسيو ليون، لمعرفة ما آل إليه أمره، فلما علم أنه عاد إلى مرسيليا - مسقط رأسه - كتب إليه ملحا بالمجيء لزيارته على ضفاف النيل، فأجاب المسيو ليون الدعوة، ولكن ملاك الموت الأعمى مر به في نفس اليوم الذي كان عينه لسفره، فأرداه، فلما بلغ محمد علي الخبر المؤلم بعث إلى أخت المتوفى بكتاب تعزية بليغ، وأرسل إليها - رفقته - هدية ثمينة فاخرة؛ إظهارا لاعترافه بجميل أخيها عليه.
وتعرف محمد علي، في بيت الشوربجي، بشيخ وقور جاوز السبعين من عمره، كان يتردد كثيرا على منزل ذلك الحاكم، وكانت له فيه منزلة خاصة؛ لما اشتهر عنه من درايته بتفسير الأحلام، وهي دراية كان لها في عالمنا الشرقي منزلة كبيرة جدا، كثيرا ما أدت بمن تحلى بها إلى أرفع المناصب؛ ألم يصبح يوسف بن إسرائيل - عليهما السلام - بفضلها وحدها؛ عزيز مصر على عهد أحد فراعنتها الهكسوس؟!
هذا الشيخ ما لبث أن أصبح هو أيضا شغوفا بالشاب كبير الميل إلى محادثته وملازمته، فلكثرة ما كان الكلام بينهما - وفي بيئتهما - يدور على المنامات وتفسيرها، فإن المنام الذي رأته أم محمد علي، وهو في بطنها، وقصته عليه في أوائل صبوته، أخذ يتردد كثيرا على مخيلته، ويوقظ فيها أوهاما غريبة، جعلته يحلم ذات ليلة أنه ظمئ ظمأ شديدا، فشرب كل ماء النيل ولم يرتو، فلما كان الصباح قص منامه على الشيخ، فقال هذا له: «أبشر يا بني؛ فإن منامك يعني أنك ستملك وادي النيل بأسره، ولن تكتفي به، بل ستسعى إلى امتلاك أقطار غيره!» فهزأ محمد بالتفسير، لأنه استبعد الأمر جدا، ولكنه بالرغم من ذلك رأى أن مخيلته أخذت تزداد تغذيا بما كان يساورها من أوهام. •••
وكأني بالخرافة - بعد أن بلغ محمد علي أوج مجده وشهرته - رأت بعيون مخيلتها الملتهبة ما كانت تتغذى به مخيلة محمد علي في تلك الفترة من حياته، فأرادت أن تعطي للأحلام جسما وتلبسها لباس الواقع، اتباعا لما هي عادتها في أحاديثها عن عظماء رجال التاريخ، فروت أن بطلنا لما بلغ سن نضوج الشباب أقدم على أعمال فروسية عجيبة، كتطهير البلاد من اللصوص العائثين فيها فسادا، ومن الحيوانات الكاسرة التي كانت تفتك في الشتاء بالأهلين؛ ما لفت إليه أنظار السلطان العثماني وحمله على تقليده إمارة ألاي من الجند، أتى به محمد علي من الغرائب في ميدان مطاردة اللصوص وعصاباتها العجب العجاب، فكبرت منزلته وعلت درجته في عيني الخليفة وطارت شهرته في العالم وبات مجرد النطق باسمه يلقي الرعب في قلوب قطاع الطرق، فرأى أمير المؤمنين أن يعهد إليه بقيادة أسيطيل لمطاردة قرصان البحار، وقطع دابرهم كما قطع دابر لصوص الجبال والبطاح، فتعقب محمد علي أولئك القرصان، وما انفك يوقع بهم ويدمر مراكبهم ويهلك جموعهم حتى استأصل شأفتهم ونظف منهم بحر مرمرة وبحر الأرخبيل، فقرت به عينا السلطان وأدناه من نفسه، وأراد أن يقلده وظيفة سامية في بلاطه، ولكن محمدا فضل العودة إلى بلده والإقامة في مكان مسقط رأسه، بين صحبه وخلانه.
على أن التاريخ إن جهل هذه الاختلاقات الخرافية، إلا أنه يذكر لمحمد علي الواقعة الحقيقية الآتية: لما بلغ الشاب الثامنة عشرة من عمره، اتفق أن أهالي قرية يقال لها پراوستا، واقعة في دائرة أحكام شوربجي قوله، رفضوا دفع الأموال المفروضة عليهم، وإذ لم يكن لدى الشوربجي من القوة العسكرية ما يكفيه لإرغامهم على دفعها عنوة، احتار في أمره، وبدت على وجهه أمارات الكدر والاضطراب، فلحظ محمد علي منه ذلك، ولما وقف على السبب، عرض عليه خدمته قائلا إنه يتكفل بإجبار أهل پراوستا على دفع الأموال، ولا يطلب منه لنفاذ ما يدور في خلده سوى عشرة رجال كاملي السلاح، فوضعهم الشوربجي تحت تصرفه، وترك له حرية العمل؛ لما قرأه من أكيد العزم في عينيه.
فذهب محمد علي إلى پراوستا، ودخل مسجدها، وأدى فيه الصلاة على مرأى من الجميع، حتى إذا فرغ منها، أرسل في طلب أربعة من أعيان الناحية، بحجة تبليغهم نبأ ذا أهمية خطيرة، فأسرع الأربعة في المجيء، وهم أبعد ما يكونون عن كل ظن، ولكنهم ما كادوا يتجاوزون عتبة المسجد، إلا وانقض رجال محمد علي عليهم وشدوا وثاقهم، فصاحوا واستغاثوا، فاجتمع أهل الناحية عليهم في هياج، فتوسط محمد علي رجاله العشرة بالأسرى الأربعة، وهدد قومهم بذبحهم، إذا أبديت أقل حركة لإنقاذهم من بين يديه، ولما كانت كل مظاهره تؤكد لأهل پراوستا أن الفتى غير مازح في تهديده، لم يجسر أحد على التعرض له، فسار بالأسرى إلى قوله، وسلمهم إلى شوربجيها، فما كان من أهل براوستا إلا أنهم بادروا من غد بالأموال المطلوبة منهم، وافتدوا أعيانهم.
هذه الحادثة تبدي شخصية محمد علي في أتم حقيقتها، وتظهر معدن نفسه إظهارا جليا، فنراها مزيجا عجيبا من ترو سريع، فإدراك سريع ، فعزم سريع، فإقدام جسور، فشجاعة نادرة.
لذلك كبرت منزلته في عيني الشوربجي، فرفعه إلى درجة بلوك باشي، وأزوجه من قريبة له ذات ثروة واسعة، كانت مطلقة، فبنى بها واستولدها خمسة أولاد؛ منهم ثلاثة ذكور سماهم: إبراهيم وطوسن وإسماعيل؛ إكراما وذكرا لإبراهيم أبيه، وطوسن عمه، وإسماعيل الشوربجي المحسن إليه. وبنتان تزوجتا فيما بعد؛ الكبرى بمحرم بك أمير الأسطول المصري والذي تسمى باسمه أحد أحياء الإسكندرية الأكثر اتساعا، والصغرى بأحمد بك الدفتردار، فاتح الكردفان وسنار والمشتهر بقسوة لا حد لها.
ودل تاريخ حياة محمد علي التالي على أن زوجته هذه كانت طالع سعد عليه، كما كانت أمنا خديجة - رضي الله عنها - طالع سعد على نبينا
صلى الله عليه وسلم ، وكما كانت جوزفين طالع سعد على ناپوليون الأول. وفي ماجريات الحوادث من الغرائب والأسرار ما ليس في وسع فلسفة إدراك كنهه البتة، فكيف بتفسيره؟!
على أن زواج محمد علي، إن مكنه من النظر إلى المستقبل بعين لم تعد تثقلها هموم المعيشة المادية، ومكنه من الاندماج في سلك تجار التبغ برأسمال يضمن النجاح، بقدر ما يمكن أن يضمنه مال؛ فإنه - بما قدمه له من هناء في الحياة، وبسطة في العيش - أخذ يطفئ شيئا فشيئا في فؤاده لهب النزاع إلى المعالي وجذوة الرغبة في المجد والفخار، وبات يهدده بخمول الذكر وانطفاء الاسم مع انطفاء الحياة؛ فمعظم رجال التاريخ من الفقراء، لا من الأغنياء.
ناپوليون بوناپرت بلباسه الشرقي.
ولكن الأقدار التي أوقدت في السماء نجمه، مذ اقترن بقرينته، لم تكن لتسمح بذلك، فما لبثت أن أتاحت له الظرف المناسب لتذكية ذلك اللهب وتلك الجذوة، وفتحت له الميدان الواسع، لنشر ما أوتي من ميزات عزيزة فيه، فدلت بذلك على أن العبقرية بلا فرص لنار بلا وقود، وصدقت قول جراي “Gray”
الشاعر الإنجليزي في قصيدته المعنونة «مرثية في مقبرة»: «ألا كم من ميت مدفون في هذه الترب، كان يكون شاعرا مفلقا، أو خطيبا مصقعا، أو بطلا مروعا، أو فاتحا مدوخا، لو وجدت عبقريته الطبيعية من الفرص توفيقا!»
ذلك الظرف الأمثل الذي أوجدته الأقدار الرءوفة بمصر لعبقرية محمد علي؛ إنما كان إقدام الباب العالي على إخراج الحملة الفرنساوية من مصر، تلك الحملة التي أتى بها إلى هذه الديار الجنرال بوناپرت، فمكثت فيها ثلاث سنوات، كانت كأنها الضيب المستمر، لم ينقطع فيه وميض البروق وانقضاض الصواعق، وظنها من عاصرها من الشرقيين أكبر المصائب وأفدح الكوارث، ولكنها كانت في الحقيقة كالصيب الذي يثور في جو قاتم مدلهم، فيزيل ما به من انبعاثات فاسدة وينظفه، ويجعله صالحا لسطوع الشمس البهية فيه، كما أنه يجلي أو يقتل ما على سطح الأرض من ميكروبات، ويهيئها للزرع الجيد، فما وردت أوامر الأستانة إلى شوربجي قوله تلزمه بتجنيد ثلثمائة رجل من دائرة حكمه، إلا وبذل إسماعيل أغا جهده لامتثالها. وما لبث أن تمكن من نفاذها؛ لأن الدعوة إلى الحرب والجلاد ما فتئت على ممر القرون تعمل عمل السحر في نفس الأمة التركية، فجند الفرقة المطلوبة، ووضعها تحت قيادة ابنه، ثم استدعى (محمد علي) إليه، وكلفه الانضمام إلى ولده، والسير معه لإخراج «الكفار» من مصر.
فقارن محمد علي - في الحال - بين هناء المعيشة الذي يطلب إليه تركه، والمشقات والأخطار التي يضطره القبول أن يتعرض لها، فعز عليه هناؤه فرفض بتاتا، ولم يجد في تحويله عن عزمه صخبا ولا تهديدا، وخرج من حضرة ولي نعمته، وهو مصمم التصميم كله على نبذ الطاعة وعدم مفارقة وطنه!
هكذا أبى صلاح الدين يوسف بن أيوب الذهاب إلى مصر مع حملة عمه أسد الدين شيركوه الثالثة، ولم يرض بالذهاب في نهاية الأمر إلا مكرها، فأوصلته الطريق التي ولجها - رغم أنفه - إلى أعلى ذروات المعالي البشرية! فليتباه بعد هذا متباه بحسن رأيه وصدق إحساسه!
محمد علي بالعمامة.
وبينما محمد علي عائد إلى محل تجارته، قابل في طريقه الشيخ الوقور الذي كان قد فسر له منامه، فاقترب الشيخ منه، وأخذ من يده شبكه، ودخن به قليلا - ومحمد علي لا يرى في ذلك حرجا؛ لما بينهما من الألفة - ثم تفرس في وجهه وقال له: «ما بالك ؟ فكأني أراك مضطربا!»
أجاب محمد علي: «إنهم يريدون إرسالي إلى مصر لمقاتلة الكفار!» فقال الشيخ: «وبما أجبت؟» قال محمد: «بالرفض طبعا؛ فالوطن خير وأبقى، والمرء يجد فيه إخوانا ورفاقا يصافحهم ويصافحونه، والحياة تنقضي فيه هنيئة.»
فقال الشيخ، وقد زاد على وجهه الوقار، واكتست ملامحه كلها جدا: «أنت غلطان يا صديقي، أجل إن الطريق لطويلة، ولكنها توصل إلى العلا، فأنت غلطان، غلطان جدا!»
فرنت كلماته هذه في آذان محمد علي كأنها صوت المستقبل، وفتحت أمام عينيه آفاقا زاهرة، وقد قال هو نفسه فيما بعد: «إن كلام ذلك الشيخ الذي كنت أثق به وثوقا كبيرا أقنعني، فعدت إلى الشوربجي، ووضعت نفسي تحت تصرفه!» •••
وكأني بالحوادث - مذ خطا محمد علي خطواته الأولى في سبيله الجديد - أرادت أن تحقق شطرا من قول ذلك الشيخ، وتبرر نصيحته، فإن ابن الشوربجي - وكانت متاعب السفر البحري ومشاقه قد أنهكت قواه - ما وضع رجله على رمال الشواطئ المصرية إلا واقتنع بأن لا شيء في ميوله ومزاجه يتفق مع بقائه تحت السلاح، فتخلى عن فرقته لمحمد علي، وعاد إلى بلده.
فأصبح محمد علي بذلك بمباشيا.
الفصل الثاني
في السبيل إلى الذروة
هذه الخطوة الأولى تلتها خطوات أخرى سريعة، فإن بسالة محمد علي وإقدامه استوقفا حالا انتباه رؤسائه، وجعلاهم يكلون إليه جل المهمات.
ولكن بطلنا ما لبث أن أدرك أن البسالة والإقدام قد ينفعان، وأما التقدم السريع فلا يدرك إلا بالتقرب من الرؤساء، فأخذ من وقته يبحث عن سند ينفعه لدى ذوي الأمر، فوجده في شخص رجل يقال له حسن أغا، أحد ضباط القبطان باشا الأخصاء، فتوسط له حسن أغا هذا، فألحقه القبطان باشا بخدمة خسرو باشا، وأفهم خسرو باشا هذا أن محمدا رجل يعتبر اكتسابه مغنما.
وكان خسرو باشا قد تعين واليا على القطر المصري بفضل مساعي القبطان باشا سيده، في الأستانة، فرأى أن يعتز برجل أوصاه به ولي نعمته خيرا. وإظهارا لمحظوظيته من محمد علي أهداه بعد قليل حصانا من جياد أربعة قدمت له على سبيل الهدية، ورفعه في أواخر سنة 1801 إلى رتبة ساري ششمه، أي جنرال أو لواء كما يقولون الآن.
فتمكن محمد علي - من هذا الموقف العالي الذي بلغه في أقل من سنتين - أن يلقي نظرة على مجاري الأمور حوله، وأن يزن الأحوال والرجال بميزان تقديره الراجح.
فرأى أن الأحوال فوضى، يتنازع الأمر فيها ثلاث قوات: الجيش الإنجليزي والجيش التركي والأمراء المماليك. •••
أما الجيش الإنجليزي، فبعد فراغه من إجلاء الفرنساويين عن مصر لم تكن له مهمة محدودة، لأن سياسة الحكومة الإنجليزية في ذلك العهد، كسياسة الحكومة الإنجليزية في أيامنا هذه، كانت متخبطة بين الاحتفاظ بمصر أو الجلاء عنها، وبين نصرة الباب العالي على المماليك أو المماليك على الباب العالي، لا تدري أين تستقر، ولا بأية صبغة تصطبغ. وما لبثت كذلك حتى أبرمت بين إنجلترا وفرنسا معاهدة (أميين) التي قضت على الجيش الإنجليزي بالجلاء عن مصر، فسلم الإسكندرية وقلاعها إلى الأتراك في 14 مارس سنة 1803 وغادر البلاد.
وأما الجيش التركي، فإن قواده كانوا مزودين من لدن الباب العالي بتعليمات تلزمهم - بعد الفراغ من إخراج الفرنساويين - بالقضاء على المماليك، ليستقيم عود الأحكام في القطر المصري على مثال ما كان في باقي الولايات العثمانية، فلم يكن إذا لأولئك القواد من دأب سوى العمل على تنفيذ تلك التعليمات. ولولا وقوف الجيش الإنجليزي أمامهم موقف المعارض في ذلك والمدافع عن قضية المماليك؛ لتمكن يوسف باشا الصدر الأعظم وقائد الجيش البري، وقجك حسين قبطان باشا أمير الجيش البحري؛ من تنفيذها - إلى حد ما - من باب الاحتيال والقدر.
وأما المماليك فإنهم بعد كسراتهم المتتابعة التي أصابتهم على أيدي الفرنساويين وما وقع بهم من فناء فيها، كانوا قد تضاءلوا وأمسى عددهم لا يزيد على خمسة آلاف، ولم يكن في استطاعتهم تجديد قواهم؛ لأن الباب العالي الراغب في القضاء عليهم كان قد أصدر أمرا حال بينهم وبين ذلك بتحظيره بيع الشبان في إقليمي الكرج والشركس. غير أنهم مع ذلك كانوا يمنون نفوسهم بالعودة إلى ما كانوا عليه قبل الحملة الفرنساوية من الاستبداد بالأحكام. ولو كانوا متحدين متناصرين ، ربما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولكن زعيميهم الأكبرين: عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي؛ نزعا إلى منافسة فتحاسد فتباغض، فعداء صريح؛ فأوجب ذلك وهن قوة الأمراء ومكن أعداءهم منهم.
على أن ما كان بين البرديسي والألفي من منافسة كان أيضا بين يوسف باشا الصدر الأعظم، وقجك حسين باشا أمير البحر. ولكن نفوذ هذا - وكان رفيق صبوة السلطان سليم الثالث، ومجدد بهجة العمارة العثمانية - تغلب على نفوذ ذاك فتمكن من جعل الباب العالي يقلد مملوكه خسرو باشا ولاية مصر - كما قلنا - وأن يعهد إليه في مهمة القضاء على المماليك.
فلما قدم خسرو باشا إلى القاهرة واستلم مهام وظيفته انسحب يوسف باشا إلى سوريا، غير مخلف في القطر من جيشه الزاخر سوى 13 ألف رجل. وأقلع القبطان باشا بسفنه تاركا لمحسوبه 4 آلاف ألباني كانوا من أولئك الثلاثة عشر ألفا بمثابة القلب من الجسد.
فأسرع خسرو باشا إلى اغتنام العداوة القائمة بين البرديسي والألفي، وشرع يعمل على إضعاف قواهما بالدسائس تارة وبالترغيب أخرى. وكان المماليك - بعد أن تحققوا من نيات تركيا نحوهم - قد نزعوا إلى القتال، وأخذوا يجتاحون البلاد ويمنعون الأموال عن الحكومة.
فسير خسرو لقتالهم فرقتين من الجند: إحداهما تحت قيادة يوسف بك، أحد المقربين إليه، والأخرى تحت قيادة محمد علي.
فتقدمت القوتان بسرعة نحو دمنهور حيث كان ثمانمائة مملوك تحت قيادة عثمان بك البرديسي قد اتخذوا موقعا حصينا يهددون منه العاصمة ويتمكنون فيه من الاتصال بالإنجليز - وكان جيشهم لا يزال بالإسكندرية - ولكن يوسف بك سبق محمد علي، وفي صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1802، صف وراء دمنهور جيشه، وكان يزيد على سبعة آلاف مقاتل، وشرع في إطلاق النيران على المماليك، فما كان من عثمان بك البرديسي إلا أنه انقض بفرسانه على جنب الجيش التركي اليسار - وكان مكشوفا - فاخترقه، وداس الرجال تحت حوافر جياده؛ فذعر العثمانيون وأركنوا إلى الفرار، فركب البرديسي برجاله ظهورهم وأعمل فيهم السيوف فقتل منهم أكثر من خمسة آلاف رجل، بينما لم يقتل من رجاله سوى ستين . ثم عاد واستولى على جميع مدافع أعدائه وذخيرتهم. ولم ينج يوسف بك من هذه الكارثة إلا بكل مشقة. ولكي يخفف من وطأة المسئولية عليه، رأى - بالرغم من أن عدد الجيش الذي قاتل به الثمانمائة مملوك؛ كان تسعة أضعاف هؤلاء - أن ينسب انكساره لدى خسرو باشا إلى تخلي محمد علي عنه في المعركة.
ومن المؤكد أن محمد علي كان يستطيع - لو شاء - الإسراع بجنده، والاشتراك مع يوسف بك في القتال.
ولكن محمد علي كان قد انتهى من النظرة التي ألقاها على مجاري الأمور حوله إلى أنه أدرك أن القطر ممزق مدوس، وأن القوم يشتغلون كل لمصلحته بتأثير منفعة كل منهم الشخصية، ولو أدى تحقيق هذه المنفعة إلى خراب عام. وإلى أنه ليس بين كبار قواد العثمانيين واحد فقط كفؤا للمهمة التي وضعها الباب العالي نصب أعينهم. ووزن خسرو باشا رئيسهم الأعلى، فوجده ناقصا لا يصلح لمهمات الأمور؛ لأن إدارته أظهرته رجلا سيئ التدبير، غير محسن التصرف، محبا لسفك الدماء غير مترو في ذلك، لا يضع شيئا في محله، يتكرم على من لا يستحق، ويبخل على من يستحق، كثير الغرور، ومطاوعا لمن أحدق به من قرناء السوء، فحكم بأنه إذا هو وضع كفاءته في خدمته كان مغفلا.
ورأى محمد علي من جهة أخرى، أن المماليك - على ما بهم من وهن - لا يفترون منشقين بعضهم على بعض. ووزن رئيسيهم الأكبرين؛ فوجد أن عثمان بك البرديسي - وإن لم تعوزه صفة واحدة من صفات البطولة الحقة - لم يكن يصلح لتولي زمام الأمور؛ لأنه كان رجلا قصير النظر، ليس لديه شيء من الحكمة والفطنة اللازمتين لمن يريد أن يحكم الناس ويسوسهم، يغلب عليه تسليم زمام أعماله إلى انفعال أهوائه، وانفعال أهوائه إلى وساوس الخناسين من الأبالسة والناس. ووجد أن محمد بك الألفي - على بطولته التي لم تكن تحتمل أن يشك فيها - كان رجلا كبير الغرور بنفسه، كبير الميل إلى اللذات، متقلب الأهواء، فخورا، يهمه أن يتزوج من كل بدوية تعجبه، على أن يطلقها بعد أسبوع أو أسبوعين ، وأن يرتدي الملابس الفاخرة الساطعة. وأما الشئون العامة فلا تهمه إلا بقدر ما هي ينبوع تنعم ونفوذ له.
فحكم بأن رأي الدولة العلية في المماليك صائب، وأن مصير البلاد إلى أيديهم مصيبة كبرى عليها، وأنهم، إن لم يرعووا ويقلعوا عن فوضاهم، ويمتثلوا للأحكام، ويكونوا جزءا من الهناء العام بدلا منهم معكريه؛ كانت مطاردتهم واجبة، وكان استئصال شأفتهم بجميع الوسائل الممكنة أمرا مرغوبا فيه وعملا مبرورا.
ثم وزن نفسه بدقة وبدون محاباة، فوجد أنه الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يكفي الأستانة ومصر شر المماليك، والوحيد الذي يمكنه أن يحكم البلاد حكما يصلحها ويعلي من شأنها، ورأى أن ما خصه به الباري - دون سواه - من مزايا البطولة الحقة والرجولة الحقة، ومن ميزات الرجل المخلوق للإمرة والإدارة، يكفل له تحقيق المنام الذي فسره له الشيخ الوقور، والبلوغ إلى الذروة، إذا هو عرف كيف يستفيد من الظروف، وكيف يجعل الفرص تثمر الثمر المرغوب فيه، بأن لا يستخدم كفاءته إلا في مصلحة فريق يؤدي انتفاعه بها إلى القضاء المبرم على خصمه، وكيف يسير بحكمة سفينة طالعه وآماله.
فدخل بها بحر تلك الفوضى العجاج بجانب قوارب الضاربين فيها، ولم يكن بينهم أحد يعلم المصير، بل كانوا يمخرون حيثما تذهب بهم رياح تصرفات الأيام. وبينما هم غافلون ربط سفينة مطامعه - بحبال خفية - بكل قارب من تلك القوارب، وربط دفات الجميع بدفة سفينته، من حيث لا يشعر أحد، فأصبح كل يجذف بمجذافه، ويظن أنه يجذف لنفسه وفي مصلحتها، بينما هو في الحقيقة يجذف ليوصل إلى الفرضة الأمينة سفينة ذلك الربان الحاذق، الذي كان يدير الدفات كلها في الخفاء - وهو على ظهر سفينته، ونجمته القطبية المنيرة له السبيل بين الشعاب - تحقيق الحلم الذي رآه.
هكذا نرى واضع الأنغام عند الغربيين يضع لكل وتر نغما، ولكل بوق نفخا، ولكل منشد ترنيما، فيعزف العازفون، ويغني المغنون، وكل واحد لا يدري ما نغم رفيقه، فيجتهد بإتقان نغمه، ظنا منه أنه الفائز باستحسان الجمهور وتصفيقهم، وما هو في الحقيقة عامل إلا على نجاح مجموع النغم، وإظهار حذق الواضع واكتساب الشهرة والفخر له.
وكما أن واضع روايات قره قوز يدير من وراء ستار حركات جميع الممثلين فيها، مع أنها تبدو للعيان كأنها حركاتهم الشخصية، هكذا شرع محمد علي يدير حركات الضاربين في تلك القوارب، والملأ يعتقد أنهم هم القائمون بها.
فامتنع لذلك جميعه عن الاشتراك في معركة دمنهور.
ولما كان الذكاء لا يعوز خسرو باشا - وإن أعوزته صفات الرجولة الحقة - فإنه أدرك في الحال سبب امتناع محمد علي من الاشتراك في تلك المعركة. ولدى تصوره أن الرجل مدين له بتقدمه كله ثارت في فؤاده ثورة غضب هائلة، وصمم على الإيقاع به، فأرسل يستدعيه إليه بعد صلاة العشاء؛ بحجة المفاوضة معه في أمر خطير، فلم تنطل الحيلة على محمد علي، وأجاب أنه سيذهب إلى مقابلة الوالي في رابعة النهار وبمعية جنده.
وبما أن البرديسي، بعد وقعة دمنهور وارتحال الجيش الإنجليزي، كان قد سار إلى الصعيد وانضم إلى مماليك إبراهيم بك الكبير، واستولى معهم على مدينة المنيا، فقطع كل اتصال بين القاهرة ومصر العليا، فإن خسرو - لاضطراره إلى إزالة هذا الخطر الجديد، واحتياجه في ذلك إلى محمد علي - أجل النظر في أمر معاقبته إلى فرصة أخرى. وأرسل يستقدمه هو وقائدا آخر يقال له طاهر باشا إلى مصر، ليسيرا منها بعساكرهما إلى المنيا لاستردادها.
ولكن محمد علي رأى أن الوقت حان لإزالة خسرو عن المسرح، فحرك عليه في الخفاء العساكر، فأبوا الزحف إلا إذا دفعت لهم متأخراتهم، فأحالهم خسرو على الدفتردار، وهذا أحالهم على محمد علي، كأني به قد أدرك من أين الضربة آتية، فأجابهم محمد علي أنه لم يصله شيء من مرتباتهم، فاستشاط الجنود غيظا؛ لأنهم اعتقدوا أن الدفتردار ومولاه يهزأون بهم. وعادوا فحاصروا بيت الدفتردار، فأبلغ الدفتردار الخبر إلى خسرو باشا، فثارت في رأس الوالي ثورة الغضب، وأمر بإطلاق مدافع القلعة على الجنود، فطار صواب هؤلاء، فتركوا الدفتردار وشأنه، وتدفقوا إلى سراي الوالي يهاجمونها، فرأى طاهر باشا - بإيعاز من محمد علي - أن يتوسط بينهم وبين الوالي. ولكن خسرو لم يخيب رأي محمد علي فيه، وأبى بغلظة مقابلة طاهر، فانقلب طاهر عدوا صريحا. وأخذ معه فرقة من العساكر، وسار بها إلى القلعة، فأغلق حفظتها أبوابها في وجهه. ولكن بعض جنوده تمكنوا من النفوذ إلى داخل سورها الأول، وأفسدوا على الحكم قلوب الحرس المقام هناك، فلم يعد يستطيع خازندار خسرو، المتولي أمر ذلك الحرس؛ المقاومة، وفتح في الحال الأبواب لطاهر ومن معه، فدخلوها وأخذوا يمطرون القنابل منها على سراي الوالي، فأدرك هذا أن القلعة سقطت في أيدي العصاة، فجمع حرسه النوبي وزهاء مائة عثماني ونفرا من الفرنساويين كانوا في خدمته، ونساءه، وخرج من سرايه، وسار بجمعه إلى المنصورة.
فخلا الجو لطاهر باشا واضطر قاضي الديار إلى المناداة به قائمقام الولاية حتى ترد أوامر الأستانة. وكان الدور المخصص في فكر محمد علي لطاهر هذا السعي إلى مصالحة المماليك ليتساعد بهم على الفراغ من أمر خسرو وعلى الوقوف في وجه الانكشاريين وخلافهم فيما لو أراد أحد استخدامهم لمعاقبة الثائرين على خسرو.
فكاتب طاهر المماليك واستدعاهم إليه، فنزل الأمراء من الصعيد وأتوا وأقاموا معسكرهم في الجيزة.
ولكن محمد علي ما لبث أن وزن طاهرا، فلم يجده كفؤا للقيام بالدور؛ لأن طاهرا بدا رجلا سليبا مهووسا، يميل إلى السلباء والمجاذيب والدراويش؛ عمل له خلوة في الشيخونية، كان يبيت فيها كثيرا، ويصعد مع الشيخ عبد الله الكردي إلى السطح في الليل، ويذكر معه، أو يجتمع بأشكال من الناس مختلفي الصور، فيذكر معهم ويجالسهم، ويظهر الاعتقاد فيهم، فأدى ذلك إلى أن كثيرين من الأوباش تزيوا بما سولت لهم نفوسهم من الأزياء المستغربة، ولبسوا طراطير طوالا ومرقعات ودلوقا، وعلقوا جلاجل وبهرجانات وعصيا مصبوغة فيها شخاشيخ وشراريب، وطبلات يدقون عليها، وأخذوا يصرخون ويزعقون، ويتكلمون بكلمات مستهجنة وألفاظ موهمة بأنهم من أرباب الأحوال، حتى كادت العاصمة تصبح عاصمة مجانين، وشوارعها ودروبها طرقات بيمارستان عظيم. ويقول الجبرتي: إنه لو طال عمر طاهر باشا هذا لأهلك الحرث والنسل.
