تقدمة
1 - الحصان في الإسطبل
2 - المأدبة
3 - المحالفة
4 - المحالفة: تتمة
5 - المحاكمة
6 - فلتكمل مشيئة الله
تقدمة
1 - الحصان في الإسطبل
2 - المأدبة
3 - المحالفة
4 - المحالفة: تتمة
5 - المحاكمة
6 - فلتكمل مشيئة الله
المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية
المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية
تأليف
أمين الريحاني
تقدمة
من العادات المألوفة بين كتاب الإفرنج أن يهدي الكاتب كتابه إلى صديق صدوق، أو نسيب مفضل، أو وجيه محسن إلى الهيئة الاجتماعية، وهديته على كل حال تكون عبارة عن حب مجرد ليس وراءها غاية شخصية دنيئة، بل تكون إقرارا بجميل المحسن؛ إقرارا لا إكراه فيه ولا مأربة.
وقد اقتفى الكاتب العربي العصري أثر الكاتب الإفرنجي، فصارت المؤلفات والكتب العربية الحديثة تقدم بهيئات مختلفة تتم بها كل شروط التقدمة الإفرنجية ما عدا شرطا واحدا، وا أسفاه إن الغاية الحميدة والمحبة المجردة لم تطيبا بعرفهما الذكي تقدماتنا المملوءة بالتزلف والتبجيل والمداهنة؛ سيئات لا يولدها إلا صغر النفس والجبانة.
الكاتب الإفرنجي يهدي كتابه ليشكر من هو بالشكر أولى، والكاتب العربي - ونقول ذلك آسفين - يهدي ليتزلف إلى هذا، ويستجدي ذاك، ومنهم من يقبض أجرته سلفا، ومنهم من يقبضها بعد أن يطبع مديحه الكاذب، ويعسر علينا أن نجد لنفسنا مكانا في إحدى هاتين الطبقتين؛ إذ إنه في الزمان الحاضر، وفي البلاد التي نحن فيها (أميركا) لا يقدر الكاتب السوري أن يقدم كتابه إلى أحد دون أن تولد تقدمته هذه في نفس المقدمة له ظنا سيئا في المؤلف، فكل من قدم له كتاب من وجهاء السوريين يظن أن الفرض الرئيسي الذي تفرضه عليه آداب الهيئة الاجتماعية، وقوانين الكرم هو أن يحسن على الكاتب المسكين بصلة ما أو بقيمة من المال. وليس كل كاتب حليف الفاقة، ولا كل من أهدى كتابه مستجديا.
بين سوريي أميركا لا يوجد على علمنا محسن عمومي لتزين هذه الصفحات باسمه، ونوشيها بذكر مآثره.
نعم عندنا عدد وافر من الوجهاء والأدباء والصحافيين، والكتاب والخوارنة، والتجار والأطباء، غير أنه ليس فيهم بحكمنا من هو أعظم أم أحقر من الثاني، فكلهم أفاضل أريحيون، وأدباء متفننون، وتجار مستقيمون ، وصحافيون ماهرون، كلهم متساوون بالمجد والعظمة والكرامة.
ولهذا السبب نقدم هذه القصة إلى من يريد أن يقرأها منهم.
ولا تظن أيها القارئ أن التقدمة الصغيرة هذه هي مجانية، كلا فالذي يتمم الشروط الآتية يقدر أن يقول: إن القصة قدمت له، والذي لا يتممها ويظنها مقدمة له يكون قد سرق من المؤلف ما يجب أن يرد إليه، أما الشروط فهي:
أولا:
يجب أن تقرأ بتمعن وتبصر.
ثانيا:
يجب أن تقرأ لا لكي تصدق أو تكذب، ولا لكي تثني أو تنتقد، اقرأ لتقيس وتقابل وتفتكر وتحكم.
ثالثا:
يجب أن تطرد من فكرك كل تعصب ديني غير ناظر إلى شخصية الكاتب، علاقتك هي مع القصة وليست مع مؤلفها.
رابعا:
لا تكتف بفحص الثوب من الخارج، اقلبه وانظر إلى البطانة؛ فقد جعلنا لجسم هذه القصة الإنساني غشاء حيوانيا يتضمن من الدقة المقصودة، وجراثيم الإصلاح المطلوبة ما يصعب على القارئ تمييزه دون عدسية مكبرة، فعليك إذن أن تحمل آلات التشريح، والعدسية المكبرة وتتبعني.
خامسا:
يختلف التشريح عن التقطيع، وليس بري الأقلام كقطع الأشجار، فكن مدققا في العمل محققا في التمييز والمقابلة؛ فتعدل إذ ذاك بحكمك.
سادسا:
إذا لم توافق القصة ذوقك السليم، أو لم تطابق عقيدتك المحبوبة، أو لم ترق لك لهجتها ومغزاها، فادفعها إلى جارك ولا تحرقها؛ فلربما كان الطعام ساما لمعدة ما، ومغذيا لأخرى.
هذه هي الشروط التي يجب أن يتممها كل مطالع قبل أن يعتبر القصة تقدمة له، وإذا أخل بواحد أو أكثر منها يكون قد سرق منا ما يجب أن يرد إلينا.
الفصل الأول
الحصان في الإسطبل
الحصان يناجي ذاته: «أجل قد خسف بدر مجدنا اللامع، وأفل كوكب سلطتنا الساطع، وسدت علينا أبواب الارتزاق، فسرنا لغايتنا في ميدان الخباثة والنفاق تحت ظل الانقسام والبغض والشقاق. وألانا الزمان فاستبدينا، ووافقنا القدر فسطونا، ولكن أين تلك السطوة وذلك السؤدد الآن بعد أن داس على هامتنا القدر، وأذلنا بؤس الزمان، نعم نحن المذنبون، قد جنينا على أنفسنا، فما نتيجة المخاتلة والاستبداد إلا جر غضب العاقلين من العباد علينا، فقد ذقنا من السلطة أعذبها، ومن الرئاسة أطيبها، غير أننا والحق يقال أسأنا استخدام السلطة، وأفسدنا الرئاسة، فما لنا إلا أن نحتمل نتيجة أفعالنا، ونكتفي بما تحقق من آمالنا، قد سلط الله الإنسان على الحيوان، ونحن قد خالفنا الإرادة الإلهية فتسلطنا على الإنسان بالدهاء والرياء والاحتيال، نعم قد حكمنا زمنا ليس بقليل، ولم نزل الحاكمين الآمرين مع قليل من المقاومة، ولكني أرى أن الأخطار محدقة بنا، والإنسان يئن ويتأوه من الأعباء التي وضعناها على منكبيه ألا يخشى علينا من الثورة، فبأي سلاح نحارب الإنسان إذا ثار علينا لينزع عنا سلطتنا؟ يجب أن نفتكر في حالتنا الحاضرة، يجب أن نستعد للقتال، فدلائل الانقلاب ظاهرة في كل دوائر المملكة البشرية، والإنسان بغنى عن خدماتنا الآن؛ فعنده الآلات الكهربائية والبخارية والهوائية لتقضي حاجاته، وتجعل حياته على الأرض كثيرة السرور، قليلة المشقة.
إن هذه الاختراعات الجديدة ضربة قاضية علينا، وكل مظهر من مظاهر هذا التمدن الحديث يضر بمصالحنا، ويحط من مقامنا، قد أمست سلطتنا الآن ترسا للدفاع بعد أن كانت حساما للهجوم، قد سلبتنا الكهربائية حقوقنا، وتعدى البخار على مصلحتنا، ودخل الهواء بيوتنا الفارغة؛ فصار يخشى عليها من التدعي، أما والحق فهذا انقلاب سريع عظيم، نحن الآن على شفير الهاوية، أمامنا الظلمة الغير المتناهية، والعمق الذي لا يحد، ووراءنا جحافل الكهربائية والبخار والهواء، ليس هذا فقط؛ فالأخطار التي تحيق بنا من الخارج ليست بشيء عند الأخطار التي تتهددنا في الداخل، ألم يلتئم معشر الخيل في مجمع عظيم منذ شهر ليتفاوضوا في الشرائع، والسنن المؤسسة عليها جامعتنا، ويحكموا على صحتها، وخلوها من الأغلاط؟ أهذا الذي اتصلنا إليه؟ إذا نحن شككنا في صحة شرائعنا، فماذا يفعل المؤمنون؟ والغريب أننا ابتدأنا في الشك والريب، فالمجمع المنكود الحظ حكم بعد الجدال والبحث والمناقشة على الناموس الذي نمشي بموجبه بالإعدام، يقول المجلس الموقر: إن شرائعنا لم تنشأ عن حكمة معصومة عن الغلط، وإن الطريق التي سلكناها في الماضي تؤدي إلى هلاكنا في المستقبل القريب.
عقول مختلة في رءوس كبيرة، جياد سقيمة تطلب الشهرة بتكسير أواني إسطبلها، منذ مدة وجيزة أخذ أحد الجياد الكبيرة الذي يحسد الأطيار على عشاشها أن يستهزئ ببعض الأساطير التي نحترمها، ويعز علينا أن تمتهن، هذه هي حالتنا الآن؛ الأخطار من الداخل والخارج، الجياد المعتلة تلبط وتحرن ونحن المحافظين ساكتون عنهم. نعم، إن المخاطر تحت أقدامنا وفوق رءوسنا، فما العمل وكيف نتقيها؟ نهار البارح تخرج من إحدى الشركات الكبيرة خمسمائة جواد متحلين بحلى الآداب، جياد ذوو أجسام وعقول سليمة قوية، ولكن لا شغل لهم في المدن الكبيرة، ولا يحتاج أحد من المتمدنين في هذا الجيل إلى خدماتهم، وزد على ذلك أن في الأسبوع الماضي أخرجت إحدى الشركات الترامواي ألف جواد من خدمتها، واستخدمت عوضهم قوتي الكهربائية والبخار، وهذا سجل جمعيتنا، ينبئنا - ويا له من نبأ مؤلم - بأن في صفوفنا يوجد الآن خمسة آلاف جواد لا شغل ولا عمل لهم. وإذا لم نعلفهم يموتون، فمن أين لنا أن نعلفهم وهم لا يحركون ساكنا، ولا يدخلون بارة الفرد؟ فيا لتعاسة الخيل، إن قوتهم تتلاشى يوما فيوما، إن سلطتهم على وشك الاضمحلال، وا أسفاه قد اندثر عزنا، وبليت حلة بهائنا، ودرست معهما معاقل مجدنا، وا أسفاه على الزمان الماضي؛ يوم كنا نقود الشعب في عرباتنا المقدسة إلى حيث نشأ، كنا في ذلك الزمان نحرن ونتمرد، ونشمخ ونهمهم، وما لنا الآن إلا أن نطيع صاغرين، مفتشين على مصلحة نستر بها عرينا، ونسد رمقنا، يا ليتك لم تكوني أيتها الكهربائية، ويا ليت مخترع الأوتوموبيل لم يولد، ليس الملك الظالم من أمر بقتل من خالفه، بل هو ذلك المتفلسف العالم الذي لا يتنفس إلا ليضر، ولا يفتكر إلا ليفسد، ولا يتحرك إلا ليسد بوجوهنا أبواب الارتزاق. ما بال الفوضويين من البشر لا يريحوننا من ملوك العلم، وأرباب الاختراع الذين يقصدون إبادة جنسنا عن آخره؟ ما لك وهمبرت أيها الفوضوي؟ ماذا ينفع قتل ماكنلي؟ دونك وإديسون أو تسلا، جرد سيفك على ماركوني، أو سبنسر، أو برتلو، هؤلاء هم أعداء العالم بأسره، هم هم الظالمون المستبدون الأشرار الذين يدسون في مملكتي البشر والحيوان سموم علومهم واختراعاتهم، اصرف عنا أيها الأسد العظيم كيد المتفلسفين من البشر، نجنا من دسائس شياطين الاختراعات، خلص عبيدك وخادميك من العناصر القتالة التي إذا أضاءت أحرقت، وإذا تحركت قتلت».
وبعد أن انتهى الحصان من هذه المناجاة المؤلمة وضع رأسه بين قائمتيه، وغاص في بحر الهواجس والأفكار، ثم نهض بغتة، وصرخ صرخة عظيمة ليست صرخة أركيميدوس الإسكندري في حمامه بشيء بالنسبة إليها. «نعم نعم! قد اكتشفت على سبب تقهقرنا، قد عرفت سبب تقدم أعدائنا ونجاحهم، الاتحاد؛ الاتحاد؛ جمع الكلمة، وحدة الرأي، إزالة الاختلافات، وقتل الشقاقات. نعم يجب أن نتحد، فالحمير لا يعضدون البغال، والبغال لا يتحدون مع الخيل، والخيل لا تتقرب إلى فريق منهما. لماذا هذا التنافر؟ لماذا هذا البغض وهذه الضغينة؟ كلنا من طائفة واحدة تربطنا صلة القرابة، فلماذا إذن لا نتحد ونجمع قوانا المالية والعقلية والعلمية؟ فنقوى إذ ذاك على كل عساكر الشر والفساد والفلسفة فنسحقها سحقا، ونحطمها تحطيما. نعم يجب أن نحسم الخلاف ونرتق الفتق، ونجمع القلوب ونتكاتف ونتحد، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يتظاهر بهذه الدعوى؟ ألم يحرم حصان أميركي من جامعته الخصوصية لأنه تظاهر بمبادئ شاملة، فخرج من كرسي سلطته ذليلا حقيرا. ألا تتساقط علي المسبات كالأمطار يوم أعلن للحيوانات دعوتي؟ ألا أطرد من جمعيتي؟ لا بأس فأنا أفضل أن أكون خارجا عنها، ومفيدا لطائفتنا الحيوانية بوجه العموم، سأجاهر بمبدئي وسأجمع في إسطبلي وجهاء الحمير والبغال سؤأدب لهم مأدبة فاخرة، سأتصل إلى عقولهم عن طريق بطونهم، سأعلفهم وأسقيهم وأوفر لهم انشراح الصدور، والانبساط بقدر ما يمكنني، ثم أعرض عليهم هذه المسألة، وأسألهم المساعدة، سأفعل ذلك حالا، سأفعله الآن».
فتقدم الحصان إلى باب الإسطبل ونادى الجحش كاتبه قائلا: «هات معك ورقا وقلما وحبرا، وتعال مسرعا». فجاء الجحش حاملا قلمه ومحبرته وأوراقه، وجلس على كرسي ينتظر أوامر مولاه، فأملى عليه الحصان ما يلي:
سيادة الراعي الصالح، والمرشد الفالح، والنزيه العظيم، والمنطقي الفهيم المفضال العلامة، والبحر الفهامة، الجزيل الفضل، الجليل القدر، الشريف الأصل، النافذ الأمر، أطال الأسد العظيم وجوده لنستفيد من علمه، ونهتدي بإرشاداته، آمين.
تجعلني سعيدا إذا شرفت إسطبلي مساء غد لتناول الغذاء معي، وهناك أمور خطيرة تستوجب المخابرة؛ إذ إن فيها صيانة حياتنا، وحفظ سلطتنا، واقبل أيها الأخ المكرم تأكيدات ولائي، وعلى أمل اكتمال سروري بوجودكم أمحضكم الشكر الجزيل.
أخوكم في الحيوانية
الحصان
أرني ما كتبت، وأخذ الحصان النسخة من الجحش وقرأها، ثم قال: ألم أقل لك: «واقبل أيها الأخ المحترم» فلماذا كتبت عوضها: «الأخ المكرم» ألا تعلم بأن هذا النعت يعد شتيمة بين معشر البغال والخيل والحمير؟
الحصان في مكتبه.
الجحش :
أليس لفظة مكرم اسم مفعول من كرم يكرم، ألا تعني هذه اللفظة التوقير والاعتبار؟ فهل نكون شتمنا الحمار إذا نعتناه بالمكرم؟ هل لك أن تفهمني الفرق بين اللفظتين إذا لم أكن مصيبا بما قلته.
الحصان :
أنت مخطئ؛ فالفرق بين المكرم والمحترم هو أن الأول بعيد عن الهوان والذل والاحتقار واللؤم، والثاني قريب من الغيرة والمجد والاعتبار والأبوة.
الجحش :
أما والأسد فأنا لا أرى فرقا قط بين الاثنين، فمن كان بعيدا عن اللؤم يكون بالطبع قريبا من الأبوة، ومن كان قريبا من المجد يكون بعيدا عن الذل والهوان، أفلا يكون للفظتين نفس المعنى؟ لا يا سيدي أنا لا أظن أن في نعتنا الحمار بالمكرم شتيمة له، وعندي أن لفظة مكرم هي أعذب من لفظة محترم؛ لأن الأولى لا تقدر تصوغ منها إلا كلمات حسنة مثلها، والثانية يشتق منها الحرام والحرامي، والمحرم والحرم ... إلخ.
الحصان :
قد سحمت لك أن تتفلسف، فغير الآن العبارة واكتب: «أيها الأخ المحترم» واذهب بالنسخة هذه إلى المطبعة، وأوص على طبع خمسمائة نسخة منها. ولما خرج الجحش من الإسطبل طفق الحصان يتمشى متهللا فرحا وهو يقول: «سيخلد ذكري بين الحيوانات، وسترتجف المملكة البشرية من قوتي إلى الممات، إن عملي هذا لعمل شريف، وإن كانت ضدي كل الغطاريف، لا أخاف ما زال معي الأسد القوي المخيف. نعم، إني على جانب عظيم من القوة والمكانة، فياللسرور، أي حظ وأي انتصار مبين، لا بد من أن أقول بعد هذه المأدبة قول الشاعر:
تم ما رمت والزمان وفى لي
وقد انجاب عن نهاري الضباب
نعم سنحطم القوات البخارية والآلات الكهربائية إذا تم ما أتمناه، فلنجمع قوتنا لنهلك من العالم كل مخترع لعين، وتصبح ظواهر التمدن الحديث لا أثر لها ولا عين؛ نحن ضد التمدن، نحن ضد الآلات الميكانيكية، والمراكب البخارية، والعربات الكهربائية، نحن ضد كل عقل يجهده صاحبه في إيجاد تسهيلات جديدة واختراعات مفيدة. يجب أن نضرب ضربة قاضية، كفانا ذلا وضعفا وفقرا وهوانا، كفانا خصاما وشقاقا واختلافا، كفانا نفورا وبغضاء ودسائس ووشايات. ضم الكلمة، جمع الرأي، اتحاد القلوب، تضافر الأفكار، قتل كل مسبب يولد النفور والشقاق. هذا ما تطلبه منا مصلحتنا، وتحثنا على إتمامه سلطتنا التي أوشكت أن تزول.
حبذا لو كانت الجلسة الآن وقريحتي جوادة؛ فيمكنني التكلم بفصاحة وحماسة وإخلاص، أف لم يعد لي صبر على الانتظار، ولكن لا بأس إذا درست قليلا، واستعديت لهذه الجلسة، يجب أن أستميل ضيوفي إلي، يجب أن أقنعهم لكي يعتنقوا مبدئي، يجب أن أبين لهم الحقائق الراهنة مدعومة بالبراهين الساطعة، «إلى الدرس إذن والتفتيش، فهذا عند الحصان العاقل أفضل من التبن والحشيش»، ويذهب الحصان إلى مكتبته، ويكب على المطالعة والكتابة.
الفصل الثاني
المأدبة
ولما تم طبع رقاع الدعوة وزعها الجحش على أصحابها الأفاضل، وفي مساء اليوم الثاني قبل أن جاءت الساعة الثامنة، غص الإسطبل بأفاضل البغال والحمير والجياد وهم لابسون أفخر العدد، وأثمن البردعات، من أقمشة سوداء وأرجوانية، وفي أعناقهم رشمات يتلألأ فيها عدد من الذخائر والتعاويذ، فتطقطق عند الحركة، ومنهم من جاء يعكز على عصا مذهبة، حاملا في خرجه لوح شريعته المقدسة، ثم جلسوا جميعهم حول مائدة جميلة مزينة على طرز بشري فيه كل أنواع الفخفخة، ويزيد رونقها أنواع الزهور المنثورة حولها، وحول الصحون المملوءة من الطعام على اختلاف ألوانه، واللحوم والأسماك على تعدد أجناسها، والخضر على تنوع أصنافها، وكلها مخلوطة ببعضها خلطا حماريا، وعلى وجهها غطاء أبيض مصنوع من البرشان. أما أصناف الخمر والمشروبات فحدث عنها ولا حرج، فبراميل الجعة كانت في ذلك المساء بعدد الضيوف، وكل واحد جلس وبرميله إلى جانبه، وأمامه إناء كبير من الفخار. - كلوا واشربوا وتهللوا فغدا تموتون.
وبعد أن جلس الكل حول معالفهم، وزالت الضوضاء، وساد النظام نهض صاحب الدعوة ورفع رأسه ويديه نحو السماء، وخاطب الأسد القدير خاشعا متوسلا فقال: نشكرك يا رب على غزير نعمك وآلائك، ونتضرع إليك بصوت خاشع كي تشمل بنظرك الإلهي جميع المؤمنين من أبنائك لا تحول عنا إلهامك الهادي إلى الرشاد، ولا تتخل عن المطيعين لنا ولك من العباد، انصرنا يا رب على القوات الشيطانية التي ظهرت في هذه الأيام الأخيرة، واسحق أعداءنا وأعداءك أهل التمدن الحديث، وذوي النفوس الحقيرة، كن لنا يا رب معينا، واصرف عنا غضبك، وارمقنا بحلمك، وشدد عزمنا، وثبتنا في مسالك الصلاح وطرق الهداية، آمين.
وبعد أن فرغ الحصان من صلواته هذه رفع حافره الأيمن، وقسم به الهواء إلى أربعة أقسام راسما بذلك رسم صليب كبير، ثم جلس على برميله بإزاء المعلف، ودعا ضيوفه إلى الأكل والشرب والانشراح. - كلوا واشربوا وتهللوا فغدا تموتون.
أحد البغال :
فلتحيا الفلسفة الأبكورية! صلى الأسد على أبيكاريوس وسلم!
الحصان :
لا تستحوا أيها الإخوة المحترمون، الإسطبل إسطبلكم، ولا تظنوا أنكم في بيت عدوكم، فكلنا نذكر أن الأسد له المجد دخل ما بين أعدائه، أما الفرق بينه وبينكم هو أن الأسد صلب وأنتم ستحيون حياة جديدة، أما الآن فلنأكل ولنشرب، فلنشرب على ذكر الحبيب، ولكن إياكم أن تسكروا. أهلا وسهلا بكم إن حاسياتي العميقة لا يعبر عنها بلغتنا الحيوانية، شرفتم أيها الحمير الكرام، آنستم أيها البغال الورعون العظام، لو كان لي صوت لطيف لكنت أنشدكم فأطربكم، أها. نعم، نعم، إن لكاتبي الجحش صوتا رخيما: يا جحش يا جحش، آتنا بعودك، وأطربنا بنشيدك.
فجاء الجحش مطيعا، وبيده عود مصنوع من الجلد، وأوتاره من الشعر، فجلس على سدة بالقرب من المائدة، وأخذ يلعب بالأوتار إلى أن عدل عوده، وصرخ منشدا: شرف القوم الكرام ... إلخ.
فطرب الحاضرون، وهاجت عواطفهم، فصرخوا جميعهم متهللين: كمان يا جحشنا كمان، بالله عليك منعاد، يا سلام ما حد سمع بعد. بعد. وغيره من عبارات الاستحسان، وصرخات السكران الولهان.
ولما سمع المغني هذه التصدية الجميلة لصوته الأجمل أخذ ثانية عوده الهندي، وطفق ينقل على أوتاره اللطيفة ريشته الرشيقة الخفيفة، وغنى على لحن وضعه أحد الغزلان في أبيات لجمال عربي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى
وزرتك حتى قيل ليس له صبر
البغال (بصوت واحد) :
أما والأسد فهذا من أبدع ما غني وأنشد.
صاحب الدعوة :
زدنا بالله عليك يا جحشنا العزيز من غنائك المطرب المهيج، فعدل الجحش عوده ثالثة وتمتم بعض الأشعار، ثم غنى أبيات جمال آخر في بعض جواري الملوك المناذرة:
ولقد دخلت على فتاة
الخدر في اليوم المطير
فدفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
فلثمتها فتنفست
كتنفس الظبي البهير
أحد الحمير :
أما والأسد العظيم فهذا لا يحتمل. تريد منا آه يا جحش كمان من دفعتها فتدافعت ولثمتها فتنفست، كمان كمان وأنت الآمر المطاع، أما الجحش فلم يسمع تضرعات الحمار، بل أتبع الأبيات لحنا من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وغنى بيتين رقيقين لأحد جمالي الدولة الأموية:
ألا يا ظبية البلد
براني طول ذا الكمد
فردي يا معذبتي
فؤادي أو خذي جسدي
أحد البغال :
هذا يا جحشنا المطرب لمن أبدع الألحان وأعذبها، فقد أجدت في غنائك، وأحدثت طربا عظيما في نفوس أنسبائك، فاسمحوا لي يا أسيادي إذن أن أشرب نخب من إذا هز حلقه هز القلوب، أو حرك عنقه أزال الكروب، وأطلب إليكم أن تشاركوني بهذا النخب الواجب علينا شربه بعد طلب الإذن من صاحب الدعوة. إني أشرب وإياكم سر جحشنا المغني المطرب الذي لو وجد في دار ذاك الآدمي الذي يدعى الرشيد لما سمعنا بإبراهيم العظيم وإسحاق الفريد.
فلثمتها فتنفست
كتنفس الظبي البهير.
فوقف جميع الحاضرين ورفعوا كئوسهم إلى فوق رءوسهم، وشربوا نخب من أطربهم بألحانه العذبة الرقيقة، ولكن بين كل هؤلاء الحمير والبغال والجياد الواقفة كان يرى الناظر حيوانا صغيرا جالسا على برميله يتبسم ابتسامة الاستخفاف والتهكم، وهو الثعلب الذي دعي إلى الجلسة؛ لأنه صحافي ليذيع أعمال المجمع العظيم، ولكنه كبقية الثعالب المتفكرة أبى أن يشارك الجمع بنخب من إذا هز حلقه اهتزت له القلوب. وعمله هذا الشاذ أوقع الاستغراب والدهشة، لا بل الغيظ في قلوب بقية الحيوانات الذين أخذوا يتساءلون عن هذا العاصي، وعن سبب تصرفه السيئ، الخارج عن دائرة الأدب والاعتدال، والبعض من المتحمسين الحادي الطبع من الحمير لم يستطيعوا إخفاء ما داخلهم من الحنق والغضب، فأخذوا يتساءلون بصوت مرتفع: «من هو هذا الصعلوك؟» «من أين أتى؟» «ماذا يقصد هذا الثعلب الحقير بتصرفه المعوج؟» «أما والأسد فقد شتمنا، وشتم المغني أيضا»، «هل هو جلمود؟» «ألا يشعر بقوة الجمال؟» «ألا يعرف قيمة الصوت الرخيم؟» ... إلخ.
أحد البغال :
اطردوه من الإسطبل.
أحد الجياد :
نعم اطردوه. (فوقف إذ ذاك الثعلب على برميله، ونظر إلى الجمع نظرة المستعطف، وأنشدهم قول ذلك الشاعر العظيم الذي أراد من الزمن أن يبلغه ما ليس يبلغه في نفسه الزمن، قال):
يا ساقيي أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا يحركني
هذا المدام ولا هذي الأغاريد
أحد البغال :
أنت بالحق صخرة، اصمت، اصمت إذن.
أحد الحمير :
اطردوه اطردوه لا تدعوه يتكلم.
الثعلب :
يا أسيادي الأفاضل، لو أذنتم لي بكلمتين لجاوبتكم على سؤالاتكم، وبينت لكم أسباب تصرفي الذي لم يصادف استحسانكم.
الجميع :
اصمت، اسكت، انزل عن برميلك.