ولم يكن الجند العثماني قد اشترك مع الألبانيين في ثورتهم على خسرو، ولو أنه كانت لهم متأخرات هم أيضا، فاستعملهم محمد علي من وراء ستار؛ لإزاحة طاهر من السبيل، وحمل من أوعز إليهم مطالبته بتلك المتأخرات، المرة بعد المرة، فماطلهم طاهر في بادئ الأمر، ولكنه صرح لهم في النهاية بأنه غير مسئول عن مرتبات الجند إلا منذ يوم قيامه على سدة الأحكام، وأنه يجب على المطالبين إذا توجيه طلباتهم إلى سلفه، فلم يقنعهم القول، ولما كان يوم 25 مايو، ذهب ضابطان عثمانيان إلى سرايه، وطلبا إليه مرة أخرى النظر في أمر المتأخرات فرفض؛ فحمي وطيس الجدال بينهم، وعلت تهديدات طاهر، فانقض الضابطان عليه، وطعناه بيطقاناتهما (نوع من السيوف الألبانية)، ثم قطعا رأسه وقذفا به من النافذة التي كان جالسا بجانبها، فما رأى الألبانيون رأس زعيمهم مقطوعا إلا وجنوا غيظا، وهبوا للانتقام من العثمانيين، فدارت بين الفريقين معركة هائلة جرت فيها الدماء أنهارا، وانتهت بإحراق السراي. ثم اجتمع زعماء العثمانيين للنظر في الأمر، فقرروا تقليد الولاية رجلا يقال له أحمد باشا كان، مارا بالقطر المصري في طريقه إلى جدة، فلم يستطع الرفض، ولكنه لشعوره هو وقومه بالقوة الخفية المسيرة الأمور أرسل في المساء أكابر المشايخ ليحملوا (محمد علي) على الرضاء به. وكان اعتدال محمد علي الظاهري قد أمال القلوب إليه وزاده ما انضم إلى جنده من جند طاهر باشا بعد قتله عزيمة واقتدارا، فرأى أنه يستطيع القضاء على حزب العثمانيين، فرفض بلطف وثبات معا استماع أقوال رسل أحمد باشا، واغتنم قرب معسكره من معسكر المماليك الذين استدعاهم طاهر باشا، لإبرام محالفة معهم، فلما وقعوها وتآخى محمد علي مع البرديسي، بأن جرح كل منهما نفسه وشرب من دم أخيه، أرسلوا - جميعهم معا - رسالة إلى أحمد باشا يكلفونه فيها بالانسحاب ومغادرة القطر، فامتثل الرجل على شرط أن يعطى من الوسائل ما يمكنه من السفر إلى جدة، ولكنه تحصن مع ذلك هو وجماعته في مسجد الظاهر، الذي كان الفرنساويون حولوه مدة إقامتهم في مصر إلى حصن دعوه سولكفسكي، فسير إليه المتحالفون ألفي ألباني استولوا عليه عنوة، أما أحمد باشا فإنه أبقي أسيرا، وأما الضابطان اللذان قتلا طاهر باشا، ثم انضما إلى أحمد باشا ليفرا من ثأر الألبانيين لقائدهم المغدور به؛ فقطع رأساهما.
أمين بك المملوك الشارد.
بعد ذلك أعلن عفو عام باسم محمد علي وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسي - وأما الألفي فكان قد توجه إلى إنجلترا مع الجيش الإنجليزي - واستولى المماليك على القلعة واحتل الألبانيون القاهرة.
وما استتب الأمر للمتحالفين إلا وأخذوا يتجهزون للقضاء النهائي على خسرو باشا. وكان هذا الوالي - وقد طارده طاهر باشا حتى ألجأه إلى الاعتصام بدمياط - غادر هذا الثغر وسار إلى مصر أول ما بلغته أنباء الثورة على طاهر. ولكنه علم وهو في الطريق انكسار أحمد باشا ودخول المماليك العاصمة، فارتد على عقبيه. وما عتمت قوى المتحالفين تحت قيادة محمد علي والبرديسي أن أتت وعددها عشرة آلاف مقاتل، وشددت عليه الحصار، فاستولت على دمياط عنوة ونهبتها، فلجأ خسرو إلى حصن عند مصب النيل، ولكنه ما لبث أن نزل على حكم أعدائه ووقع في أسرهم، فأرسله الفائزون إلى مصر وأقاموا إبراهيم بك عليه حارسا.
في هذه الأثناء وردت أوامر الأستانة التي كان طاهر باشا بعث يطلبها بعد المناداة به قائمقاما، فهل تظن أيها القارئ أنها تضمنت توبيخا على ما اقترف ضد خسرو باشا، واليها الرسمي، أو أية إشارة كانت إليه؟ ولا في المنام! ولكنها قضت بالاعتراف بولاية أحمد باشا، الذي كان إذ ذاك في السجن يندب سوء طالعه.
على أن الأستانة، لما بلغتها تفاصيل الحوادث كلها، أحست بأنها إن هي سكتت على تحالف المماليك والألبانيين ضاعت مصر عليها، فلملافاة هذا الخطر المداهم رأت أن ترسل واليا جديدا من لدنها، وتعززه بألف رجل، كأن ألف رجل قوة يؤبه لها أمام أربعة آلاف ألباني وخمسة آلاف أمير مملوك.
وكان اسم الوالي الجديد علي باشا الجزائرلي. وهذا اللقب أتاه من أنه بدأ حياته العملية بصفة مملوك باي الجزائر.
وأما الأعمال التي استحق من أجلها أن يرفعه الباب العالي إلى منصب ولاية مصر الرفيع، فهي أنه فر من قصر باي الجزائر لدى موت مولاه إلى سفينة حسن باشا أمير الأسطول العثماني، مهدى إليه من صهر باي الجزائر، الذي أبى الاحتفاظ به لأن أخا علي المدعو سعيدا كان في حيازته، واشمأز صهر الباي هذا من الجمع بين الأخين، فلما كبر علي جعل مولاه الجديد الديوان يعينه واليا على طرابلس الغرب - وكانت في قبضة أخي حمودة باشا والي تونس - فذهب علي إليها وحاصرها واستولى عليها بولس من أهلها، فكافأهم على خدمتهم له بنهبها وسلبها وارتكاب كل أنواع الفظائع فيها. ولكن أخا حمودة باشا عاد إليها بقوة، فلم يجسر علي على مقابلته، وفر بخزي مصطحبا معه غلامين بصفة رهينتين. ولخوفه من الذهاب إلى الأستانة، لتوقعه عقابا صارما فيها، توجه إلى مصر، والتجأ إلى مراد بك، زعيم المماليك في تلك الأيام، فما استقر لديه إلا ووردت أوامر الديوان بنفيه إلى قلعة أبريم في النوبة. ولكن عليا، بدل الذهاب إليها، قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ومعه غلاماه، فعرفه بعض حجاج طرابلسيين. وتربصوا به حتى ضبطوه وهو متلبس بفاحشة مع الغلامين في دائرة الحرم، فحكم عليه أمير الحج الدمشقي بالضرب بالسياط حتى يموت. ولكن بعض الأمراء المصريين توسطوا له، وهو تحت العصا، وحملوا الأمير على إبدال بقية الحكم بحلق لحية الجاني؛ تخجيلا له وتحقيرا؛ لأن اللحية كان ينظر إليها أهل ذلك العصر بأنها علامة الرجولة؛ فنجا علي من الموت بذلك، وعاد إلى كنف مراد. فلما داهمت الحملة الفرنساوية مصر خرج مع مراد للقتال، ولكنه هابه ونجا بنفسه مع من فر من المماليك إلى سوريا، وأقام هناك إلى أن عاد برفقة الصدر الأعظم يوسف باشا، فأرسله هذا الصدر - بعد هزيمته في عين شمس - إلى الأستانة، ونال له صفحا عما مضى، فأقام علي في الأستانة، تحت رعاية الوزير، لا يدري التاريخ له عملا، حتى عينته هذه الرعاية واليا على مصر، في ظروف كانت تقتضي منتهى التبصر في التعيين.
إبراهيم باشا بلباسه العسكري.
فنزل علي باشا إلى الإسكندرية في 8 يوليو سنة 1803 وأرسل أخاه سعيدا للاستيلاء على رشيد فتمكن سعيد من ذلك بخدعة، فزحف محمد علي والبرديسي توا إليها واسترداها عنوة، وأرسلا سعيدا مأسورا إلى إبراهيم بك الكبير، فلما بلغ نبأ ذلك علي باشا أوجس خيفة، وشرع يتحصن في الإسكندرية، وعزم البرديسي فعلا على محاصرته فيها، ولكنه - وهو يتأهب لذلك - إذا بشيخ جاوز المائة من العمر حضر للسلام عليه في خيمته، وكان البرديسي يعتقد ببركة الشيوخ أمثاله، فأراد أن يقف منه على مصير المحالفة بين المماليك والألبانيين، فأجابه الشيخ: «ستقع فتنة كبيرة في عيد الأضحى، وستجري الدماء فيها!» فسأل البرديسي: «وماذا يسبب هذه الفتنة؟ وأي دم يسيل فيها؟ ولمن يكون الفوز؟» فأجاب الشيخ: «إن الذئاب ستفترس الأجانب!»
فوقعت هذه الإجابة من قلب البرديسي موقعا أليما؛ لأنه لم يكن يجهل أن أهل البلد كانوا يسمون المماليك بالأجانب، وتوقع فناء طائفته.
واتفق أن النيل شح في ذلك العام، فعلت الأسعار، وبات أمر تموين الجنود متعذرا، ودب الجوع إلى صفوفهم، فضجوا وتذمروا، وبات من المحال متابعة الأعمال الحربية بهم، فاجتهد محمد علي في تفهيم البرديسي ذلك. وبعد أن طلب منه بتكرار مرتبات جنوده، ورأى طلباته تذهب أدراج الرياح؛ اقتلع خيامه، وسار بألبانييه إلى مصر، فبلغها في أواسط سبتمبر، فاضطر البرديسي إلى العدول عن مهاجمة علي باشا الجزائرلي في الإسكندرية، وعاد هو أيضا بمماليكه إلى القاهرة، وإذا بالخزائن فارغة، وليس لدى إبراهيم بك الكبير - الذي كانت الإدارة الملكية أوكلت إليه أثناء تغيب محمد علي والبرديسي - ولا اليسير من النقود. وكان - مع ذلك - لا بد من دفع مرتبات الجنود، وإلا ثاروا، فلم يجد البرديسي مفرا من فرض ضريبة جسيمة على أهل العاصمة نفرت منه القلوب.
فلما توقفت الحركات العسكرية رأى علي باشا الجزائرلي أن يغتنمها فرصة لدسائس يدسها بين المتحالفين يفرق بها بينهم ويبلغ منهم مرامه، فأرسل من فاوض محمد علي سرا وأطمعه فيما لو تخلى عن المماليك. وأرسل من فاوض المماليك سرا، ووعدهم خيرا فيما لو تخلوا عن الألبانيين. ولما كانت فرنسا وإنجلترا أخذتا تتزاحمان على النفوذ في مصر وعلى استمالة البرديسي، أطلع محمد علي هذا الأمير على ما فاتحه فيه علي باشا الجزائرلي، فحمله بذلك على زيادة الوثوق به والانقياد إلى مؤثراته، ولم يجد بعد ذلك صعوبة في إقناعه بأن الالتجاء إلى هذه أو تلك من الدولتين المتنازعتين النفوذ، ينشئ خطرا هائلا على مصالح الجميع. ثم عرض عليه فكرة العمل من باب الحيلة على إخراج علي باشا من مركزه الحصين بالإسكندرية، فوافقه البرديسي، فحمل محمد علي العلماء - وكانت قد استمالتهم مظاهر تقواه واعتداله - على الكتابة إلى الجزائرلي واستدعائه إلى مصر، مؤكدين له أن الكل يرغبون سرا في حضوره، وأن مجرد حضوره يزيل كل صعوبة ويقوم كل معوج.
فصدق الرجل الكلام واستعد للسفر، وبعث ينبئ الأمراء بذلك، فاستعجل المماليك حضوره. ولكنهم - لعلمهم بأن الباب العالي كان قد أرسل إليه أمدادا متتابعة - رسموا له بألا يصطحب معه سوى ألف رجل، وأن يسير بهم من دمنهور إلى القاهرة على شاطئ النيل الأيسر، فوعدهم علي باشا بالامتثال لمرسومهم، وقام من الإسكندرية في 23 ديسمبر سنة 1803، ولكن بألفين وخمسمائة من المشاة، وخمسمائة فارس. وقبل الوصول إلى دمنهور حاول الاستيلاء على رشيد مفاجأة، فلما وجد حاميتها يقظة، وأرسل الأمير المملوك قائدها يستفهم منه لماذا حاد عن الطريق المرسوم له، اعتذر وأجاب أنه إنما فعل ذلك ليقصر المحجة، ولكنه لا ينوي لرشيد سوءا، فصدقوه، غير أنه ما انسدلت سدول المساء إلا وقبض خفراء المدينة على جنديين من جنود علي. وقادوهما أمام يحيى بك الأمير المملوك، فسألهما عما يريدان، فقالا إنهما يحملان كتبا من علي باشا إلى عمر بك قائد الألبانيين. وكان عمر بك حاضرا، ففض الكتب علانية، وإذا هي ملأى وعودا يبذلها علي باشا للألبانيين ليفصلهم عن المماليك؛ فاستشاط الحضور غيظا، واستعدوا لقتال المخاتل، وإذا به قد ظهر أمام مدينتهم، وهو يعتقد أن كتبه عملت عملها من التغرير؛ فوجد القوم متربصين خارج الأسوار، فلم يجسر على مهاجمتهم، وعاد صاغرا إلى الطريق التي رسمت له. وليعوض جنده من عدم الاستيلاء على رشيد، سمح لهم بنهب القرى في السبيل.
وكان القوم في مصر مطلعين على جميع حركاته، فلما علموا أنه اقترب من العاصمة، خرج البرديسي إليه ومعه محمد علي وألبانيوه، وعسكروا أمامه بين شلقان وشبرا، ولما جن الليل هاجموا معسكره، فذعر جنده وفروا بدون قتال، فتذمر علي من هذه المعاملة، ولكن أعداءه لم يبالوا به، ولم يجيبوه بشيء، فأراد الخروج من معسكره والدخول إلى القاهرة فمنعوه، فسأل عن سبب هذا التصرف فقالوا له: «لأنك أخليت بالشروط.» فأجاب معتذرا بأن معظم الجند الذي معه يقصد الحج، وأبى أن يتركه حتى يقبض متأخراته، فما صدقه أحد وقال له البرديسي: «إنك إذا استمررت مصطحبا معك كل هؤلاء العساكر فلا بد لي من معاملتك كعدو.» فطلب علي حينئذ أن يسمحوا له بالعودة إلى الإسكندرية، فرفضوا، فوجد أن القتال بات محتما، وأخذ يستعد له. ولكن عسكره تخلوا عنه قائلين إن أوامر الباب العالي لا تقضي عليهم بالقتال، وإن قلة عددهم لا تجعل الإقدام عليه محمودا.
فقام علي من ساعته، واصطحب معه ابن أخته ونفرا يسيرا، وقصد خيمة البرديسي، وسلم نفسه إليه، فأكرم الأمير وفادته. ثم أقبل على جيشه، فجرده من سلاحه، وسيره مهينا إلى التخوم السورية، غير مستثن سوى ستة من رؤسائه تعرفهم بأنهم من أصحاب السوابق في المشاغبات والاضطرابات، فقطع رؤوسهم، ولكن علي باشا - بالرغم من أنه أصبح فريدا، وأنه في ضيافة البرديسي - أبى إلا الاستمرار على دسائسه، فكتب رسالتين: إحداهما إلى عثمان بك حسن، أحد كبار الأمراء المماليك، والأخرى إلى الشيخ السادات؛ ففي الأول وعد عثمان بك بأن يجعله وكيله إذا هو انشق على إخوانه وانضم إليه، وفي الثانية شرح للشيخ كيف يمكنه إثارة ثائرة الشعب على المماليك، فوقعت الرسالتان في يد عثمان بك البرديسي، وأوقدتا في قلبه غيظا لا حد له، فاستدعى علي باشا إليه، ووضعهما تحت نظره، فغض الشقي عينيه خجلا. ولما أقبل المساء أتاه من قبل البرديسي رجل وقال له: «إن الخيل معدة، وهي في انتظارنا.» فقال علي: «لماذا؟ وإلى أين تريدون توصيلي؟» قال: «إلى سوريا، فإن سلوكك جعلك لا تستحق أن تستمر بيننا!»
فأركبوه مع ابن أخته وتوابعه، واحتاط بهم جمع قوي من المماليك. فلما بلغوا ناحية القرين وجلسوا ليستريحوا، ما كان من المماليك إلا أنهم صوبوا بنادقهم وأطلقوها عليهم. ثم أجهزوا عليهم باليطقانات، فأصيب علي باشا برصاصتين، وبينما هو يموت أخرج كفنه من خرجه - وكان لا يفارقه أبدا - ورجا قاتليه بألا يحرموه من الدفن.
على أن محمد علي وألبانييه - ولو أنهم ساعدوا على الإيقاع بالرجل، بل كانوا هم المحرضين على الإيقاع به - لم يتدخلوا في قتله، وما فتئوا واقفين وراء ستار.
ولما عاد المتحالفون إلى القاهرة بلغهم نبأ وصول رسول من لدن الباب العالي، فذهب وفد من البكوات إلى الإسكندرية لاستقباله، وعادوا به باحتفال عظيم، فلما استقر العاصمة أخرج الفرمان الذي حضر به وناوله إلى القاضي، فقرأه بصوت عال؛ أفتدري أيها القارئ الكريم، ماذا كان مضمونه؟ إنه كان يؤيد علي باشا الجزائرلي على ولاية مصر!!!
غير أن البرديسي ومحمد علي إن هزآ بمضمون ذلك الفرمان السخيف، ما لبثا أن وجدا من صروف الأيام سببا لقلق أخطر بكثير من الذي تلافياه بموت علي باشا الجزائرلي.
قلنا إن الجيش الإنجليزي لما انجلى عن الإسكندرية اصطحب معه إلى إنجلترا محمد بك الألفي، زعيم المماليك الثاني، لتتخذ الحكومة الإنجليزية منه آلة لتنفيذ مراميها في القطر المصري في مستقبل الأيام، فرأت هذه الحكومة في أوائل سنة 1804 أن الوقت حان لذلك، فأعادت الألفي إلى القطر، ومعه تحف وأموال كثيرة ليشتري بها الذمم والقلوب.
فما بلغ خبر نزوله مسامع منافسه عثمان بك البرديسي إلا وأظلمت الدنيا في وجهه؛ لأن الألفي كان - لسماحة كفه - محبوبا في الأقاليم. وكان أتباعه ومريدوه من المماليك كثيرين. ولم يكونوا مدة غيابه يطيعون البرديسي إلا بتذمر، وكثيرا ما أطلع الألبانيون هذا الأمير على ما كان أولئك الأتباع والمريدون يراودونهم عليه من قتله، فيذكون بذلك كرهه لمنافسه البعيد. وبلغ البرديسي في الوقت ذاته أن الألفي الصغير - الذي كان الألفي الكبير تركه على رأس حزبه لما غادر الديار - ما سمع بعودة مولاه إلا واستدعى رجاله، وأمرهم بالاستعداد للانضمام إلى سيدهم فزاد اضطرابه، وقصد محمد علي - وكان منذ أن تحالفا معا قد اتخذه ناصحا ومرشدا - واستفتاه فيما يجب عمله، فدامت مداولاتهما يومين كاملين. وكان محمد علي قد نظر إلى الحادث الجديد بعين بصيرة ونظر ثاقب، ووزن بروية حقيقته ونتائجه، فأدرك أن الألفي إنما يعني أصبع الإنجليز، وأن هذه الدولة لم تعده إلى القطر، إلا لأغراض خفية لم يكن يمكن أن تكون سوى إعادة سلطة المماليك ووضع زمامهم في يد الألفي محسوبها، مقابل امتيازات تنالها منه، واتفقت معه عليها نظير مساعدتها له. وأنه إذا انضم الألفي إلى البرديسي، وعملا معا بإخلاص وبمساعدة الإنجليز، فقد خسر هو الصفقة وهلك، أو اضطر إلى مغادرة القطر، فعزم - في الحال - على منع حدوث مثل هذا. وما أتاه البرديسي مسترشدا إلا وأشار عليه بوجوب القضاء على الألفي، قبل أن يتمكن الألفي من القضاء عليه بمساعدة الإنجليز.
فاقتنع البرديسي بذلك - وكان بغضه للألفي يعمي بصيرته عن مصلحته ومصلحة قومه، وتعاهد مع محمد علي على العمل سويا لتنفيذ ما صمما عليه، فانتقل - منذ الليلة التالية - إلى بر الجيزة، وباغت الألفي الصغير المعسكر هناك، فتخلى مدفعيو هذا عنه ولم يبق معه إلا بضعة رجال هرب بهم على أجنحة السرعة، فتحول محمد علي إلى فريق من مماليكه كانوا راقدين في إمبابة وداهمهم في نومهم، وقتلهم عن آخرهم.
وفي أثناء ذلك كان الألفي الكبير يصعد النيل في مركب القنصل البريطاني، الخافقة الراية البريطانية عليها، وتتبعه طائفة من القوارب، تحمل التحف والأموال التي جاء بها من بلاد الإنجليز، فلما بلغ بها منوف رأى مراكب موثوقة بألبانيين تتقدم لمقابلته، فسأل رجاله الجند: «ماذا تطلبون؟» فأجابوا: «نطلب محمد بك الألفي!» فقال رجاله: «ها هو هنا!» ولكن الألبانيين لم يتعرضوا له، بل تحرشوا بالقوارب الحاملة التحف والأموال وشرعوا ينهبونها، فرأى الألفي حينذاك أنه يحسن به النزول إلى البر، فنزل وقصد ناحية كانت قبيلة بدوية ضاربة فيها خيامها، فاستقبلته امرأة منها، وأعطته حصانا ودليلين بهجينين، ابتعد بهما من الغد، وتبعه مماليكه سيرا على الأقدام. وبينما البرديسي يضرب في طول القليوبية وعرضها للظفر به بلغ الألفي الخانقاه، فهاجمه فيها جمع من العرب. وما نجا الألفي منهم إلا بفضل سرعة حصانه، وذهب هائما على وجهه.
فعاد البرديسي إلى القاهرة، وهو طروب بفوزه، ولكن عمله ضد أخيه أساء طائفة من أصدقائه، فابتعدوا عنه، فنظر الرجل حوله، وإذا بأكثر من نصف المماليك الذين كان يعتز بهم قد فارقوه إما للانضمام إلى الألفي وإما لاستنكارهم عمله، فاغتنم الألبانيون الفرصة، وطالبوه بمتأخرات ثمانية شهور من رواتبهم، وضجوا حوله، وهددوه بشر الأعمال إذا هو ماطل في الدفع. وما هي لحظة إلا وحضر محمد علي نفسه على رأس فرقته، ولكنه تظاهر أنه مسوق إلى ذلك سوقا، وأنه إنما حضر للتوفيق بين الفريقين.
فوعد البرديسي بالدفع في الغد، وفرض في الحال مالا جسيما على كل «الشراقوة» والفرنج المقيمين في القاهرة، فاحتج القناصل، ولكن البرديسي لم يبال، وجمع الضريبة عنوة، غير أنها لم تف بطلبات الجند، ففرض البرديسي ضريبة فادحة على أهل العاصمة، فضجوا وثاروا، وقتلوا نفرا من المحصلين، وتجمهروا في الأزهر وحوله، فتداخل محمد علي في الأمر، وذهب بمفرده إلى الثائرين ولاطفهم، ووعد العلماء بأن الضريبة المفروضة لن تجبى، فهدأت الثورة في الحال، وعاد الأقوام إلى منازلهم وهم يدعون له، فبات محمد علي مضطرا إلى منع البرديسي من جباية تلك الضريبة. وكان بعض أمراء المماليك قد أخذوا يسيئون الظن في صداقته لهم، ووجدت أسباب حملت محمد علي على الاعتقاد بأن إبراهيم بك الكبير - على الأخص - أدرك غامض نياته، وأنه أوعز إلى مماليكه بالعمل على الإيقاع به خيانة وغدرا. ورأى المكدوني من جهة أخرى أن البرديسي قد فرغ من لعب الدور الذي خصصه له، فلم ير بدا من نزع اللثام عن وجهه، والبروز في حقيقة مقاصده أمام أنظار أعدائه.
فاستمال إلى نفسه في الأول عثمان بك حسن ومماليكه الناقمين على البرديسي. وفي ظهر اليوم الثاني عشر من شهر مارس سنة 1804 سيرهم للإحاطة بمنزل إبراهيم بك الكبير، ووجه جنودا عديدة للإحاطة بدار البرديسي، وكان يدافع عنها جمع من الترك، استمالهم محمد علي إليه برشوة، فحولوا مدافعهم على من في الدار بدلا من تحويلها على الألبانيين، وشرعوا يدكون جدرانها دكا، فأمر البرديسي رجاله بامتطاء جيادهم، وحمل ما ثمن وخف من أمتعته على ظهور هجن، ثم فتح الأبواب بغتة. وانقض على صفوف الألبانيين المحيطة بداره، ففتح له ولمن معه منفذا فيها، وعدا برجاله وأمتعته نحو البساتين. وإبراهيم بك الكبير من جهته تمكن من الانسلال عند الفجر من منزله إلى ساحة الرميلة، وفر منها إلى الصحراء. ولما علم المدفعيون المقيمون في القلعة أن الأمراء أسيادهم فروا؛ انقضوا على دار السكة، فنهبوها، ثم ولوا - هم أيضا - الأدبار من باب الجبل، فلم يبق في القاهرة من سلطة سوى سلطة محمد علي، ولو كان قليل التبصر كطاهر باشا، لاقتدى به وتسلم زمام الحكم، ولكنه كان داهية من أكبر دواهي الزمان، ولم يكن ليجهل أن الفرص لا تزال غير مناسبة، وأنه يجدر به أن يستمر عاملا على إنضاجها.
ففي نفس اليوم الذي طرد المماليك من القاهرة فيه، صعد إلى القلعة، وأنزل منها خسرو باشا المسجون فيها ليعيده إلى كرسي الولاية. ولكن الزعماء الألبانيين زملاءه - بتحريض من ولدي أخي طاهر باشا - أبوا عليه التعيين، فأنزلوا خسرو عن ذلك الكرسي، وأرسلوه مخفورا إلى رشيد، ومحمد علي لا يمانع؛ لأنه لم يكن ليهمه البتة أن يتولى خسرو، وإنما كان يهمه أن تبقى مقاصده تحت ستار وأن يؤمن الباب العالي بولائه، ويزداد تعلق العلماء به لاعتداله.
فانضم إلى الزعماء في اجتماعهم للتداول فيمن ينتخبونه للولاية، فأجمعت آراؤهم على تعيين خورشد باشا محافظ الإسكندرية المولى عليها من قبل خسرو الوالي المخلوع، وكان خورشد آخر من تبقى في القطر ممن يصح أن تتجه إليهم الأبصار، فإذا جرب ولم يفلح هو أيضا أصبح من السهل حمل القوم على انتخاب محمد علي.
فذهبت فرقة ألبانية وأتت بخورشد من الإسكندرية في 2 أبريل، وفي 28 منه أتاه فرمان التثبيت من الأستانة.
وكان خورشد رجلا أذكى ممن سبقوه وأشد مراسا، فحاول جهده للخروج من قبضة الرجل القدير الذي أراد تحريكه على المسرح كما حرك عليه أسلافه. ولكن محمد علي لم يمكنه من ذلك، ووقف له بالمرصاد، يستفيد من كل غلطة يرتكبها، لينفر منه النفوس، ويثير عليه الضغائن.
فما استقر خورشد في كرسيه إلا ورأى المال يعوزه، فأمر بتحصيل الميري عن السنة كلها مقدما؛ فنفر هذا الأهالي منه، ثم شرع يبحث عن كل من له علاقة بالمماليك ويصادره. ولكن المماليك ثأروا لمريديهم ولأنفسهم بمنع الوارد من غلال وأقوات عن العاصمة، فجاعت وزاد جوعها في نفورها من خورشد، وازدادت أمام خورشد صعوبة الحصول على المال اللازم، فما كان منه إلا أنه أرسل يوما واستدعى إليه في القلعة الست نفيسة أرملة مراد بك، وكانت - لفضلها وبرها وتقواها - محبوبة ومحترمة جدا من الجميع، وأخذ يتذرع بحجج شتى لاستخلاص نقود منها، فبلغ الأمر مسامع القاضي ومشايخ الأزهر، فأسرعوا إلى الوالي، وبينوا له مقدار الخطأ الذي ارتكبه. فادعى أن نفيسة هانم تفسد عليه جنوده في مصلحة المماليك، وتعدهم إن هم انفضوا عنه بدفع مرتباتهم لهم، ففاتح المتعممون الست نفيسة في ذلك، فقالت: «إنه لم يعد لي بين المماليك لا أب، ولا زوج، ولا أخ، فبأي داع أخدم مصلحتهم؟ إني أرى أن كل هذا تحايل لابتزاز أموال مني ليس لدي منها ظلها، لأني قد أصبحت في حال لا تمكني من القيام بواجبي نحو نفس من خدمني ويخدمني!» فعاد المتعممون إلى خورشد، واجتهدوا في حمله على إطلاق أسيرته فأبى، وبالرغم من إلحاحهم وتوسلهم أصر على الإباء، فنفروا حينذاك منه، وقالوا له إن إصراره هذا إنما يعتبرونه امتهانا منه لكرامتهم. فتداخل بعض كبار المرتبة في الشأن، وانتهى الأمر بتصريح خورشد للست نفيسة بالإقامة في بيت الشيخ السادات. وكانت عديلة هانم - بنت إبراهيم بك الكبير - قد لجأت إليه أول ما بلغها ما أصاب نفيسة هانم؛ خشية أن تصاب بمثله.
ولما أدرك خورشد أن معاملته للست نفيسة زادت في إبعاد القلوب عنه، بدون أن تجديه نفعا، لجأ إلى وسيلتين أخريين للحصول على نقود، فجمع الوجاقلية وفرض عليهم ألف كيس وأبقى بعضهم لديه رهائن، ثم فرض خمسمائة كيس على الأقباط ومائة وخمسين كيسا على المسيحيين السوريين المقيمين بمصر. ومع أن «ميري» السنة الجارية لم يستطع تحصيله، أمر بتحصيل «ميري» السنة التالية. وأخيرا فرض ضريبة على أرباب الحرف والصنائع في العاصمة. ولكن هؤلاء ثاروا في الحال، واحتشدوا في الأزهر، وجاهروا بالتمرد والعصيان، فاضطر خورشد إلى تسيير مناد في المدينة ينادي بأن الفقراء يعفون من دفع الضريبة، ولم يكن بين أرباب الحرف والصنائع من غني البتة.
الأمير بشير الشهباني.
على أن عدم وجود نقود عند الوالي جعله لا يستطيع دفع رواتب الجند. وعدم حصول الجند على رواتبهم أدى بهم إلى التعدي على الأهلين والتجار وسلبهم، فنجم عن ذلك أن التجار أغلقوا حوانيتهم، والأهلين امتنعوا عن الخروج من منازلهم، فوقفت حركة الأعمال، وبدت المدينة كأنها مهجورة، لا يتجول فيها سوى الجنود والألبانيين، فرأى خورشد أن يصادر نساء المماليك، اللائي كن رهائن لديه، فابتز منهن ألفا ومائتي كيس. وكان قد أتى فرمان من الأستانة يتضمن شكرا لمن ساعد على البطش بالمماليك، فعقد خورشد ديوانا كبيرا لتلاوته، وبعد الفراغ من قراءته استدعى العلماء إلى قاعة الاستقبال، وألبسهم فراوي من سمور كالمعتاد، وألبس كذلك مدير دار السكة، ومراقب عموم المالية واثنين وعشرين وجيها من الأقباط، ولكنه طلب إليهم في اليوم التالي، مقابل ما نالوا من إكرام على يديه، أن يدفعوا له ألف كيس على سبيل العارية الإجبارية.
السلطان محمود الثاني.
هذه الحال المؤلمة استمرت إلى أن مل المماليك البقاء على مناوشات لا طائل تحتها، حول القاهرة، فاقتلعوا خيامهم وساروا إلى الصعيد. وكان الخوف كله - حتى هذا الانسحاب - في أن ينضم رجال الألفي إلى رجال البرديسي ورجال إبراهيم بك؛ فإن الألفي - وكان بعد ما أصابه من نكبة، مختبئا عند شيخ من مشايخ عرب الشرقية - ما درى بما حصل في مصر للبرديسي إلا وخرج من مخبئه وأتى على رأس جانب من رجاله، وأقام في قرية على ضفة النيل اليمنى على مسيرة يومين من القاهرة، وأخذ من جهة يسعى إلى التقرب من البرديسي، ويراسل من جهة أخرى خورشد باشا في السر للوصول إلى اتفاق معه، فاستقبل خورشد رسوله بحفاوة وأهداه محمد علي جوادا مطهما.
وبينما الوالي وزعيم الألبانيين يجتهدان في إبقاء الألفي على الحياد، كان محمد علي لا يفتر عن مقاتلة مماليك البرديسي في المعتمدية، والإيقاع بهم والرجوع يوميا إلى القاهرة برؤوس بعضهم مشكوكة على رؤوس الحراب. ولما ابتعد المماليك نحو تخوم القليوبية، ليحملوا جند الولاية على الخروج إليهم من استحكاماتهم، لم يجسر سوى محمد علي على اقتفاء آثارهم ومطاردتهم من القليوبية إلى المنوفية، فلما أن فعل ذلك عاد إلى القاهرة لاضطراره إلى دفع مرتبات جنوده، وإذ كان يعلم أن مطالبة خورشد بها لا تجدي نفعا، قبض على اثنين من أغنى وجهاء المدينة ومن محسوبي الوالي، ولم يخل سبيلهما حتى دفعا بين يديه خمسمائة كيس.
مؤسس الوهابية.
غير أن مصادرة خورشد نساء المماليك في القاهرة أغضبت الألفي وجعلته - بالرغم من أن خورشد قلده ولاية جرجا - يعلن عداءه للوالي وينضم في قتاله إلى باقي المماليك إخوانه، فأرسل إلى خورشد، في هذا المعنى، رسالة ضمنها من المطاعن المرة عليه ما أطار عقل الرجل غضبا، وحمله على الأمر بقطع رأس الرومي المسكين الذي حمل تلك الرسالة إليه.
وعلى ذلك زحف المماليك من كل جهة، إلى العاصمة، ولكن بدون تفاهم بينهم، فخرج محمد علي إلى مقابلتهم، وما فتئ يناوشهم مناوشات عنيفة يحاول بها إلقاء الاضطراب في صفوفهم، حتى وقع مع ثمانمائة من أتباعه في كمين في جهة البساتين، لم ينج منه إلا بأعجوبة. ولكنه ثأر لنفسه بعد قليل بأن أبلغ عثمان بك حسن والألفي أنه مل الحال، وأنه إذا أبى خورشد مصالحة المماليك، فإنه هو - محمد علي - سيتقرب منهم، فصدقاه وأغفلا الاحتراس، فسار محمد علي بألف رجل تحت جنح الدجى إلى طرة، وهاجم أعداءه وهم نائمون، وأثخن فيهم، ولولا أن الألبانيين خالفوا أوامره وأطلقوا الرصاص قبل إتمام الإحاطة بالقرية لما نجا أحد من المماليك المبيتين.
فحملت هذه الواقعة المماليك على الابتعاد عن القاهرة - كما قلنا - بعد أن بالغوا في تضييق الخناق عليها، وعاد الفلاحون إلى جلب الأقوات لها؛ فزالت شبه المجاعة التي كانت أصابتها، ونسب أهلها الفضل في ذلك إلى محمد علي بحق.
وكان قد ورد على خورشد باشا، قبل ذلك بيومين، أمر من الأستانة يقضي بإرسال خمسمائة رجل إلى ينبع لدفع الوهابيين عنها، وورد على زعماء الألبانيين فرمان استصدره خورشد الراغب في التخلص منهم، يأذن لهم بالعودة بجنودهم إلى بلادهم، فرضي بالأمر بعضهم وأزمعوا الرحيل، ولكن الجند منعهم إلا إذا دفعوا لهم متأخراتهم، فكادت تقع فتنة، لولا أن خورشد - ليتخلص من أولئك الزعماء وعسكرهم - دفع هو نفسه المتأخرات، على أن الزعماء عدلوا حينذاك عن الرحيل. ولم يجن خورشد من تسرعه سوى خسارة المال الذي دفعه.
ووقع بعد انسحاب المماليك حادث أظهر مقدار ما بلغ إليه نفوذ محمد علي في نفوس جنوده بعد انتصاراته المتتابعة على المماليك؛ ذلك أن جنديين من الأرناؤوط تشاجرا مع فرنساوي يقال له روجيه، كان رئيس الصيادلة في الحملة الفرنساوية، وتخلف عنها في مصر، وأرادا قتله، فعاجل الفرنساوي أحدهما بضربة أودت به، وأطلق خادم من خدمه الرصاص على الثاني فجرحه جرحا خطيرا، فاجتمع العساكر وأرادوا نهب الحارة، وكثر الهرج والمرج، ولكن الخبر بلغ إلى محمد علي، فحضر إلى محل الواقعة ماشيا على قدميه، وليس معه إلا نفر قليل، وأمر بفتح باب الحارة، لئلا يكسره الجند، فيحدث ذلك ما لا تحمد عقباه، ثم وضع خفراء عليه، ومنع العسكر الهائج من ارتكاب أية معصية كانت، وما زال بهم من جهة، وبالقنصل الفرنساوي من جهة أخرى؛ حتى حمل القنصل على دفع أربعة آلاف قرش لأخ المقتول، على سبيل الدية وحمل أخا المقتول على قبولها، والجند على الاكتفاء بها ثأرا.
ثم وقع في خلده أن يرى مقدار ما بلغت إليه منزلته عند الشعب، فاصطحب ذات صباح أحمد بك، الذي كان يقاسمه الإمرة على الأرناؤوط، وذهبا معا إلى الوالي، وأظهرا له الرغبة في الرجوع إلى بلادهما، فطار عقل خورشد فرحا واعتبر التخلص من محمد علي غنيمة كبرى. ولما كان قد عينه منذ بضعة أيام حاكما على جرجا أقاله من هذه الوظيفة، وعين سلحداره مكانه فيها. وذاع في الشعب الخبر، وتأكيدا لحقيقته، شرع محمد علي في بيع أملاكه ودوابه.
فاضطربت حينذاك المدينة عن بكرة أبيها، وأقفلت الأسواق والدكاكين، وازدحم الناس في الشوارع والدروب، وبدت على القوم أمارات الأسف الشديد على رحيل الرجل الذي كانوا يعدونه الحامي الوحيد لبيضة أمنهم من تعدي الأجناد عليها، وكاد يخامرهم يأس على أعمارهم، وكأني بالعسكر أرادوا أن يثبتوا لهم حقيقة تقديرهم، فما علموا أن محمد علي راحل إلا وانتشروا في الأحياء يفسدون ويخطفون، وكاد الدم يهدر.
ولكن محمد علي - وقد اكتفى بما رأى من منزلته في القلوب - نزل وطاف المدينة على قدميه، مهدئا المخاوف، زاجرا الجند، ومعاقبا بالقتل كل من تجاوز منهم حد المحتمل، وإرهابا للأشرار أمثال المعاقبين، أبقى الرؤوس المقطوعة عدة أيام معلقة على الأبواب. وانتهى الأمر بأن سافر مائتا ألباني ومعهم أحمد بك. وأما محمد علي فإنه أعلن بقاءه إرضاء للرأي العام، فجعل لنفسه بذلك منة في رقبة الشعب.
فلما تأكد خورشد من عدوله عن السفر، رأى أن يستخدم ميزاته العسكرية في الحملة التي صمم على تسييرها ضد المماليك فيبعده بألبانييه عن العاصمة، ويغتنمها فرصة للتخلص منهم بضربة تصيبهم على أيدي جنود غيرهم أرسل يستدعيهم من سوريا وغيرها.
فقلد محمد علي قيادة ثلاثة آلاف رجل بيم مشاة وفرسان وسيره إثر سلحداره الزاحف بمقدمة الجيش وقدرها أربعة آلاف جندي.
فلما أحس المماليك بالقوى المتقدمة لقتالهم، أدركوا أن تفرقتهم ضارة بهم جدا، وأخذ عقلاؤهم يسعون إلى مصالحة البرديسي والألفي، واتفقوا على أن يتقابل هذان الزعيمان في جزيرة قبالة طرا، أقيمت فيها خيام لهذا الغرض، فأتاها البرديسي أولا، وما لبث أن نزل الألفي إليها أيضا. ولكنه لم يخط بضع خطوات فيها إلا ورأى على الشاطئ ثعبانا مقطوعا نصفين، فتطير وظن أن في الأمر خيانة وغدرا، وعاد من حيث أتى، فاستمر الشقاق بين المماليك على ما كان.
وفي الأثناء تقدمت فرقتا السلحدار ومحمد علي حتى بلغتا المنيا، وكانت في يد المماليك، فحاصرها القائدان الألبانيان ستة وخمسين يوما، واستوليا عليها بعد عناء شديد، وبعد عدة وقعات ظهرت فيها قلة جدارة السلحدار وكثرة كفاءة محمد علي.
على أنه بينما كانت القوات الألبانية تبلي هذا البلاء الجيد، كان خورشد باشا يسعى سعيا حثيثا - تساعده الأستانة فيه - إلى هدم كيان تلك القوات، وتفريقها أيدي سبأ، وذلك باستحضار قوات أخرى إلى القطر تحل فيه محلها. تلك القوات الجديدة كانت تعرف باسم الدلاة أو الدالتية أي المجانين بالتركية، وإنما سموا كذلك لشهرتهم بالبسالة المتناهية، وكان معظمهم أكرادا، سلاحهم سيف وطبنجتان وقرابينة، وكانوا يلبسون على رؤوسهم طراطير مخروطية الشكل من الجوخ الأسود طول الواحد منها عشرة قراريط، لا حافة له وتشده على الرأس عصابة.
فأحضر خورشد باشا ثلاثة آلاف منهم، ولما بلغه نبأ وصولهم إلى التخوم المصرية خرج بنفسه إلى مقابلتهم ودخل بهم القاهرة من باب النصر، فكانت باكورة أعمالهم أن انقضوا على السابلة وأرباب الدكاكين، فخطفوا النساء والمردان ونهبوا التجار، كأنهم إنما حضروا لهذا الغرض فقط. بعد ذلك طلبوا علوفاتهم ومرتباتهم بإلحاح ونعير لم ير الباشا معهما بدا من إجابتهم إلى طلبهم، ففرض على تجار كانوا منتظرين حرسا للذهاب إلى ينبع؛ خمسمائة كيس، لإعطائهم ذلك الحرس، وعلى اليهود مائة وعشرين كيسا، وألزم تجارة السويس بما وازى هذين المبلغين معا.
غير أن خبر وصول الدلاة ما بلغ محمد علي وهو في المنيا إلا وأدرك الباعث الذي حمل خورشد باشا على إحضارهم، فاتفق في الحال مع حسن باشا زميله، ونهض كلاهما، وسارا بجنودهما إلى القاهرة، فلما شاع خبر قدومهما اضطرب له خورشد اضطرابا عظيما، فبعث واستدعى إليه المشايخ ونقيب الأشراف والوجاقلية وأرباب الديوان، وقال لهم: «إن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن، وطالبان شرا، فإما أن يعودا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما، أو أعطيهما ولايات ومناصب في غير أرض مصر ، فإن لدي أمرا من السلطان بذلك، فأطلب إليكم إذا أن تكونوا معي وتعضدوني.» فقر الاتفاق على أن يبيت عنده في القلعة كل ليلة اثنان من المتعممين واثنان من الوجاقلية، وصدر الأمر إلى الدلاة بالخروج بأسلحتهم ومدافعهم إلى ناحيتي طرا والجيزة للوقوف في وجه القادمين.
ففعلوا، ولكنهم لم يجسروا على التعرض لمحمد علي ومن معه. ولما أرسل محمد علي إليهم يقول لهم: «إننا إنما جئنا في طلب المرتبات ولسنا بالمخالفين ولا بالمعاندين.» وعزز قوله بالهدايا والتحف، قال الدلاة بعضهم لبعض: «إذا كان الأمر كذلك، فالقوم محقون فيما يعملون.» وأجابوا من أرسله خورشد لتأنيبهم على جبنهم وتساهلهم: «إذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا، إذا خدمناكم زمنا، ثم طلبنا علائفنا!» واستمروا لا يبدون حراكا، فدخل محمد علي وزميله بجنودهما القاهرة ونزلا في بيتيهما.
فبلغت الفوضى حينذاك أقصاها؛ فأخلاط العسكر في مصر - ولا سيما الدالاتية - يأكلون الزرع والقوت، ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين، بل يخطفون النساء والأولاد. والمماليك في الأقاليم، وعند أبواب العاصمة ذاتها؛ يأخذون من البلاد الأموال والكلف عنوة واغتصابا. والعرب والبدو يغيرون على القرى وينهبونها، ويحرقون الأجران ويسبون النساء، ويضربون ويقتلون من يتعرض لهم بدفاع. وأسراب الأولاد الصغار يصرخون في أسواق القاهرة والمدن الأخرى، ويأمرون الناس بغلق الحوانيت، ويسبون المشايخ ويشتمونهم ويرجمونهم بالحجارة إذا ما صادفوهم في الشوارع، لاعتقاد الملأ أن المشايخ لو تجاسروا وأرادوا لتمكنوا من رفع تلك البلايا. والباشا لا يرى للأمور دواء إلا العمل على إخراج محمد علي وفرض الأموال على الناس، كأنه لا يكفيهم ما هم فيه من بلاء وشقاء.
فلإخراج محمد علي حمل الأستانة على تعيينه واليا على جدة. وكان محمد علي - منذ أن عاد إلى منزله - متظاهرا بالاعتدال التام، يتحبب إلى العلماء بما يحادثهم من محادثات عذبة، وما يشترك معهم فيه من تأدية فرائض الدين، ويزيد في اجتذاب قلوب الناس إليه بمنع كل تعد من جنوده الخاصة عليهم، ويقوي تعلق جنوده به ببذله لهم مرتباتهم في أوقاتها، وبمضاعفتها أحيانا.
فلما أتاه فرمان التولية على جدة تظاهر بقبول المنصب، ولكنه رفض ما دعاه إليه خورشد من الصعود إلى القلعة ليتقلده فيها. ومن يعلم كيف فتك خورشد هذا غدرا - بعد ذلك بنحو عشرين سنة - بعلي باشا تبلن والي ينينا؛ لا يسعه إلا أن يقر محمد علي على قلة ثقته به، وحتم عليه النزول إلى المدينة لقراءة الفرمان المنبئ بذلك في بيت شيخ وقور يقال له سعيد أغا، فنزل الوالي على مضض، وخلع على محمد علي، وألبسه فروة المنصب الجديد وقاووقه، فشكر محمد علي وخرج يريد الركوب، ولكن عسكره - بإيعاز سري سابق منه - أوقفوه، وطلبوا منه العلوفة، فقال لهم: «ها هو الباشا عندكم فطالبوه!» وركب وذهب إلى داره بالأزبكية، وهو ينثر الذهب في الطريق، فأحاط العسكر بخورشد باشا، ومنعوه من الخروج أو يدفع المرتبات. وأشيع في المدينة أنهم حبسوه، ففرح الناس وباتوا مسرورين.
ولكنه تمكن في الليل من الصعود إلى القلعة، وفي الصباح التالي - لخوفه من أن ينضم الدلاة إلى الأرناؤوط في المطالبة بالعلوفة؛ فلا يبقى له نصير - بعث إليهم يبيح لهم نهب مديرية القليوبية ليحصلوا منها مطلوباتهم، فعاث الدلاة في البلاد فسادا، وارتكبوا من المنكرات ما لا يتصوره عقل.
فطفحت بالناس الكأس، فركب المشايخ إلى بيت القاضي واجتمع فيه عدد عظيم جدا من المتعممين والعامة والأولاد، حتى غصت بهم الدار، وامتلأ بهم صحنها، وصرخ الجميع: «شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم!» وطلبوا من القاضي أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة إلى مجلس الشرع، فلما حضروا واستقر بهم المكان، قر الرأي على كتابة عريضة بالشكاوي والمطالب إلى الوالي، فكتبت ورفعت إليه، فأجاب يستدعي القاضي ونقيب الأشراف والعلماء إليه في القلعة ليشاورهم في الأمر، فغلب على ظنهم أنها خديعة منه. وحضر بعد ذلك من أخبرهم - ولا ندري مقدار ما كان في أخباره من الصدق - أن الوالي أعد أشخاصا لاغتيالهم في الطريق، فتملكهم الغيظ والحنق. وفي الغد - وكان يوم 14 مايو سنة 1805 - ركب الجميع ساعة العصر وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: «إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولا بد من عزله من الولاية!» فقال: «ومن تريدون أن تولوا مكانه؟» قالوا: «لا نرضى إلا بك واليا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير!»
فامتنع أولا؛ لكيلا يقال إنه هو المحرض، ولكنه - أمام إلحاح القوم - رضي، فأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم - نقيب الأشراف - والشيخ الشرقاوي، فألبساه إياه. ونادوا بذلك في المدينة، فاستبشرت وهللت، ثم أرسلوا الخبر إلى خورشد باشا وطلبوا إليه اعتزال الأمر فأجاب: «أنا مولى من طرف السلطان، فلا أعزل بأمر الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة!» وشرع يستعد للمقاومة، وانضم إليه فيها زعيمان ألبانيان: عمر بك وصالح أغا أق قوش، حسدا منهما وغيرة من محمد علي، وأخذ ثلاثتهم يخابرون حسن باشا، زميل محمد علي ليحملوه على التحيز لهم، وكتب خورشد إلى سلحداره في المنيا يستنجده، وإلى المماليك يدعوهم إلى محالفته، وإلى الدلاة يأمرهم بالإسراع إلى الالتفاف حوله.
فاضطر محمد علي إلى محاصرة القلعة من كل جهة، بينما السيد عمر مكرم والمشايخ، ومعهم الكثير من العامة والوجاقلية يحافظون على المدينة بأسلحة وعصي ونبابيت، بعد أن حرروا إعلاما وقعه المفتي بشرعية الحركة، فرأى خورشد أن يرسل عمر بك إلى السيد عمر مكرم ليحمله، هو والعلماء، على العدول عما هم فيه، فدارت بين العمرين مناقشة طويلة، من جملتها أن عمر بك قال: «كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم؟» فقال النقيب: «أولي الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وصاحبك رجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور.» قال عمر بك: «كيف تحصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟! أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟!» قال النقيب: «نعم؛ فقد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم، لأنكم عصاة!» قال عمر بك: «إن القاضي هذا كافر!» - وكان تركيا مثلهم، ومعينا من قبل السلطان - فقال النقيب: «إذا كان قاضيكم كافرا فكيف بكم؟!» فأفحم عمر بك وعاد من حيث أتى.
وزاد التشديد في الحصار، ثم أتى في الأيام التالية كبار الدلاة إلى محمد علي واعترفوا بولايته، وأعلنوا انفضاضهم بتاتا عن خورشد، وهو الذي كان أحضرهم ليستعين بهم على محمد علي وألبانييه، فما كان أحراه بترديد قول الشاعر:
وأعوان تخذتهم دروعا
فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها، ولكن في فؤادي
فخلع عليهم محمد علي خلعا وكساوي، وارتحلوا بقصد الذهاب إلى محاربة الألفي وأتباعه، والعرب الذين معه، ولكنهم لم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه، وساروا إلى البلاد والقرى ينهبون ويقتلون ويفسقون.
وفي 9 يوليو وصل إلى مصر كابجي من دار السعادة، وكان محمد علي منذ أن قبل الولاية، قد بعث بالهدايا النفيسة إلى رجالها، ليحملهم على إقرار ما فعله علماء مصر، فبعد أن تردد الديوان كثيرا وماطل كثيرا، انقاد في نهاية الأمر إلى نصائح السفير الفرنساوي هناك (وكان قد أوصاه بمحمد علي خيرا القنصل الفرنساوي بمصر واسمه ماتييه دي لسبس، وهو أبو فردينان دي لسبس صاحب قناة السويس) واتخذ عبرة من المصاعب التي قامت حتى تلك الساعة دون أن تستتب في مصر سلطة الباشاوات المرسلين إليها من الأستانة، أو المعينين منها مباشرة، فصدق على اختيار الشعب، وأرسل مرسوما مع ذلك الكابجي بتأييد محمد علي على ولاية مصر، وعزل خورشد باشا، وتسفيره إلى الإسكندرية مكرما حتى يتعين على ولاية أخرى.
فأرسلت صورة من المرسوم إلى خورشد باشا، فأجاب بأنه والي مصر بمقتضى خط شريف وأنه لا يعزل إلا بخط شريف، ولكنه مع ذلك أبطل إطلاق النار من القلعة، وطلب مقابلة مندوب الباب العالي فرفض.
فعاد خورشد إلى مفاوضة المماليك، وكان سلحداره قد رجع من المنيا، فاتفق الجميع معا على عمل مشترك يقلبون به مجن الدهر في وجوه أعدائهم.
ولكن محمد علي كان يقظا، فبرز للمماليك وردهم على أعقابهم، ثم تحول إلى سلحداره خورشد فأدبه، وضيق أهل البلد الخناق على الباشا المعزول، وكان أشدهم عليه وطأة رجل من جهة السيدة عائشة يقال له حجاج الخضري، اشتهر بالبسالة والإقدام منذ أيام الفرنساويين .
وبينما الحرب دائرة سجالا ورد نبأ بقدوم عمارة القبطان باشا إلى أبي قير في يوم 17 يوليو تحمل ألفين وخمسمائة مقاتل، وتلا النبأ قدوم سلحدار القبطان باشا نفسه، ومعه مكاتبة إلى خورشد باشا، مضمونها الأمر له بالنزول من القلعة، ساعة وصول الخطاب إليه، من غير تأخير، ومكاتبة إلى محمد علي بتثبيته في مركزه.
فلما اجتمع السلحدار بخورشد باشا في القلعة أذعن خورشد للأمر، ووعد بالرحيل، على أن تدفع مرتبات من خدمه من الزعماء والجند، ولكنه عاد فأخلف وعده، وأخرج من بالقلعة من النساء والأولاد، واحتفظ بالرجال، وبالاتفاق مع سلحداره والمماليك، أثار نار معركة جديدة، ولكن محمد علي أطفأها بسرعة، وأخذ احتياطاته لمنع تجديد مثلها.
فرأى سلحدار القبطان باشا والكابجي أن عدم تتميم المهمة التي حضرا من أجلها ينقصهما جدا فعادا إلى الاجتماع بخورشد وما زالا به حتى أقنعاه بوجوب التسليم والإذعان فقبل، فصعد في 3 أغسطس سنة 1803 حسن أغا سار ششمه محمد علي بجملة من العساكر إلى القلعة، وتسلمها من خورشد، ونزل الباشا المخلوع من باب الجبل في الساعة الرابعة على الحساب العربي من صباح اليوم التالي، إلى جهة باب النصر، ومر من خارجه إلى جهة الخروبي، وذهب إلى بولاق يصحبه كتخدا محمد علي وعمر بك وصالح أغا أق قوش، وفي 9 أغسطس ركب سفنا من بولاق، وارتحل إلى رشيد.
فكان آخر وال عثماني على مصر تأتيه الأوامر من الأستانة رأسا، وخلا الجو منه لمحمد علي، فجلس بدله على سدة الولاية. •••
وهكذا صدق قول الشيخ الوقور له، وأوصلته الطريق الطويلة الوعرة التي سلكها - عملا بنصيحته - إلى ذروة المعالي.
الفصل الثالث
العمل على الثبوت فوق القمة
ولكنه ما استوى على سدة الولاية إلا ووجدها خشبا يبسا كله شظايا، ووجد أن شوك المصاعب يكتنفها من كل صوب، وجيش الهموم يزدحم حوله من كل باب، فأيقن أن الصعوبات التي اجتازها للوصول إلى السدة لم تكن شيئا بجانب التي يلزمه التغلب عليها للثبوت فوق القمة، وأن أقل خطوة مخطئة يخطوها تدهوره حتما إلى الأعماق.
الدكتور كلوت بك .
فأقام لحظة يتبصر في أمره، ويتفرس مليا بالصعاب المحيطة به، فإذا هي:
أولا:
عدم خلوص نية الباب العالي من جهته ومبدأ الديوان القاضي بعدم إبقاء وال على كرسي ولاية مصر أكثر من سنة.
ثانيا:
قيام الدسائس البريطانية حوله، وسعي إنجلترا سعيا حثيثا سرا وجهارا لإسقاطه وتسليم القطر المصري إلى المماليك.
ثالثا:
نزوع جنده إلى الثورات بين حين وحين تحت تأثير شتى المؤثرات.
رابعا:
قيام المماليك عليه، لرغبتهم في الانتقام منه، وفي العودة إلى منصة الأحكام.
خامسا وأخيرا:
عدم التمكن من التغلب على هذه الصعاب الأربع إلا بالمال، وعدم وجود المال في خزائنه، ووجوب الحصول عليه بدون تنفير قلوب الناس منه.
أما عدم خلوص نية الباب العالي من جهة، فإنه ظهر جليا في سلوك القبطان باشا التالي لما بدا منه في تثبيت محمد علي على سدة خورشد، فإن القبطان باشا هذا لم يبرح الإسكندرية بعد انقضاء مهمته وأقام فيها كأنه - عملا بأوامر سرية - متربص للطوارئ، فكاتبه محمد بك الألفي، وعرض عليه أن يضم مماليكه إلى قوى سلحدار خورشد باشا - وكان لا يزال في الجيزة ويأبى الاعتراف بولاية محمد علي - وإلى الألفين والخمسمائة مقاتل الذين حضر بهم القبطان باشا نفسه، وأن يزحف الجميع إلى القاهرة، فيستخلصوها من يد محمد علي، ويطردوا الألبانيين من القطر، وعضد الإنجليز مقترحات صديقهم الألفي بك، ووعدوا بالمساعدة والمال، وأومضوا بريق وعيد يؤخذ منه أن بريطانيا العظمى - إذا أهمل القبطان باشا إجابة طلب الألفي - قد تنزل جيشا إلى الساحل يعمل بالاتحاد مع المماليك على التخلص من محمد علي.
ولكن الفرنساويين - لعدائهم للإنجليز - أفهموا القبطان باشا أنه إذا انصاع إلى محرضات الألفي، وعمل باقتراحاته، أساء إلى دولته إساءة كبرى، وأساء إلى مصر إساءة أكبر؛ لأن الحوادث الماضية دلت دلالة صريحة على أن محمد علي خير من يصح الاعتماد عليه في تنظيم الأمور في القطر، لما بدا من عزمه وحزمه ومتانة أخلاقه، وبلغ من التحيز الفرنساوي لبطلنا أن السفير الفرنساوي في الأستانة بتأثير كتابات القنصلين الفرنساويين في القطر المصري - ماتييه دي لسبس ودروفتي - ما فتئ يلح على رجال الديوان بوجوب عدم التعرض لمحمد علي بسوء، لا سيما وأنه محبوب من العلماء والعامة، وأنه آخذ في تجهيز مهمات حملة ضد الوهابيين، أعداء السلطنة والدين.
ولم يتوان محمد علي من جهته، ولعلمه بما للهدايا من التأثير الكبير في نفوس رجال تركيا؛ عن غمر القبطان باشا ورجال الديوان بها.
أما القبطان باشا، فإنه أمام هذه المؤثرات المختلفة، أقام مترددا مدة، فاغتنمها محمد علي للقضاء على سلحدار خورشد باشا، واضطراره إلى التسليم، والتخلي عن جنده ومهماته، واللحاق بمفرده بخورشد باشا مولاه في الإسكندرية، وأما الأستانة فإنها أصاخت سمعا إلى أقوال السفير الفرنساوي، وطابت قلبا لهدايا محمد علي مرة أخرى، فأرسلت إلى القبطان باشا تأمره بالعودة إلى مياه البوسفور بعمارته، فأقلع الرجل في 28 أكتوبر سنة 1805 وأخذ معه خورشد باشا، وقد قال بعض المؤرخين إنهم وجدوا في مذكرات هذا القبطان ورقة كتب عليها ما يأتي، مشيرا إلى محمد علي: «إني أترك خلفي رجلا سوف يصبح يوما ما أكبر متمرد على الدولة العلية، وأن سلاطيننا لم يوفقوا البتة إلى سياسي داهية كهذا، ولا إلى رجل قوي العزم والحزم مثله!»
سليمان باشا الفرنساوي.
وأما مبدأ الباب العالي في عدم إبقاء وال على مصر أكثر من سنة، فإنه تجلى في ظهور عمارة عثمانية في ميناء الإسكندرية في أول يوليو التالي، تحت قيادة أمير بحر غير السابق، وعليها ثلاثة آلاف جندي من جنود النظام الجديد وموسى باشا والي سلانيك المعين خليفة لمحمد علي، وما استقر المقام في الثغر لأمير تلك العمارة، إلا وأرسل رسولا بفرمان من الباب العالي إلى محمد علي يأمره فيه بالتخلي عن ولايته إلى موسى باشا، والذهاب لتولي ولاية سلانيك مكانه.
فأظهر محمد علي رغبته في الامتثال، وأرسل مع الكابجي رسولا إلى القبطان باشا يقول له إن جل رغبة مولاه الابتعاد عن قطر الفتن فيه معششة ومفرخة، ولكن الجنود - ولهم متأخرات يبلغ مقدارها عشرين ألف كيس - يمانعون في ارتحاله، ولكي يظهر أن قوله هذا حقيقة لا إيهام ، جعل عسكرا يرافقونه أينما يتنقل، ويطالبونه بعلوفاتهم جهارا، ثم أراد أن يتأكد من نفسية قواده، ومقدار عطفها عليه، فجمعهم وقال لهم إنه مستعد للخضوع والطاعة والسفر، فهتف جميعهم: «ولكنا لا نسمح لك بذلك البتة!» فقال محمد علي بحماسة: «أوكيف؟ أتريدون منعي من تنفيذ الأوامر التي صدرت إلي، وليس في استطاعتكم المدافعة إذا ما هوجمنا؟! فجنودكم لا تفتأ عابثة بالنظام، فاتكة بالأهالي، ملحة علي في كل حين بإعطائها أجورها، وأنتم رؤساؤهم وقوادهم، أتدرون كيف تعملون على إبقائهم في حدود الواجب؟ وألا تفضلون لذات الراحة ونعيمها على مشقات الحروب وأخطارها؟! أنتم تتمتعون بهناء بالأموال التي جمعتموها، وأنا وحدي هدف لضربات الأعداء، وأنوء وحدي بعبء الأمور الثقيل، فإذا شئتم أن أبقى معكم، رفيقا أمينا وزميلا صادقا، مثلما كنت في الماضي، فأقسموا لي على القرآن الشريف بأنكم لن تتركوني ولن تتخلوا عني، وأنكم تموتون إذا اقتضت الحال في سبيل قضية هي قضيتنا جميعا!»