الثعلب :
ألا يحق لي أن أتكلم كبقية الحاضرين وأنا مدعو لهذه الجلسة، هل يرضى صاحب الدعوة الفاضل عن إسكاتي وطردي؟ هل يرضى عن إهانة ضيوفه في إسطبله؟ هل من قوانين الاجتماعات وقواعد الأدب أن تقذفوا نحوي كل كلمة باطلة قبل أن تعرفوا غايتي وقصدي (هس هس هس اصمت فليسقط الثعلب اللعين) أعيروني أذنا مصغية، ولا تقلدوا الحيات بأصواتكم رشقتموني بسؤالات مهينة وقبلتها بقلب متواضع (هس هس) وأجاوبكم عليها دون أن أمس كرامتكم «من أنا؟» (هس هس)، «من أين أتيت؟» (هس هس)، «ماذا أقصد بتصرفي؟» اسمعوا وبعد ذلك اصفروا وهسهسوا، أنا يا أسيادي صحافي (هس هس بش بش) أجاهد وإياكم في سبيل الحق والحرية، أنا حيوان جئت من بين الحيوانات الضعيفة التي تنظر إليكم شزرا، وتكتم لكم الشر والعدوان، رسالتي في هذا العالم هي أن أوفق بينهم وبينكم، وغايتي القصوى أن أهذب الجهلاء في مملكتنا كي يقدروا تعاليمكم حق قدرها، وأن أنبهكم إلى هذه القوة العظيمة الكامنة الآن في بطن الجهل، فالاستبداد من جهة والجهل من جهة أخرى يولدان اضطرابا مستمرا، وقتالا متواصلا، أنا يا أسيادي ممثل التعاسة والاضطهاد، جئت لأشارككم في هذا المؤتمر؛ لعله يكون فيه فائدة لعالمنا، ولعله يرفع عن نفوسنا المضغوطة أثقال الظلم والجهل، ويتم فيه قتل التعصب الذي ينفث بيننا سم الشقاق والخصام، ولتكسر القيود التي تكبلت بها أقلامنا، قد جئت لأشارك في البحث عن أمر جليل، ولم أجئ لأسمع الغناء، وأشرب أسرار المغنين:
غير مجد في مذهبي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وخصوصا في مثل هذا الوقت، ففي ساعات الفراغ أسر بصوت رخيم وعود جميل، ولست كما تظنون جلمودا غير أني أعجب كيف أن أمرا طفيفا يحولكم عن مقصدكم، ويصير مؤتمركم هذا قهوة مصرية كيف أن صوت جحش ينسيكم نفوسكم، ويسلبكم عقولكم (قف قف هس هس)، لا تظنوا أني أنكر على الجحش فضله، لا والحق فإني أطرب بغنائه في غير هذا المقام، وأشرب نخبه في غير هذا الموقف فضلا عن أن الأشعار التي أنشدها فيها من التغزل وبذيء الكلام ما لا يليق بحضراتكم استماعه، ماذا يقول عنكم جمهور الحيوانات التي ترشدونها وتنهونها عما أنتم فاعلون الآن؟ ماذا تركتم لأولئك الحيوانات الذين يصلون ليلهم بنهارهم، منغمسين في التهتك، ومسترسلين في اللذات؟ وكيف نوفق بين تقواكم المعهودة، وتقشفكم الغير المحدود ، وبين أعمالكم هذه؟ كيف تسرون وتفرحون بغناء فيه هذه العبارات القبيحة، والتلميحات السفيهة: «ولقد دخلت على الفتاة، فدفعتها فتدافعت فلثمتها فتنفست»، يا أسيادي الأفاضل، عودوا إلى حكمتكم التي تركتموها في هذه الدقيقة، تأملوا في ما أنتم فاعلون، اذكروا أننا اجتمعنا لنتخابر بأمور خطيرة، فيها صيانة حياتنا، وحفظ مقامنا كما ذكر في رقعة الدعوة. لا تظنوا أنني أخالف لكي أعرف، كلا أنا أخالف الآن لأني لم أنس الغاية التي من أجلها اجتمعنا، فاعذروني إن كنت شديد اللهجة، إنما ذلك نتيجة غيرتي الحاضرة على أبناء جنسي، ولا أقول ذلك لأتهمكم ضمنا بالفتور وعدم الاكتراث، ولكن لما رأيتكم غارقين في بحور اللذات، ساهين لاهين خفت على مشروعكم من الانقلاب والفساد، فجئت منبها يا أسيادي لا منذرا ومذكرا لا متهددا.
وكان لكلام الثعلب في النهاية وقع حسن في صدور البغال والجياد، فندموا كلهم على ما فعلوا، وانقلبوا ببرهة من أعداء إلى أصدقاء للثعلب الذي كان كلامه قاضيا على السكر، وهوسة الغناء، فرماهم في لجج الهواجس والتفكر، حتى إن أكثرهم أفاقوا من غفلتهم، وأخذوا يبدون علائم الاستحسان، فالثعلب الذي ابتدأ يتكلم بين هسهسة المستهزئين فاز فوزا مبينا، وختم خطابه بين لبيط الاستحسان.
أحد الحمير :
أما والحق إن في كلامه زبدة.
أحد البغال :
إنه لعين الحق، فقد جئنا لنعقد مجلس إصلاح، وليس مجلس غناء.
أحد الجياد :
فليعش الثعلب إنه العاقل الوحيد فينا، يجب أن يترأس الجلسة، واجتمع حوله إذ ذاك عدد غفير من الحاضرين، وأخذوا يهنئونه على جرأته، ويثنون على أدبه، ويستغفرون منه لإهانتهم إياه قبل أن عرفوا عنه شيئا. (وبينما هم يهنئون الثعلب وقف أحد الحمير الشقر السكارى فهز أذنيه المنتصبتين، ولبط لبيطا قويا حتى استلفت إليه أنظار الحاضرين، ثم رفع كاس الجعة فوق رأسه، وقال):
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة (هك)
ترى الدهر عبدا (هك) خاضعا ولك الحكم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا (هك)
ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم (هك)
ما بعرف يا إخواني منين جوني هالبيتين (هك)، ولكن منين ما كانوا مليح قد عبروا عن فكري (هك). إيش بيهمني أنا إن صار إصلاح (هك)، وإن ما صار، وإن تم اتحاد، وإن ما تم بدي أسمع غنا الجحش، وأنبسط (هك)، بدي آكل وأشرب وأفرح بركي بكره موت. (هك) فارتفعت عند هذا الكلام الضوضاء والهسهسة، وجاء من أربع زوايا الإسطبل صوت واحد يطلب إسقاط هذا الحمار السكران: اسكت واخرج من الإسطبل.
الحمار :
إوعا تصدقوا إني (هك) بسكت إلا ما يفتح تمه الجحش (هك)، وإوعا تصدقوا إني بخرج من الإسطبل إلا أنا وإياه (هك) أنتو كلكم مجانين، والثعلب (هك) اللي حكي بالأخير أكل دجاج كثير (هك)، أنا حيوان كلكم تعرفونني، حيوان عندي هلق، صوت طيب، وعود وكبايه، وما ناقصني غير (هك) ... ها ها ها، فلثمتها «فتنفست موش» هيك دخلك.
الجميع (بصوت حي) :
أخرجوه من الإسطبل، أخرجوه حالا، سفيه متهتك سكران أسقطوه عن البرميل! أخرجوه من الإسطبل.
فهجم إذ ذاك عليه أربعة من البغال الكبار، اثنان منهم قبضا على رجليه وذنبه، واثنان أمسكاه برأسه، وحملوه كلهم إلى باب الإسطبل، وهو يقول: تذكروا أنكم شحطوني (هك) من جمعيتكم، فلا تعتبوا علي إذا صرت جمل، ولفيت لفه خضرا ضراعين (هك)، بطلت كون (هك) حمار خليلكم هالفروه (هك) لا إله إلا الله، وبكره بتسمعوا (هك) عني في جرائد إسطنبول (هك)، هونيك بغني وبرقص، وبنبسط بين الحريم (هك)، وأجري بضهر الفلك (هلك)، أنتو صلحوا العالم، وخلصوا نفوس البشر (هك)، وأنا أجري (هك)، وكان قد وصل إلى الباب فرماه البغال خارجا، وأغلقوا باب الإسطبل، وأقفلوه كي لا يحاول الدخول ثانية.
الفصل الثالث
المحالفة
وبعد أن طرد الحمار السكران من الجلسة، وساد النظام انتصب الحصان صاحب الدعوة، وطفق يخطب في ضيوفه قائلا:
بسرور لا يحد أرحب بجمعيتي البغال والحمير اللتين قاومتانا في الماضي، ومن صميم الفؤاد أشكر لكم جميعا تلبيتكم الدعوة، وتشريفكم هذا الإسطبل، فقد جعلتموني سعيدا جدا؛ أولا لأنكم من زمن طويل لم تجتمعوا كلكم تحت سقف واحد. وثانيا لأن آمالي عظيمة في نتائج اجتماعنا الحسنة، فحضوركم يشير إلى الخير، وملامح وجوهكم المنيرة تنبئنا بالسلام. خذوني بحلمكم قليلا لأبسط لديكم بعض الكلام بشأن هذا المؤتمر مبينا بوجيز العبارة الغاية التي من أجلها دعيتم إليه، واعلموا يا أسيادي أن الحاجة وليس النظرايات الفلسفية دعتني إلى عملي هذا الخطير، لما رأيت جمعيتنا في تقهقر، ولما عاينت تقدم أعدائنا السريع هزني عامل الغيرة على صالحنا المشترك، وباشرت بالمشروع الذي جعلنا حجر زاويته مؤتمرنا هذا السلمي، نعم إن الحاجة تدفعنا والضرورة تنذرنا، والصالح العمومي يحركنا إلى إتمام أمرين خطيرين، ولو على الرغم منا، ألا وهما الاتفاق والاتحاد.
قد مضى على شقاقنا مئات من السنين، ونحن لم نزرع في خلالها إلا بذور البغض والشحناء والإحن، فكانت جمعيتنا تعلم أعضاءها كي يبغضوا أقاربنا الحمير، وجمعية هؤلاء تحث أعضاءها على القيام ضد إخواننا البغال، وكلنا أسيادي فروع من أصل واحد قد شتمنا بعضنا في الماضي قد اضطهدنا بعضنا، وضيقنا على نفوسنا، وقتلنا الألوف من القردة والثعالب والبقر والجمال، وغيرهم من الحيوانات التي خلقها الله كما خلقنا وجعلنا كلنا متساوين. قد فرقنا الابن عن والده، والأخ عن أخيه، والابنة عن أمها، والمرأة عن زوجها، وأضرمنا نيران الفتن في الهيئة الاجتماعية، ولماذا هذا كله ألتأييد سلطتنا التي هي واحدة؟ ألينتصر بعضنا على بعض بقتل أنفسنا؟ فما هو يا ترى سبب شقاقنا؟ ما الذي فرق بيننا، وجعلنا أعداء الداء؟ إني أخجل حينما أتأمل بهذا السبب الطفيف الذي نجمت عنه هذه الانشقاقات القتالة، أليس سبب انشقاقنا نحن الخيل عن الجمعية الأصلية قضية أحد الحمير الكبار الذي أراد أن يقترن بدابة في الدير، ومنعه عن ذلك نائب الأسد، فقامت قيامة الحمار الفصيح على النائب العظيم.
فرماه البغال خارجا وأغلقوا الباب.
وكان ما كان من الانقلاب الذي ندعوه إصلاحا، فهل هذه القضية الصغيرة تبقينا متشتتين عن بعضنا مدى الزمان؟ هل يجب أن نضحي حياتنا وحياة الملايين من إخواننا إكراما لمخلوقين تخاصما في الأجيال المتوسطة لغايات شخصية؟ أمن أجل هذا نتقاتل؟ أمن أجل هذا نشتغل بالسر ضد بعضنا، ونبتعد عن الوئام الذي فيه حياتنا؟ أمن أجل أفراد لا نعرفهم إلا من التاريخ نكيد لمن نعرفهم المكائد، ونسعى في إسقاط بعضنا البعض. قد مضى ما مضى، قد ارتكب أجدادنا جرائم عديدة، عار علينا أن نكررها نحن في هذا الجيل، نعم إني أشعر بهذه الذنوب التي ناءت علي كلها، فصرت أتأوه من ثقلها، قد اتصلت خطيئة أجدادنا بنا، فيجب أن نطهر أنفسنا بالقيام بهذا المشروع الذي فيه خير الحيوانية عموما، ألا تعلمون أن شقاقنا هذا هو سبب سعادة أعدائنا، وتقدمهم، ألا تعلمون أن قوة العدو - وهو عدونا كلنا - مؤلفة من ضعفنا، وتقدمه مستمد من تقهقرنا، وتقهقرنا ناجم عن انقسامنا، وانقسامنا ناشئ عن جهلنا، وجهلنا يثبته فينا غرضنا الأعمى، ومحبتنا الذاتية؟ فلنقتل إذن أغراضنا العمياء، فلنمت ولو إلى حين محبتنا الذاتية! أين الحكمة التي هبطت علينا من السماء، قل لي بربك أيها الحمار المحترم ما هي قوتنا الآن، وأين تلك السلطة الممتدة، والعز الشامخ؟ أين تلك الخيرات الغزيرة التي كانت تطرح على أقدامنا، قد زالت كلها أو أوشكت أن تزول، ونحن نحن الجانون على أنفسنا.
كلكم تعلمون أننا الآن في احتياج كلي إلى التكاتف والاتحاد؛ فالكهربائية عدوتنا اللدودة قد ظهرت في هذه الأيام، والبخار والهواء المضغوط جعلا خدماتنا للهيئة الاجتماعية أمورا ثانوية، فكم من أعضاء جمعياتنا يخدمون إله البطالة الآن، ولا يستطيعون أن يجدوا شغلا أنفع يشغلهم، فالعالم قادر على أن يستغني عنا إلا إذا استبدلنا الضعف بالقوة، وجمعنا كلمتنا، واستبدينا في أمورنا عندئذ نعامل العالم كله بالمثل، ونعلن استقلالنا فيعرف الناس إذ ذاك أن خدماتنا للهيئة الاجتماعية، ولو كانت أغلى من الكهربائية والبخار فهي أنفع وأحسن؛ لأنها أقل خطرا، وأكثر ثباتا، ويستطيع أن يتمتع بها كل مخلوق غنيا كان أم فقيرا، ضعيفا أم قويا، حقيرا أم عظيما، أما الآن فكم هي الآفات التي تكتنفنا، وتتهدد وجودنا؟ أمعنوا النظر في الترقي الحاضر - الترقي الشيطاني القتال - تجدوا أن باب الارتزاق في المدن قد سد في وجوهنا، فالأرتال تجرها الكهربائية، والعربات يجرها البخار، والأحمال الثقيلة ترفع وتنقل بالاسم بقوتنا، وبالفعل بقوتي البخار والكهربائية. وفي الشهر الماضي قامت شركة كبيرة ضد الخيل التي كانت تجر التراموي، وأخرجت من خدمتها ألف حصان قوي، وقامت شركة أخرى في إسبانيا مؤخرا وقتلت الوفا من الحمير التي أفسدها الخمول والكسل، والبغال في روسيا في انحطاط عظيم، ومع أن جمعية الحمير معززة في إسبانيا فهي لا تقوى على أعدائها الجبابرة، والحكومة الإفرنسية قرأت للعالم في هذا الجيل صفحة من تاريخها في أواخر الجيل الثامن عشر، وبضربة واحدة استأصلت الحمير، وأبادت جمعياتهم، أليست هذه المقاومة كلها نتيجة الاختراعات الجديدة، والقوات الكهربائية الحديثة؟ قلت: إن أبواب الارتزاق قد سدت أمامنا في المدن، فهل تظنون أن حالتنا في القرى أحسن؟ أليس الفلاح مستغنيا عنا؟ ألا يحرث أرضه بالآلات الميكانية والبخارية التي ظهرت في أواخر هذا الجيل؟ الزراعة بالآلات، والحصاد بالآلات، والخيل على خالقها؟ زمان مدلهم، مستقبل مكفهر، وحياة مرة ذليلة، قاتل الله الأوتوموبيل وأحرق في الجحيم مخترعه، فهذه الآلة وحدها رمت في عالم البطالة الغير المتحرك الوفا من الجياد القوية، وقد سقطت أسعارها الآن، وكثر عددها، فصار يقتنيها كل إنسان فقيرا كان أم غنيا. هذه حقائق تؤلم وتحزن، وإذا دام هذا الحال يضمحل لا شك جنسنا، وتتلاشى جمعياتنا، ألسنا نحن الذين سلط الله الإنسان علينا فقلبنا الآية بمهارتنا، وتسلطنا عليه في القرون الغابرة؛ قرون الحصان والحمار والبغل، قرون لم تبرق فيها الكهربائية، ولم يعتم بأفقها البخار.