فألهبت هذه الخطبة الوجيزة البليغة أفئدة جميع الحاضرين - وكانوا أكثر من سبعين زعيما - فأقسموا في الحال القسم المطلوب منهم، ولكي يجعلوه مقدسا قداسة لا يتمكن أحد معها من العبث به - مهما اشتدت صروف الليالي - أحاطوه بسياج، عادة ألبانية قديمة: فأمسك اثنان منهم - وكانا أكبر الموجودين سنا - حسام محمد علي من طرفيه ومداه، فمر الجميع فوقه واحدا بعد الآخر، ولم يكن يمكن بعد ذلك - إلا للموت - أن يحل عروة تعهد عقدت بمثل هذا الشكل.
ثم أقدم الحضور على اكتتاب فيما بينهم، فجمعوا - من وقتهم - ألفي كيس سلموها إلى محمد علي، وسرعان ما أرسل هذا رسولا من قبله إلى الأستانة بالتحاويل السمينة، وسرعان ما جد بعد ذلك في تجهيزاته الحربية.
ثم جمع العلماء وعلى رأسهم السيد عمر النقيب والشيخ عبد الله الشرقاوي، وفاوضهم في الأمر، فأجمع رأيهم على إرسال كتابة إلى الباب العالي يشرحون له الحال، ويعرضون بالأمراء المماليك بجارح الكلام، ويحبذون أعمال محمد علي، ولكن بكياسة لا تجعل مجالا للاعتقاد بأن الكتابة موحى بها منه، ثم إذ أتاهم كتاب من القبطان باشا يعرفهم فيه بما قر عليه رأي الديوان، سألوا محمد علي عما يجب أن تكون إجابتهم عليه، فقال لهم: «سأرسل إليكم غدا بصورة الرد.» وفي اليوم التالي أرسلها إليهم فنسخوها، وإذا بها تقول للقبطان باشا إن الجند قد لا يطيعون أميرهم، وقد يثورون إذا علموا باضطراره إلى الرحيل، فيعبثون بالأمن والنساء، وسموه رحيم لا يرضى بذلك.
فاتضح من هذا جميعه أن محمد علي مصمم عل عدم تنفيذ أوامر الديوان، وأن لا شيء يحوله عن تصميمه، وفاتح - هو نفسه - بعض أخصائه في الأمر، فقال لهم: «أيظنون أن مصر دار حمام مفتوحة يدخلها من يشاء؟ إني قد اكتسبتها بحد حسامي! ولن أتخلى عنها إلا مكرها بقوة السلاح، أنا أعرف الأتراك؛ هم قوم يبيعون أنفسهم إذا وجدوا من يشتريها، فأنا سأشتريها، قد فزت بالولاية العام الماضي وأنا على رأس خمسمائة جندي فقط مقلقلي العزم، أفأتخلى عنها اليوم ولدي ألف وخمسمائة بطل كلهم ولاء لي؟!»
وبينما موسى باشا على ظهر سفينة يلح على القبطان باشا بتنفيذ أوامر الديوان، وبينما القنصل البريطاني بالإسكندرية يهتم اهتماما فائقا لحمل القبطان على العمل، ويرسم له خططا للهجوم، ويجند أرواما وإيطاليين في الإسكندرية ويرسلهم مددا إلى الألفي الذي كان في ذلك الوقت يحاصر دمنهور، ويجتهد في تفهيم محمد علي بأن إنجلترا تضمن له البقاء واليا على سلانيك إذا هو رضي بالذهاب إليها، وبينما الألفي - وكان قد وعد الأستانة بألف وخمسمائة كيس، بضمانة الخزينة البريطانية، إذا هي أخرجت محمد علي من مصر - يجد لحمل باقي الأمراء على الاشتراك معه في دفعها ولا يفلح؛ أقبل قنصل فرنسا يضع الألغام تحت مساعي زميله القنصل البريطاني، ويحول إلى محمد علي خدمة خمسة وعشرين مملوكا فرنساويا كانوا تحت لواء الألفي، وما فتئ يؤكد للسفير الفرنساوي في الأستانة أن محمد علي صديق صدوق لفرنسا، وأن بقاءه واليا على مصر يتفق دون وجود سواه - أيا كان - مع المصالح الفرنساوية في القطر، وأقبل السفير الفرنساوي في الأستانة يعضد مساعي الرسول الذي أرسله محمد علي إليها بالحوالات السمينة ، ويعضدها بكل النفوذ الذي كان يستمده من مولاه ناپوليون الأول، صاحب الكلمة العليا في أوروبا، بعد أن قهر النمساويين والروس في وقعة اوسترلتز سنة 1805.
فبعث الديوان إلى القبطان باشا يكل إليه التصرف المطلق في الأمر، وكان القبطان باشا قد أرسل مندوبا إلى الألفي ليأتيه بالألف والخمسمائة كيس السابق ذكرها، فعاد المندوب إليه وقال: «إن الأمير محمد بك الألفي، لعدم تمكنه من الاتفاق مع زملائه على أن يقوموا جميعهم بدفع ذلك المبلغ، يعرض على سموكم أن تقبلوا منه وحده خمسمائة كيس!» فاستشاط القبطان غيظا وقال: «أيظن هذا الرجل أن لحية الصدر الأعظم ولحيتي هزأة؟!» وأقبل في الحال على مخابرة محمد علي في اتفاق يبرمانه.
فاستقر الرأي على أن يدفع محمد علي أربعة آلاف كيس، وأن الديوان والقبطان يبقيانه مقابل ذلك في منصبه، على أن يعود العلماء والأعيان إلى التماس ذلك بعريضة؛ لكيلا يقال إن ذمة الديوان اشتريت، فكتب العلماء والأعيان العريضة وسافر إبراهيم بك ابن الوالي الأكبر بها وبهدايا فاخرة إلى أمير البحر، وبقي رهينة حتى يفي أبوه بتعهده المالي، وأرسل القبطان باشا كتخداه إلى القاهرة بالمرسوم المثبت محمد علي في ولايته، على أن يمتنع عن محاربة المماليك ويتصالح معهم، ففرحت القاهرة ثلاثة أيام متواليات.
وأقلع القبطان باشا في اليوم الثالث من أكتوبر بعمارته، وعاد بموسى باشا والي سلانيك من حيث أتى به، وفي 2 نوفمبر - وكان محمد علي قد دفع الأربعة آلاف كيس - قدم كابدجي من الأستانة بفرمانين: أحدهما يقر محمد علي على سدته، والثاني يأمره بتسفير الحج والمحمل وإرسال ستة آلاف إردب بر إلى جدة.
واستمر الأمر كذلك من دفع أموال سنويا، وتثبيت سنوي، حتى استتبت قدما محمد علي، وأصبح مركزه في مأمن من تقلبات أهواء الديوان. •••
على أنه لم يثبت في مأمن من دسائسه ومكائده إلا بعد أن قضى كتخداه محمد بك لازوغلو على لطيف باشا، آخر من استعمله الديوان لاستخلاص مصر من يدي محمد علي.
وتفصيل ذلك أنه كان بين مماليك محمد علي المقربين إليه شاب يقال له لطيف أغا، كان محمد علي يحبه جدا، وبالغ في تقريبه إليه حتى جعله أمين خزنته الخاصة.
ولما أتت الأنباء باستيلاء الجيوش العثمانية على المدينة المنورة واستخلاصها من أيدي الوهابيين أرسله بالبشائر إلى دار السعادة؛ لعلمه بأن ذلك سينيله حظوة عند الديوان والسلطان، وفي الواقع فإن الأستانة أنعمت على لطيف أغا برتبة الميرميران، ولما رأته شابا معجبا بنفسه ومنفوخا، وقع في خلدها أن تستعمله آلة للتخلص من محمد علي، ففاتحته في الأمر، فقال لطيف إنه من السهل جدا القيام بتنفيذ رغائب الباب العالي، لا سيما وأن محمد علي عازم على التوجه بنفسه إلى البلاد الحجازية عن قريب؛ ليباشر بنفسه إدارة رحى الحرب ضد الوهابيين، فتقدم غيبته عن القطر المصري خير فرصة لقلعه عن سدته، وأنه - هو لطيف باشا - يتعهد بالقيام بهذه المأمورية إذا حسن لدى الباب العالي تقليده إمارة مصر، فما كان من الديوان إلا أنه أجابه إلى طلبه في الحال، وسلمه فرمان تعيينه واليا على مصر، وأصحبه إليها بخط شريف ينبئ بذلك فوضعهما لطيف في جيبه وعاد إلى القاهرة، وأخذ يترقب الفرص، ومع أنه لم يطلع على السر الخطير المختبئ في جيوبه إلا أقرب الناس إلى فؤاده، إلا أنه - للغرور والطيش المتغلب على طبعه - أظهر من تغير في أخلاقه، وشموخ في معاملاته، وخيلاء في حركاته وسكناته؛ ما حول قلب محمد علي عنه، وما جعل هذا الأمير - عند مغادرته عاصمته للذهاب إلى البلاد العربية لقتال الوهابيين - يوصي كتخداه بمراقبة تصرفات ذلك الشاب المغرور شديد المراقبة، فقام الكتخدا بالوصية خير قيام، لا سيما وأنه كان يكره من الأصل لطيفا، وزاد حقده عليه ما شرع يراه من غطرسة فيه وإقدام - بعد سفر محمد علي - على إنفاق النقود بسخاء ليزيد عدد مريديه.
وليأخذ عليه خط الرجعة باغته ذات يوم بدعوة إلى اجتماع يعقد في القلعة للنظر في بعض الشئون، وخيره بين أن يحضر إليه من وقته أو يغادر الديار، فأسقط لطيف في يده وارتبك أمره، وما أفاق إلى ما يجب عليه عمله إلا وبيته يحيط به العسكر، فأطلق عليهم الرصاص الذي كان عنده، ولما فرغ منه خبأ كنزه ونساءه ومملوكا له في مخبأ وانسل من طريق سري إلى بيت خازنداره وكان يجاور بيته، واختفى عنده.
أما العسكر، فبعد أن كسروا أبواب المنزل المحاصر ودخلوه قلبوه، رأسا على عقب، فعثروا بالنساء والمملوك والكنز، ولكنهم لم يجدوا لطيفا، فأقاموا متربصين، فلما كان مساء الغد ظن لطيف أن بيت صديقه قد تتجه إليه الظنون، ووقع في خلده أن يصعد إلى سطحه ويقفز منه إلى السطح المجاور ومن هذا إلى السطح الذي بعده وهكذا حتى يبعد كثيرا عن منزله، ويتمكن من الابتعاد بسلام عن العاصمة ريثما تتهيأ فرص أوفق، ففعل، ولكن بينما هو يحاول القفز من سطح صديقه، بصر به جندي كان على سطح مجاور يستنشق نسيم المساء، وأوقع الصوت في الجيرة، فرماه لطيف برصاصة من بندقية كانت معه فقتله، ولكن دوي الطلقة فعل ما لم يفعله صراخ المقتول؛ فإنه أرشد إلى القاتل مساعي الباحثين عنه، ولم تمض سويعات قليلة إلا وبات لطيف مكبلا بالحديد وسيق إلى الكتخدا لمحاكمته، فجمع الكتخدا الديوان شكلا، واستصدر منه حكما بالإعدام.
فسيق لطيف إلى عرصة تحت سلالم السراي بالقلعة، وقطع هناك رأسه يوم 8 نوفمبر سنة 1814 وهو يبكي وينتحب ويطلب العفو بتوسل، والآذان حوله والقلوب لا تسمع ولا تشفق. •••
أما قيام الدسائس البريطانية حوله وسعي إنجلترا سعيا حثيثا إلى إسقاطه فقد تجلى فيما سبق لنا ذكره عرضا فيما مضى من الكلام، ولما لم يفلح ذلك جميعه أرسلت بريطانيا العظمى حملة على مصر تحت قيادة الجنرال فريزر، وأنزلتها في العجمي يوم 17 مارس سنة 1807، فاستولت هذه الحملة على الإسكندرية، بدون قتال بعد يومين فقط من وصولها تحت أسوارها، بتأثير القنصل البريطاني السيئ على محافظها أمين أغا، وبالرغم من كل ما بذله لذلك المحافظ من نصائح وتشجيعات القنصل الفرنساوي، الذي لم ير بدا - بعد وقوع المدينة - من الفرار إلى رشيد؛ هربا من سقوطه في أيدي الإنجليز.
فأسرع الجنرال فريزر وبعث فرقة تحت قيادة الجنرال ويكب للاستيلاء على رشيد، فدخلتها في 29 مارس بلا قتال، فظنت لذلك أنها إنما أرسلت إلى نزهة عسكرية وأن المدينة خالية من حماة، فاطمأنت وانتشر جنودها هنا وهناك وانطرحوا في ظل البيوت والأشجار للراحة، وتخلى معظمهم عن أسلحتهم ليناموا.
فاغتنمها علي بك محافظ المدينة فرصة جميلة، وسار إليهم بالحامية المؤلفة من خمسمائة جندي وهاجمهم على غرة، وأخذ الأهلون يصلونهم نارا حامية من النوافذ والسطوح، فما هي إلا لحظة وقتل الجنرال ويكب ودب الرعب إلى قلوب جنوده، ولولا أن الأتراك أضاعوا الوقت في قطع رؤوس الواقعين لما نجا من الإنجليز أحد، ولكن حماة رشيد أسروا - مع ذلك - مائة وعشرين منهم، فوضعوهم في مراكب، ووضعوا فيها بجانبهم تسعين رأسا مقطوعة، وسيروا الجميع إلى العاصمة، فشكت الرؤوس هناك على حراب، وغرست الحراب في جانبي بركة الأزبكية، لتتفرج عليها العامة.
ولما بلغ نبأ هذا الفوز محمد علي استدعى العلماء، فأخبروه بأن الشعب مستعد للزحف إلى مقاتلة الكفار، فقال لهم محمد علي: «إن جنودي تتكفل بالقضاء عليهم، ولست أطلب من الشعب إلا دفع الضرائب!» ورجا السيد عمر مكرم النقيب بتحصيل تسعمائة كيس من أهل العاصمة، ثم شرع في تحصينها بسرعة وإقامة الاستحكامات والمتاريس حولها، ونصب بطاريات المدافع في الجزيرة أمام إمبابة وفي أماكن أخرى، فاشترك العلماء مع الشعب في العمل بحماسة متناهية.
ووجه محمد علي فرقة من جنده عددها أربعة آلاف مقاتل كانت عائدة من الصعيد حيث كانت تقاتل المماليك، إلى الشمال تحت قيادة كتخداه، فلما بلغت منوفا انقسمت قسمين: قسم تحت قيادة ضابط يقال له حسن باشا، سار على شاطئ النيل الأيسر، وقسم تحت قيادة الكتخدا، سار على شاطئ النيل الأيمن.
وكان الجنرال فريزر في الأثناء - لرغبته في الثأر لشرف الجيش البريطاني - قد سير حملة أخرى إلى رشيد مؤلفة من أربعة آلاف رجل تحت قيادة الجنرال ستيورت، فاستولت على حماد، وأقامت على آكام أبي مندور بطاريتين، أخذتا تطلقان قنابلهما على المدينة، وإذا بالفرقة التي يقودها حسن باشا ظهرت أمام الجيش البريطاني، وانفصلت منها قوة مؤلفة من مشاة وفرسان وهاجمت حماد، فردت على أعقابها، ولكن بلكا من البلكات الخمسة الإنجليزية التي صدتها تاه وهو يتعقب أثر المرتدين وضل عن رفاقه، فلما رآه فرسان الترك والألبان بعيدا عن معسكره كروا عليه وأحاطوا به، وقتلوا عشرين من رجاله، وأسروا خمسة عشر، ثم قطعوا رؤوس المقتولين والجرحى، وذهبوا بها - علامة لنصرهم - إلى بونيال، حيث كان قد وصل الكتخدا وعسكره، فقام في الحال بفرقته، وانضم إلى فرقة حسن باشا، وسار بجنده مجموعا واجتاز به النيل، وأقامه على بعد فرسخ فوق معسكر الجيش الإنجليزي.
فأول ما علم الميجر ووجلسند، قائد القوات البريطانية في حماد بهذه الحركة، بعث إلى الجنرال ستيورت يطلب منه مددا، فأمر هذا الكرنل مكلود بالذهاب مع خمسة بلكات لنجدته، ولما كان يوم 22 أبريل، تحرك الترك في الساعة السابعة صباحا، وتقدموا للهجوم، فرأى الكرنل مكلود أن مركزه غير أمين، فانسحب إلى بحيرة إدكو، وأضاف إلى هذه الغلطة غلطة تقسيم قوته إلى ثلاثة أقسام، كل واحد منها بعيد جدا عن الآخر، فهاجم فرسان الترك بعنف يمنة هذه القوى، وداسوا تحت حوافر جيادهم مائتي رجل كانوا هناك تحت قيادة الميجر مور، وأسروا قائدهم هذا، ثم تعدوا إلى القلب، فنظم الكرنل مكلود مائة اسكتلندي مربعا، وقاوم المهاجمين ببسالة، وأبعدهم عنه، فلما رأت مشاة الأتراك ذلك، أسرعت إلى نجدة الفرسان، فرأى مكلود أن يعمل على الاقتراب من الميجر ووجلسند، ولكنه أصيب إذ ذاك بجرح مميت في رأسه، فقام مكانه يوزباشي يقال له ميكاي وحاول إتمام الحركة المرغوب فيها، ولذلك غير نظام الجند من مربع إلى كتيبة عمودية، فما رأى الفرسان ذلك إلا وتدفقوا عليها كالسيل الجارف وأعدموها ما عدا سبعة من رجالها واليوزباشي؛ فإنهم تمكنوا من الانضمام إلى ووجلسند، حينئذ تجمهرت قوى الأتراك كلها، وانقلبت على هذا الأخير، وكان - مع بلكاته الخمسة ومدفع واحد فقط - مقيما على منخفض من الأرض تحيط به آكام رمل، فلم يستطع المقاومة بفائدة، واضطر عقب قتال عنيف، وبعد أن فقد نصف رجاله، إلى تسليم سلاحه.
فلما نظر الجنرال ستيورت ما آل إليه القتال، لم ير أن في استطاعته البقاء في مركزه، واعتبر الانسحاب الوسيلة الوحيدة للنجاة، فأمر به، بعد أن أتلف ذخيرته وسمر مدافعه، وما زال يرتد، والجيش التركي يتعقبه، حتى بلغ خليج أبي قير، حيث كانت في انتظاره مراكب عادت به إلى الإسكندرية، هكذا فاز نجم محمد علي على نجم بريطانيا العظمى في ذلك اليوم! وكان فوزا مبينا، أثبته لشعب القاهرة وصول خمسمائة أسير إنجليزي، ومرورهم منهوكي القوى، لاهثين ظمأ أمام رؤوس رفاقهم المشكوكة على الحراب في الأزبكية!
بعد هذه الكسرة لم تقم للحملة الإنجليزية قائمة، فإن الجنرال فريزر اكتفى بفصل الإسكندرية عن باقي القطر، بقطعه حاجز بحيرة مريوط، وأقام ينتظر ما تسفر عنه مفاوضات رسل أرسلهم إلى المماليك ليذكرهم بوعود الألفي، ويحضهم على الانضمام إليه، لاسترجاع الأحكام إلى أيديهم، كما كانت قبل الحملة الفرنساوية، ولكن المماليك، لما علموا ما أصاب الإنجليز من فشل، صموا آذانهم عن سماع ذلك الحض، وأظهروا للرسول كبير اندهاشهم من أن جندا كالأتراك والألبان لم يكونوا - هم المماليك - يعبئون بهم؛ يفوزون مثل ذاك الفوز البين على جنود أوربية منظمة، فلم يبق للجنرال فريزر سوى الانسحاب، وبينما محمد علي يتأهب للزحف إليه بثلاثة آلاف من المشاة وألف فارس بمدفعية جيدة، أتاه من لدنه مندوب ليفاوضه في شأن الجلاء عن الإسكندرية، وكان ذلك بأمر من الوزارة البريطانية، اضطرت إلى إصداره على أثر عقد معاهدة تلست بين ناپوليون وإسكندر إمبراطور الروس، وتفرغ ناپوليون لقتال الإنجليز في صقاليا.
فقال محمد علي للمندوب إنه قائم بنفسه للاقتراب من الجنرال فريزر ومفاوضته مباشرة، وسار في الحال إلى دمنهور، حيث قابل الجنرال شربروك المرسل لملاقاته من الجنرال فريزر، فأبدى له طلبات الإنجليز، ولم تكن سوى التماس إعادة أسراهم إليهم، فأجابه محمد علي إلى ذلك، وأرسل يستدعي الأسرى من مصر، فلما وصلوا سلمهم إلى قوادهم، فاستعد الإنجليز للرحيل، وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1807 أقلعت عمارتهم بهم، واستلم محمد أغا طبوز أوغلو الكتخدا مدينة الإسكندرية.
14 سبتمبر! ألا ليت شعري! من كان يدري أهل ذلك العصر - الفائزين والمهزومين على السواء - أن حملة إنجليزية أخرى سوف تقدم إلى البلاد بعد خمس وسبعين سنة، وتحتل عاصمتها وقلعتها في يوم 14 سبتمبر هذا عينه، فتقلبه من تذكار سنوي لنصر باهر إلى تذكار سنوي لخطب جلل يوجب احتجاجا دائما؟!
ولما علم محمد علي بانسحاب الإنجليز، ودخول جنوده الإسكندرية، أسرع إليها، ودخلها على دوي المدافع وفي وسط تهاليل الشعب ومظاهر ابتهاجه!
هكذا انقضت تلك الحملة الإنجليزية المشئومة الطالع، وهكذا زال عن محمد علي أكبر خطر هدد سلطته الناشئة، فهنأته الأستانة على فوزه، وأعادت إليه ابنه إبراهيم بك.
ولكن إنجلترا حفظتها له ضغينة، لم تنسها مدى الدهر. •••
وأما روح التمرد في العسكر، فإنه كان يكاد لا يفارق الجنود غير النظاميين البتة، وكان كل فوز يحرزونه ينميه فيهم نموا هائلا، وذلك بالرغم من أن محمد علي طهر عسكريته من الطوائف الأكثر نزوعا إلى العصيان، والعبث بالطمأنينة والأمن، (كالدلاة، مثلا، فإنه، بعد جلوسه على السدة بمدة يسيرة، صرفهم عن القطر، وكلف فرقة ألبانية بمرافقتهم حتى التخوم السورية، على أنهم لم ينجلوا إلا بعد أن نهبوا الوجه البحري نهبا مخيفا ترتعد له الفرائص لدى قراءة تفاصيله في الجبرتي)، وبالرغم من أنه لم يفتأ متيقظا لإخماد كل فتنة تبدو من الباقين، ولكبح جماح كل من تنكب عن جادة النظام العسكري، ليعكف على النهب والسلب، ولكن تيقظه هذا عينه كثيرا ما أثار حول سدته أنواء وأعاصير كادت تذهب بها، المرة تلو المرة.
بوغوص بك أحد أعوان محمد علي في المسائل المالية.
ففي سنة 1807 هذه عينها، وعقب الفوز على الحملة الإنجليزية رأى محمد علي من نزوع جنده إلى السلب، ومن تخليهم عن راياتهم، وانسلالهم جماعات جماعات إلى الريف والعاصمة للنهب والفتك بالأهلين؛ ما رأى معه وجوب تأديبهم تأديبا صارما، وكانوا أكثر من عشرة آلاف، فغادر الإسكندرية إلى رشيد حيث رمم السور والحصون، وسار بمركب في النيل إلى مصر، ولكن المركب انقلبت به أمام وردان، فاجتاز النهر سباحة، وتابع بقية سفرته راكبا، وإذا بالجواد - على غير عادته - كبا وسقط على الأرض، كما كبا جواد ناپوليون الأول به بعد اجتيازه نهر النيمين.
فتطير أتباع الباشا من الأمرين، وباتوا يعتقدون قرب وقوع شر.
وقد وقع فعلا؛ فإن الجند لما أقبل محمد علي يخمد روح التمرد فيهم ثاروا عليه وأطلقوا نيران بنادقهم على منزله، ولم يبد حرسه الشخصي إلا دفاعا واهيا عنه.
فأدرك محمد علي في الحال خطورة الموقف وحرجه المتناهي، وقبل أن يتفاقم الخطب، وتسري روح العصيان إلى أخصائه، تخفى وتخفى معه أصدقاؤه والموالون له والمماليك الفرنساويون الذين رأيناهم ينضمون إليه، وسار الجميع بكنوزهم إلى القلعة.
فلما فطن الألبانيون الثائرون إلى ذلك أقبلوا أولا ينهبون سراي محمد علي، ثم انقسموا على أنفسهم، فمنهم من قال بوجوب الانضمام إلى الترك والعمل معا على ما فيه المصلحة العامة، ومنهم من أبى إلا العمل على انفراد، بدون اعتراف بأية سلطة تكون، ورأى غيرهم أن العمل في غير نهب الأهلين وسلبهم وخطف النساء والأولاد؛ مضيعة للوقت.
فاضطربت القاهرة أيما اضطراب، واختلت الحياة فيها إلى درجة أنست القوم الاحتفال برؤية رمضان! فتداخل العلماء والنقيب في الأمر وما زالوا بمحمد علي حتى حملوه على الصفح عن الثائرين ومنحهم ألفي كيس، وما زالوا بالثائرين حتى حملوهم على قبول المبلغ والاكتفاء به، والإخلاد إلى السكينة، ولكن أتدري أيها القارئ، من دفع هذا المبلغ؟ أهل القاهرة المساكين؛ فإنه وزع عليهم بواسطة شيوخهم، وكانت تعزيتهم الوحيدة أن توزيعه لم يقترن بجور أو عسف.
مختار بك أول ناظر للمعارف في مصر.
وكان محمد علي، مذ رأى حركات الجيش البوناپرتي والجيش الإنجليزي الأول الذي أخرج الفرنساويين من مصر؛ معجبا جدا بالجيوش النظامية، ومقتنعا بأن السر في انتصارات الجيش البوناپرتي - على الأخص - على المماليك والعثمانيين راجع إلى حسن نظامه، فكان يمني نفسه بإنشاء جيش على طرازه، وزادت رغبته في ذلك لما علم أن السلطان سليما الثالث أقبل على إخراج هذه الفكرة عينها إلى الوجود، ولكن الثورة الانكشارية التي أثارها على ذلك السلطان المنكود الطالع عمله هذا؛ فثلت عرشه وذهبت بحياته؛ جعلت محمد علي يؤجل تحقيق أمنيته.
غير أنه بات لا يستطيع على تحقيقها صبرا، بعد أن توالت الانكسارات على جيشه غير المنظم في حروبه مع الوهابيين، ولا سيما بعد حادثة لطيف باشا التي رويناها؛ فإن هذه الحادثة جعلته يعتقد أنه مهما أدى للديوان من خدمات، فإنه لن يؤيده إلا رغبة في تنزيله عن سدته، وشوقا إلى تحقيق هذه الرغبة، وقد كان محمد علي حتى ذلك الحين صادق الولاء والإخلاص للسلطان، لا يطمع إلا في أن يكون ذراعه الأيمن وخادمه المطيع، ولكن الريب انتشرت في قلبه بعدئذ، وصمم من ذلك الحين على الاستقلال بمصر، ولعلمه بأنه لم يكن لديه جند خاص به، مقسم يمين الولاء والطاعة لشخصه، جند مدرب على الطريقة الغربية، يمكنه أن يعتمد عليه كل الاعتماد في درء الملمات والتغلب على المحن، فإن تصميمه على الفوز بالاستقلال قد لا يذهب أدراج الرياح فحسب، بل قد يفقده عرشه؛ أخذت الرغبة في تحقيق أمنيته من إنشاء نظام عسكري جديد لا تترك في صدره مجالا للصبر.
ففي أواخر يوليو سنة 1816 أصدر أمره بإنشائه، وبصفة مستعجلة، فهاج ذلك سخط الجند لا سيما الألبانيين منهم، فإنهم صاحوا: «إن هذه لبدعة، وكل بدعة في النار!» وشرعوا يقتلون الضباط المكلفين بالتعليم والتدريب في الشوارع، بل في ساحة المناورات ذاتها، فاتخذ محمد علي ضد البعض منهم إجراءات صارمة، فما كان من بعض كبار الزعماء إلا أنهم دبروا مؤامرة لاغتياله، وفي مساء 3 أغسطس اجتمع ثلاثة منهم في منزل زميل لهم اسمه عابدين بك، كان قد عاد حديثا من بلاد العرب، وطفقوا يتكلمون معه في الأمر، لكي يستميلوه إليهم، وأطلعوه على ما قر عليه الرأي من مباغتة محمد علي في منزله لدى بزوغ فجر الغد، وألحوا عليه بأن يكون عونا لهم، ويشاركهم في عملهم، فتظاهر بالقبول، ثم تذرع بحجة، فتركهم وتنكر، وركب حمارا، وأسرع إلى محمد علي وأطلعه على ما قيل له، ثم عاد إلى منزله، ولم يدر أحد من الموجودين فيه بما تم.
فأسرع محمد علي واستدعى إليه فرقة من الجند كان يثق بها، فأقامها على حراسة قصره، وأخذ معه نفرا عديدا من المخلصين له الولاء، وسار بهم إلى القلعة، فدخلها في منتصف الليل من باب الجبل.
ولما بزغ الفجر رأى زعماء المتآمرين أن التدبير قد خاب، فخافوا وما حركوا ساكنا، ولكن الجند البسيط أبى إلا الاندفاع في تيار فتنة عسكرية هائلة، لم يعد لها من غرض سوى النهب والسلب، وما عتمت نارها أن خبت من تلقاء نفسها؛ لأنها كانت فتنة لا يديرها رؤساء، على أن محمد علي اضطر مع ذلك أن يعد بقسم صريح بعدم العود إلى فكرة إنشاء النظام الجديد، ولكنه اشترط من جهته أن لا يحمل الجند أسلحتهم إلا متى كانوا في الخدمة.
هذه المؤامرة ونتائجها جعلته يدرك أنه لا سبيل له إلى تحقيق أمنيته إلا إذا تخلص من جماهير الجند المأجور غير النظامي الذي تساعد به على البلوغ إلى الذروة، فما انفك يرسل فيالقه الواحد تلو الآخر إلى البلاد العربية؛ أولا لمحاربة الوهابيين، فإلى مجاهل السودان، ثانيا للبحث عن مناجم الذهب والإتيان بالعبيد، حتى تمكن من إفناء أكابر الزعماء المعارضين في إنشاء النظام الجديد، ومعظم القوات المتململة والمتذمرة منه، وتسنى له بذلك التخلص من تمردات الجند، والنظر بطمأنينة إلى المستقبل. •••
وأما المماليك فإن محمد علي لم يجعل عينيه تغفلان لحظة عن أن النزاع بينه وبينهم لم يكن بنزاع على السلطة والحكم فحسب، بل كان نزاعا على البقاء والحياة، وأنه يلزمه إذا أن يبرز لهم تارة في جلد الثعلب، وطورا في جلد الأسد، وفقا للفرص والظروف، فأول ما كان من أمره معهم أنه أرسل إليهم من أخصائه رجالا عرضوا عليهم إدخالهم في العاصمة خلسة، إذا هم أتحفوهم بمبلغ من المال عينوه لهم، فاطمأن المماليك إليهم لما رأوا كلامهم معززا بكتابات من السيد عمر مكرم ومن أكابر المشايخ، واعتقدوا أن الرأي العام عاد إلى العطف عليهم، وكان النيل قد بلغ الوفاء، فاتفقوا على اغتنام فرصة خروج الوالي مع الناس للقيام بمراسم العيد، والدخول إلى العاصمة على غرة من الجميع، ولكن محمد علي أمر بقطع الخليج في الليل وبترك أبواب المدينة مفتوحة بلا حراس، فلما أتاها المماليك ووجدوها على تلك الحالة، توطد فيهم اليقين بنجاح المؤامرة، ودخلوا في كبكبة عظيمة، وخلفهم نقاقير كثيرة وجمال وأحمال، وقصد فريق منهم الجامع الأزهر، وذهبوا إلى بيت السيد عمر، فأغلق في وجههم الباب، فقصدوا بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي ودخلوه، فوافاهم السيد عمر إليه.
وفي تلك الأثناء سار فريق آخر إلى باب زويلة وتقدم إلى جهة الدرب الأحمر، فأطلق عليهم العساكر الساكنون هناك الرصاص، فرجعوا القهقرى، وإذا بفرقة من الجند قد أخذت عليهم الطريق، ففقدوا صوابهم، وترجل بعضهم ولجأ إلى جامع البرقوقية، وذهبت طائفة كبيرة منهم تعدو بخيولها إلى جهة باب النصر، فإذا به قد أقفل.
فنزلوا هم أيضا عن خيولهم، وتسلق بعضهم الأسوار، فنجا بنفسه، وتفرق آخرون في العطوف واختفوا في الجهات، وأما الذين دخلوا في جامع البرقوقية، فإن اثنين منهم فقط تمكنوا من الخروج والذهاب إلى المماليك النازلين في بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي، وبعد أن أخبروهم بالواقع فر الجميع، وأما الباقون فإن العسكر احتاطوا بهم، وأحرقوا عليهم الباب، وهاجموهم وقبضوا عليهم، وعروهم من ثيابهم، وأخذوا ما معهم من الذهب والنقود والأسلحة، وذبحوا منهم نحو الخمسين ذبح الأغنام، وسحبوا خمسين آخرين عراة موثوقي الأيدي إلى محمد علي، وكان قلقا، ينتظر نتيجة تدبيره، فلما رأى المماليك يساقون إليه على تلك الحال ابتهج وجهه بفرح قلبه، فوجه الكلام إلى أحمد بك تابع البرديسي، وكان - حين الاستيلاء على دمياط في أيام خسرو - قد عين أميرا عليها، وقال له متهكما: «أوقعت في الشرك يا أحمد بك؟» فطلب هذا ماء، فحلوا وثاقه وقدموا له قلة، فخطف في الحال يطقانا من وسط بعض الواقفين، ووثب على الباشا يريد قتله، فصعد محمد علي بسرعة بضع درجات من سلم بيته، ونجا بذلك من الموت، وتكاثر القوم على أحمد بك وأثخنوه جراحا، فوقع ميتا، ولكن بعد أن قتل بعض أنفار من مهاجميه، ثم وضع باقي المأسورين في القيود وربطوا في حوش الدار ، وهم على حالتهم من العري والذل، وفي اليوم الثاني أحضر جزارون وأمروا بسلخ رؤوس القتلى بين يدي أولئك المعتقلين وهم ينظرون، وأحضرت جماعة من الإسكافيين، فحشوها تبنا وخيطوها، ثم لما جن الليل قتل المعتقلون أيضا وعمل برؤوسهم ما عمل برؤوس رفاقهم في الصباح، وأرسلت الرؤوس كلها إلى الأستانة برهانا على الإيقاع بالمماليك، وكانت هذه ضربة قوية فلت عزم الأمراء، فابتعدت جموعهم عن مصر، وذهبت إلى أسيوط.
وبينما محمد علي يتجهز لقتالهم، إذا بعون أتاه من حيث لم يكن لينتظر؛ فإن ملاك الموت مر في أواخر سنة 1806 بمظال عثمان بك البرديسي أحد زعيمي الأمراء الكبيرين، متقمصا في شخص طبيب مغربي أرسل إليه من مصر ليعالجه من حمى صفراوية انتابته، فأرداه وهو في الثامنة والأربعين من عمره، فخلص محمد علي بذلك من عدو باسل كان بمثابة سيف بتار مسلول أبدا في وجهه، وقد رأت بلدية الإسكندرية، في عهد خلفاء الباشا العظيم من أسرته الفخيمة أن تطلق اسم ذلك البطل المهيب والفارس الصنديد على أحد شوارعها تخليدا لذكره، وبمثابة اعتراف من محمد علي - وهو في جنة الخلد، حيث لا عداء بين ساكنيها - بفروسية ذلك العدو وشجاعته وشدة بأسه، ومحمد علي خير من يعترف لعدو بالفضل الذي فيه!
وكان الألفي - الزعيم الكبير الثاني - بعد أن حاصر دمنهور مدة، واضطره إلى رفع الحصار عنها امتناع الأقوات عنه بسبب هجر فلاحي الريف المجاور بلادهم حوله، قد سار إلى الصعيد، والغيظ والحنق يملآن فؤاده، فجاءه رسل من لدن الأميرين إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن، يدعونه إلى وضع خطة سير يتبعها الكل تحت زعامته، فتقدم الألفي نحوهما، وهو قليل الوثوق بإخلاصهما، وأتى وأقام معسكره في شبرامنت، ولكنه كان مكتئب المزاج، حاده إلى درجة لم يكن أحد ليجسر معها، أن يخاطبه.
وفي ظهر يوم 30 يناير سنة 1807 خرج للتنزه راكبا، لا يتبعه إلا بعض الحراس على أقدامهم، فرأى عربانا من جيشه حطوا بجمل في حقل مزروع غلة، وأقبلوا يتلفونه، فاشتعلت ثورة الغضب في رأسه، فانقض على أولئك الناس، وقتل بيده أربعة منهم، بينهم شيخ من مشايخ القبائل، ولكن هذا الانفعال الشديد قلب كل كيانه، فلما عاد إلى خيمته اعتراه قيء مستمر كله دم، وما لبث الأمير قليلا إلا ورأى ملاك الموت قادما نحوه بمنجله المهلك، فقال: «لقد قضي الأمر، وبات القطر المصري من نصيب محمد علي، لا ينازعه فيه منازع!»
ثم بعث واستدعى رجال لوائه، فأوصاهم بعضهم ببعض خيرا، وأوصى بدفنه في البهنسة حيث توجد قبور الشهداء - ولا ندري أي الشهداء عنى! - وما انتصف الليل إلا وكان في عداد الأموات، وليس له من العمر سوى خمس وخمسين سنة، فازرق جسمه، وظهرت عليه عوارض جعلت الجهلاء من الناس يعتقدون أنه مات مسموما، ولكنها عرفت الخبيرين بأن موته سببه وباء عرف فيما بعد باسم الكوليرا.
فتخلص محمد علي بوفاته من خصم عنيد في وقت مناسب للغاية، وبلغ من ابتهاجه بذلك أنه أعطى البدوي الذي أتاه مبشرا بموت الألفي خمسة أكياس.
وإنما قلنا إن ملاك الموت خلص محمد علي من الألفي في وقت مناسب للغاية؛ لأن الإنجليز في ذلك الحين ذاته - وكانوا قد أعلنوا الحرب على تركيا - كانوا يستعدون لغزو القطر المصري، ولو بقي الألفي حيا لساعدهم مساعدة فعالة.
على أن محمد علي لم يكن يعلم حينئذ بالضبط مقدار الخدمة الجليلة التي أداها له ملاك الموت، وكل ما اعتقده هو أن هلاك كبيري المماليك أعدائه يسهل عليه جدا مهمة الفوز عليهم، وأخذ يستعد لذلك، فعبأ جيشا زاهرا، وملأ ثمانمائة مركب مؤنا وذخائر وتجهز للزحف إليهم، ولكنه أصيب هو أيضا بالكوليرا وهو في وسط تجهيزاته، فأقام طبيبه الإيطالي المسيو بتزري يعالجه، وهو يكاد يعتقد - في اليوم الأول - أن الشفاء متعذر، وأن شعلة الحياة لمطفأة حتما، ولكن بنية محمد علي القوية تغلبت على الداء، وما مضت بضعة أيام إلا ولم يعد لذلك المرض من أثر، وكل ما كان منه أنه أظهر مقدار عطف العلماء والأعيان على محمد علي، وحبهم الشديد له، فلما نقه تماما، عهد في أمر المحافظة على الأمن في العاصمة إلى كتخداه محمد أغا طبوز أوغلو، وسار في 12 فبراير سنة 1807 بثلاثة آلاف من المشاة، وثلاثة آلاف فارس، وست مراكب مسلحة إلى قتال المماليك، وكانوا قد اجتمعوا في المنيا وضواحيها، ولكنه وقف في بني سويف وأقدم يتخابر مع أعدائه بواسطة العلماء، وبينما هؤلاء يفاوضونهم، أعمل محمد علي نقوده في العربان الموالين لهم، وفي ذات ليلة مدلهمة الظلام تقدم بألفي فارس، وبإرشاد أولئك العربان أنفسهم، إلى المعسكر الذي كانت حراسته موكولة إليهم، وإذا بالمماليك نائمين فيه نوما عميقا، فانقض محمد علي عليهم، وفتك بهم فتكا ذريعا، واستولى على كل مدافعهم ومهماتهم، وتعقب الفارين حتى حدود الصحراء، وبعد أن أوقع بهم في منقباد أيضا، أقام معسكره في أسيوط.
وأنه لفي سكرة فوزه، وإذا بالنجب أتته بأنباء ظهور العمارة الإنجليزية بحملة الجنرال فريزر، فأرسل محمد علي، في الحال، إلى العلماء المتفاوضين مع المماليك، بالاتفاق مع هؤلاء الأمراء على ما يطلبونه، بشرط أن ينضموا إليه بلا تردد في قتال الإنجليز أعداء الجميع.
فأبرم العلماء مع المماليك اتفاقا مبدئيا، وقر الرأي على ذهاب الأمراء إلى مصر لعقد الاتفاق النهائي هناك، بحضور العلماء والوجاقلية والأعيان، وعلى ذلك نزل الجيشان - جيش محمد علي وجيش المماليك - مجرى النيل: الأول على ضفته اليمنى، والثاني على ضفته اليسرى.
ولما انسحب الإنجليز رأى محمد علي أن القطر - لا سيما الريف - بات منهوكا ناضب المعين، وأن فلاحيه باتوا يفضلون الموت على الاشتغال بأعمال فلاحة لا يجنون منها إلا خرق حرماتهم والأذى، وأن المدن ذاتها باتت بائرة التجارة والصناعة، لا ثروة فيها.
فرأى أن يفاتح جاهين بك، الزعيم الذي أخلف البرديسي والألفي على لواء مراد، في أمر مصالحة نهائية، فقبل جاهين المفاوضة، واتفق مع الباشا على الإقامة في الجيزة، وعلى أن يكون له إيراد عشر نواح في الجيزة وثلاثين ناحية في البهنسة وإيراد الفيوم برمته، وجميع ذلك خال من كل ضريبة.
فلما وقع الفريقان هذا الاتفاق ذهب جاهين لزيارة الباشا، فأكرم محمد علي وفادته، ودعاه إلى تناول طعام الغداء على مائدة طوسن ابنه، فحذا مثل جاهين بك بغيره من أمراء المماليك إلى الاقتداء به، حتى إن كثيرين منهم تركوا حياتهم البدوية وأتوا وانتظموا تحت رايات محمد علي، وحتى إن إبراهيم بك الكبير نفسه أرسل إلى القاهرة مرزوق بك ابنه بحاشية عديدة.
فأدى ذلك إلى وضع مشروع اتفاق عام، منح البكوات بمقتضاه حق التمتع بإيرادات بلدان عينت لهم، على شرط أن يقدموا للميري كمية معلومة من الغلال، فوضعوا أيديهم على البلدان، ولكنهم لم يقدموا إلا جانبا يسيرا مما تعهدوا بتقديمه، فاضطر الباشا أن يخرج إلى محاربتهم بجيش يربو عدده على ستة آلاف مقاتل، غير أنهم لما رأوا هذه القوة أذعنوا! ووقعوا اتفاقا جديدا على قاعدة الاتفاق الماضي، لم يزد على هذا شيئا سوى فيما حتم على الأمراء من سكنى القاهرة، فأتاها أكثرهم ثقة بكلام الباشا، ولاقوا منه كل ترحاب وإكرام.
غير أن المماليك ما لبثوا أن رأوا محمد علي منهمكا كل الانهماك في إعداد مهمات حملته، برا وبحرا، لقتال الوهابيين، ورأوه ينفر منه قلوب الأهلين بالضرائب والمغارم التي ألزمته شئون تلك الحملة بفرضها عليهم، إلا وأخذ البعيدون منهم عن العاصمة يقتربون إليها، والموجودون فيها يخامرون في السر، وكان محمد علي يوما في السويس، يلاحظ بنفسه سير الأعمال هناك، فورد إليه نبأ يفيده بأن وراء الأكمة مؤامرة غرضها مهاجمته حين عودته إلى مصر، والاستيلاء على شخصه في الطريق، فقام من ساعته، وركب هجينا من أسرع الهجن، وقطع المسافة ما بين السويس ومصر في ثماني عشرة ساعة، بحيث لم يستطع أحد من رجال حرسه مواصلة السير معه، إلا سائس تعلق بلجام هجينه، وما فتئ يجري حتى دخل القاهرة، ووقع ميتا عند باب سراي مولاه.
فألقى ذلك الرجوع السريع الرعب في قلوب المتآمرين وثبط عزائمهم، على أن محمد علي لم يبد إشارة تدل على أنه مطلع على سر ما دبر له، وبقي وجهه باشا، وتصادف يوما أن عيارا ناريا وجه إليه وهو يجتاز أحد شوارع المدينة، فمرت الرصاصة بملابسه، وقتلت ضابطا بجانبه، فأوصى من معه بالسكوت وعدم إفشاء الحادثة، ولكنه أقبل يتخذ تدبيراته سرا، ويحشد جندا عظيما حول شبرا.
فلم يرض المماليك ذلك، وما كان من جاهين بك إلا أنه أتلف يوما جميع أثاث بيته الذي لم يمكنه نقله معه، ثم غادر مقره في الجيزة، وانضم إلى رفاقه القادمين من الصعيد، فلم يعد مفر من الحرب.
فدارت، وكانت سجالا، فإن المماليك هزموا الألبانيين والأتراك - أولا - في واقعتين، ولكن محمد علي سار إلى الأمراء بنفسه، وأوقع بهم عند جسر اللاهون، فضربهم ضربة أليمة، ظنها القاضية، وأرسل بها بلاغا إلى مصر كان الأول من نوعه، وتاريخه 14 أغسطس سنة 1810 الموافق 25 رجب سنة 1225، ثم عاد إلى مصر، ليتمم تجهيزات الحملة على الوهابيين، وإذا بباش أغاي السراي السلطانية قد حضر إليه بسيف وخنجر من الأستانة، وبرتبة الباشوية وطوخين إلى طوسن ابنه المعقود له لواء تلك الحملة، وبتعليمات بشأنها للباشا وولده، فقرئت المرسومات السلطانية علنا، وصدرت الأوامر بجمع كل المؤن اللازمة، وإرسالها إلى السويس، وأمرت العساكر المؤلفة منهم الحملة بالاحتشاد في قبة العزب.
غير أن محمد علي - بالرغم من أنه قال في بلاغه المرسل إلى القاهرة إن دولة المماليك قد زالت تماما - لم يكن مطمئنا البتة من جهتهم، لما كان في الماضي من عبر بليغة له، فهل يوجه الآن جميع قواه أو معظمها إلى قتال الوهابيين، ويبقي القطر بلا حماة، وسيف الأمراء مسلول فوق رأسه؟ إن هذا لم يكن ممكنا، فأمر - إذن - رؤساء جنده المتعقبين المماليك بعد هزيمتهم عند جسر اللاهون بمطاردة الفارين باستمرار حتى يجلوهم عن القطر المصري، فصدع قواده بأوامره، وما زالوا بمن لم يشأ المصالحة من الأمراء حتى أجبروهم على اجتياز الشلالات الأولى ودخول بلاد النوبة، وأما من شاء المصالحة منهم، فإن محمد علي فتح له ذراعيه، وأغدق عليه شتى النعم، فعاد الكثيرون من الأمراء إلى القاهرة جماعات جماعات، وعلى رأسهم جاهين بك عينه، وأقاموا في المنازل الفخمة التي خصصها محمد علي لهم، يلهون وينعمون، وأقبل الأمير يتمم ما نقص من لوازم حملته.
فلما كملت معداتها عين يوم الجمعة - أول مارس سنة 1811 - لسفرها ، وأعلن الباشا عزمه على إقامة مهرجان في القلعة للاحتفال بتوديعها، وإلباس ابنه طوسن باشا رسميا فروة الإمارة عليها، فلما كان مساء آخر يوم من شهر فبراير، بعث الباشا دعوة لحضور ذلك المهرجان إلى جميع أرباب الوظائف المدنية والعسكرية في مصر، وطلب إلى أمراء المماليك القدوم إليه بملابس التشريفة الكبرى.
فلما كان صباح يوم الجمعة المضروب موعدا، لم تكد الشمس تعلو الأفق، إلا واحتشدت الجماهير العديدة في الطريق المؤدي إلى القلعة، للتفرج على مواكب العسكر العثماني والألباني السائرة إلى ذلك الحصن المنيع براياتها وطبولها، وبالأخص على موكب الأمراء المماليك الفخم الذي لم يكن له مثيل في الوجود، في بهجة ملابسه، وجمال هندامه، وجلال خيوله، وسطوع أسلحته المفضضة والمذهبة، بل الفضية والذهبية، وكان عدد من لبى الدعوة من الأمراء أربعمائة وسبعين، فلما اجتاز آخر أمير منهم باب العزب - وهو باب القلعة من جهة الغرب، ويفتح الآن على ميدان صلاح الدين، الذي كان يقال له في ذلك العهد ميدان الرميلة - لما اجتاز آخر أمير منهم باب العزب انغلق مصراعاه وراءه، وأقامت أقوام المتفرجين تنظر فتحه لخروج الداخلين منه.
قصر العيني.
وكان الباشا قد قضى ليلته في سراي القلعة، وقام مبكرا كعادته، فاستقبل وفود القادمين بكل بشاشة وحفاوة، وبالغ على الأخص في إكرام الأمراء المماليك، فإنه قدم إليهم القهوة، وما فتئ يحادث أكابرهم، حتى أتاه من أخبره بأن المدعوين استقروا في أماكنهم وأن جميع فيالق العسكر اصطفت في مواضعها فنهض، وقام لنهوضه محادثوه، وامتطى أكابر المماليك جيادهم، ووقفوا بها على رأس فيلقهم الباسل.
فلما تمت الحفلة، وقلد الأمير طوسن اللواء أذن بالانصراف، فتقدم الانكشاريون المماليك مباشرة، وسار الألبانيون خلفهم، وتلا الألبانيون فيلق مشاة يقوده الكتخدا، ومشى الجميع نحو باب العزب.
فنزل الانكشاريون المنحدر أولا، ثم تبعهم المماليك على بعد قليل، حتى إذا خرج آخر انكشاري من الباب، كان الأربعمائة والسبعون أميرا مملوكا يشغلون بجيادهم المنحدر كله من أسفله إلى أعلاه.
حينئذ حدث أمران: الأول: أن باب العزب أقفل حالا بعد خروج آخر انكشاري منه . والثاني : أن صالح أغا أق قوش أصدر أمره إلى ألبانييه، فانسلوا من وراء المماليك، وتسلقوا الصخور المحيطة بالمنحدر، وأسرعوا فكمنوا وراءها من الجهتين، ومن أسفل إلى فوق، وفي الحال تقدم الفيلق الذي يقوده الكتخدا وانتشر على الأسوار.
حينئذ دوت طلقة مدفع، فما شعر المماليك إلا والرصاص يتناولهم من كل جانب، وهم لا يستطيعون عن أنفسهم دفاعا، وما هي إلا لحظة وتكدست في الممر الضيق جثث الرجال والخيل، بعضها فوق بعض، وجعلت الحركات متعذرة أكثر مما كانت.
أما المماليك الذين وصلوا إلى باب العزب ورأوه مقفلا، فإنهم لووا أعنة جيادهم، وقصدوا الرجوع، ولكن حركتهم هذه زادت الذعر ذعرا والخبل خبلا، وأما المماليك الذين كانوا على رأس المنحدر، فما دوى حولهم الرصاص إلا ولووا هم أيضا أعنة جيادهم، وقصدوا البلوغ إلى داخل القلعة، ولكن فيلق البيادة المنتشر على الأسوار أصلاهم نارا حامية، أردتهم بالعشرات.
فكبر الهول واشتد البلاء.
ورأى المماليك التعساء - وموت غير منظور يحصد صفوفهم حصدا - أن لا فائدة لهم من جيادهم، فترجلوا، وتعروا بسرعة من ملابسهم الثمينة الفاخرة، التي لم يكن من شأنها إلا أن تعيق حركات أيديهم وأرجلهم في ذلك الموقف الرهيب، وأقبلوا يجرون، وسيوفهم مشهرة في يد، وطبنجاتهم في الأخرى، يبغون لقاء عدو يثأرون بقتله للكارثة التي حلت بهم.
كلوت بك يلقح نفسه بالطاعون.
ولكنهم لم يجدوا أحدا، واستمر الرصاص الخفي الممطر من كل صوب يحصدهم حصدا، فسقط جاهين بك أمام عتبة قصر صلاح الدين، وبلغ سليمان بك البواب - والدم يسيل من كل أعضاء جسمه - باب السراي، فانطرح على عتبته، وصاح: «في عرض الحريم!» - وكانت استغاثة مقدسة في ذلك العهد - ولكن السيف تناول رقبته فقطعها، وجرت جثته مهينة إلى مكان بعيد، وتمكن سبعة أو ثمانية من الأمراء من الوصول إلى المكان الذي كان طوسن باشا مقيما فيه، فتراموا على قدميه وسألوه الأمان، ولكن الشاب لم يجسر على مخالفة أوامر أبيه، وتخلى عنهم، فقتلوا صبرا بين يديه.
وما انفك الرصاص يدوي ويتساقط كالمطر والمماليك يقتلون، حتى فنوا عن آخرهم ، ولم ينج منهم إلا واحد فقط اسمه أمين بك، كان قد تخلف، في الصباح لمهم، ولم يأت القلعة إلا وأول الموكب هال من بابها، فوقف ينتظر ريثما يخرج إخوانه، لينضم إليهم، ولكنه لما رأى الباب يقفل، وسمع دوي البنادق، أدرك أن هناك غدرا، فلوى عنان جواده، وفر إلى البساتين، ومنها إلى سوريا.
على أن هذا ليس ما تناقلته الألسن عن كيفية نجاته، والرواية التي قرت في الأذهان هي: أنه لما دوى نذير الموت وثب بحصانه إلى داخل القلعة، يبحث عن منفذ، فلم يجد في كل جهاتها سوى سور ارتفاعه ستون قدما، فلم يتردد، وفضل نوع موت فيه بصيص أمل بالنجاة على نوع موت لا أمل فيه، فأجرى حصانه، وقفز به من فوق السور، فقتل الجواد ونجا الفارس، ولا يزالون حتى يومنا هذا يشيرون إلى المكان الذي قفز منه، ويدعونه محل وثبة المملوك! •••
لما انتهت المأساة، ورأى الألبانيون أنه لم يعد هناك مملوك إلا وهو مردى، برزوا من مكامنهم، ونظروا بدون خوف لأول مرة في حياتهم إلى أولئك الفرسان المجزورين، فأجهزوا على الجرحى، ومثلوا بالقتلى، واستولوا على الأسلاب. •••
وأما محمد علي، فإنه بعد أن رتب كيفية خروج الموكب، عاد إلى قاعة الديوان الكبرى وأقام فيها، يحيط به أمناؤه، ومع أنه لم يهمل في اتخاذ احتياطاته شيئا، إلا أن القلق كان باديا عليه في روحاته وجيئاته الصامتة في طول تلك القاعة وعرضها، ولما سمع طلقة المدفع المنذرة ببدء المجزرة وقف بغتة، وجرى دمه نحو قلبه بسرعة، فعلا وجهه الاصفرار، ولكنه ما أطل من نافذة، ورأى الفرسان تردى تباعا، والرؤوس تقطع إلا وانتظمت دورة الدم في عروقه، وفارق الاصفرار وجهه، غير أنه لم ينبس بكلمة واحدة، ولما وافاه الجنوي مندرتشي - أحد أطبائه - وقال له مهنئا: «أجل، هذا أمر قد فرغ منه، واليوم يوم سعيد لسموكم!» لم يجب بشيء، ولكنه طلب ماء وشرب جرعا طويلة! •••
وبينما كانت المأساة تجري في القلعة مجراها، سارت النجب بكتب الباشا إلى حكام الأقاليم، تأمرهم بقتل كل مملوك يوجد في دائرة أحكامهم، وكل مملوك يقع تحت أيديهم، فنفذ الكشاف الأوامر، وتباروا فيمن يرسل إلى القاهرة رؤوسا أكثر من زميله، حتى بلغ عدد القتلى في الأقاليم ألفا وزاد.
ولما سمع المماليك الذين كانوا لا يزالون في الصعيد بأنباء الكارثة التي حلت بهيئتهم، سقطت قلوبهم، وخارت هممهم، فأرسلوا إلى محمد علي يطلبون أن يعين لهم المكان الذي يختاره لإقامتهم، فيعيشوا حياتهم الباقية في سلام، فبعث إليهم جيشا تعقبهم بعنف وبلا ملل، وما زال يطاردهم حتى أجلاهم عن البلاد، وألجأهم إلى الإقامة بدنقلة، حيث عاشوا معيشة مهينة، وماتوا موتا لم يلفت أحدا.
هكذا كانت آخرة هذه الطائفة التي حكمت مصر ما يزيد على خمسة قرون ونصف، وهكذا فرغ محمد علي من أمرهم، فزالت بزوالهم آخر الأشواك المحيطة بسلطته، وأخذ خشب سدته يملس وينعم تحته.
وكأني بالتمثال المقام له في الإسكندرية يمثله في هذه الآونة من حياته، حين نزوله من القلعة، ليهدئ روع العاصمة المضطربة، وليتقبل التهانئ في بيت الشيخ الشرقاوي؛ فإنك إذا ما مررت أمامه، وشخصت إليه برهة، كما تشخص إلى رجل حي تصمت أمام أعماله الأرض إعجابا، رأيت كأن نارا تتقد في حدقتيه، وشعرت بأنها نار هزة المجد وعزة القلب الذي بلغ مقصوده، فتسود أمام مخيلتك - في تلك اللحظة - لحيته البيضاء، وتدرك من جلال اليد الموضوعة على خاصرته القوية، ومن عظمة اليد القابضة على زمام حصانه النافر تحته والمختال تيها بالراكب على صهوته، أن محمد علي أدرك مناه، وأذل الصعاب حوله، وتغلب على مقاوميه وأعدائه، وثبت قدميه فوق القمة التي بلغ إليها. •••
وأما صعوبة المال، فإن محمد علي عالجها في بادئ الأمر بالقبض على متولي الحسبة العام - وكان اسمه جرجس الجوهري - ومطالبته بحساب السنوات الخمس الفائتة، فتحصل منه بذلك على أربعة آلاف وخمسمائة كيس.
وما عمله بالمعلم جرجس الجوهري، عمله بباقي متولي الحسبة في الأقاليم، فاجتمع لديه من المتأخر بين أيديهم مال وفير.
ثم أعاد العمل عينه مرة أخرى، فاستخلص مالا جزيلا، ولكن المعلم جرجس الجوهري خاف تجدد هذا الإرهاق في المستقبل ، ففر والتجأ إلى المماليك.
ثم عمد محمد علي إلى طرق أخرى، فاستولى يوما على بضائع قافلة أتت مصر من السويس، ولم يرفع يده عنها إلا بعد أن دفع له أصحابها ألف كيس، واتهم يوما آخر البطرك الرومي بأنه ساعد جرجس الجوهري على الهرب، وفرض عليه مائة وخمسين كيسا، ووضع يوما ثالثا يده على عقارات نساء المماليك، ولم يردها إلى صاحباتها، إلا مقابل ذهب رنان فاضت أيديهن له به، وضبط مرة خمسمائة جمل محملة تبنا، ولم يخل سبيلها إلا مقابل أن يدفع التجار له ثلاثين فرنكا عن كل إردب.
ولكنه بالرغم من ذلك جميعه، ما فتئ ينظر الفراغ ملازما لخزائنه، فرأى أنه لا بد له من فرض ضريبة عامة جديدة، وتحاشيا لتنفير الناس منه جمع العلماء وكبار الوجهاء، وقال لهم: «إن العساكر باق لها ثلاثة آلاف كيس، ولا أعرف لتحصيلها طريقة، فانظروا رأيكم في ذلك، أما أنا فإني عازم - بعد دفع المتأخر - على تسريح هؤلاء العساكر وتسفيرهم إلى بلادهم؛ تخفيفا للأعباء العمومية، وأن لا أبقي منهم إلا من كان أمر الحكم في احتياج إليه وأرباب المناصب!»
فكثر التروي في الأمر، وتعددت الآراء، فاقترح محمد علي أن يصرح له بقبض ثلث إيراد الملاك والملتزمين، ولما كان القوم المجتمعون كلهم ملاكا أو ملتزمين ضجوا وقالوا: «قد يصير هذا عادة، وتضيق في وجوه الناس أبواب الارتزاق!»
فقال محمد علي: «نكتب فرمانا»، ونلتزم بعدم عود ذلك البتة، ونرقم فيه «لعن الله من يفعلها مرة أخرى!» فرضي الناس وانفرجت بذلك الأزمة المالية، نوعا ما.
ولكن بقرات الإنفاق العجاف ما فتئت تأكل بقرات الإيراد السمان، وتتابع ما ذكرنا من الحوادث ما فتئ يثبت قدمي محمد علي في المنصب الذي أقام على سدته، ويقلل إذا من احتياجه إلى الملاطفة والعرف.