قد تمتعتم بلذة السلطة، وذقتم حلاوة العز والاستبداد، فكنتم تجرون الشعب في العربات المقدسة العظيمة إلى حيث شئتم، وكان إذ ذاك الله الحوذي، كنتم إذا نقمتم على الجمال تشنون عليهم الغارة، فتزحفون على معاقلهم بألوف من الحمير والبغال، يقودهم حمار قصير أعمى يمتاز عن إخوانه بشهنقته الفصيحة، كان إذ ذاك الله الحوذي، أما الآن فلا عربة ولا حوذي، فقد هجرنا الهناء، وحرقتنا الكهربائية بشرارها. وإذا كان قد بقي بعضنا في خدمتنا القديمة، فلا يعامل قط كما كنا نعامل في الماضي، فإذا وقفنا أمام العربة، وشمسنا أو كبونا أو حرنا هز لنا الحوذي الظالم سوطه، هذه هي نتيجة ضعفنا، فالناس ينظرون إلينا، ويجدوننا متخاصمين، فيزدرون بنا ويذلوننا، وفي النهاية يطردوننا من بيوتهم وإسطبلاتهم، فتأملوا يا أسيادي في هذه الحالة، يوجد في جمعيتنا الآن خمسة آلاف حصان بطالين طردوا من مراكزهم؛ لأن أصحابهم يفضلون خيل الكهربائية على خيل الله، فمن أين يأكل هؤلاء المساكين؟ فلو لم تكن الحروب قائمة أبدا على قدم وساق بين تابعي الأسد والبرابرة لكانوا يموتون جوعا، فيفسد الهواء من نتانتهم، فقد بعثنا في الأسبوع الماضي ألفي حصان إلى الصين، وألفي حصان إلى الترانسفال فتستخدمهم هنالك الدول البشرية لغاياتها الدنيئة، وهم لا يعبئون بذلك؛ لأنهم يختالون مضطرين، ويداهنون مكرهين، من منا يموت شهيد مبدئه في هذه الأيام؟ فمن كان بأشد الحاجة إلى المال يخدم من يستأجره بأجرة كبيرة، ونحن لا نلومهم بل يجب أن نلوم أنفسنا؛ لأننا غافلون عن مصلحتنا، لاهون بالانقسام، تائهون في فيافي الأوهام ومهامه التخيلات، وها أنا الآن ألقي عليكم سؤالا صغيرا: هل تريدون أن تعيدوا سلطتكم، وتعززوا أنفسكم؟ هل لكم أقل مطمع في هذه الحياة؟ فإذا كان ذلك فعليكم بالاتحاد، عليكم بالتحالف، ولننس اختلافاتنا الصغيرة، ولنذكر أننا كلنا من طائفة واحدة، ومن نوع حيواني واحد، جمعياتنا مشتقة بعضها من البعض، والمرجع كله إلى أصل واحد نتبع معلما واحدا نعبده، ونحبه فوق كل شيء، ولا يهم إن أحب الحمير الأم أكثر من الابن، أو الأب أكثر من الابن، فلا يجب أن نختلف ونتناقش على مسائل وهمية لا دخل لها في شرائعنا، فهل قال لنا الأسد - له المجد - أن نعبده بطريقة مخصوصة؟ هل أمرنا بأن نتخاصم بسبب دمه وجسده؟ هل يهمه إن عبدناه رأسا أم بواسطة الصور والتماثيل؟ نعم قد حثنا لا بل قد أمرنا بمحبة بعضنا بعضا، حتى إنه قال: حبوا أعداءكم، فلماذا إذن لا نعمل بقوله هذا، ونهمل ما لم يقل لنا عنه شيئا. نعم يا أسيادي قد تفكرت كثيرا في هذه الاختلافات، ووجدت بعد الدرس المتواصل أن الأسد لم يقل لنا عنها في كتابه شيئا، ولذلك تحققت أنه لا يريدها، وأظن أنه يتألم إذا رآنا نقاتل بعضنا بعضا، فالاختلافات هذه لم يولدها إلا مطامع من تقدمنا من القواد، إنها والحق يقال بنت تلك المجامع الشريرة التي عقدها أجدادنا في الأجيال الأولى؛ ليقفوا كما كانوا يزعمون على تفسير حقيقي لأقوال الأسد التي لا يوجد في كتب الفلسفة والحكمة أبسط منها، وكلكم لا شك تعلمون ما كان لهذه المجامع من التأثير السيئ على العالم عموما وعلى جمعيتنا خصوصا.
تعلمنا شريعتنا نكران الذات، ونحن لا ننكر إلا قريبنا، تعلمنا محبة العدو ونحن لا نحب إلا أنفسنا، تعلمنا التقشف والابتعاد عن حطام الدنيا ونحن أكثر الحيوانات تمسكا بها، ثم نفسر آيات الكتاب بصورة تساعدنا على مطامعنا، فنحن نعلم حق العلم أن أجدادنا ومعلمي الجمعية الأولين أخطئوا في مجامهم، وقد ارتكبوا جرائم فظيعة في تفسير شيء واضح، فأي مجمع عقد في الأجيال الأولى، ولم يحدث فيه الضرب والقتل والذبح. إن تلك المجامع لم تكن إلا مجامع مهاترة، وسباب وتعيير، فيها كانت تدور المناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية المبهمة التي لا يفهمها عاقل، اسمعوا ما قاله أحد الحمير العلماء عن هذه المجامع الباطلة: «وأراني مضطرا إلى قول الحق عن هذه المجامع، فأنا أتشاءم من كل مجمع أحبار؛ لأنني لم أر حتى الآن نتيجة حسنة لواحد منها، ولم أحضر مجمعا واحدا كانت منافعه أكثر من أضراره، فعاقدو المجامع عوضا عن أن يقمعوا زعماء الشر كانوا يزيدونهم شرا وتمردا، فالمناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية الفارغة كانت سائدة في كل اجتماعاتهم». وهذا كلام أحد أعضاء الجمعية الذي لا ريب في صحته؛ إذ لا نقدر أن نتهمه بالتعصب والتحزب لغايات ذاتية، ومما يدلنا على ضعف أولئك الرؤساء وخمولهم ما نقرؤه في الملحق لوقائع المجمع الأول العظيم، جاء فيه أن أعضاء المجلس لما لم يستطيعوا أن يميزوا الكتب الحقيقية من الكتب الكاذبة وضعوها جميعها على طاولة وخلطوها، ثم أخذوا يتوسلون إلى الروح القدس طالبين أن تسقط الكتب الكاذبة على الأرض، وتبقى الصحيحة على الطاولة بأعجوبة، وهكذا صار كما يزعمون، لا تظنوا أن إيماني في الروح القدس فاتر، كلا غير أن الله - عز وجل - أعطانا عقولا نستنير بها، ونميز بين الحقيقة والوهم.
فهل تريدون أن يقال عن مجمعنا هذا ما قاله ذاك الحمار عن المجامع القديمة، كان أجدادنا يجتمعون ليقاوم بعضهم بعضا، وينتقموا من الذين كانوا يظنونهم منشقين، وقد فاتهم - برد الله ثراهم - أن في مقاومة المنشقين مقاومة لأنفسهم، أما نحن فنجتمع الآن لنقاوم قوات الشر الحقيقية؛ القوات التي ظهرت نتائجها، وأثرت كثيرا في مصالحنا، فصرنا نشعر بالتقهقر، ونحس بالسقوط، نعم إن البرهان على تقدم أعدائنا برهان حسي لا يجهله إلا كل متغفل خامل، ولا حاجة للقول إن اجتماعنا هذا على جانب عظيم من الأهمية، وسيدون التاريخ أعمالنا بماء الذهب إن شاء الله. وإذا كانت حيوانات هذه الجيل لا تقدر مشروعنا حق قدره، فهذا لا يحولنا عن القيام به تاركين الحكم لذريتنا. العالم كله يتقدم وليس من الواجب أن نبقى نحن متشبثين بأغلاط أجدادنا الغير المقصودة؛ فهم أورثونا الشقاق والخصام، ونحن نورث أبناءنا المحبة والوئام، أضاع أولئك المساكين أوقاتهم في المناقشة الفارغة، ونحن نصرف هممنا إلى القيام بالمشاريع المفيدة، فكيف نستطيع أن نرهب أعداءنا ونسود عليهم، إذا كان لا يمكننا أن نجمع كلمتنا، ونرتبط مع بعضنا برابطة الشريعة والجنس. قد أخطأ أجدادنا، فهل من الواجب علينا أن نقتفي أثرهم، ونرتكب الجرائم التي ارتكبوها، فلنبتعد عن المناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية، ولننظر في أمر واحد فقط، هل يجدينا انقسامنا على أنفسنا نفعا؟ هل نستطيع الوقوف أمام القوات الكهربائية والبخارية ونحن منقسمون، ألا نسحقها سحقا إذا جمعنا قوتنا المالية والعلمية، وضممنا قدرتنا، وجعلنا من جمعياتنا كلها جمعية واحدة عمومية؟ اطردوا من عقولكم كل التعصب والأميال الدنيئة، واذكروا أنكم كلكم من تبعة الأسد العظيم، وأبناء الإله الواحد القدير، فلا حمار ولا بغل ولا جواد ولا كدبش بيننا، بل كلنا حيوانات نتحد بالمذهب، ونشترك بالجنسية، ونرفع رءوسنا تحت سماء واحدة، ويجري في عروقنا الدم الذي يجري في عروق إخواننا، وتشرق على مراعينا شمس واحدة، ما بالنا إذن لا ننظر إلى سوء حالتنا، ونعمل على تحسينها، نحن كلنا نعبد إلها واحدا، ونتنفس هواء واحدا، فلماذا إذن لا نتخذ الوسائط الفعالة لملافاة أسباب سقوطنا.
كونوا متيقظين، واصرفوا عنكم الضربة قبل أن تنزل عليكم «درهم وقاية أفضل من قنطار دواء»، إن القوات الكهربائية تضر بصالحنا، فيجب علينا أن نحطمها تحطيما، يجب أن نبقيها في قلب الأرض، وكيف يتسنى لنا إتمام ذلك، بالاتحاد! إن التمدن الحديث يحفر تحت قصورنا الشائقة، ولا بد أن تصبح رءوسنا يوما بين الأنقاض إذا لم نوقفه عن متابعة عمله، ولا نستطيع قتل التمدن الحديث إلا بإيجاد تمدن جديد مناقض له، ولا نقدر أن ننشئ هذا التمدن إلا بجمع كلمتنا، إن النجاح المادي الذي امتاز به هذا الجيل الشرير قائم بسلبنا كل خيراتنا، ووضعها بيد الأفراد القليلين، إذن يجب علينا إيقاف هذا النجاح وقتله في طريقه، وذلك لا يتيسر لنا إلا إذا جعلنا جمعياتنا هذه جمعية واحدة يترأسها حيوان واحد، هذه خلاصة كلامي أكررها بعبارة بسيطة حتى لا يحصل سوء تفاهم، نحن ضد القوات الكهربائية، والبخارية، والهواء المضغوط معا.
نحن ضد التمدن الحديث بكل مظاهره.
الحصان يخطب: نحن ضد التمدن الحديث.
نحن ضد الاختراعات الحديثة، والمبادئ الجديدة الخبيثة.
نحن ضد النجاح المادي الذي مد يده إلى ذخائرنا، وسلبنا كل نفيس عندنا، وأنتم تعلمون ما لعدونا من القوة ومنعة الجانب، ولكن لا بد من إبادته، ولذة النصر تزداد كلما ازدادت قوة العدو، ولكن كيف ننتصر بالاتحاد، بالاتحاد، بالاتحاد، بالاتحاد القوة، وبالانقسام الضعف، بالاتحاد التقدم والنجاح، وبالانقسام التقهقر والانحطاط، بالاتحاد المجد والعلى، والانقسام الذل والخمول، بالاتحاد السؤدد والعز والسلطة، وبالانقسام الحقاة والعبودية والهوان، بالاتحاد العمل المفيد، وبالانقسام العطلة المضرة، بالاتحاد الحياة، وبالانقسام الموت، بالاتحاد نبقى سائدين، ونستظهر على العدو، وبالانقسام تفقد سلطتنا، وتضمحل جمعيتنا، وتخلفها شياطين الشر والرذيلة، فاختاروا إذا أحد الأمرين؛ إما أن ننقسم ونموت، وإما أن نتحد ونحيا.
فصرخ الجميع بصوت واحد «الاتحاد والحياة»، «الاتحاد والمحبة»، وأخذوا يلبطون بأرجلهم دلالة الاستحسان والإعجاب بما جاء به ذلك البحر الفهامة من بلاغة المعاني، وفصاحة الكلام، وسداد البرهان، وقوة الحجة، ثم قام البغل وشكر أولا صاحب الدعوة، وأثنى عليه كثيرا، وأبدى شيئا كثيرا من التبجيل والمجاملة، وهما من أهم أدبيات معشر الحيوانات، ثم قال: «ما كنت أحسب أن الحصان المحترم يدعونا إلى إسطبله العامر ليحثنا على الاتحاد، ويندد بالشقاق والعناد، ما كنت أحسب أن هذا الفاضل يبدأ بمشروع شريف كهذا، ويكون أول من ضحى لأجله حقوقه ومصلحته، ما كنت أحسب أن بعد هذا الفراق الطويل (وكانت الدموع تتساقط على وجنتيه، فأخذ منديله، ومسح عينيه، وتابع كلامه بصوت منخفض) الفراق الطويل الذي ولد في قلوبنا الضغينة والبغضاء والقسوة، يقوم حصان فاضل عالم بدعوة جديدة، لربما حسبها البعض شذوذا، ورماها آخرون بباطل الكلام، ولكن سواء عدت شذوذا أو لم تعد فهي أشرف وأجل دعوة يقوم بها الحيوانات بعد أن حل فيهم الانشقاق، ومن منا لا يريد أن يتمتع بالعز الذي حصل عليه أجدادنا وأسلافنا، من منا لا يريد أن يسترد ذاك المجد الغابر الذي مرت عليه دواليب الكهربائية في هذا الجيل، فكادت تحطمه تحطيما، من منا لا يريد أن يدخل هيكل ذاك السلطان العظيم الذي سود وجهه دخان المراكب البخارية.
تعلمون - رعاكم الله - أن البغال في البلاد الشمالية التي أنا منها لا يزالون على شيء قليل من السؤدد والعز، غير أن هذا القليل سيزول قريبا، وتمسي البغال والخيل في حالة واحدة تشملها التعاسة والذل والهوان، إن جمعيتنا البغلية يتناقص عدد أعضائها يوما فيوما؛ وذلك لأن الحالة السائدة على الخيل في هذه البلاد تحكم الآن بنوع ما على البغال في بلادنا، فالتجارة المتبادلة بين الأمتين تمهد طرق الترقي الحديث، والاختراعات العلمية، والقوات الكهربائية أخذت تظهر الآن أمامنا، وصرنا نشعر بشيء من سوء تأثيرها علينا، ولو لم يكن لنا مستعمرات عديدة يلزمها للقيام بشئونها وتدبيرها بغال كثيرة لكانت جمعيتنا الآن في ظلمة الموت والنسيان، ولكن لا يزال الملك شاملنا بأنظاره، وحامينا بتاجه وسلطانه، ومع ذلك فنحن في رأيي لم نحسن قط تدبير الجمعية؛ إذ إننا لم نجتهد في أن نوسع نطاقها، ونزيد أعضاءها، بليتنا الكبرى هي من مجلسنا الذي أقمناه لتدبير شئون الجمعية، فهو - والحق يقال - مجلس جمع دببة الغباوة والطيش، والتعصب والظلم، وكل حكم يصدره هذا المجلس يضعف من قوتنا، ويجعلنا ممقوتين بين الناس والحيوانات، وقد سمعتم ولا شك بالحكم الأخير الذي أصدره حكم لا يدل على شيء من الحكمة والرزانة والسياسة، أريد به الحرم الذي ألقته جمعيتنا بواسطة مجلسها الموقر على أحد الثعالب الكبار الذين يبشرون في آخر هذا الزمان بمذهب كهربائي تصدع الرءوس صدمته، وهو ينتشر بسرعة البرق، ولكنه لا يختفي كالبرق عند ظهوره، وكلما شددنا على أصحاب هذا المبدأ الكهربائي اللعين كلما ازداد نوره، وكلما ضغطنا عليه ازداد ارتعاشنا، فالحرم الذي وضعه مجلسنا المستبد على هذا الثعلب الكبير بين قومه قد أضر بجامعتنا ضررا جسيما؛ لأنه جاء على عكس ما كنا نظن، وعوضا عن أن يبعد بقية الثعالب والحيوانات عن صاحب هذا المبدأ الخبيث زادهم تقربا إليه، نحن نسلحهم بطيشنا وهم يقاتلونا باتحادهم، ولا تظنوا أنني أهاب هذا الثعلب السفيه المجدف، وإني أنتقد مجلس التدبير خوفا من هذا الكافر، وتزلفا إليه، كلا فهو الحق أقوله صادعا، تكفينا المخاطر الخارجية، فما الحرم إلا ألعوبة يلهو بها المحارم، ويرفسها المحروم، لا أنكر أنه كان لهذه الألعوبة أيام هائلة في الأحقاب الغابرة، فكانت إذا وقعت على رأس أحد قتلته اجتماعيا وأدبيا، وقتلت معه كل من ينتمي إليه، أما الآن فالطابة كبيرة، غير أنها مملوءة هواء، والذي يراها في الجو ساقطة ينخدع ويهرب من تحتها، ولكن بعد أن تقع على الأرض يسكن روعه، ويضحك كثيرا، إن هذه الخزعبلات لمن الآثار القديمة التي يجب علينا تركها، فالأولى بنا أن نباشر أعمالا تضمن لنا الفوز، وتبقي سلطتنا محصنة بمعاقل الاتحاد والذوق السليم، إن العدو شديد البأس عظيم القوة، وإذا لم نقابله بقوة أعظم وأشد فعلى جمعياتنا البغلية والحمارية، ومجالسنا التدبيرية السلام، لا حاجة للقول إنني من رأي الحصان الفاضل في كل الأفكار التي أبداها، وبرهن عنها بفصاحة وبلاغة يعجز مثلي عن الإتيان بمثلها، غير أني أريد أن أسأله علنا سؤالا واحدا صغيرا وهو: أية طريقة يجب علينا اتخاذها لننتصر على القوات الكهربائية والبخارية، ولنسحق التمدن الحديث، ولنقتل النجاح المادي الذي أفقرنا وأغنى أعداءنا؟ لا شك في كون الاتحاد مقبولا ومعقولا، فأنا أضحي الحقوق التي تطلبونها إن اقتضى الأمر، وأعري نفسي من السلطة المعطاة لي إذا كانت هذه المحالفة تتم، ولكن كيف يجب أن نباشر العمل.
أنا أثني على قول الحصان الفاضل في أن المناقشات المنطقية والسفسطية، والجدالات اللاهوتية لا تفيدنا، ولا مجال لها في هذا المؤتمر، وأننا كلنا من تبعة الأسد له المجد، وتلك الاختلافات الصغيرة لم تولدها إلا مطامعنا، وبالحري مطامع أسلافنا، فهل يجب أن نخضع لأغلاط أسلافنا؟ هل يحكم الماضي المحدود على المستقبل الغير المحدود؟ هل يسود الجهل على العلم الحقيقي والظلام الكالح على النور الإلهي الساطع. نعم، إننا نعيش في جبل النور، وإذا كنا ذوي عزم وحزم ونشاط ودهاء، فلنستخدم نور الكهربائية لسحقها، أي لنقتل عدونا بسلاحه، إني أشعر من ذاتي بضعف وانحلال أظنهما ناجمين عن دخول التحسينات العصرية إلى بلادنا الشمالية، وكلما قربت منا هذه القوات سلبتنا شيئا من قوتنا بجاذبيتها، فلا يمضي ردح من الزمن، ونحن على هذه الحال حتى نرى أنفسنا في قبضتها وتحت دواليب العربات والأرتال، هذا إذا لم نتحد ونبذل الجهد في إبعادها عنا، وملاشاتها من العالم كله.
يجب أن تبقى مدفونة في طبقات الأرض كما قال حضرة الحصان المحترم، ولا أظن أن كلامي يزيد الفائدة بعد أن أفاض حضرته في الحديث، وبين لنا أضرار الشقاق ومنافع الاتحاد، فأنا بالنيابة عن نفسي، وبالأصالة عن إخواني وبغالي أقول صريحا: إننا مستعدون، ولا يحولنا أمر عن الاتحاد، وسنبذل في سبيله النفس والنفيس، ونضحي إن اقتضى الأمر كل عقائدنا وعوائدنا، ونظل متمسكين بما أمرنا به الأسد فقط، وكي لا أضيق صبركم، وأثقل على سمعكم أكثر من هذا أقتصر على ما تقدم، مكتفيا بالقليل من الكثير، راجيا من جميع الممثلين الحاضرين أن يعضدونا بنفوذهم، ويشاركونا بآرائهم، ويضعوا نصب أعينهم العبارة التي ختم بها من تقدمني خطابه الأنيق، ألا وهي: في الاتحاد الحياة، وفي الشقاق الممات، فلتكن الحكمة مشكاتنا في طريقنا الوعرة، وعلى الله وابنه - لهما المجد - الاتكال».
وكان لكلام البغل وقع حسن في نفوس سامعيه، وبالأخص البغال، فقد أخذ منهم التحمس كل مأخذ، وطفقوا يلبطون وينهقون، حتى إن أحدهم قام وشرب نخب البغل الذي تكلم، وأضاف إلى ما كان في جوفه من الخمرة كأسا أخرى، وأخذ يرقص من الطرب ويقول: الاتحاد بلا الخمرة هو كالسهاد الدائم كالحياة بدون رقاد، وكالنهار بدون الليل، فاشربوا ما زلتم صاحين، واستقبلوا الليل بالمدام، وما أحلى السكر تحت الظلام، إني أشرب نخب (وملأ كأسه ثانية، ثم نظر إلى الحاضرين وتبسم وقال): اشرب نخب الخمرة ذاتها، وشرب حتى برز بطنه، فأخذ يغني ويلبط ويرقص حتى اشمأز منه الصاحون من البغال والحمير، وطلبوا إخراجه، فقبض عليه حالا، وألحق بالحمار الذي طرد قبله، ثم وقف بعد ذلك رئيس الحمير وكبيرهم، وهم بالكلام فقاطعه الحصان قائلا: «اسمح لي أيها الحمار المحترم أن أجاوب البغل الفاضل على سؤاله، قال حضرته: إن الاتحاد أمر سهل، ولكن كيف يتم به نصرنا على العدو، فباختصار أقول: إن الخطة التي افتكرت بها هي أن نصدر بلاغا رسميا إلى كافة المؤمنين به، نأمرهم بألا يستخدموا القوات الكهربائية والبخارية، ولا يمسوها، ولا يقتربوا منها، ولا يعاملوا، ولا يضيفوا، ولا يصادقوا من كان له علاقة مع أصحابها، وبلاغنا هذا يعمل به متى جمعنا كلمتنا، وجعلنا أنفسنا تحت ظل سلطان واحد يكون له من القوة أعظمها، ومن السؤدد أمكنه، ومن المقام أرفعه، ومن البأس أشده، فيصدر هذا الحرم إذ ذاك، ويخيف المؤمنين ويرعبهم، فيطيعوا صاغرين خاضعين، أما في حالتنا الحاضرة فلا أحد يعتبر حرمنا، وكل الناس يزدرون بنا، ويسخرون بانقسامنا وخصوماتنا، حرم رسمي صادر عن مركز جمعية عمومية عظيمة، يلقي في صدور الحيوانات المؤمنين الرعبة، ويأتي بالمراد. هذه الخطة يجب علينا اتخاذها، وهذا هو الدهاء السياسي الذي يكفل لنا النصر، ويعيدنا إلى مركزنا السامي الذي سقطنا منه».
الفصل الرابع
المحالفة: تتمة
وبعد أن فرغ الحصان من كلامه، وتبوأ مركزه جاء الخدم بالقهوة والسكاير، ووزعوها على الحاضرين، فشربوا ودخنوا وهم معجبون بما ظهر في هذه الحفلة من الآراء السديدة، والشواعر الأخوية الجديدة المؤسسة كلها على الحب والاتفاق، فتهللوا وقالوا في أنفسهم: إن ملكوت السماوات قريب، وسنرثه بعد قليل على الأرض، وفي خلال هذه الفرصة قام رئيس الحمير ثانية وألقى خطابا فصيحا منسوجة بردته من الأقوال البخارية، والأمثال النباتية، والدرر الحيوانية، والتشبيهات الكيماوية، والأدلة العلمية، وكي لا يحرم القارئ من فائدته نثبته له بالحرف الواحد، وعلى فرض أنه لا يفيد فهو يكبر حجم القصة على الأقل، قال: «لم أسمع قط في زماني ما سمعته في هذا المؤتمر الزاهر من الحصان والبغل الفاضلين، ولم أحسب أنني أعيش إلى يوم فيه تتألف قلوب الرؤساء المتخاصمين، وتزول اختلافاتهم، وتتلاشى دفعة واحدة كل تحزباتهم وأغراضهم، كم هو جميل أن يعود الحصان والبغل إلى حضن أمهما الجمعية الأصلية الكلية الشاملة المقدسة، فهما لا شك يعرفان أن الأم تحن إليهما اشتياقا وترحب بهما بفرح وسرور عظيمين، فقد هجرتموها أيها الأفاضل مدة ليست بقليلة، وقد رميتم في قلبها حسرة الفراق، وولدتم في كبدها مرض السويداء، ولم تكتفوا بذلك بل شننتم عليها الغارة، ودسستم الدسائس، وكدتم المكائد، وهي لم تحنق عليكم قط، ولم تمت شواعرها اللطيفة، ففي أيام المصائب كانت تحبكم كما أحبتكم في أيام العز والسيادة، وقد قال نائب الأسد العظيم: «إنه يبغض الخطيئة، ويحب الخاطئ»، وقد مضى ما مضى، وعدنا الآن نطلب الاتحاد بعد الخصام، وجمع الكلمة بعد تفرقها، ورد العناصر بعد انحلالها إلى عنصر واحد، وهذا لا يتم إلا إذا كانت المحبة أساسه، فأنتم تعلمون بأن المحبة للجسم الاجتماعي هي كالأكسيجن للجسم الحيواني، فإذا وضعنا حيوانا في غرفة قذرة ليس في هوائها شيء من جوهر الأكسيجن، فلا يعيش هذا الحيوان إلا بضع ساعات، وإذا جعلنا اتحادنا قائما بذاته دون أن يدخله عنصر المحبة، فلا يبعد أن نخرج من هذا الإسطبل أعداء وليس أصدقاء، وكما أن الأكسيجن يدخله جوهر آخر وهو الأزوت (ولا تظنوا أني أريد بالأزوت ذاك الدواء العمومي الذي اختاره باراسلسوس الطبيب ليشفي جميع الأمراض)، بل هو الأزوت الذي يحترق في الجسم الحيواني، ويولد فيه الحرارة، فيجب أن يمتزج مع المحبة جوهر آخر وهو الغيرة، فالأكسيجن يحيينا، والأزوت يضرم في قلوبنا نار النشاط والغيرة والاجتهاد.