فشرع - مع توالي الأيام - يزداد جسارة في طرق أبواب لجمع المال الذي يعوزه، لم يكن ليفتق إلى وجودها إلا ذهن كذهنه، فاحتكر أولا التبغ والتنباك، ثم أقدم على تنقيص كمية الذهب من العملة مع إبقائها على قيمتها في التداول بين الناس، ثم أرهق مرة أخرى عمال الحسبة إرهاقا جعل الكثيرين منهم يهجرون البلاد، ثم زاد الضرائب عامة بمقدار الثلث، ولما لم يكف هذا جميعه - لأن ضرورة التغلب على الصعاب الأربعة التي قلنا عنها كانت تستلزم إنفاق الأموال بكف سخية للغاية - تجاسر محمد علي واستولى - بتصريح من العلماء ورجال الإفتاء - على نصف إيرادات أوقاف الجوامع والمساجد، ثم ما لبث أن استولى عليها كلها.
ولم يقف عند هذا الحد، بل أمر بفحص جميع الرزق والأوقاف، وأنكر على معظمها الصحة، وأمر كشاف الأقاليم بالاستيلاء - باسم الحكومة - على الأطيان المذكورة في تلك الحجج، ولم يبق من الموقوف على أصله إلا ما كان عقارا مبنيا أو بستانا.
فاضطرب المستحقون، وازدحموا في الأزهر، وأقسم العلماء بزعامة السيد عمر مكرم بالموت في سبيل الدفاع عن حقوق الشعب وعن أملاكهم.
فلما نمى خبر اجتماعهم إلى محمد علي أرسل إليهم يستدعيهم للمداولة معه، فأبوا إلا إذا ألغى الضرائب التي أرهق بها العباد، فإن لم يفعل فإنهم يبطلون التدريس ويعطلون إقامة شعائر الدين ويكون هو المسئول.
فقال لهم المندوب: «اتقوا غضب الباشا، فإنه رجل شديد الانفعال، وتعالوا إليه للاتفاق.»
فأصروا على عنادهم، وسلموا إلى المندوب شكواهم مكتوبة.
فمضت خمسة أيام، ولم يأتهم رد، فملوا الانتظار، وذهبوا جميعا إلى دار ناظر المهمات للاستفهام، فقال لهم هذا الضابط: «إن الباشا مستعد لسماع أقوالكم على شرط أن تذهبوا إليه!»
فأوفد المشايخ اثنين منهم إلى محمد علي، فاستقبلهما ببشاشة، وقال: «أبلغا أسيادنا العلماء أني مستعد دائما لقبول نصائحهم، حتى لو كانت زجرا، ولكني لا أقبل مطلقا الاجتماعات والمخامرات والمؤامرات، فقولا لي من هم الذين أقسموا يمين المقاومة لي!» فلم يجيبا وعادا إلى قومهما بما دار بينهما وبين الباشا من حديث.
وكانت نيران الحسد ترعى منذ مدة قلوب المشايخ، من السيد عمر مكرم لمنزلته الرفيعة عند محمد علي، وكان النقيب في هذه الحادثة روح المقاومة، وبلغ به التحمس فيها أنه قال في اجتماع تال: «إننا نرفع أمرنا إلى الباب العالي، إذا استمر الباشا على غيه، وإني لأتكفل بإنزاله عن السدة التي رفعته أنا إليها!»
فاغتنمها المشايخ فرصة للإيقاع به عند محمد علي، وبلغ من تحاملهم على الرجل أنهم حرضوا الباشا عليه قائلين: «لا تخفه؛ فإنه لا شيء بلانا!» فأكرمهم محمد علي، وبالغ في تقديم التحف إليهم، ثم أفهمهم بأنه إنما استولى على أوقاف المساجد ليصلح ما فسد من أمر جباية الضرائب.
وبعث بعد ذلك يستقدم السيد عمر مكرم، فرفض النقيب الذهاب، فأعاد محمد علي الكرة، فأجاب النقيب: «إذا كان لا بد للأمير من مقابلتي، فليوافني إلى بيت الشيخ السادات!»
فأرسل محمد علي حينئذ سلحداره إليه، مكررا طلبه فما زاد ذلك السيد عمر إلا إصرارا على عناده.
فاستدعى محمد علي حينذاك القاضي وجميع العلماء، ولما استقر بهم المجلس بعث طلبا رسميا إلى السيد عمر مكرم بالحضور، وإذ قوبل هذا الطلب أيضا بالرفض استفز الباشا عليه نفوس الحاضرين - وكان الحسد قد جعلها على استعداد تام لذلك - وعزله في الحال من نقابة الأشراف، وقلدها الشيخ السادات مكانه، ثم طلب إلى الجمعية الحكم بنفي السيد عمر، فأجابت، على أن يمهله ثلاثة أيام.
فرضي محمد علي بالمهلة على شرط أن لا تكون أسيوط محل النفي؛ لأنها مسقط رأس السيد، فعينت له دمياط.
ثم استكتب محمد علي الجمعية عرضا ألصقت فيه بالسيد عمر تهم عديدة تبرر عزله، وأرسل ذلك العرض إلى الباب العالي، لإعلامه بما تم.
فكانت نتيجة انقسام المشايخ على أنفسهم، وارتكابهم من الأمور ما كانوا يعلمونه مخالفا لضمائرهم، أن هيبتهم ضاعت من النفوس، ومكانتهم فيها تلاشت، وأن محمد علي أصبح لا يخافهم ويعتبرهم آلات صماء بين يديه، كما أنه أصبح مطلق اليدين فيما استولى عليه لتعمير خزائنه.
وبما أن الشهية للأكل يزيدها الأكل تفتحا - كما يقول الغربيون - فإن محمد علي بعد أن استولى على أطيان الرزق والأوقاف، ورأى أنها لا تكفي لسد ما يجعله دأبه في التثبت فوق القمة في حاجة إليه من النقود، فرض ضريبة جسيمة على باقي أطيان القطر، فأثار ذلك ثائرة تململ وتذمر في صدور ملاكها وملتزميها، فأمرهم محمد علي بإبراز حجج ملكيتهم لتطبيقها على ما يمتلكون، فأبرزوها.
وكان هو في الأثناء قد تخلص من المماليك وأمن الأستانة، وبعث بالجند الميال للتمرد إلى بلاد الحجاز لقتال الوهابيين فيها، ولم يبق في مصر إلا جندا وقوادا يثق بولائهم وثوقا تاما، وأخرس المشايخ بما سجله عليهم من حطة جعلهم حسدهم يتدنئون إليها؛ فلم يعد يخاف ولا يهاب أحدا.
فضبط تلك الحجج وأعدمها، ووضع يده على باقي أطيان القطر مقابل ترتيب إيراد سنوي لأصحابها السابقين يوازي إيرادها السنوي المعتاد، أصبح هو حرا في دفعه أنى يشاء، وفي عدم دفعه متى شاء، وهذا كان الغالب، ثم لم يكتف بذلك، بل حكر الزراعة والتجارة، فأصبح مزارع البلاد وتاجرها الوحيد. •••
وهكذا حقق الحلم الذي رآه في صباه وقصه على الشيخ الوقور من أنه رأى نفسه يشرب كل ماء النيل ليروي ظمأ اعتراه، ولا يرتوي!
الفصل الرابع
بعد التثبت فوق القمة
فلما زالت الصعاب من سبيله، وشعر أنه أصبح حرا في حركاته، وضع نصب عينيه العمل على الاستفادة من كل سانحة لتحسين مركزه وتعزيزه، وإنشاء دولة على ضفاف النيل تعيد إلى مصر سؤددها ومجدها التالد، وتجلسها مكرمة في مصاف الأمم الحية.
وأدرك أنه لن ينال الغرض المقصود إلا إذا جمع على ولائه عواطف العالم الإسلامي، وإلا إذا نقل مصر - ولو بعنف - من البيئة التي بنت القرون المنصرمة جدرانها حولها، إلى بيئة جديدة تكون مصطبغة القاعدة والجدران بصبغة المدنية الغربية، ومتشربة النفس بمبادئها اصطباغا وتشربا متفقين مع روح الشرق. •••
فلجمع ولاء العالم الإسلامي حوله هب بإخلاص إلى قتال الوهابيين.
ثم هب بإخلاص كذلك إلى نجدة الدولة العثمانية على إخماد ثورة اليونان.
ولنقل مصر إلى البيئة المرغوب فيها قلب كيانها رأسا على عقب، وأخرجها بعد عناء شديد إلى وجود جديد. •••
أما الوهابيون، فقوم من عرب نجد، قاموا ينشرون تعاليم شيخ عالم يقال له محمد عبد الوهاب، بقوة الحسام، وببرهان السطو والغزو.
وتعاليم الشيخ محمد عبد الوهاب كانت ترمي إلى حركة إصلاحية في الإسلام ، القصد منها إعادة هذا الدين الحنيف إلى سلامته الأصلية وتنقيته من كل الشوائب التي أدخلتها بدع القرون إلى كيانه المقدس.
فلم يكن إذن من بأس في نشر تلك التعاليم، بل كان في ذلك خير عميم.
ولكن القوم الذين قاموا بهذه المهمة لم يكونوا أهلا لها؛ لأنهم اتخذوها حجة ووسيلة للنهب والسلب، والتعرض للمسلمين في إقامة شعائر دينهم، ولا سيما في تأدية فريضة الحج.
فبعد أن نهبوا «الإمام حسين» - وهي مدينة واقعة في الصحراء، غربي الفرات، في المكان الذي قتل فيه ابن بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وجردوا مسجدها الحرام من جميع تحفه وكنوزه، استولوا على مكة المكرمة في سنة 1801 وشرعوا يضايقون الحجاج بفرض ضرائب عليهم ما أنزل الله بها من سلطان، ثم لم يلبثوا أن حظروا الحج كلية، إلا على الكيفية التي يريدونها.
وفي سنة 1805 استولوا على المدينة المنورة ونهبوها، وتعرضوا لذات قبر الرسول بسوء، وفي سنة 1806 منعوا الحج بتاتا. •••
فندب الباب العالي لقتالهم سليمان باشا والي بغداد، فعبد الله باشا والي دمشق، فيوسف باشا الصدر الأعظم المهزوم في واقعة عين شمس، ولكن الوهابيين قهروهم جميعا، وأرجعوهم على أعقابهم خاسرين.
فطلب السلطان حينئذ إلى محمد علي باشا السير إلى قتال أولئك العصاة المنشقين.
فرأى محمد علي في إجابة الطلب ثلاث فوائد كبرى لنفسه: الأولى: إمكان إبعاد جيشه الألباني غير المنظم والكثير التمرد، بحجة لا سبيل إلى الشك في حقيقتها، فإمكان تنظيم الجيش المرغوب فيه، المدرب على الطريقة الغربية، أثناء غياب أولئك الألبانيين. الثانية: إمكان تحصيل ما في الرغبة من أموال، والاستيلاء على أكثر ما يمكن من الأملاك بحجة لزوم النقود للإنفاق على الحرب المقدسة، وفي سبيل استرداد الحرمين الشريفين. الثالثة والأهم: جمع عواطف مسلمي الأرض قاطبة على حبه وولائه، بصفته منقذ الحرمين، ومعيد مناسك الحج. •••
فأقدم على تجهيز مهمات حملة هائلة، منذ أواخر سنة 1809، وأظهر في ذلك لأول مرة مقدار تأثير قوة إرادته وثبات عزمه على ماجريات الأمور، فإنه لوعورة الطريق البرية بين مصر والبلاد العربية صمم على نقل جيوشه إلى ميدان القتال عن طريق البحر.
ولكنه لم يكن لديه مركب واحدة في موانئ البحر الأحمر كلها، فعزم على إنشاء عمارة بحرية في السويس، تنفعه لتلك الحملة وللمستقبل.
وبالرغم من أن كل الأدوات اللازمة كانت تعوزه، وأنه كان مضطرا إلى إحضارها من الخارج، فإن عزمه لم يخر، وإرادته لم تضعف، بل أرسل واشترى من موانئ تركيا كل ما كان في احتياج إليه، وأنشأ في بولاق ترسانة جمع فيها كل من تسنى له جمعهم من الصناع ذوي الخبرة بعمل المراكب، وأقبل ينفذ تصميمه.
فصاروا كلما عملت قطعة يضعون عليها رقما خاصا بها، ويرسلونها إلى السويس على ظهر الجمال، حتى بلغ عدد ما استعمل من هذه الحيوانات في ذلك أكثر من ثمانية عشر ألفا.
فكان لا بد للنجاح من أن يكلل هذه الجهود العظيمة، فلم تمض عشرة شهور إلا وبدت في خليج السويس ثماني عشرة مركبا تتهادى بخيلاء فوق الأمواج، وقد بنيت بحيث تسع أكثر ما يمكن من الجنود والمؤن والذخائر.
الإرسالية الطبية الأولى.
فنزل جيش الحملة فيها يوم 3 سبتمبر سنة 1811، فأقلعت إلى ينبع، وما استولى عليها إلا وقامت الحرب بينه وبين الوهابيين سجالا؛ تارة يفوز طوسن فيها، وطورا يقهر، وأبوه ينجده ويمده، حتى تمكن من إنقاذ المدينة المنورة أولا، فمكة المكرمة فيما بعد.
ولكن الدائرة عادت فدارت عليه، فأسرع محمد علي إلى نجدته بنفسه، وبعد أن أدى فريضة الحج أقام يحارب في البلاد العربية ما يزيد على ثلاث سنوات، أظهر في خلالها من الثبات على المكاره، ومن شدة المراس، وقوة العزم والحزم وتفتق الذهن؛ ما لا نظير له إلا في أخلاق أعظم رجال التاريخ.
فحق للأقدار أن تساعده، ولملاك الموت أن يؤازره على أعدائه، كسابقة عهده، فمر بسعود أمير الوهابيين الهمام، في درية - عاصمة ملكه - في 17 أبريل سنة 1814 واغتاله، فبات أمر المنشقين في يد عبد الله ابنه، ولم يكن على شيء من فضائل أبيه وميزاته.
غير أن حادثة لطيف باشا ما لبثت أن استدعت محمد علي إلى مصر على جناح السرعة، فثابر طوسن على القتال، ولكن عبد الله - أمير الوهابيين - لم يكن راغبا إلا في الراحة واللذات، فأرسل إلى طوسن من فاوضه في الصلح، فقرر طوسن شروطه على ما شاء، وكانت شديدة صارمة، فقبلها عبد الله وامتثل، فعاد طوسن إلى مصر، ووصلها في 7 نوفمبر سنة 1816.
ولكن محمد علي أبى المصادقة على تلك الشروط، إلا إذا رد الوهابيون ما سلبوه من مكة والمدينة، فأجاب عبد الله بأنه لم يعد لديه شيء من ذلك، فلم يصدقه محمد علي - لغرض في نفس يعقوب - وجرد عليه حملة جديدة، تحت قيادة إبراهيم باشا ابنه.
فباشر إبراهيم الحرب بعنف، وبينما أخوه طوسن تقتله في بونيال حمى طاعونية اعترته عقب ليلة قضاها بين ذراعي جارية وهبت له حديثا، فمات عن ابنه عباس الأول وهذا لا يزال في الثالثة أو الرابعة من عمره، ما فتئ إبراهيم يتقدم من فوز إلى فوز، ومن نصر إلى نصر حتى استولى على درية عاصمة الوهابيين، بعد حصار دام سبعة شهور، فدمرها تدميرا، وأرسل عبد الله بن سعود إلى مصر أسيرا، فسلمه محمد علي إلى نفر من التتر أتوا من الأستانة لاستلامه، فعادوا به إليها، وهناك - بعد أن داروا به الشوارع ثلاثة أيام؛ ليهزأ به الملأ ويهينوه - قطعوا رأسه، ثم حشوه تبنا، وأبقوه معلقا على سور الباب العالي مدة، يتفرج عليه المارون ويشتمونه. •••
وأما الثورة اليونانية، فإنها بدأت بتحريض من علي باشا تبلن والي يانينا، يوم 7 أبريل سنة 1821 - وهو اليوم الذي يحتفل القوم فيه الآن بعيد استقلالهم - وانتشرت بسرعة انتشار الحريق، لا سيما بعد أن أمر السلطان محمود الثاني بشنق البطرك المسكوني في الأستانة العلية بملابسه الحبرية يوم عيد الفصح الأرثوذكسي بالذات، فأعلنت المورة استقلالها في أول يناير سنة 1822، وقامت العصابات اليونانية في كل جهة تقاتل القوات العثمانية قتال المستبسل في البر والبحر.
صف التشريح بمدرسة الطب.
فبادت في ذلك ثلاثة جيوش وثلاث عمارات، وما لبث السلطان محمود أن فهم أن إخماد نيران تلك الثورة الهائلة فوق طاقة قواده وجنوده غير المنظمة ، فاستنجد محمد علي، ولكن استنجادا جزئيا، وطلب إليه العمل فقط على إخماد الفتنة القائمة في جزيرة كريت، ولهذا الغرض ولاه الإدارة العسكرية في تلك الجزيرة.
غير أنه لما دخل جيش عثماني مؤلف من مائة ألف مقاتل شبه جزيرة المورة في ربيع سنة 1824 لإخضاعها - وما عتم أن هلك فيها - كبح محمود جماح كبريائه الهمايونية، واستنجد محمد علي استنجادا كليا، فلبى محمد علي دعوته، على شرط أن تكون له إدارة الأقاليم التي يخضعها حسام جيوشه لسلطة الباب العالي. •••
وفي 10 يوليو سنة 1824 أقلع إبراهيم باشا ابنه - قاهر الوهابيين - على رأس جيش مصري بحت مدرب على النظام الجديد، يربو عدده على ثمانية عشر ألف مقاتل، تقله عمارة مصرية بحتة، مؤلفة من 73 مركبا حربية، وسبعون سفينة شراعية أجنبية، ونزل في ثغر مورون في 16 فبراير سنة 1825، فاستولى في مدة وجيزة على جميع الساحل، وما أتى آخر سنة 1825 إلا وكل مدن المورة قد وقعت في قبضة يده، ما عدا نوبليا.
وكان الجيش التركي من جهته تحت قيادة رشيد باشا؛ يحاصر مدينة ميسولونجي، ولا يستطيع الاستيلاء عليها، فهاج ذلك غضب السلطان محمود، فأرسل إلى رشيد باشا رسولا يقول له: «ميسولونجي أو رأسك!» فهجم رشيد باشا على أسوار المدينة مرتين، ورد عنها مرتين، بخسائر فادحة.
فتوسل إلى إبراهيم باشا بأن يتفضل وينجده، فسار إبراهيم إليه بعشرة آلاف رجل من المشاة، وخمسمائة فارس، واستلم زمام الإمرة العامة، وشدد في الحصار تشديدا سد على أهل ميسولونجي جميع المنافذ والمسالك، واضطرهم إلى الهلاك جوعا، فأشعلوا النيران تحت أسوار مدينتهم وتحت بيوتها، ونسفوا نفوسهم معها، فما استولى الجيشان المصري والعثماني، إلا على خرائب وأطلال.
وعاد إبراهيم من هناك إلى المورة، فجعلها قاعا بلقعا، وسبى كثيرا من أهلها، لا سيما النساء والأطفال، وأرسلهم إلى مصر، حيث ملأت الرقيقات الروميات دور الحريم، وملأ الغلمان الأروام عرصات القصور، وكان ذلك من حسن حظهم! لأن كثيرين من باشاواتنا اليوم - وليس من أقلهم شأنا، ولا أحطهم قدرا - ما هم إلا سلالة أولئك الغلمان الأروام، بعد أن اعتنقوا الإسلام ، وتعلموا تعاليمه وتشربوا بمبادئه.
فأثارت أعمال إبراهيم عواطف محبي اليونانية من أهل الأدب والعلم في أوربا؛ لأنهم كانوا يعتقدون - وهم بالأسف لا يزالون يعتقدون، حتى يومنا هذا، وفي مقدمتهم المستر لويد جورج، كبير وزراء بريطانيا العظمى السابق - أن يونان اليوم هم أولاد هوميرس وأزيودس وبندارس، وصولون وليكرجس وپريكلس، وهيرودتس، وملسياد وتمستكل وأشيل وسوفوكليس وأوربيد وتوسيديد وكزينوفون وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، وديموستين، وأبل، وفيدياس وأرستوفان وهبوقراط وإقليديس وغيرهم من منشئي المدنية اليونانية القديمة، إحدى والدتي المدنية الغربية الحديثة، وأبهر الاثنين جمالا وجلالا، فما فتئوا ولما يفتأوا يعطفون عليهم، مع أن نسبة يونان اليوم إلى أولئك الأفاضل الأعاظم كنسبة إغريق الإمبراطورية البيزنطية إلى رومان عصر هنيبال، أو كنيسة الأجلاف الضاربين في شبه جزيرة سيناء اليوم، إلى القبائل العربية الشهمة التي مزقت مملكة الأكاسرة وإمبراطورية القياصرة، تحت قيادة خالد بن الوليد والمثنى، وأبي عبيدة الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص.
فتحالفت إنجلترا وفرنسا وروسيا على وضع حد للحرب القائمة بين الدولة العثمانية واليونان، وأتت أساطيلها ورست في مياه نافارين بجانب العمارة العثمانية المصرية، فصدم قارب بريطاني حراقة تركية إما عمدا وإما صدفة، فأمر القارب الحراقة بالابتعاد فأبت، فحاول من في القارب الوثوب إلى سطحها، فأطلقت الحراقة عليهم رصاصة فما كان من الفرقاطة الإنجليزية التابع القارب لها إلا أنها أمطرت الحراقة صيبا من الرصاص.
فلما رأت سفينة حربية تركية ذلك أطلقت مدفعا، فأصاب السيرين
Syrène - مركب أمير البحر الفرنساوي - فأجابت السيرين بإطلاق جميع مدافع أحد جنبيها، فدارت رحى القتال عامة، وأسفرت بعد أربع ساعات عن تدمير العمارتين العثمانية والمصرية.
وكان ذلك بدون سابقة إعلان حرب، وبينما كانت العلاقات سلمية بين تلك الدول الثلاث وتركيا ومصر.
ويروى عن محمد علي أنه لما بلغه النبأ المزعج - نبأ تحطيم عمارته - قال بشخوص نظر ملئه الأسف العميق: «إني لا أدري كيف صوب الفرنساويون مدافعهم على سفنهم!» إيماء إلى ما كان يربط إمارة مصر بفرنسا من روابط الوداد المتين، وإلى أن المصالح الفرنساوية والمصالح المصرية، في البحر الأبيض المتوسط كانت واحدة. •••
فقضى دمار العمارة المصرية على إبراهيم باشا بانقطاع كل مدد عنه، حتى إمداد الطعام والمؤن.
وفي 30 أغسطس سنة 1828 نزل جيش فرنساوي مؤلف مما يزيد على 15 ألف مقاتل، تحت قيادة الجنرال ميزون إلى خليج كورون لمساعدة اليونان، فرأى محمد علي نفسه مضطرا إلى استدعاء ابنه.
فعقد مع الأميرال كودرنجتن، أمير القوات البحرية الإنجليزية، اتفاقا قضى بجلاء الجنود المصرية عن المورة ورجوعهم إلى مصر!
فعادوا إليها في شهر أكتوبر التالي، وراياتهم لم ينكسها عار انكسار!
هذا ما كان من جمع محمد علي عواطف العالم الإسلامي على ولائه. •••
أما ما كان من نقله مصر إلى بيئة غير البيئة التي وجدها فيها، فقد عمل ذلك:
أولا:
بأن أقلع عن طريقة الحكم التي سبقت عهده، واقتدى بما وضعه الغربيون، لا سيما ناپوليون الأول، من نظامات حكم وإدارة، فاحتاط بديوان مؤلف من نخبة الرجال المحنكين - دعاه الديوان الخديوي - وأنشأ وزارتين: إحداهما للحربية - وكانت الأولى من نوعها، لانصراف أفكاره في البدء إلى الحروب فالفتوح - والأخرى للداخلية لتدير شئون البلاد، بينما يكون هو مشتغلا في شئون السياسة الخارجية وتنظيم البلاد المفتوحة، وتسهيلا للعمل على الوزارتين قسم البلاد المصرية إلى 64 قسما، وجعل على كل قسم رئيسا دعاه ناظر القسم، وكون من تلك الأقسام مجموعات دعاها مراكز، عين على كل منها رئيسا سماه المأمور، ثم كون من تلك المراكز مجموعات أخرى دعاها مديريات، عين على كل منها رئيسا سماه المدير، وكان كل قسم من تلك الأقسام الأربعة والستين يشمل عدة نواح ونجوع وكفور، يدير شئون كل منها شيخ أو عدة شيوخ يقال لهم مشايخ البلدان جعلهم محمد علي المسئولين عن التجنيد وعن جباية الأموال.
ثانيا:
بأن أنشأ من أبناء البلد جيشا زاهرا مدربا على الطريقة الغربية، بالرغم من صعاب كانت الواحدة منها كافية لتفل الحديد وتدك الجبل! وللجندية في الشكل الذي أنشأ محمد علي جيشه عليه؛ مزايا ومنافع مادية وأدبية، لا سيما في قطر كقطرنا تتعدد فيه الأجناس والملل والنحل، ما لا يمكن أن تغيب عن أحد؛ منها : إزالة الفوارق بين هذه الأجناس والملل والنحل، وإيجاد رباط أخوة في الراية والشرف بين أفرادها، ومنها تقوية الأجسام بالتمارين الرياضية، وعلى الأخص تقوية الأرواح وتغذيتها بألبان فضائل فردية كالهمة والنشاط والترتيب، واجتماعية كتضحية الأنانية والمروءة واحترام القوانين والولاء للوطن وحبه، وهذه المزايا والمنافع كانت أمتنا في أشد الاحتياج إليها، بعد أن مضى عليها ما يزيد على أربعة عشر قرنا - وهي تعبير اتنوجرافي فقط - وهي مدوسة تحت أقدام الفاتحين!
وأنشأ، بجانب هذا الجيش، عمارة فخمة خولت الراية المصرية مهابة معظمة في مياه البحر الأبيض المتوسط ومياه البحر الأحمر، وأنشأها من العدم، وبالرغم من عدم وجود مادة واحدة لديه من المواد اللازمة لبنائها، ثم إذ دمرتها دونمات الدول الثلاث المتحالفة في مياه نافارين، عاد فابتنى غيرها في ظرف وجيز وسلحها بما يزيد على ألف وخمسمائة مدفع، فدفع بها عن شواطئ ديارنا الأخطار والخطوب، ولم يكن يمكن ولا لملوك الجن، في بلد كانت تعوزه كل الوسائل، وكانت كل الآراء فيه معارضة؛ أن تنجز ما أنجزه محمد علي في هذا الباب الهام.
ثالثا:
بأن جدد بجدة المعارف بتغييره برامج التعليم وطرقه، وفتح ميدانا جديدا للعلم أدخل الأمة فيه قسرا، فقد كان التعليم، حتى قيام دولته، قاصرا على تلقين أصول الدين وأصول اللغة العربية، ولم يكن في البلاد سوى كتاتيب يعلم فيها القرآن الشريف، لا كينبوع علوم دينية - محيية، إن لم يكن لشيء، فللأخلاق الحميدة - بل كمادة تحفظ على ظهر القلب بدون أن يفقه حافظها معناها، وسوى الجامع الأزهر، وقلما أخرج عالما واحدا يشار إليه بالبنان، بعد القرن العاشر للهجرة.
ففتح محمد علي المدارس تترى: ابتدائية وثانوية وعالية، أذكر لكم بعضها ليكون عندكم فكرة منها كلها.
فالمدارس الابتدائية كانت سبعا وأربعين، منها: مدارس المحلة الكبرى وزفتى والمنصورة والزقازيق والجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وإسنا إلخ.
والمدارس الثانوية والعالية والخصوصية كانت أربعا وعشرين، منها: مدرسة قصر العيني، ومدرسة اللغات، والمدرسة البوليتكنيكية، ومدرسة المعادن، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الطب والتوليد، ومدرسة العمليات (أي الفنون والصنائع ) ومدرسة الموسيقى إلخ.
وأدخل في هذه المدارس التلامذة والطلبة رغم أنوفهم وأنوف أهلهم، وأحضر إليها الأساتذة الأكفاء من بلاد الغرب، وعلم فيها العلوم الوضعية، التي كانت - ولا تزال - سببا كبيرا من أسباب رقي الغرب وتقدمه، وأنشأ بعضا من تلك المدارس - كمدرسة التشريح مثلا - رغم كل معارضة وكل مقاومة، حتى من لدن رجال الدين، ولم يكتف بذلك، بل أرسل البعثات تلو البعثات إلى المعاهد الأوربية؛ لا لكي يقتبس المبعوث بهم علوم الأمم الغربية وفنونها وصنائعها فحسب، بل ليتخرجوا أساتذة فيها، فيعلموها مواطنيهم بعد عودتهم إلى البلاد.
وأضاف إلى تجديد بجدة المدارس، إقامة المعامل والمصانع في طول البلاد وعرضها؛ ليتمكن قطرنا من ترويج المصنوعات على الطراز الغربي؛ لاعتقاد محمد علي أن تغيير معالم البيئة المادية يساعد كثيرا على تغيير معالمها المعنوية، ولتتمكن البلاد من الاستغناء جل الاستطاعة عن الواردات الأجنبية.
رابعا:
بأن غطى وجه القطر بالأشغال والأعمال المفيدة، وسخر فيها الأيدي تسخيرا، ولولا ذلك، لما اشتغلت ولما تمت تلك الأعمال، فمن سد أبي قير - وكان الإنجليز قد كسروه في حربهم مع الفرنساويين، فأغرقوا جزءا عظيما من مديرية البحيرة، ودمروا القرى والبلدان جنوبي بحيرة مريوط حتى حوش عيسى، إلى سد الترعة الفرعونية - وكانت تحول جانبا عظيما من مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد، فتسبب - لا سيما في أيام التحاريق - شرقا عظيما لمزروعات شمالي الدلتا والدقهلية، إلى سد فتحة ديبي ببحيرة المنزلة، لمنع مياه النيل من الانصراف بسرعة إلى البحر الملح، ومنع مياه البحر الملح - في أيام التحاريق - من الدخول بغزارة في تلك البحيرة، مسوقة إليها من الرياح الهابة من جهة اليم، إلى تقوية جسر قشيش - وهو الذي كان يصون مديرية الجيزة من الغرق، إلى بناء جسر لسد قطع في البحر اليوسفي غربي ناحية (هوارة المقطع) في جهة (طميه)، إلى تعزيز قنطرة اللاهون، إلى حفر الترع العديدة وأهمها المحمودية والخطاطبة، ومسد الخضراء، والنعناعية، والسرساوية، والباجورية، والبوهية، والمنصورية، والشرقاوية، إلى إقامة قناطر حاجزة عليها ومسهلة للري، إلى بناء الترسانة وحوض تصليح السفن، وتشييد قناطر بحر شبين بالقرنيين، والقناطر الخيرية الكبرى - وهي معجزة أعماله المعجزة - إلى ابتناء الحصون والقلاع على السواحل المصرية لدرء هجمات الأعداء عليها، وابتناء السرايات العديدة، وأهمها سراي رأس التين، وسراي شبرا، وسراي قصر النيل، إلى الشروع في تحويل الأزبكية إلى منتزه عمومي، إلى إنشاء شارع ما بين باب رشيد بالإسكندرية وسراي رأس التين، وكسائه بمسحوق من الجير والبتسولانة الصناعية لجمع الحجارة بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة التي غيرت وجه القطر تغييرا محسوسا.
خامسا:
بأن هدم الحواجز التي كانت العصور السالفة قد أقامتها بين تعامل الغرب والشرق، ومكن العالمين من الاختلاط معا، لا بالاتجار الواسع فحسب، بل بالاحتكاك اليومي في العادات والأخلاق والعقلية؛ فحبب إلى الغربيين المجيء إلى القطر والإقامة، بل والتوطن فيه، واستغلال رؤوس أموالهم في أرضه، وإنشاء مدارس لأولادهم على سطحه، وفتح أمام قومه أبواب السفر إلى الغرب، والتعرف بحاله والاقتباس عنه، وكان أجدادنا في ذلك العصر يكادون لا يعلمون عن الغرب أكثر مما كان يعلم الأوربيون عن أميركا حتى أواسط القرن السابع عشر، وليس من يجهل أنه لولا اختلاط العالمين معا، لما تخلصنا من أفكار كثيرة كانت من أكبر أسباب قعودنا عن جري شوطنا في الميدان الذي تتسابق فيه الأمم المتمدينة نحو الرقي المادي والأدبي، ولو تسنى لعصر الرشيد والمأمون ما تسنى لمصر وسوريا بعمل محمد علي، من توسع دائرة هذا الاختلاط وتشعب أسباب الاحتكاك بين العالمين واقتباس المدنية الإسلامية عن المدنية اليونانية ما اقتبسته النهضة العلمية العلوية في القطرين عن المدنية الغربية، لما دالت للخلافة العباسية دولة ولما غربت للمدنية الإسلامية شمس.
سادسا:
بأن سن قانونا للبلد كل مواده متشربة بالرغبة في فتح عصر جديد للأمة؛ عصر تكون المساواة تامة فيه بين الأفراد، ويكون الفرد آمنا على حريته الشخصية من كل عبث ما دام لا يرتكب جرما، ولا يأتي أمرا تؤاخذ عليه الشرائع، ولئن لم ينفذ ذلك القانون في أيامه تنفيذا مرضيا، واستمر الأقوياء يعبثون بالضعفاء، لئن أقدم مختار بك - أول ناظر للمعارف العمومية المصرية - على قتل غلام له تحت العصا، لأنه أبى أن يفرط له في عرضه، وأقدم سليم باشا - للسبب عينه، أو لسبب يماثله في سماجته وقبحه - على إلقاء أحد مماليكه في النيل، وأقدم محو باشا على قتل أحد أتباعه تحت العصا أيضا لهفوة ارتكبها، ولم يعاقب أحد منهم بأكثر من الحكم عليه بدفع دية ضئيلة، فإنه لا يجب أن يغيب عن الأذهان ما في قول مونتسكييه من حقيقة عميقة: «إن الناس ينشئون في الأول النظامات، ثم لا تلبث النظامات أن تنشئ الناس!»
سابعا:
بأن فتح أذهان المصريين إلى أمرين، لم يكونوا ليفكروا فيهما البتة لولاه: الأول: أن مصر والسودان قطران توأمان، أبوهما النيل، فإما أن يدوما ملتصقين كما ولدا، وإما أن يكونا متحالفين أبدا، وإلا فللقوي منهما أن يجبر الثاني على إحدى هاتين الخلتين، كما أجبرت ولايات الشمال الأميريكية ولايات الجنوب على البقاء متحدة معها، بحرب الانفصال بين سنة 1861 وسنة 1865. والثاني: أن لمصر قومية شخصية منفصلة تمام الانفصال عن قوميات الشعوب الأخرى القاطنة في الأقاليم المتكونة منها القومية العثمانية في ذلك العصر، وإنما فتح أذهان المصريين إلى هذين الأمرين بالحربين اللتين قام بهما في مجاهل السودان، وفي سوريا والأناضول.
أما حرب السودان، فإن الباشا العظيم صمم عليها؛ أولا: ليقضي على البقية الباقية من المماليك، وكانوا مقيمين في جهة دنقلا. ثانيا: ليتخلص مما تبقى من فيالق الجيش غير النظامي التي لم تهلك في حرب الوهابيين، وعادت إلى مصر. ثالثا: لاعتقاده بوجود مناجم ذهب وماس في السودان، ولا سيما في سنار. رابعا وأخيرا: لأن فتح السودان كان من شأنه أن يضع بين يديه أمما وشعوبا عديدة وقوية، يستخدمها إما في تعمير الجهات المصرية التي قللت الكوارث عدد السكان فيها، وإما في تكوين صفوف الجيش النظامي المرغوب في إنشائه.
فسير جنوده تحت قيادة إسماعيل باشا ثالث أولاده، فدوخت الأقطار الجنوبية تدويخا، ولم تلاق لصد غزواتها قوة في استطاعتها الثبات أمام مدافعها، فاستولى إسماعيل باشا على السنار، وبلغ إلى فازوغلو، ولما لم يجد فيها ذهبا ولا ماسا ، ورأى أن أحمد بك الدفتردار - صهره - وافاه بمدد، ترك له جيشه ونزل إلى شندي، وقال للملك نمر مليكها: «إني أريد أن تملأ مركبي هذه ذهبا، وتقدم لي ألفي رجل لجيشي في ظرف خمسة أيام!» فطلب نمر مد المهلة، فزجره إسماعيل، وضربه بشبكه، وهدده بالخازوق، إذا تأخر عن القيام بما أمره به، فما كان من الملك النوبي إلا أنه دبر مكيدة لإسماعيل، فأغراه بسكنى بيت في شندي، وكدس حول ذلك البيت أكواما من الحطب والقش بحجة الرغبة في إطعام خيل الباشا، ثم أبدى إلى قومه علامة، فوثبوا على حرس إسماعيل وأدخلوهم البيت عنوة، وأشعلوا النار في الوقود المكدس حولها، فحاول إسماعيل ومن معه من رجاله أن يفتحوا لأنفسهم ممرا في وسط الأتون المتقد حولهم، ولكن حراب نوبيي الملك نمر ما فتئت تدفعهم في وسط النيران حتى احترقوا وماتوا عن آخرهم.
فلما نمى خبر ذلك إلى الدفتردار أقسم بقتل عشرين ألف شخص؛ ثأرا لموت نسيبه، وزحف في الحال بجنده إلى شندي، فلم يبق ولم يذر، وزاد عدد من قتل على عدد من أقسم بقتلهم.
ولما تم الفتح واستتب الأمر عين محمد علي ضابطا كبيرا يقال له رستم بك مديرا عاما على السودان، وأرسله على رأس جنود نظاميين ليحل محل الدفتردار، واستمر السودان تابعا لمصر منذ ذلك الحين إلى أن فصلته عنه ثورة محمد أحمد المهدي. •••
وأما الحرب في سوريا والأناضول، فسببها أن عبد الله باشا - والي عكاء - كان يحبب إلى فلاحي مصر المهاجرة من القطر إلى البلاد الخاضعة لحكمه، ولما آخذه محمد علي على ذلك أجابه أن المصريين رعايا الباب العالي، لا عبيد محمد علي، فلما أعيت هذا المطالبة الودية عزم على تفهيم عبد الله باشا أن المصريين مصريون قبل كل شيء، وأن بلادهم أحق بجهودهم من كل بلد آخر، فأرسل إلى عبد الله باشا كتابا قال له فيه: «إني سأقدم لأستعيد الثمانية عشر ألف مصري الذين أغريتهم فحملتهم على الذهاب إليك، وسأعود بهم وبواحد فوقهم إلى مصر!» وعنى محمد علي بذلك الواحد عبد الله باشا نفسه.
وفي الحال سير إبراهيم ابنه إلى فلسطين على رأس جيش مؤلف من 24 ألف مقاتل، ومعه ثمانون مدفعا، وعلى رأس عمارته الزاهرة التي أقلته - هو وأركان حربه - إلى يافا.
فاستولى إبراهيم على جميع مدن الساحل الفلسطيني، وأتى وحاصر عكا، فهب والي حلب إلى إنجادها، على رأس أربعة آلاف مقاتل، فترك إبراهيم باشا معظم جيشه أمام أسوار المدينة المحاصرة، وذهب بزهرة جنوده لمقاتلة ذلك الباشا، وكان قد انضم إليه واليان عثمانيان آخران، فبدد جموعهم في معركة دموية، وعاد إلى تشديد الحصار على عكاء برا وبحرا، وبعد أن قضى أمامها ستة شهور في قتال كاد يكون مستمرا، استولى عليها عنوة في 27 مايو سنة 1832، وأرسل عبد الله باشا واليها أسيرا إلى أبيه في الإسكندرية.
فكان ذلك فاتحة الحرب بين مصر والدولة العثمانية.
فسار إبراهيم باشا لمقابلة الجيوش المتقدمة لقتاله، فأرسل فرقة للاستيلاء على طرابلس الشام، وزحف ببقية جيشه إلى دمشق فدخلها فائزا، وسار منها إلى حمص، حيث كان في انتظاره جيش عثماني مؤلف من خمسة وثلاثين ألف مقاتل.
فدار القتال بينهما، وأسفر عن انهزام العثمانيين، تاركين ألفي قتيل في ساحة الوغى وثلاثة آلاف أسير وعدة مدافع، ولم يخسر المصريون سوى مائتي قتيل ومائتي جريح، فطارد إبراهيم الجيش المهزوم إلى حلب وطرده منها، واستولى عليها، ولكنه لم يستقر فيها إلا برهة ثم قام يتعقب أثر الفارين، وكانوا قد تحصنوا في موقع منيع في بيلان، فوثب إبراهيم بجيشه عليهم وثوبا برؤوس الحراب، فانهزموا مرة أخرى تاركين ألفي أسير وخمسة وعشرين مدفعا بين يديه، وما كان من الضباط والعساكر العثمانيين إلا أنهم أخذوا يهجرون راياتهم، وينضمون إلى صفوف الجيش المصري المظفر.
فتقدم إبراهيم، واستولى على أطنه وطرسوس وعلى مضايق جبال الطورس وممراتها، ولكن السلطان محمودا جهز جيشا عظيما عززه بمدفعية هائلة، وسلم قيادته إلى رشيد باشا - الصدر الأعظم - وسيره إلى قتال المصريين، فقام إبراهيم وزحف إلى قونيه، وما بلغ سهول الأناضول إلا وفتحت أزمير ومدن أخرى عديدة أبوابها له، فوجد في قونية كمية عظيمة من المدافع والمؤن، تركها العثمانيون الفارون منها، ووافاه إليها الجيش التركي، وعدده ستون ألف مقاتل، يوم 24 ديسمبر سنة 1832، واصطف أمامه تاركا فراغا كبيرا بين فرسانه وشمال مشاته، فما رأى إبراهيم باشا ترتبه إلا واندفع بسرعة في ذلك الفراغ، فقلب كردوس الفرسان، وأسر الصدر الأعظم، وألقى الخبل في صفوف المشاة، فتوقفت عن المقاومة، وانسحبت من ميدان القتال بمنتهى الصعوبة؛ فباتت طريق الأستانة مفتوحة أمام المصريين الفائزين، ولو سار إبراهيم إليها من غد لتغيرت مجاري التاريخ!
ولكنه لم يسر إلا بعد شهر، وكان السلطان قد استنجد للدفاع عنه قوة روسية وعقد مع نقولا الأول - القيصر الروسي - معاهدة أنكيار سكيلاسي، فاضطربت أوربا لذلك وتداخلت في الأمر، وأجبرت المتحاربين على عقد معاهدة قوتاهيه.
فآلت سوريا بمقتضاها إلى محمد علي، ومقاطعة أضنا فوقها.
ولكن السلطان محمودا لم يكن ليستطيع صبرا على هذا الذل، فما فتئ يدس الدسائس في سوريا فيثير شعبها على الجيش المصري والإدارة المصرية، ولم يفتر لحظة عن إعادة النظام إلى جيشه وتعزيزه؛ حتى إذا أحس بأنه أصبح كفؤا للقتال، حشد منه 23 ألف راجل و14 ألف فارس، وعززهم بمائة وأربعين مدفعا، وسيرهم إلى آسيا الصغرى، تحت قيادة حافظ باشا الساري عسكر.
فنهض إبراهيم في الحال، وتقدم لقتالهم على رأس 43 ألف مصري، وتقابل الجيشان في نزيب.
فلما كان صباح يوم 24 يونيو سنة 1839، علم الساري عسكر العثماني أن عدة آليات سورية تستعد للتخلي عن الجيش المصري والانضمام إلى الأتراك، فعزم على تسهيل الأمر لها بمهاجمة المعسكر المصري بغتة، وأخذ يطلق قنابله عليه، فأجاب إبراهيم بالمثل، وأصبح القتال عاما، وانجلى - هذه المرة أيضا - عن فوز المصريين، بالرغم من وجود فون مولتكي الألماني مع أركان حرب الجيش العثماني، يدبر آراءهم ويرشدها، وفون مولتكي - كما لا يخفى - هو الذي قهر فرنسا في الحرب السبعينية، ذلك القهر الفظيع المشهور، فترك حافظ باشا في ساحة الوغى أربعة آلاف قتيل وألفي جريح وأربعة آلاف خيمة وألفا وخمسمائة أسير.
ومن غرائب هذه الواقعة أن الذخيرة في أشد اشتداد المعمعة أعوزت المدفعية المصرية، فأرادت الآليات السورية المخامرة اغتنامها فرصة لتمر بما معها من أسلحة إلى صفوف العثمانيين، ولكن إبراهيم باشا وهيئة أركان حربه بأجمعها اندفعوا إلى مقدمة الصفوف المقاتلة شاهرين سيوفهم وعيونهم تقدح نارا، وهددوا بالقتل كل من يتزحزح من مكانه، فخاف المخامرون ولم يتحركوا.
ولحظ فون مولتكي توقف المدفعية المصرية عن الضرب، فأشار على حافظ باشا بأن يحمل في الحال حملة عنيفة برؤوس الحراب على الجيش المصري الذي أقلقه ذلك التوقف، ولو عمل حافظ باشا بالنصيحة، ربما أمال النصر إلى جانبه، ولكنه لم يفعل، وما لبثت الذخيرة أن أتت المدفعية المصرية، فعادت إلى إطلاق النيران أشد مما كانت، وما لم يعمله حافظ باشا عمله إبراهيم؛ فإنه حالما وقع نظره على أول اضطراب أحدثته مدفعيته في صفوف الأتراك وثب عليهم بجيشه الباسل شاهرا حرابه، فبددهم شذر مذر.
ولما بلغ نبأ هذه الكسرة السلطان محمودا قال: «إذا كان محمد علي الرجل الحاذق الذي أنا أعرفه، فإنه سيقدم إلى دار السعادة ويقبل يدي، فأعينه صدرا أعظم، وأعين إبراهيم ابنه ساري عسكر السلطنة؛ فينهضان بها كما نهضا بمصر!»
فنقل كلامه هذا إلى الصدارة العظمى - وكان القائم على مهامها خسرو باشا، عدو محمد علي اللدود القديم والسبب الأصلي في هذه الحروب التي دارت رحاها بين مصر والدولة العلية - فلم تمض ستة أيام إلا والسلطان محمود في عداد الأموات، وكان أحمد فوزي باشا - أمير العمارة العثمانية - يرى رأي السلطان محمود، ويعتبر أن محمد علي وحده قادر على إنقاذ الدولة من الخراب المحيط بها، فسار بعمارته وسلمها إليه، يوم 14 يوليو سنة 1839.
ولكن إنجلترا أيضا - لسوء الحظ - رأت رأيه، فأبت أن تقوم على ضفاف النيل دولة مصرية قوية تجعل طريقها إلى الهند غير أمين، فألبت على محمد علي روسيا وپروسيا والنمسا، وأبرمت معها معاهدة لندن سنة 1840 التي اتفقت تلك الدول فيها على وقف محمد علي عند حده، وعلى عدم السماح له بأن يكون إلا تابعا لسلطان تركيا، أما فرنسا فإنها لم تشترك في تلك المعاهدة، وعضدت الباشا العظيم جهارا .
وبعد عقد تلك المحالفة تقدمت الدول المتحالفة إلى محمد علي بأن يتخلى عن الأناضول وسوريا، ويكتفي بولايتي عكاء ومصر، فرفض.
فاشتغلت النقود في الخفاء، وبثت الدسائس، فثار دروز لبنان على إبراهيم، واستولى الإنجليز على صيدا، فعلى بيروت، فعلى عكاء أيضا، بعد قتال يسير وخيانة جلى، وظهر الكومودور نابيير بعد ذلك أمام الإسكندرية وعرض الصلح على محمد علي، فدارت المخابرات بين الدول والباب العالي، وسعت فرنسا لدى الباشا العظيم، فاتفق أخيرا على أن يرد محمد علي إلى الباب العالي عمارته، ويأمر ابنه بالانسحاب من سوريا.
فعاد الجيش المصري الفائز إلى أوطانه، وأصدر السلطان عبد المجيد - بالاتفاق مع الدول - فرماني 13 فبراير سنة 1841، اللذين بقيا دستور الحكومة المصرية، حتى أبطلت مساعي إسماعيل الأول معظم نصوصهما، وأوصلت القطر إلى استقلال تام، لا يقيده سوى قيد الجزية السنوية. •••
هكذا انتهت حرب سوريا، ولو لم تتداخل السياسة الأوربية المشئومة في مجاري حوادثها، وتركتها وشأنها، لنشأ عنها - على ضفاف النيل من ينابيعه إلى مصبه، وعلى ربوع الشام حتى جبال الأناضول - دولة مصرية عربية، على رأسها الأسرة العلوية المجيدة، ربما استطاعت - مع تمادي الأيام - أن تعيد إلى الشرق عزه وسؤدده، ربما أثار شأنها روح الغيرة في صدر الدولة التركية، فجعلها تقوم فتعمل، منذ ذلك الحين ما أقدمت عليه وأتمته في أيامنا هذه تحت قيادة بطلها الأكبر مصطفى باشا كمال! وربما حدا مثلهما بفارس وأفغانستان إلى الاقتداء به، فتنظمتا وتقويتا وترقيتا، فاتحدتا مع الدولة المصرية العربية والدولة التركية، فكونتا اتحادا شرقيا عظيما، كان يكون له في عالم السياسة قدح معلى، وكانت الأمور لا تجري إلا بإشارة بنانه.
ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.
الفصل الخامس
أيام محمد علي الأخيرة
على أن دول أوربا المتحالفة في مصلحة تركيا ضد الباشا الكبير، وإن أرغمته على التخلي عن ممتلكاته الآسيوية، فقد ضمنت ملك مصر له ولذريته من بعده، بمقتضى الفرمانين اللذين أرغمت سلطان تركيا على منحهما إياه في 13 فبراير سنة 1841 واعتمدتهما.
فبات الرجل العظيم في شيخوخته مطمئنا على سدته المصرية، مطمئنا على مستقبل أسرته، ولئن زالت من قلبه مطامع الفتح التي أوقدتها فيه رغبته في إنشاء دولة عربية مستقلة، لما وجد بين يديه جيشا زاهرا لا مثيل له في الشرق، فقد زالت أيضا منه المخاوف على مستقبله ومستقبل أولاده التي كانت دسائس الديوان ومساعيه الخفية توقظها في فؤاده وتعلق سيفها فوق رأسه كسيف دامكلس الشهير.
فلم يعد يفكر في شيء إلا في تحويل جهوده الباقية إلى تمكين حاضر البلاد ومستقبلها من جني ثمار ما غرست جهوده الماضية، ولئن أقفل في الحقيقة معظم المدارس والمصانع التي كانت قد فتحها سابقا لما حتمت عليه فتحها احتياجاته العسكرية، فإنه أبقى منها ما كانت تستلزمه الحال السلمية التي آلت إليها البلاد بعد الحروب السورية، وأخذ يكثر من إرسال نجباء المدارس إلى أوربا، ليصبحوا عمال المستقبل.
وكان - بالرغم من دخوله في حلقة الثمانين من عمره الخصيب - قد زار السودان؛ ليختبر بنفسه شئونه ويرتب أحواله، فلما وضعت تلك الحروب أوزارها أقدم يشجع الاكتشافات العلمية والجغرافية فيه، فلم يكتف بما بذل من مسهلات ومساعدات لجرانت وسيبك وغيرهما ممن أقبلوا على السفر إلى أعالي النيل للوقوف على ينابيعه، بل جهز هو نفسه حملة لهذا الغرض عينه، وسيرها تحت قيادة سليم قبطان، إلى جهات خط الاستواء، فقامت بالمهمة خير قيام، ووضعت في رحلتها رسالة شيقة ملأى بالفوائد.
ولما اكتشفت قوة البخار وأنشئت في أوربا السفن البخارية، والسكك الحديدية، فإن عينه اليقظة لم يفتها الالتفات إلى ذلك، ولم يفت فؤاده الزكي الإقدام على الانتفاع به، فأحضر لنفسه زورقا بخاريا ليسافر فيه على النيل، وأراد أن يبدل آلات بخارية رافعة، بالآلات الرافعة القديمة المستعملة في ري الأطيان منذ أيام الفراعنة، لولا أنه وجد بسرعة أن الوقود الذي تستلزمه الآلات البخارية يجعل استعمالها متعذرا لجسامة النفقات التي يوجبها.
ولكنه أراد الانتفاع حالا بفوائد السكك الحديدية، فأقدم بهمته المعتادة على ابتياع مهماتها من أوربا، ولكن فرنسا أبدت له نفورها من ذلك، وخوفته من عاقبة قيام شركة إنجليزية بإنشاء السكة الحديدية المرغوب فيها ، وكان الباشا الكبير لا يعتمد في الملمات إلا على تلك الدولة، فأبى إغضابها وأهمل مشروعه.
وكان ضابط إنجليزي يقال له واجهرن قد أنشأ بريدا سريعا بين الهند وأوروبا عن طريق السويس فمصر فالإسكندرية، عرف باسم «ذي أوفرلند روت» ونظم له مصلحة سميت «مصلحة الترانزيت» كان كل عمالها من الإنجليز، فاشتراها منه محمد علي، وزاد في تنظيمها، وأبدل مصريين بجميع عمالها الأجانب، فأصبحت مصلحة من خير المصالح العائدة على البلاد بالخير الجزيل.
ولما رأى أن وسائل الري العديدة التي أنشأها في البلاد يتضاءل نفعها في سني النيل الشحيح، أقدم وهو في السابعة والسبعين من عمره على إنشاء القناطر الخيرية التي دعوناها معجزة معجزاته العظيمة.
وكان قد وقع في خلده لأول وهلة أن يهدم الهرم الأكبر بالجيزة، لينتفع بحجارته الضخمة في بناء تلك القناطر، ولكنه ما لبث أن أدرك أن نفقات هدم ذلك الأثر الفرعوني الهائل ونقل حجارته تربو بكثير على نفقات استخراج الحجارة اللازمة للعمل من محاجر جبال طرا والمعصرة والمقطم، فعدل عن فكره.
وكانت شهرة ما بذله وما لم يكن يفتأ يبذله من الجهود في سبيل النهضة القومية والعلمية في بلاده وفي سوريا، قد جعلت أكاديميات أوربا ومعاهدها وأوساطها الأدبية تكبر من شأنه، وتتحدث بآلائه، فرأت الأكاديميات الألمانية - قبل الجميع - أن تتشرف بإدماجه في عضوية هيآتها، فبعثت إليه بالبراءات المنبئة بذلك، والتمست ألا يبخل عليها بإنالتها الفخر الذي كانت راغبة فيه، وما لبثت باقي الأكاديميات الأوربية الهامة أن اقتدت بها.
ورأى السلطان عبد المجيد أن يشرف نفسه بإظهار حقيقة تقديره لرجل الشرق الإسلامي المعاصر الأكبر، بالرغم من أنه قاتل دولته، وكاد يقضي عليها، فقرر رفعه إلى رتبة الصدارة العظمى وتقليده وسامها ما دام حيا، وأرسل إليه بذلك خطا شريفا، ودعاه لزيارته في الأستانة.
فلبى محمد علي الطلب، وبالرغم من أنه بات على أبواب الثمانين من عمره السعيد، ركب البحر، وذهب إلى دار السعادة، حيث قوبل بما لا يمكن وصفه من مظاهر التعظيم والإجلال، وحيث أنفق نيفا وعشرة ملايين من الفرنكات في أعمال البر والإحسان.
بعد أن أقام في ضيافة السلطان أياما - كان إبراهيم ابنه البطل المجيد، في خلالها يزور فرنسا، بعد أن زار إيطاليا، ويلقى من حفاوة الملك لويس فيليب والشعب الفرنساوي به ما يثلج صدره هناء، ثم ينتقل إلى زيارة إنجلترا وينزل ضيفا كريما على جلالة الملكة فكتوريا - أقلع محمد علي من الأستانة إلى قوله مسقط رأسه، وقضى فيها زمنا يستنشق هواء سني صبوته وحداثته وشبابه اليانع الأول، ويغدق على مواطنيه برا ظنوا معه أن العناية الإلهية زارتهم في شخص ذلك الشيخ الوقور الجليل.
ثم عاد إلى مصر، ولكنه لم يقم فيها إلا قليلا وشعر بداء في المعدة والأمعاء، فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى مالطا، للتطبب منه بتغيير الهواء، فذهب إليها مصطحبا معه أرتين بك يوسفيان والد يعقوب باشا أرتين الذي عرفناه وكيل وزارة المعارف في عهدنا هذا، وكان أرتين بك قد أخلف على ثقة محمد علي المتناهية، وزيره المخلص بوغوص بك يوسف.
ولكن تغيير الهواء لم يفد، بل زاد الداء استعصاء، وما لبث أن سرب خرفا إلى ذلك العقل السامي الذي كان نوره قد أضاء على قطرنا المصري نيفا وثماني وأربعين سنة.
فعاد الأمير إلى القطر، وقد هزلت قواه الجسدية والعقلية معا، فتسلم إبراهيم ابنه - البطل المغوار - زمام الأحكام، وزار - هو أيضا - الأستانة، لتقلد الأمر فيها على مصر رسميا، ولكنه - بعد أن عاد منها - لم يمكث على قيد الحياة إلا أياما معدودة، ولم تكمل ثلاثة شهور على قيامه على سدة أبيه إلا ووافاه أجله، فخلفه عباس الأول.
وكان محمد علي قد انزوى عن العالم، يقضي أيامه تارة في أعماق سراي رأس التين وطورا في شبرا، في الحديقة الغناء والقصر الجميل المنشأين هناك، لا يعلم بما يجري حوله من الأمور.
فلما كان صيف سنة 1849 غادر مصر القاهرة، للمرة الأخيرة، وذهب يستنشق هواء البحر الملح - بحر أيامه الأولى - في الإسكندرية، ولكن الأجل المحتوم وافاه في سراي رأس التين يوم 2 أغسطس، فوضع جسده في وسط قاعة فسيحة وغطي بالأكفان النفيسة، وقام ابنه محمد سعيد باشا يستقبل وفود المعزين، فمر القناصل والوجهاء أمام الجثة الراقدة المغطاة، ووقفوا مأخوذين أمامها يفكرون في عظمة الحياة التي انطفأ سراجها ومجدها، ويمرون بمخيلتهم على الحوادث العجيبة التي كان النفس الذي رحل بطلها!
ثم نقل ذلك الجسد المجيد إلى العاصمة ودفن في المسجد الرخامي المرمري الذي أنشأه محمد علي على جبهة قلعة الجبل، وهو راقد هناك إلى يومنا هذا يشرف من علاه على القطر المصري برمته، ومن يدريني أن روحه لا تأتي أحيانا فتزور ذلك المكان - كاعتقاد المصريين القدماء - وتبارك من ذلك المقام الرفيع البلاد بأسرها!
الفصل السادس
وصف محمد علي وتقدير عمله
أما وقد ألقينا نظرة سريعة على أهم حوادث تاريخ محمد علي، فإنه لم يبق علينا إلا أن نعرف الرجل وصفا وأخلاقا - ولو أن الحوادث التي رويناها ومواقفه فيها أظهرت كثيرا من صفاته وأخلاقه؛ لأن خير ما يصف الرجل التاريخي مواقفه في حوادث تاريخه - وأن نزن في ميزان الإنصاف عمله، ونرى إلى أي النتائج أدى. •••
كان محمد علي ربعة القامة، واسع الجبين، بارزه، مقوس الحاجبين جدا، ذا عينين سوداوين، غائصتين في دائرتيهما، وأنف ضخم يغلب عليه الاحمرار، وفم صغير باسم، وكان يتجلى على ملامحه مزيج موزون من الذكاء الدقيق والبشاشة المحببة، على أن تلك الملامح كانت تتشكل بسرعة، بشكل انفعالات قلبه، وكانت لحيته الجميلة البيضاء - واعتناؤه بها كان كبيرا - تحيط وجهه بهالة من نور.
وأما يده فكانت آية في حسن صنعها، وكان قوي البنية سليمها، أنيق الحركة، ثابت المشية موزونها، كأن عليها مسحة من الدقة العسكرية، على أن جسمه كان إذا مشى يترجرج قليلا، مع تمام انتشار قده، وكثيرا ما كان محمد علي يجمع يديه خلف ظهره، ويخطر - وهو كذلك - ذهابا وإيابا في حجر سراياته.
ولم يكن يحب البذخ في الملابس، بل كان يبالغ في بساطتها إلى درجة أن كثيرين ممن لم يكونوا يعرفونه شخصيا، كانوا يظنون أنه أحد الأتباع، لا الباشا العظيم نفسه، وكان الوقار والجلال يكسوان جميع حركاته وسكناته؛ فما كنت تستطيع وأنت في حضرته أن لا تؤخذ بمهابته، وتقول في نفسك «هذا ملك، حقيقة!» مع أنه لم يكن يحتاط البتة بخدم وحشم وحرس مسلح، ولم يكن يقيم على بابه إلا حاجب واحد، وإذا ما دخلت عليه في ديوانه - حيث كان يقيم أكثر أوقاته - وجدته أعزل من السلاح، يتداول في يده علبة نشوق ثمينة أو سبحة نفيسة، وكان كبير الغرام بلعب البليردو، والشطرنج والضامة، لا يستنكف أن يلعبها مع أي ضابط كان من ضباطه، ولو من أصاغرهم، بل مع نفس عساكره.
على أن قناصل الدول وأكابر القادمين في سياحة إلى القطر هم الذين كان يلعب البليردو معهم عادة، غير أنه بالرغم من قلة اعتنائه بمظاهر العظمة كان كبير التدقيق في أن لا تتعدى في حضرته حدود اللياقة والآداب الشرقية.