ولا يكفي أن تكون المحبة مع الغيرة أساس اتحادنا، بل يجب أن نضيف إليهما النزاهة والإخلاص، فهذه الأمور الجوهرية الثلاثة، أي: المحبة، والغيرة، والنزاهة هي المغذية لجسمنا الاجتماعي، والقائمة به، ومتى بنينا عليها اتحادنا فلا يقوى علينا وقتئذ الأشرار، وإذا اقتربوا منا يولون من خوفهم مدبرين خاسئين، ولا تظنوا أن سنة اتحادنا هذه محصورة في الهيئة الاجتماعية، فهي تشمل أيضا المملكة النباتية، يذكر من درس علم النبات أن المواد التي تجعل الأرض مخصبة، وتصير ترابها صالحا لإنماء النبات، وتغذيته هي تحاكي بخاصيتها العناصر الثلاثة التي قلنا إننا سنشيد عليها بنيان محالفتنا، وهذه المواد الضرورية لتغذية النبات هي الأزوت والحامض الفوسفوريك والبوتاسا، وإذا لم تتوفر المواد بحالات مخصوصة في الأرض لا ينمو عليها نبات مطلقا، وكما أن الأرض والنبات يفتقران دائما إلى هذه المواد الثلاث، فالجسم الاجتماعي يفتقر إلى الثلاث فضائل التي تحاكي بخاصيتها الأزوت، والحامض الفوسفوريك، والبوتاسا.
فالأزوت يضرم في الفؤاد نار الغيرة كما تقدم، ويحرق العدو في كبده، والفوسفور يسهل لنا طريق النزاهة، وينير قلوب المؤمنين، والبوتاسا تتمم وظيفتها، وتكون صلة أو جاذبا بين الاثنين، وتتحد مع الأكسيجن لتملأ لنا كأس المحبة، وكل يعلم أن سنة المحبة تفتح يديها لاقتبال جميع الحيوانات على اختلاف طبقاتهم باعتبار كونهم أولاد عائلة واحدة، مولودين من أب واحد رءوف رحيم، مفتدين من مخلص واحد، ومدعوين إلى إرث سرمدي واحد، فهذا هو حقا تعليم رفيق الأسد وإرشاده، كونوا جسدا واحدا، وروحا واحدة، كما دعيتم إلى رجاء دعوتكم الواحد، وللجميع رب واحد، وإيمان واحد، وإله واحد، وأب واحد هو فوق الجميع ، ومع الجميع، وفي جميعكم. هذا فيما اختص ببنيان الاتحاد وأساسه، أما وجوب الاتحاد وضرورته فهذا أمر آخر أرجو أن يكون لي قليل من الوقت لأبدي ما يعن لي في شأنه، ولا أرى مندوحة من أن أقول: إن جمعيتنا ليست في الضعة والانحطاط اللذين أحاطا بجمعيتي البغال والخيل، ولا تؤاخذوني إن أنا صرحت بأفكاري كيفما خطرت دون تكلف ومجاملة، فأنا أرى أيها الحصان والبغل المحترمان أنكما أشد احتياجا إلى الاتحاد منا، فنحن لا نزال راتعين في بحبوحة السؤدد، متبوئين عرش السلطة الغير المحدودة، ولا يزال لرئيسنا الشأن الأعلى، والحظوة الكبرى، والمجد الشامخ، والأمر المطلق المعزز؛ وذلك لأن القوات الكهربائية والبخارية لم تدهم حتى الآن سفح جبالنا الشامخة التي تتساقط عليها أمطار التقوى، ويكللها ثلج الطهارة والنقاوة، ولا ينبت في أراضيها الخصبة الصالحة إلا أشجار الخشوع التي تثمر أثمار الطاعة والخضوع، نعم لا يزال الحمير في مجدهم مارحين، ولا يخشى عليهم من السقوط والموت جوعا، كلا إن أراضي جبالنا الشامخة مخصبة غزيرة الخيرات والمراعي حول الإسطبلات العديدة، رحبة واسعة، لا أنكر أن بعض البغال الشموسة الحرونة تتعدى أحيانا على حقوقنا، وتحاول اهتضامها، وتزاحمنا على أعمال شتى، ولكن عددهم ليس بكثير لنرهبه، فنحن لا نحسب حسابا إلا للجمال الذين نخشى مزاحمتهم؛ فهم يحملون كل شيء، وكثيرا من كل شيء، وفي حالتهم الحاضرة يسلبوننا كثيرا من الأشغال التي تعود عليهم بالفوائد الجمة، فإن كنتم قد بليتم بالقوات الكهربائية والبخارية فنحن قد بلينا بالجمال الأقوياء الذين يفترون علينا دائما، ويهتضمون حقوقنا في كل مكان».
أحد البغال :
أصحيح أن بعض الثعالب قد خرجوا من عربتكم المقدسة، وأخذوا لأنفسهم الأوتوموبيل مؤخرا، وثاروا عليكم، وحاولوا كسر العربة التي تركبونها، وتسميم الحمار الذي يجرها؟
الحمار :
إن هذا لصحيح، وهو أمر يدمي فؤادي؛ فإني أحزن على كل ثعلب يهجرنا؛ لأني مؤكد بأن العربة الكهربائية التي يتخذها لنفسه لا بد أن تقوده يوما ما إلى الهلاك؛ لأنه لا يقدر على ضبط قوتها، فهي بيده كالسيف بيد المجنون أو الطفل. حقا إن أمر هؤلاء الثعالب يشق علي؛ فأنا دائما أجتهد لردهم إلى الهداية، وأحاول إقناعهم بالبرهان والحجة والمنطق، غير أنهم متغطرسون لا يرضخون، وذوو عناد لا يسمعون، وجهلاء لا يفهمون، وقليلو العقل لا يدركون، وضعيفو الدماغ لا يحدون ولا يميزون.
أحد البغال :
إذن قد أخذت القوات الكهربائية أن تظهر في جمعيتكم، ويجب أن تشرعوا في مقاومتها من الآن قبل أن يتسع انتشارها فتقوى عليكم وتسحقكم.
الحمار :
إن أمور هؤلاء الثعالب الطلاب ليست لتشغل الفكر وتقلق البال، فلا تأثير لأعمالهم على عقول الحكماء المتدينين، ولا صدى لأقوالهم في قلوب المتخشعين المعتدلين المتحفظين.
وعند هذا الكلام شعر الحمار باهتزاز جبته، فحول رأسه، وإذا بأحد الحمير يهمس بأذنه قائلا: «لا تعمم إن الثعلب على يمينك»، فتذكر ذلك الخطيب ولطف عبارته قائلا: ولنا والحمد لله تعزية في أن عدد هؤلاء المجدفين قليل جدا؛ إذ إن معشر الثعالب المتنورين المهذبين المحافظين على آدابهم لا يزالون معنا، هم سائرون في عربتنا المقدسة فيحترمون حميرهم، ولا يبخلون عليهم، ولا يثقلون لهم الأحمال، بل يتركونهم مارحين في المراعي الرحبة المخصبة، سارحين في أنحاء العالم، يأكلون من غزير الخيرات، ويجمعون كنوزا من المال ينفقونها على تشييد إسطبلات فخيمة لأنفسهم، إن هؤلاء الثعالب لأتقياء، وسينالون جزاءهم عند ربهم في السماء، أما أولئك الكفار المجدفين فتغفر لهم زلاتهم؛ كي يغفر لنا أبونا الذي في السماوات زلاتنا.
الحصان :
أيسمح لي الحمار المحترم بأن أقاطعه بسؤال صغير؟
الحمار :
تفضل.
الحصان :
أراك قد خرجت عن الموضوع، وأظهرت في بدء كلامك أنك تميل إلى الاتحاد، ثم قلت لنا إن جمعيتكم لا تزال معززة مستقلة، فهذا ما نتمناه لها غير أننا نريد أن نعرف الآن إذا كنت تريد أن تشاركنا في مشروعنا؟ أتريد أن تتحد معنا، وتضم سلطتك إلى سلطتنا؟
الحمار :
قلت لكم إن الجمعية الأصلية ترحب بفروعها المنشقة، وتتهلل برجوعهم إليها، أفلا يكفي هذا التصريح؟ أتظنون أني أكره الاتحاد، ولا أفضل الوئام على الخصام، والمحبة على البغضاء، والاتفاق على الشقاق؟ يا حضرات الأفاضل، أنا معكم قلبا وقالبا (برافو لبيط وشهنقة عالية)
أنا من أبناء هذا الزمان، وقد دفنت في زوايا النسيان ما ورثته من سيئات أجدادي قبل إتياني إلى هذا المؤتمر (بارك الله فيك! برافو برافو) ، أرجوكم ألا تظهروا استحسانكم باللبيط، بل أعيروني إن شئتم آذانا مصغية لأقول كلمتين في شأن رئيس الجمعية الجديدة المقبل، فإننا قد اتفقنا على مزج العناصر الثلاثة المجتمعة هنا الآن، وجعلها عنصرا واحدا، أو بكلمة أخرى نريد أن نؤلف من الجمعيات الثلاث جمعية واحدة عمومية شاملة يترأسها أحد إخواننا كائنا من كان، بشرط أن ينتخب بالقرعة، ويكون أهلا لهذا المنصب الخطير، فالرئيس ولا مشاحة يجب أن يكون على جانب عظيم من الاستقامة، والنزاهة، والتقوى، والحكمة، والتدبير، والإخلاص، والشجاعة الأدبية، والغيرة، والحزم، إلى غير ذلك من الفضائل الحسنة، أما أنا فأزيد على ذلك مزية يشترط أن تكون موجودة في من ينتخب رئيسا، وهذه المزية هي صلابة القلب وكبره.
فالرئيس العظيم ذو الحزم والنشاط والحكمة هو الذي يكون متصفا بصلابة القلب، وسعة الصدر، فالمزية الأولى تقيه من السقوط في شباك الشواعر الرقيقة الاصطناعية الغرارة، والمزية الثانية تجعله محبا لكل من كان صالحا غيورا دون نظر إلى مذهبه وجنسه، ومن كان له خبرة في أحوال العمران وترقيه، يعرف أن الذين يشعرون كثيرا يعثرون كثيرا، فهل يرفق أو يشفق قائد الجيش حين يأمر عسكره بالهجوم على إخوانه في الحيوانية؟ وهل يجب على الرئيس أن يتسامح ويتساهل مع كل من يحيد عن نهج الاعتدال، ويهيم في فيافي الضلال؟ إن الحيوان الرقيق الشعور ليس بأهل للرئاسة، ومثل هذا لا يصلح لتدبير شئون جمعية كبيرة عظيمة منتشرة في كل أقطار المعمور.
ولا أقول هذا لأجعل في قلوب كل الحيوانات صلابة وقسوة، كلا فإن هذا يضر بصالحنا، ويعربس مساعينا، ويصعب طريق مجدنا، فالحيوانات المرءوسة يجب أن تكون لينة العريكة، وعلى جانب من الدعة، كي ترضخ لأقوالنا، وتخضع لسلطتنا ونحن بصلابتنا وقسوة قلوبنا نمتص ماء حياتهم، ونبقيهم صغارا أذلاء، فيصدعون بأمرنا، ويمشون حسبما نريد، وعملنا هذا لا يخالف قط نواميس الطبيعة ، فإذا هو جائز ومحلل، خذوا لكم مثلا من حراثة الأرض، ومن تربتها، فإن من له معرفة في فن الزراعة يعرف بأن الأرض منها مندمجة، ومنها متفككة، وأن الطبقة الأولى تكون فوق الطبقة الثانية لتحصل على النتيجة المطلوبة، فالاندماج خاصة تحاكي فضيلة الصلابة في الرئيس، والتفكك خاصة تشابه فضيلة اللين، والرضوخ في المرءوس، ولو كان للرئيس ما في المرءوس من اللين والرطوبة لما تمكن من إدارة شئون الجامعة، وتعزيز صولتها، كما أن طبقة الأرض العليا تمتص الرطوبة من الأرض السفلى المتفككة، ولنفرض أن الأرض المتلاحمة تشبه القرميد، والرخوة تشبه الإسفنج، فإننا إذا أشبعنا الإسفنج ماء وهو كناية عن الأرض الرخوة، ووضعنا فوقه القرميد المماثل للأرض المتلاحمة الصلبة لامتص هذا الماء الذي في الإسفنج، ولكن إذا أشربنا القرميد ماء، ووضعنا فوقه إسفنجة، وضغطنا عليها، فإنها لا تمتص الماء منه. وإذا كنا نرجو لجمعيتنا الجديدة نجاحا، ولسلطتنا تأييدا، ولنفوذنا ثباتا، ولمبادئنا تعززا ومنعة يجب أن يكون الرئيس كالقرميد، والمرءوس كالإسفنج، ويجب أن نضع القرميد فوق الإسفنج، ونتركه يمتص منه ماء الحياة (لبيط وشهنقة ونهيق وهتاف) .
صوت حي :
برافو برافو فليحيا الحمار!
صوت آخر :
فلنضع القرميد فوق الإسفنج!
صوت آخر :
ولكن، هل تظن أيها الحمار العالم بأننا نقدر أن نمنع الإسفنج عن الامتداد، فإذا ضغطنا عليه بالقرميد من فوق يمتد إلى الجهات الأخرى بدون شك.
الحمار :
ليس هذا ما نتوخى إتمامه، بل غاية ما نتمناه هو أن نمتص الماء الموجود في الإسفنج، ولا يهمنا بعد ذلك إذا امتد في الطول أو في العرض.
صوت آخر :
نعم نعم هذا ما نرغبه لقد أصاب الحمار المحترم، والعالم الفاضل بتشبيهه الحسن، وعند هذا حدث في المجتمع لغط شديد وجلبة قوية، فمن الحمير من كان يغني ويرقص ويلبط، ومن البغال من كان يشرب ويرتل ويردد الأشعار، فنهض الحصان إذ ذاك، وأومأ إليهم بيده طالبا منهم الإصغاء.
الحصان :
يحق لنا إذن أن نفتخر لأننا قد اجتمعنا، وبعد أن أبدى كل رأيه وجدنا بين أفكارنا تمام الاتفاق، فكلنا نئن من جرح واحد، وكلنا نشعر بقوة واحدة معادية، فكيف لا تكون قوتنا كشخص واحد ضد هذه القوات الشريرة؟ قد تم ما نتمناه، ونشكر الله العلي القدير؛ لأنه ألهمنا ما فيه الرشاد والصواب في هذه الساعة السعيدة، فنحن ندبر أمورنا بعنايته، وما زلنا في ظل هذه العناية الإلهية، فنحن نتقدم منتصرين، والآن أقترح على الهيئة أن تطلب تدوين ما قررناه، فانتخب إذ ذاك الجحش كاتبا للجلسة، وطلب الحصان منه تدوين الأمور الآتية: قد تقرر في جلسة رسمية عقدت مساء اليوم الخامس من شهر تموز سنة ألفين ومائة وعشرين بين ممثلي الخيل والبغال والحمير ما يلي:
أولا:
إن الخيل والبغال والحمير من عائلة واحدة، ولذا يجب أن يكونوا من جمعية واحدة شاملة وأن يتحدوا كلهم بالأسد له المجد، ويعودوا إليه غير متفلسفين في كل الأمور.
ثانيا:
إنهم ضد القوات الكهربائية والبخارية والهواء المضغوط، وسائر الاختراعات الحديثة، وبكلمة ضد التمدن الحديث بكل مظاهره.
ثالثا:
يتحدون كلهم تحت راية واحدة، وتمزج الثلاثة عناصر لتصير عنصرا واحدا.
رابعا:
يهملون تماما جميع الطقوس التي تصدهم عن الاتحاد، ولا يكترثون بالاختلافات الفلسفية المنطقية، وبالشروح اللاهوتية التي نشأت عن عقول غير راجحة.
خامسا:
يعترفون كلهم بسلطة رئيسهم المطلقة، ويبقى كل متمسكا بالطقوس والعوائد التي لا تضر في الجمعية الشاملة الجديدة.
سادسا:
يكون الرئيس كالقرميد، والمرءوس كالإسفنج.
سابعا:
يضحون الفرد من أجل الكل، وهذه الآية لا تعكس إلا إذا كان ذاك الفرد أحد الرؤساء الكبار.
هذا كل ما قررناه الآن وقبل أن نحلف اليمين المعظمة بأننا نثبت على هذه الشريعة، ونحافظ عليها، وندافع عنها، ونبذل من أجل تنفيذها النفس والنفيس، أتقدم إلى جناب الثعلب الأديب الذي شنف آذاننا في أول الجلسة، راجيا منه أن يتحفنا الآن ببعض أفكاره الثاقبة، وأقواله السديدة، وأظن أنكم كلكم تريدون أن تسمعوا كلامه الآن، لا سيما وهو قد اشتهر بالجرأة الأدبية والغيرة والفضل، فهو لا شك حيوان المستقبل، وزعيم الثعالب الأتقياء، وقد قال لنا في البدء: إن غايته المجاهدة في سبيل الخير والحق، فنحن وإياه إذن سالكون منهجا قويما واحدا، وأملنا كبير في همته التي لا تفتر، وغيرته التي لا تخبو نارها، والآن أقدم إليكم الثعلب الأديب والصحافي الشهير. (فوقف إذ ذاك الثعلب بين ضجة عظيمة من التصفيق واللبيط والهتاف والصفير والهسهسة أيضا، ولا بد من إبداء ملاحظة صغيرة، وهي أن الثعلب كان قد أثار غضب الحمير سابقا، وجعل له في الجلسة أعداء، لا يريدون استماع كلامه، ولا أن يروه؛ لأن حرية ضميره وقوله جعلته عرضة للشتيمة والقذف، ولذلك لم يكن هتاف المحبين صافيا، بل مزج بقليل من صفير المبغضين الساخرين به، وبعد قليل هدأت الضجة، وراقت الحال، فانتصب الثعلب وقال):
الثعلب يتكلم.
الثعلب :
أشكر للحصان صاحب الدعوة حسن ظنه بي، وأشكركم جميعا على هذه المظاهرة اللطيفة التي دلت على محبتكم وإكرامكم ولا أخفي عليكم أنني لاحظت على بعض الوجوه انقباضا وعبوسة، فالهتاف الذي ارتفع منكم، والذي لا أستحقه كان يتخلله بعض الصفير الدال على الازدراء كما لا تجهلون، وعلى كل حال فإني أشكر المحبين، وأغفر للمبغضين.
قد تعودتم - أدامكم الله - على حريتي في القول والفعل والفكر، وتعرفون أنني حين أتكلم لا أحافظ على شيء من الاصطلاحات والعوائد والتقاليد، فإذا رفعت الفأس، وضربت يمينا وشمالا في هذه الليلة؛ فذلك لأنكم شجعتموني، ومن الغريب أن نرى معشر الحمير مشتغلين بالتكسير والتخريب، ولا تظنوا أنني أحلل تحطيم كل شيء قديم، فأنتم سلكتم في هذه الليلة مسلكا جديدا، ووضعتم فأس الحكمة والعلم على جذع شجرة اللاهوت والتقاليد، وحسنا فعلتم، فاللاهوت أصبح في هذه الأيام الباهرة من السلع القديمة العهد التي يجب أن تحفظ في متحف الفنون والأنتيكات (ضجيج وشغب) ، وقد عزل علم الكلام ليجلس علم السياسة مكانه، كم هو جميل من حصان أو حمار أو بغل أن يقول: «لا يجب أن نتمسك بأغلاط أجدادنا، ولا أن نقتدي بأعمالهم السيئة»، كم هو جميل أن يندد الحصان بالمجامع القديمة التي لم تشتهر إلا في المهاترة والمقاذعة، وكم هو قبيح مني أن أندد بشيء بعد أن وفوا التنديد حقه، أو أن أتكلم بعد أن صارت الفصاحة ملء الإسطبل، وكادت تضيق على الهواء حتى صرنا نخشى على أنفسنا من الاختناق إذ إن الرئتين لا تعيشان على الفصاحة كما لا يخفى عليكم، ولكن كي لا يحصل شيء من هذا أستغني عن الفصاحة ببعض الأفكار البسيطة العارية عن كل تفنن بياني، فلربما عاد إلينا الهواء فنتنفس ونشكر الله.
قد اجتمعتم أيها الأفاضل لكي تتحدوا، وقد تباحثتم مليا في هذا الشأن، وقد يمكن أن يتم ما تبتغونه، شريف هو عملكم، وجليل هو مشروعكم، ولكن أنا لا أظنه ثابتا إذا جعلتم أساسه المحبة والغيرة والنزاهة فقط، ولا أظنه ثابتا إذا اكتفيتم بإغفال القضايا اللاهوتية، والاختلافات الطقسية التي ينجم عنها الشقاق والخصام، وإن ظننتم أنكم تستطيعون مقاومة القوات الكهربائية والبخارية، وتنتصرون عليها، فأنتم واهمون (ضجيج ولغط) ، إن هذا العصر عصر تقدم ونجاح وترق، وما لكم إلا أن تسيروا مع الزمان والقوم، وتتقدموا مع جحافل الكهربائية، وإذا كان لكم رغبة حقيقية في الاتحاد، وأردتم لمشروعكم هذا الثبات والنجاح، فيجب أن تجعلوا أساسه متينا من البدء حتى إذا بنيتم شيئا عظيما لا يتداعى ويهبط إلى الحضيض، فعندي أن الغيرة والمحبة والنزاهة أمور ثانوية (ضجيج بين الحمير) ، والقضايا اللاهوتية لا يجب أن تغفل فقط (برافو تصفيق ولبيط) ، بل يجب أن تقتل تماما (ضجيج وصفير)
كي لا تعود إلى الحياة فتدس سم الشقاق ما بينكم كعادتها (تمام تمام) ، فلو طلبتم رأيي في هذه المحالفة لكنت أقول قبل أن تتحالفوا نقحوا شرائعكم، وقبل أن تتحدوا ابنذوا ظهريا كل الخرافات والخزعبلات التي تشوه وجه عقائدكم.
أحد الحمير (يخاطب جاره) :
أي خرافات وماذا يقصد الثعلب المارق؟
الثعلب :
قد أعجبني اعترافكم بكونكم من تبعة واحدة من جنس واحد، وأنكم كلكم تتحدون بالأسد، فهذه هي خطوة كبيرة نحو الكمال الأسدي، قد يدل تصريحكم هذا على ترق عظيم، وتهذيب حقيقي، ولو جعلتم عقيدتكم في البساطة التي وضعها الأسد، واقتصرتم على عبادة الله لما كنتم تحتاجون إلى محالفة، بل كنتم ترتبطون بالذوق السليم والرأي السديد، اجمعوا كتب اللاهوت وأحرقوها كلها (مروق! إلحاد) ، وخذوا شريعتكم من سنن الطبيعة، ونواميس الكون، قد أشار أحد المتكلمين إلى الطبيب باراسلسوس، فذكرني بكلام له قاله متكلما عن معارفه ومداركه، وهو: «تسألونني من أين أتتني هذه الأسرار، وكيف تلقنت هذه العلوم، ومن أي كتب اقتبستها؟ فأجاوبكم: اسألوا الحيوانات كيف تتعلم حرفها وفنونها، فإذا كانت الطبيعة قادرة على تعليم الحيوانات ألا تقدر على أن تعلم الإنسان وتنوره؟»
فلا تغفلوا اللاهوت في محالفتكم فقط، بل اقتلوه وانبذوه ظهريا، وسنوا قانونا صارما يمنع الخوض فيه بتاتا، وعاقبوا كل من يخالف القانون، ويبحث في اللاهوت، وألقوا القبض على كل منطقي؛ إذ إن المنطق في هذه الأيام كثير الأضرار، ومن ركب متنه كان الشر محط رحاله، إذا اتحدتم يجب أن تجعلوا عقيدتكم أساس هذا الاتحاد، وإذا كان الأساس فاسدا هل يدوم يا ترى البنيان؟ وكيف تستطيعون أن تقاوموا القوات الكهربائية وأنتم غير ثابتين في اتحادكم، فعليكم أولا أن تتفقوا على العقيدة التي يجب أن تجمعكم، وهذا أمر لم تقرروه حتى الآن، فهل تجعلون شريعة الجمعية الجديدة شريعة الحمار أم الحصان أم البغل، وعندي لو نبذتم كل هذه الشرائع (صوت من بين البغال قف قف، وصوت آخر من بين الحمير كفر كفر)
لو انتظرتم كي أكمل عبارتي لما كنتم تصرخون كفر كفر، قلت: لو نبذتم كل هذه الشرائع، وجعلتم الشريعة الأصلية الشاملة المقدسة شريعتكم الحقيقية الجديدة (لبيط بين الحمير) ، أي الشريعة التي طبعها الله في قلب كل منا، الشريعة التي توحيها لنا الطبيعة، فإنكم تنالون إذ ذاك منيتكم، ويثبت مشروعكم، ويدوم اتحادكم، تعلمون أدامكم الله أن أعداءكم يبنون آلاتهم على النواميس الطبيعية، وما الكهربائية إلا وجها من وجوه الله العديدة، أو هي كتاب من كتبه الكثيرة، فكيف تقولون: إنها عدوتكم اللدودة؟
أحد الحمير :
أرجو من صاحب الدعوة توقيف الثعلب؛ لأنه شذ وكفر.
الثعلب :
أرجو من الحمار الفاضل ألا يقاطعني في كلامي، ومتى انتهيت من خطابي الذي ألقيه بطلب خصوصي من صاحب الدعوة، فلكم إذ ذاك أن تعترضوا وتحكموا وتنددوا. قلت : ما الكهربائية إلا وجها من وجوه الله العديدة، أو هي كتاب من كتبه الكثيرة، وأنتم لا تستطيعون ولا تريدون أن تقاوموا الله - عز وجل - فيجب عليكم أن تسلكوا الطريق التي يسلكها أعداؤكم (ضجيج وشغب) ، نقحوا شرائعكم بطريقة توافق الشرائع الطبيعية، ابنوا عقيدتكم على النواميس الكهربائية والبخارية، فتجدوا أنفسكم إذ ذاك قريبين من الله، لا بل أمام وجهه المنير القدوس، لا أخشى أن أقول إن عقيدتكم بغالية كانت أم حمارية أم حصانية هي فاسدة من الأصل (لبيط وشغب) . (صوت من بين الخيل: أوقفوه أوقفوه.) (صوت من بين الحمير: اصمت يا كافر.)
رئيس الحمير :
ليس من اللائق بنا أن نشتم الثعلب في بيت صاحب الدعوة؛ إذ إننا كلنا ضيوف متساوون، فاسمحوا لي بأن أسأله أن يبين لنا مواضع الفساد موضعا موضعا.
الثعلب :
أنا فاعل إن أصغيتم، وكففتم عن اللبيط والنهيق، خذوني بحلمكم قليلا، واعلموا بأنني لست كما تقولون مارقا كافرا، فأنا أغار على النواميس الحقيقية، والعقائد القويمة، وأذب عنها ما استطعت، أنتم تجدفون على الإله العظيم بجعلكم إياه إله غضب وظلم وحقد ومحاباة، أنتم تنددون بعبادة الأصنام، وتعبدون بنفس الوقت الصور والتماثيل، أنتم تحاولون مقاتلة النواميس الطبيعية الظاهرة في الكهربائية والبخار بنواميس غير طبيعية لا توجد إلا في عقيدتكم وعقولكم فقط، فالتجسد لا يوافق النواميس الطبيعية والمخاطبة الشفاهية بين الخالق والمخلوق مخالفة لأحكام العقل، واللبوة التي لا يضاجعها الأسد لا تحبل، هذا ما يعلمنا إياه الله بمظاهره الطبيعية المتعددة، والعجائب التي قيل: إنها حدثت في قديم الزمان لا تحدث الآن، والأسد الذي يموت يموت إلى الأبد، ولا يعود إلى هذه الحياة ثانية، وجهنمكم الأبدية هي من الآثار البربرية، وقصة الحوت الذي بلع يونان لا أقدر على بلعها، والشمس التي وقفت في نصف النهار هي شمس اصطناعية كالشمس التي تشرق على المراسح في الملاهي البشرية، وكان قد كثر الضجيج، وساد اللغط، وزال النظام، فهم بعض الحمير والبغال بالخروج والبعض كانوا يصرخون قائلين: «أوقفوه كبلوه بالحديد قد كفر وجدف فاصلبوه، احرقوه، اشنقوه!» أما الثعلب فلم يعد والحالة هذه قادرا على تتمة خطابه، فعاد إلى مجلسه على خلاف ما قام عليه قام بين ضجيج الاستحسان، فعاد بين لبيط، وصفير الاستهجان.
أحد الحمير :
إني أطلب محاكمة الثعلب المارق المجدف في مجلس التفتيش.
أحد البغال :
إني أطلب تكبيله بالحديد أولا كي لا يفر هاربا.
الحصان :
يشق علي أن أتمم هذه القضية المؤلمة في بيتي، فالثعلب مثلكم ضيفي، ولكن هو الناموس نذب عنه ما استطعنا، وهي الشريعة ندافع عنها كيف كانت الأحوال، فيا جناب الثعلب قد كفرت في ما قلته وعليك؛ إما أن تسحب كلامك وتندم مستغفرا، أو أنك تحضر أمام مجلس التفتيش للمحاكمة.
الثعلب :
إذا سحب الله وصاياه العشر من قلوب أبنائه، فأنا أسحب كلامي.