حكى المستر باركر في كتابه المعنون «مصر وسوريا في عهد سلاطين تركيا الخمسة الأخيرين» أنه - وهو قنصل لدولة بريطانيا العظمى في الإسكندرية - قدم لمحمد علي الأميرال سير بلتني مالكولم فقابله محمد علي وكل وجهه بشاشة وابتسام لا سيما أنه كان في ذلك الوقت كبير الاهتمام بعمارته البحرية ويرغب أن يكلم في شئونها ذلك الأميرال الإنجليزي، وحدث أنه أثناء المحادثة أبدى ملحوظة جعلت الأميرال يضحك بقهقهة طويلة فأنكر محمد علي ذلك عليه ونظر إليه نظرة المستغرب الاستغراب كله، فإنه لم يجسر أحد، إلى ذلك الحين، أن يضحك في حضرته ضحكا عاليا كضحك ذلك الأميرال، على أن هذا لم ينتبه إلى أن عمله كان مغايرا للآداب المطلوبة في حضرة الأمراء والملوك، إما لخفة في عقله وإما لاستهتار منه بأمير شرقي، فأغرق في الضحك عينه مرة ثانية، فمرة ثالثة، فأدرك محمد علي أن ذلك عادة عند الرجل ولكنه غضب منها، ولم تنته مقابلته للأميرال بالبشاشة التي بدأها بها.
وحدث بعد ذلك بعدة أيام أن إنجليزيا آخر موصى عليه من المراجع العليا طلب مقابلة محمد علي وقابله بواسطة المستر باركر عينه ولكنه أبى أن يمتثل للتعليمات التي أسداها له القنصل بشأن كيفية سلوكه في حضرة الأمير، لظنه أنه أدرى بآداب السلوك من المستر باركر، فدخل على محمد علي مرتديا جاكتة بيضاء وبطربوش على رأسه، ولما جلس بين يديه انتزع الطربوش من على رأسه، فبدا رأسه أصلع تمام الصلع أمام عيني الأمير.
فاستنكر المستر باركر عمله وما فتئ يومئ إليه بلبس الطربوش لعلمه أن العادات الشرقية تحتم تغطية الرأس في حضرة الكبراء، ولكن صاحبنا لم يلتفت إلى إشارات القنصل واستمر على ما هو عليه وزاد اعتقاده في أنه أدرى بالآداب الشرقية من القنصل.
فلما انتهت المقابلة، وعاد المستر باركر إلى منزله، أتاه ترجمان محمد علي موفدا إليه من الأمير ليبلغه عدم رغبة سموه في أن يقابل في المستقبل إنجليزيا ولينهاه عن طلب مقابلات لهم.
وكان سخي اليد سخاء حاتميا يكاد يداني الإسراف، كما أنه كان شديد التأثر سريعه بالمؤثرات المباغتة، لا يستطيع إلا بصعوبة إخفاء ما تحدثه في نفسه، وكان - كالإسكندر الكبير، مواطنه، وعلى الأخص كقيصر الروماني - شديد الميل إلى النساء، كبير الشغف بهن، مع كثرة احترامه لزوجته الأولى التي سعد بطالعها السعيد، ولكن شغفه بالمجد كان أكبر، فكثيرا ما كان يفكر في الرواء المحيط باسمه، ويتكلم بفخار وحماسة عن حوادث حياته العجيبة، ولشغفه بالمجد كان كبير التأثر بما تقوله الصحافة الغربية عنه، فيأمر بترجمة معظم الجرائد، ومتى وجد في إحداها طعنا عليه تألم منه ألما شديدا، وكان يعتقد أن مطاعن الصحافة أضرت به كثيرا، وحملت الدول على معاكسته في نزوعه إلى الاستقلال، لا سيما مطاعن جريدة كانت تنشر في أزمير، فتذيع في أوربا أشنع المثالب ضده، وترمي حكومته بأفظع التهم، حتى لقد قال مرة لأحد أخصائه: «ليتني اشتريت بمليون ريال عدم ظهور تلك الجريدة إلى الوجود! فقد كان في استطاعتي؛ لأن صاحبها عرض علي خدمته دهرا، فرفضتها!»
وكان، لكثرة ما اعترض حياته من الحوادث الجلى؛ قليل النوم، مضطربه في الغالب، ولذا فإن عبدين كانا يسهران دائما بجانب سريره، ليهذبا الأغطية التي كان لا ينفك يعبث بها في نومه، ولكنه - بالرغم من نومه القليل - كان كبير العمل وكثيره، فيستيقظ الساعة الرابعة صباحا، ولا يفتأ النهار كله مجدا يشتغل في شتى الأعمال، وكان يحسن الحساب، ولو أنه لم يتعلم فنه، ولأنه كان أميا أقبل يتعلم القراءة على يد إحدى جواريه، وهو في الخامسة والأربعين من سنه، وذلك بالرغم من انشغال فكره بالشئون العامة العديدة والتي كان الكثير منها كبير الخطورة.
وكان - مع أخصائه - قليل التحرس، مفتوحا، محبا للوقوف على ما لا يفهم، وكثيرا ما كانت استفهاماته تنم على جهله وسذاجته، ولكنها كانت تنم أيضا على ذكاء مفرط، وإدراك بعيد الغور، وأما إجاباته في المحادثات فكثيرا ما كانت تناسب بكيفية بديعة مع المقام والمجال، يحكى من هذا القبيل أن أحد القناصل أطنب ذات يوم في حضرته إطنابا فائقا بتصوير لهوراس فرنيه - المصور الفرنساوي الشهير - رسم فيه مجزرة المماليك، وأعجبت باريس به أيما إعجاب، فقال له محمد علي: «إن للمصور في مجزرة مماليك بوناپرت التي قام بها شعب مرسيليا لمادة لتصوير آخر يضعه إزاء التصوير الذي تذكره!» ويحكى أيضا أن بعضهم آخذه يوما على تعاريج ترعة المحمودية ومنحنياتها - وسببها أن المهندسين الذين اشتغلوا فيها تحت رياسة المهندس المعماري كست كانوا من الجهلاء، وأنها عملت بدون تصميم سابق، وبدون تجهيز تمهيدي، وأن الفعلة استدعوا وشغلوا في حفرها تحت مراقبة مشايخ بلادهم وزعمائهم، قبل إخطار المهندسين بحضورهم، فلم يتمكن هؤلاء من تعيين جهات العمل لكل فرقة وطائفة من القادمين، واضطروا إلى جعل كل يشتغل حيثما يشاء، على أن يكون الحفر في الاتجاه الموضوع، ثم لما احتاجوا إلى وصل الحفر بعضه ببعض، اضطروا إلى عمل زوايا ومنحنيات بأحسن ما في الاستطاعة - فسأل محمد علي المعترض، قائلا: «هل الأنهار في بلادك ذات سير مستقيم ولا تعاريج فيها؟» أجاب: «كلا.» فقال محمد علي: «ومن صنعها؟» أجاب: «الله!» فقال: «وهل تريد أن يكون صنع الإنسان خيرا من صنع الله؟»
وكان بطبعه ميالا إلى الأثرة والعنف، ولكنه كان يدري كيف يشكم ميوله، ويسير بمنتهى الفطنة والمهارة فيما يرسمه لنفسه من الشئون، وبالرغم من ميله إلى الغضب بسرعة، كان ما جبل عليه من طيبة طبيعية يحول دون إقدامه على الإساءة، وكثيرا ما أفرط في التهاون عن المعاقبة إلى حد عدم المبالاة بها بتاتا، وكثيرا ما تساهل في الصفح عن طيبة خاطر، بل كثيرا ما نسي سيئات خطيرة ارتكبت ضده، على أن زمام هواه كان يفلت أحيانا من يده، فيندفع مع تيار انفعاله اندفاع الرجل المستبد بلا تعقل.
مثال ذلك: أنه أتته مرة ضمن مجموعة نباتات استوردها من أورپا داليا غرسها بستانيه في الأرض في محل تتناوله الشمس من كل جهة، بعيدا عن الكشك الذي كان محمد علي يحب أن يجلس فيه، فأزهرت وتألقت بدون أن يلتفت الباشا إليها، ولكنه اتفق أن زائرا أجنبيا بالغ يوما ما في وصف جمالها، فلفت إليها نظر محمد علي فأعجب بها، وأمر في الحال بوضعها في صندوق ونقلها تحت الجميزة التي كانت تظلل كشكه، فاعترض البستاني وقال: «إن مثل هذا العمل قد يقتل الزهرة!» فقطب محمد علي حاجبيه وأقسم بأنه يدفن حيا من يدعها تموت! فامتثل البستاني للأمر، ولكن الداليا من غد أخذت في الذبول ومالت على ساقها، فما كان من محمد علي إلا أنه - لظنه بأن البستاني تعمد قتلها - أمر به فطرح أرضا وضرب بالسياط، بالرغم من احتجاجه! ولكنه ما انفك يقول إنه ليس في الاستطاعة حمل الزهور على الطاعة كبني الإنسان، وليس من الحكمة التحكم فيها كالتحكم فيهم، حتى آب محمد علي إلى صوابه، وأوقف الضرب، وما لبث أن بعث بهدية فاخرة للبستاني بمثابة تعويض له عما لحقه من الضرب.
ويحكى أيضا أنه أوصى بستانييه يوما بالاعتناء ببضع أشجار برقوق أتته من أورپا، فأطاعوا وأثمرت إحداها ولكن ثمرا قليلا، وكان محمد علي قد تتبع حركة نموها وطرحها، وخطر له يوما أن يذوق من ذلك الثمر وهو فج، فاستطعمه جدا، وأمر ناظر بستانييه بالاعتناء بالثمرات الخمس أو الست الباقية الاعتناء كله، فأحاط الناظر الشجرة بشبكة من الخيط ليحفظ الثمر من العصافير، وعهد أمر الاعتناء بها إلى بستاني خاص، ولكنه حدث أن عاصفة مرت بالشجرة ، فأوقعت البرقوقات كلها إلا واحدة، على أن هذه الواحدة بلغت من الرواء والحجم والنضوج ما لم يعهد له مثيل، ولكن محمد علي لم يعد يسأل عنها، فتداول الناظر مع مرءوسيه، وأجمع رأيهم على أن وقت قطف البرقوقة قد حان؛ فإن لم تقطف وقعت أو فسدت، فقطفوها ولفوها في قطن، ووضعوها في علبة وأرسلوها مختومة على يد ساع خاص إلى سمو الأمير، وكان الزمان رمضان، ومحمد علي - لتوعك في مزاجه - يتناول طعام الإفطار في دور الحريم، فقدم له البرقوقة - ضمن فواكه أخرى - خصي لم يكن أعلمه أحد بعظم أهميتها لدى مولاه، فأكلها محمد علي بدون انتباه، وبدون التفات إلى أنها الفاكهة التي أوصى بالمبالغة في الاعتناء بها.
بعد بضعة أيام ذهب إلى بستانه، وتوجه توا ليرى ماذا جرى ببرقوقه، فلم يجد على الشجرة من ثمرة، فاعترته هزة غضب شديدة، لم تدعه يتأنى ليستفهم، فأمر بناظر البساتين فألقي أرضا تحت الشجرة، وانهال عليه الضرب، ولكنه ما عتم بصراخه أن جعل مولاه يصغي إليه، فقص عليه الواقع، فأرسل محمد علي يستقدم الخصي، وأول ما وقعت عينه عليه من بعيد، سأله: «أصحيح أني أكلت برقوقة؟!» فأجاب الخصي: «نعم يا مولاي، منذ بضعة أيام في طعام الإفطار!» فصرخ محمد علي: «ولم تقل لي شيئا يا شقي؟!» وبدت منه إشارة، ما لمحها الخصي إلا وركض ووثب على جواد الباشا - وكان هناك مسرجا على مقربة منه - وذهب يعدو به الغيطان، قبل أن يفكر أحد في القبض عليه، ثم أقام أياما مختبئا لا يجسر على الرجوع إلى السراي، ولكن محمد علي عاد فصفح عنه.
وكان محمد علي مسلما مخلصا في دينه، يقوم بأداء فرائضه بكل نشاط، ولكنه لم يكن بالمغرق في عبادته، ولا بما يدعوه الغربيون «متعصبا» بل كان واسع الصدر جدا لجميع الأديان، وأظهر من الشجاعة الأدبية في ذلك ما كان عجيبا في عصره ووسطه.
ولهذا السبب عينه كان بعيدا عن الاعتقاد بالخرافات والخزعبلات، فيحكى - للدلالة على ذلك - أن امرأة في دمنهور قامت وادعت أن عليها شيخا من الجن إذا ما حضر أتى من المعجزات ما تحار له العقول، وساعدها على إثبات إفكها أنه كان في استطاعتها التكلم من بطنها، فيخرج الصوت منها كأنه آت من أعماق ما وراء المادة، فلما رأت نجاح أمرها في بلدها سولت لها نفسها الذهاب إلى مصر، على أمل أن يكون نجاحها هناك أكبر، وكانت العاصمة إذ ذاك غاصة بالجنود المحتشدين فيها للسير إلى مقاتلة الإنجليز، فراج إفك المرأة بينهم واعتقدوا فيها الولاية، وبات لها نفوذ عظيم على عقولهم الساذجة السمجة، ولما كانت عقلية ضباطهم لا تفضل عقليتهم في شيء، شاركهم الضباط في اعتقادهم، وأصبح لا يجسر أحد على الشك في حقيقة الشيخ الساكن في تلك المرأة، لا سيما وأن الكثيرين من المصدقين فيها سمعوا صوته في ظلام الليل، وأن بعضهم تشرف بلثم يده ...
وما زال أمر هذه المرأة يكبر ويعظم حتى نمى إلى محمد علي، فجعله يوجس خيفة من أن يستغل طماع مركزها، فيحدث فتنة قد تكون خطرة على سلطته في تلك الآونة الكبيرة الحرج، فصمم على رؤية الشيخة - كما كانوا يسمونها - وبعث بأربعة من المشعوذين إليها لإحضارها معهم واعدا كلا منهم بعشرة أكياس إذا هم أحضروها، فوافوها وهي في دار الباش أغا - رئيس خفر الليل - وقد التف حولها جم غفير، وأرادوا أخذها إلى الوالي، فمانعهم الحضور، ومنعوهم من إتمام مأموريتهم، لئلا تنهار الدار على من فيها، فعاد المشعوذون من حيث أتوا، والخزي يحيط بهم، وتبجح المعتقدون فيها بأن شيخها حماها وفاز على الوالي نفسه.
فكبر شأن المرأة، وأصبحت لا تمر في شوارع العاصمة إلا وهي راكبة جوادا ومحاطة بجمهور من الأتباع يتغنون بمدائحها.
فعزم محمد علي على التخلص منها، وأصدر أمره إلى رئيس الشرطة بإحضارها إليه، فجاءه الرئيس بها قبيل الغروب يتبعها جمهور لا يحصى عدده من الناس، أتوا ليشاهدوا ما يكون من أمرها مع الأمير.
وكان محمد علي جالسا في ظل جميزة يدخن شيشته، فما بصر بالشيخة، قال لها إنه بعد إذنها يريد أن يتكلم مع الشيخ الذي عليها ، فأجابت بأن هذا غير مستطاع إلا في الليل؛ لأن الشيخ ذهب في ذلك الوقت لأداء صلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين، فسألها الباشا: «أو يغيب حتى يحضر؟» قالت: «كلا! سيكون هنا بعد صلاة العشاء.» فصعد الباشا إلى دار حريمه ليتعشى، وبقيت الشيخة مع بعض المفضلين في قاعة بأسفل الدار.
فلما جن الليل نزل محمد علي وسأل: «هل حضر السيد؟» قالت: «نعم.» فأمر - بناء على طلبها - بإطفاء الأنوار، ولكنه أوصى سرا خدمه بإحضار غيرها، حالما يبدي لهم إشارة بذلك، ثم جلس وقال للشيخة: «استدعي أستاذك!» فنادته قائلة: «يا شيخ علي!» وإذا بصوت كأنه خارج من أعماق الأرض أجاب النداء، وأخذ يزيد جلاء ووضوحا كلما زادت عليه الأسئلة، وظهر حينا للحضور كأنه يكلم كلا منهم في أذنه، فسرت في الجميع قشعريرة، وأعلن محمد علي أنه آمن بولاية الشيخة، ثم طلب أن يشرفه السيد بإعطائه يده ليقبلها، فمدت إليه أطراف أنامل فقط، فما اكتفى محمد علي بها، وألح بإعطائه اليد كلها، فقدمت له، فقبض عليها بقوة، وأبدى الإشارة المتفق عليها، فانتشرت الأنوار فجأة في القاعة، وإذا بالشيخة تجتهد وسعها لتمليص يدها من قبضة محمد علي، فلما رأت أن أمرها افتضح خرت عند قدمي الأمير، وطلبت العفو منه، ولو كان الحاضرون من ذوي الأفهام المفتوحة لأدركوا في الحال إفك المرأة وانفضوا من حولها، ولكنهم كانوا على جانب عظيم من الغباوة، فاعتقدوا أن محمد علي انتهك حرمة الشيخ، وطفقوا يتململون ويتذمرون، فصرخ بهم محمد علي: «أيها المجانين الجهلاء، أفيخدعكم مثل هذا الكذب الظاهر؟!» ثم التفت إلى حرسه، وأمرهم بإلقاء الشيخة في النيل، فما سمع الحاضرون هذا الأمر إلا وضجوا وهاجوا، وماج لهياجهم الجمع المحتشد بالباب، وكادت تقوم فتنة، ولكن الباشا قال بثبات جأش عجيب: «مم تضجون ولم تصخبون؟ فإما أن هذه المرأة عليها شيخ حقيقة، وهو لن يتخلى عنها، بل ينقذها من الغرق، وإما لا شيخ عليها، وتكون قد خدعتكم، فلا يصيبها إلا ما هي به جديرة!» فأمن القوم على كلامه، وألقيت المرأة الشقية في اليم! ومكث جمهور عظيم من أتباعها ينتظرون دهرا رجوعها وظهورها، على جناحي الشيخ علي القديرين، ولولا تعنت الجهلاء المؤمنين بها لاكتفى محمد علي بإظهار كذبها ولما رماها في النيل.
واتفق في سنة 1825 أن النيل شح وأخذت مياهه في الهبوط منذ شهر أغسطس، فأمر محمد علي بإقامة صلاة الاستسقاء، ودعا إليها أحبار جميع الأديان والمذاهب، قائلا: «إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين واحد جيد!»
وكان أبا محبا لأولاده، كبير الشفقة والتعلق بهم، فمن أحسن ما يروى عنه للدلالة على ذلك الحادثة الآتية: تمكن الوهابيون يوما من حصر ابنه طوسن باشا في الطائف، وكان محمد علي في مكة، ليس لديه من الجنود إلا القليل، فأشار عليه أخصاؤه وقواده بالمسير إلى جدة، ليكون على مقربة من مراكبه، فيستطيع الرجوع إلى مصر إذا ما اضطرته الظروف إلى ذلك، أي إنهم أشاروا عليه بترك ابنه وشأنه، فأجابهم محمد علي: «كلا، إني لا أريد الابتعاد، بل إني قائم لإنقاذ ولدي!» وارتحل برفقة أربعين مملوكا فقط، ووصل إلى قرب الطائف، وهو لم يدبر بعد تدبيرا، فاختار أن يرتاح أولا، وبعد أن أوصى أحد مماليكه بإيقاظه إذا طرأ طارئ، توسد الأرض ونام، وبينما هو غارق في سبات نوم عميق، أتي بجاسوس وهابي أسر وهو يجوس خلال الجيرة، ولكن المملوك المكلف بحراسة محمد علي اضطرب لما سمع الجلبة، وأسرع فأيقظ مولاه برعبة جعلت فرائص محمد علي ترتعد، لأنه اعتقد أن جيش الوهابيين داهمه، فاعترته لذلك شهقة لم تعد تفارقه، وأخذت تنتابه كلما اشتدت عليه وطأة انفعال ما، ولكنه ما لبث أن هدأ روعه، وأقبل يستجوب الجاسوس بنفسه، فاسترشد بإجاباته، وقال له: «إني على رأس مقدمة جيش محمد علي، فإذا شئت أن تحمل إلى طوسن باشا خبر قدوم والده إليه، فإنه يعطيك مكافأة قدرها مائة ريال.» فقبل العربي الجشع وذهب بالرسالة إلى طوسن ونال منه الجائزة التي وعد بها، ولكنه أسرع بعد ذلك إلى معسكر الوهابيين، وأنبأهم باقتراب محمد علي على رأس جيش زاخر ، فنجحت حيلة محمد علي أيما نجاح، وما هي لحظة إلا واقتلع الوهابيون خيامهم وتفرقوا عن الطائف أيدي سبأ.
فأنقذ محمد علي ابنه بهذه الكيفية وأحرز فوزا باهرا جزاء مخاطرته المدهشة في سبيل إنقاذه.
وكان صديقا صدوقا كثيرا ما آلمته مصائب رفاقه وأبكاه موتهم، ولم يدع واحدا منهم إلا وأشركه في تدرجه نحو المعالي، ورقاه معه إليها، ثم أغدق عليه العطايا والنعم.
وكان بارا بمواطنيه المكدونيين، يقابل أيا كان منهم ببشاشة وعطف، بارا ببلاده وبمسقط رأسه؛ ما فتئ طول حياته يدفع عن أهل قوله الضرائب المفروضة عليهم، وما فتئ محافظا على المنزل الذي ولدته فيه أمه.
وكان كبير الإعجاب بالإسكندر الأكبر والبطالسة، كأن مواطنته لهم أوجدت بينهم وبينه أواصر قرابة؛ فيوما إذ سمع بعضهم يذكر للإسكندر عملا مجيدا آخذا بمجامع القلوب، ومثيرا للإعجاب، هتف بخيلاء: «وأنا أيضا من فيليبي!» وكان لا يميل إلى سماع شيء ميله إلى سماع تاريخ المكدوني العظيم وتاريخ ناپوليون، كأنه يشعر بأن التاريخ سيضعه يوما ما بجانبهما في إعجاب البشر.
وكان شديد الحب لأرض مصر هائما بها، حتى إنه قال يوما لزائر من الغربيين: «إني أحب مصر حب المغرم الولهان بمالكة فؤاده، ولو كان لي عشرة آلاف عمر لأعطيتها كلها في سبيل الحصول عليها.»
لذلك كان كبير الحرص على هذه الأرض العزيزة، متيقظا تيقظا غريبا لسد كل باب قد ينشأ عنه تداخل أية دولة أوربية كانت في شئون البلد الداخلية.
فرفض لذلك الموافقة على مشروع إنشاء ترعة السويس كما رسمه طالابو - أحد السانسيمونيين الذين سبقوا دي لسبس إلى درس مسألة الوصل بين البحرين - لأن ذلك المشروع كان يقضي بأن تنشأ الترعة من الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى السويس فتجتاز مراكب الدول داخلية البلاد، رافعة علم دولها فيحدث من الطوارئ ما يبرر تداخل إحدى تلك الدول في الشئون المصرية!
وقد روى لي ثقة أن الملكة فكتوريا أرسلت إلى محمد علي كتابا مخطوطا بيدها تطلب منه فيه بيع قطعة أرض في السويس لشركة البنينسيولر أند أورينتل، ليبني عليها مهندسون ترسلهم من قبلها فندقا ينزل فيه القادمون من الهند والذاهبون إليها، عن طريق السويس، وأن قنصل بريطانيا العظمى سلم ذلك الكتاب إلى محمد علي يدا بيد.
فقبله محمد علي ووضعه على رأسه إجلالا للملكة وتعظيما للمرأة الكريمة، ولكنه قال للقنصل: «إن أرض مصر ليست ملكا لي، بل هي ملك الأمة، وما أنا عليها إلا أمين، فلا أستطيع إعطاء شيء منها لغريب، ولكن رضا الملكة يهمني جدا، وعليه فإني أرجوها أن تتفضل وتأمر الشركة بأن تبعث إلي بتصميم الفندق الذي تبغي إقامته في السويس وأنا أكفيها مئونة إرسال المهندسين وأبنيه بمهندسين من عندي، ثم أؤجره لها!»
وهكذا كان، فإن محمد علي شيد ذلك الفندق على نفقته، وأجره لتلك الشركة بإيجار موافق استمرت الحكومة المصرية تقبضه حتى عهد قريب. •••
ذلك كان الرجل، وقد رأينا ما كان عمله، بعد أن استتب له الملك، فهل قصد منه سعادة مصر ومجدها، أم ابتغى مجرد الشهرة، وما سعى إلا وراء جني منافع شخصية؟ لقد اختلف المؤرخون في ذلك؛ فمنهم من قدح، ومنهم من مدح، وكل برر قدحه أو مدحه بوقائع محددة اتخذها حججا وبراهين.
على أنه مهما يكن من ذلك، فما من أحد يقدر أن ينكر أن محمد علي بلغ ما بلغ من الرفعة والشهرة والمقام المحمود بفضل قوة إدراك عظيمة وثبات نادر، وروح سلوك وزنت كل حركاته وسكناته وزنا عاقلا حكيما، وحسن ملمس دقيق دقة متناهية، وعزم دون فله خرط القتاد، وحزم متفنن قضى على كل حزم سواه.
ولا يسع المؤرخ المنصف - مع التسليم بأن الله وحده المطلع على النيات - إلا الاعتراف بأن أعمال محمد علي، إن أفادته قبل الجميع وفوق الجميع؛ فقد أفادت البلاد فائدة لا يمكن أن نجد لها مثيلا إلا إذا صعدنا مجاري التاريخ وعدنا إلى أيام الفراعنة الكبار.
ولئن اكتنفها مظالم ومغارم كثيرة، ودخل في القاعدة التي أقيمت عليها مزيج كبير من الأثرة والاستبداد - كاحتكار محمد علي الاستغلال الزراعي والاتجار بمحصولات البلاد - فإنما كان ذلك لأنها أعمال إنسان، ولا يمكن ألا يمتزج الشر بالخير في أي عمل يعمله البشر، والشر ممتزج بالخير امتزاجا كبيرا في طبيعة الوجود ذاتها.
على أن الشر الفردي المرافق للخير والممزوج معه لا يلبث أن يتلاشى ويزول، وأما الخير فيبقى إلى الأبد، وهذا هو الذي يحبب إلى الإنسان الحياة.
فإذا طبقنا هذا المبدأ على أعمال محمد علي نجد أنه لو لم يستأثر بالأطيان لما خدد الأرض المصرية ترعا وجداول، ولما أدخل إلى الزراعة المصرية شتى النباتات الجديدة، لا سيما القطن والزيتون؛ فاستئثاره بالأطيان زال، وأما الترع والجداول والنباتات الجديدة فباقية.
ولو لم يستأثر بالمحصول والاتجار لاستمر القطر منفصلا عن العالم إلا قليلا، كما كان في عهد المماليك، وما انتشرت فيه حركة المدنية الحالية، التي كيفته فجعلته في مدة وجيزة من الرقي والتقدم، بما لم يتيسر مثلهما للأقطار المجاورة له شرقا وغربا، أما الاستئثار بالمحصول والاتجار فقد زال، وأما حركة المدنية فباقية، ورقي القطر وتقدمه نبني اليوم عليهما تأكيدنا بأنا بلغنا النضوج، ونحتج بهما للمطالبة بالاستقلال.
ولو لم يجمع المال بكل وسيلة؛ فأرهق أجدادنا إرهاقا عظيما في جمعه، لما تمكن من إبراز أي إنشاء كان إلى الوجود من المنشآت العجيبة التي ذكرناها، والتي غيرت وجه القطر تغييرا تاما، فأما الإرهاق فزال، وأما المنشآت فباقية.
ورب معترض يقول هنا: «أجل، ولكن هذه المنشآت عينها أو غالبها ما أقامها على قواعدها إلا الإرهاق.» فأجيب: نعم، نعم، ولكنه لم يكن عنه بد، وإني أكرر أن الإرهاق مضى، وأما هي فباقية.
خذوا مثالا ترعة المحمودية؛ فإن الرواة الطاعنين على محمد علي يزعمون أن في تراب جسريها مدفونة عظام أكثر من عشرين ألفا من الفلاحين الذين اشتغلوا في حفرها.
قد يكون ذلك، وإن قلبنا ليذوب حسرة على نكد طالع أولئك البؤساء، ولكنهم زالوا، وزال معهم بؤسهم، وأما المحمودية فباقية، وليس بين ألوف الألوف، الذين يستفيدون منها - إما للارتواء، وإما للري - من لا يذكر بخير محمد علي منشئها ويبارك اسمه!
هكذا لو لم يستعمل العسف والاستبداد في التجنيد والتعليم، لما وجد لمصر جيش ولا عمارة بحرية، ولا وجدت فيها حركة معارف وعلوم وفنون، فإذا اعترض معترض وقال: «ولكنه لم يبق شيء من الجيش والعمارة، وزالت في أيام محمد علي عينها معظم معاهد العلم والصناعة التي أنشأها.» قلت: نعم، هذا صحيح، ولكن الفائدة الأدبية التي اكتسبتها مصر من ذلك جميعه لم تزل، بل استمرت ثمرتها يانعة؛ فلولا الجيش والعمارة لما قامت بين عنصرينا قوائم الوحدة التي تم بناؤها اليوم، والتي نفاخر بها أيما مفاخرة، ولولا الفتوحات لما تغيرت النفسية، ولاستمرت القلوب مستكينة إلى الذل، ولولا معاهد العلم والصناعة لاستمرت روح اقتباسها نائمة فينا، ولما نالت مصر شبه استقلالها.
ومهما دفع في الاستقلال من ثمن، لا يعتبر غاليا.
لذلك جميعه نرانا ميالين إلى فريق المعجبين بمحمد علي، ميالين إلى تقليب صفحات حياته الساطعة لا صفحاتها المظلمة، ولو فعل التاريخ ذلك دائما، حين يروي أعمال الأعاظم والأجاويد من بني الإنسان، وطوى كشحا عن سيئاتهم؛ لكان ذلك أدعى إلى رفع مستوى الإنسانية، وأقرب إلى حملها على التزين بحميد الصفات، ولو كنا ممن يعتقدون بتعدد الأعمار - أي بعودة الإنسان مرارا إلى هذه الحياة الدنيا في شكل بشري مختلف، ليتمكن من التجرد من الأهواء والنقائص، والبلوغ إلى الكمال، فيعود حينذاك إلى الله ويذوب فيه، وهو ما يعتقده البوذيون، ويدعون الرجوع الأخير إلى الله «البلوغ إلى النرفانا» - لقلنا إن محمد علي كان البطليموس الأول، الذي أطلق معاصروه عليه لقب «صوتر» أي المنقذ، فإنه - مثله بل أكثر منه - أنقذ هذا القطر المحبوب من الفوضى وحشرجة الموت، ثم نفخ فيه من روحه فأحياه، ثم فتح أمامه أبواب السعادة في المستقبل وولج به في الطريق الموصلة إليها، فاستحق عن جدارة التعريف الجميل الذي أقرنه باسمه، عارفو الفضل من معاصريه، وأقرته له الأجيال التالية لجيله، ألا وهو «محيي الديار وأبو مصر الحديثة». •••
وإنا - والخشوع يملأ فؤادنا - نقف إليه كما وقف السلطان عبد العزيز أمام مقامه في القلعة، ونقول مع ذلك العاهل: «إنه كان رجلا عظيما من أكبر رجال التاريخ، وإن ذكره مخلد!»
अज्ञात पृष्ठ