الحمار :
قد فاضت كأس الصبر، فأرجوك يا حضرة الحصان الفاضل أن تأمر بتوقيف الثعلب رسميا.
الحصان :
أنت أيها الثعلب إذن أسيرنا كبله أيها الجحش بالحديد، وخذه إلى زاوية الإسطبل ليبقى هنالك، فديوان التفتيش يلتئم عند انتهاء الجلسة أو نهار غد صباحا، فجاء عند ذلك الجحش بسلاسل الحديد، وكبل بها الثعلب المسكين، وأخذ يجره إلى زاوية الإسطبل، فقال الثعلب وهو مكبل بالحديد: إذا قيدتموني لا أقدر أن أكتب في جريدتي عن محالفتكم هذه شيئا فهل تريدون ذلك؟ ألا تريدون أن يعرف بقية الحمير ما أنتم فاعلون.
الحمار :
يمكنك أن تملي على الجحش ما تريد أن تكتبه، ونحن بعد أن نطلع عليه، وننقحه نبعث به إلى الجريدة، فكن مطمئن البال.
الثعلب :
أما والله فأنتم كريمو الأخلاق، كبيرو النفوس، ولا أعرف كيف أكافئكم على معروفكم، فأنا الآن أستودعكم الله، وأرجو لكم كل خير، نصركم الله على أعدائكم الوهميين أيها الأتقياء، وأطال بقاءكم لتكون أمثالكم الصالحة كثيرة بين الحيوانات.
ثم قام الحصان بعد ذلك وقال: يجب علينا الآن أن نتمم جلستنا، ويا ليتني لم أدع الثعلب إلى الخطابة، فالذنب ذنبي، ولكن ما لنا ولكل هذا، إن الأمور التي قررناها لا تزال مقررة، ولا يغيرها شيء تحت الشمس ولا فوقها، وبقي علينا أن نقسم جميعنا اليمين المعظمة أمام الله بأننا نحافظ عليها، وندافع عنها، ونبذل من أجلها النفس والنفيس، فقفوا إن شئتم واحلفوا، فوقف إذ ذاك جميع البغال والحمير والجياد، وأقسموا يمينا معظمة صارخين بصوت واحد: فلتحيا المحالفة الثلاثية، فلتعش العقيدة الجديدة الشاملة، فلتسقط الكهربائية، فليمت البخار، فلتمت الثعالب الملحدة.
ثم نهض أحد البغال وشرب نخب المحالفة الثلاثية، وتبعه على الأثر أحد الحمير، وشرب نخب الكل قائلا: «نضحي الفرد من أجل الكل، والكل من أجل الفرد».
فاستدركه أحد الجياد قائلا بشرط أن يكون هذا الفرد رئيسا كبيرا، فنضحي من أجله كل شيء، ثم نهض حمار آخر، وقال: لا تنسوا الآية الذهبية الرئيسية، نحن القرميد والرعية الإسفنج، ثم جاء الجحش راكضا بعوده من زاوية الإسطبل, وهو يقول: لا تنسوا من أطربكم بصوته, وخدمكم بقلمه وريشته، فأنا أشرب سر الحصان، والبغل والحمار، وأنشد بعد أمركم بيتين في هذه المناسبة، وأخذ عوده وعدله، وصرخ بصوت عال:
هذي المحالفة العظيمة سرها
والله أشربه ويشملني السرور
والله أسأل أن يديم وفاقنا
أبدا لنغلب كل زنديق كفور
ويطيل آذان الخيول جميعها
كيما تساوي طول آذان الحمير
ونصير إخوانا بقلب واحد
لا فضل فينا للكبير على الصغير
أصوات من الجميع: برافو برافو لا فض فوك طيب الله الأنفاس.
ثم ختم الحصان الحفلة بصلاة صغيرة لا نفع من ذكرها هنا، وعاد فقسم الهواء الذي أفسدته الفصاحة إلى أربعة أقسام، وارفضت الجلسة بين الهتاف والصريخ، واللبيط والتصفيق.
الفصل الخامس
المحاكمة
وفي النهار الثاني عاد الحصان إلى قضية الثعلب الكافر، وطلب من إخوانه الأفاضل محاكمته رسميا أمام هيئة مؤلفة من أعضاء ينتخبون بالقرعة، فجاء عند ذلك الجحش، وكتب إلى البغال والحمير، داعيا إياهم إلى جلسة أخرى للمخابرة بشأن الملحد الذي أقلق راحتهم في المساء السابق، وبعد برهة حضر عدد غفير من البغال والحمير والخيل، وقرروا أن يحاكم الملحد في ديوان التفتيش، وانتخبوا البغل والحصان والحمار الذين تكلموا بشأن الصلح في ذلك المساء؛ لكي يترأسوا الجلسة، ويستنطقوا الثعلب، فجلس هؤلاء بصفة قضاة مدنيين ودينيين، وجاء الخفر بالثعلب وهو مكبل بسلاسل الحديد، فوقف هذا أمامهم، منحني الرأس على وجهه أمارات الحشمة والتخشع، وبعد أن سئل عن اسمه ومركزه ومهنته أخذ القضاة الثلاثة يستنطقونه هكذا:
الحصان :
هل أنت من تبعة الأسد؟
الثعلب :
نعم، أنا بنعمة الله من تبعته.
الحصان :
ولكن أنت تنكر ألوهيته؟
الثعلب :
وهل طلب مني أن أقر له أو لغيره بها؟
الحصان :
ألم يقل «أنا ابن الله» له المجد؟
الثعلب :
نعم، وكلنا أبناء الله عز وجل.
الحصان :
هل تضع نفسك في مقام سيدنا الأسد؟
الثعلب :
كلا، ولكنني أظن أنني أشترك مع السيد في أمور جوهرية عديدة.
الحصان :
وما هي؟
الثعلب :
إن الراسخين في علم الحيوان يقولون لنا: إننا كلنا من سليلة واحدة تفرعت وتشعبت بالتدريج، وهي خاضعة بذلك لظروف تحكم عليها، وأسباب طبيعية دائمة، وإننا كلنا ناشئون من البيضة التي فيها مبدأ الحياة، ودلائل هذا النشوء تظهر في أجسامنا متى قابلناها مع بقية الحيوانات التي هي أصغر أو أكبر منا، وكلنا نشترك في الروح التي تحركنا إلى الشر أو الخير، وفي مجرى دموي يحيي أعضاءنا، فيبقى هذا الهيكل في حالة الكيان إلى أجل محدود، كلنا نشترك بكمية من العقل نستخدمها لإبراز الأحكام في القضايا التي تمر علينا، وتختص فينا وفي حياتنا هذه والحياة الأخرى، غير أن هذا العقل يختلف في كميته، فالذي ينقصه الله من دماغ واحد منا يزيده في دماغ الآخر، وأنا لا أفرق عن الأسد إلا بكوني أضعف منه عقلا، ونفسا، وجسما، فنحن مختلفان بالكمية وليس بالكيفية، أما في عين الخالق، فأنا وإياه متساويان ننال ثوابنا وعقابنا بعد أن نحاكم وتوزن أعمالنا في ميزان العدل.
الحمار :
ألا يناقض قولك هذا سفر التكوين، وألا تنكر ما فيه بزعمك أننا مرتقون من البيضة التي فيها مبدأ الحياة؟
البغل :
أو بالحري ألا تعتقد بسفر التكوين؟
الثعلب :
لو حذفتم «السفر» وأبقيتم «التكوين» لكنتم أصبتم كبد اعتقادي، فأنا أؤكد أن لهذا الكيان العظيم مكونا أعظم، ولكن لا أستطيع أن أهضم كل ما جاء في السفر الموقر عن كيفية هذا التكوين. يقول لي كاتب هذا السفر الذي شاء أن يظل اسمه مستورا: إن الله خلقنا دفعة واحدة، والراسخون في علم الحيوان يعلموننا حقيقة واضحة مدعومة بالحجة الدامغة، وهي أننا ترقينا من البيضة كما ترقى الإنسان من القرد، ولا ينفي هذا الترقي كون الله - عز وجل - قد دبره، وراقب نظامه الثابت، وكان له فيه معرفة سابقة شأنه في كافة الأشياء، هذا ما يقوله لنا الراسخون في علمي الحيوان والجيولوجيا، أما أنا فلا أعلم، ولا أريد أن أعلم من أين أتينا، فالترقي والنشوء والتجسد والتقمص والتناسخ والخلود ليست كما يزعمون اعتقادات، بل هي كلمات يهم جمعها مؤلفي القواميس فقط، وظهورنا في العالم ليس على ما أظن اختياريا، فقد أرسلنا إلى هذه الكرة الأرضية لنقوم بفرض مخصوص خفي دون أن نشاور أو نستأذن، ولو خيرنا قبل مجيئنا لرفض أكثرنا مع الممنونية والشكر أن يأتوا إلى هذا الوادي؛ وادي الدموع.
الحصان :
إذن أنت لا تؤمن بكتابنا كتاب الله؟
الثعلب :
لا أستطيع أن أخفي عن حضراتكم أن هذا الكتاب يحتوي على أقوال كثيرة حسنة، وأقوال كثيرة ...
الحصان :
لا تحاول ولا تراوغ، بل جاوب على سؤالنا سلبا أم إيجابا، هل تؤمن بكتاب الله نعم أم لا؟ جاوب!
الثعلب :
قلت لحضراتكم إني أجد في هذا الكتاب ...
الحصان :
كفاك محاولة جاوب على سؤالنا سلبا أم إيجابا.
البغل :
قل لنا كلمة واحدة ما هو رأيك في هذا الكتاب؟
الحمار :
جاوب ولا تخف، فأنت لا تزال تحت حماية جمعيتنا المقدسة، وفي حضنها إن شاء الله.
الثعلب :
يا أسيادي الأجلاء، ويا حضرات الأفاضل العلماء، أنتم تعرفون حق المعرفة أن سؤالكم هذا لا يجاوب عليه بكلمة واحدة، وإن أنا فعلت ذلك أكون كاذبا عليكم، وعلى ذاتي وعلى الله، إن قلت: أعتقد بالكتاب أكون قد عممت وكذبت، وإن قلت: لا أعتقد به فأعمم وأكذب أيضا، فأرجوكم إذن ...
الحصان :
لا ترج منا شيئا، واحذر من أن تثير كامن غضبنا، فإن كنت تكره العذاب، وتخاف الألم جاوب على سؤالنا سلبا أم إيجابا، جاوب.
الثعلب :
لا أجاوب بكلمة واحدة.
الحصان :
ضعه إذن أيها الجحش على آلة التعذيب. (فقام إذ ذاك الجحش ومعه معاونان، فقبضوا على الثعلب وعروه من ثيابه، ومددوه على آلة التعذيب، وكبلوا رجليه ويديه بسلاسل الحديد، ووضعوا في أصابعه قموعا فيها إبر حادة، وأداروا الدولاب دورة واحدة، فضغطت الإبر على جسمه، فصرخ متأوها ومستغيثا.)
الحصان :
أتجاوب على سؤالنا الآن.
الثعلب :
أواه يا أسيادي أشفقوا علي، ارفعوا عني هذه الإبر.
البغل :
جاوب نعم أو لا نعفك من العذاب «الغير اعتيادي». (فتحرك الثعلب وتأوه، ثم رفع رأسه قليلا، ورشق القضاة بنظرة مرعبة، وقال: لا أجاوب.)
الحصان :
إذن أذقه طعم العذاب الغير اعتيادي. (فحن قلب الجحش على الثعلب، وتردد قليلا عن إجراء العذاب الغير اعتيادي، فنظر إليه القضاة الثلاثة، وأمروه بصوت واحد: «أجر العذاب الغير اعتيادي»، فامتثل الجحش لأمرهم، وأخذ بيده المرتجفة قبضة الدولاب، وأداره دورات متوالية، فصرخ الثعلب صرخات مرعبة، وحاول أن يقطع السلاسل التي تقيده، ولكن أين يدا الثعلب الضعيف من الحديد أمان أمان يا أسيادي بالله عليكم ارحموني، أواه ثم أواه أشفقوا علي، ارفعوا عني هذه الإبر، فأجاوب على سؤالكم، نعم أجاوب، والله أجاوب بكلمة واحدة.)
بل يجب أن تجاوب قبل أن نرفعها عنك، هل تؤمن بكتاب الله؟
الثعلب :
كلا.
الحصان :
كفاه عذابا ارفع عنه الإبر، وعد به إلى مكانه، اكتب أيها الكاتب: أقر الثعلب أولا بعد أن ذاق العذاب الاعتيادي والغير اعتيادي بأنه لا يؤمن بكتاب الله، فدون ذلك الكاتب، وعادت السؤالات والجوابات إلى مجراها.
البغل :
قلت: إن هذا الكيان مكون، فهل تعتقد بإله؟
الثعلب :
نعم إن اعتقادي بالله أثبت من الفرقدين.
الحمار :
ولكن ألم تقل هازئا: إن الله - عز وجل - ذو ثلاثة رءوس.
الثعلب :
نعم، وقلت: إنه ذو ثلاث فضائل أيضا تناسب رءوسه الثلاثة.
الحمار :
ما هي هذه الفصائل؟ وما هي المناسبة التي تعنيها؟
الثعلب :
إن الله - عز وجل - عالم الحاضر والماضي والمستقبل، وهذه أول فضيلة، والثانية: هي أنه موجود في كل مكان، والثالثة: هي أنه غير متناه في القوة، أما الفضيلة الأولى فمختصة بالرأس الذي يدعى الأب، والثانية مختصة بالرأس الذي يدعى الابن، والثالثة مختصة بالرأس الذي يدعى الروح القدس، وهذه الفضائل مستقلة ومتصلة ببعضها كما تستقل الرءوس الثلاثة، وتتصل بعنق واحد.
الحمار :
إن الرءوس التي تذكرها هازئا ساخرا، هي ما ندعوه أقانيم لطبيعة الله - عز وجل - والأقنوم هو هو نفس الإبستيزي، والقيام بالنفس والذات، وقد قال بوليسيوس في كتاب الطبيعتين: «إن اليونان قد سموا الجوهر المفرد ذا الطبيعة الناطقة باسم الإبستيزي»، وهذا هو المراد عندنا أيضا باسم الأقنوم، وكما نقول: إن في الله ثلاثة أقانيم، كذلك نقول: إن فيه ثلاثة قيامات بالنفس، وما ذلك إلا لأن الأقنوم والقيام بالنفس يدلان على شيء واحد بعينه.
الثعلب :
لا يستطيع أحد أن يقوم ثلاث قيامات قبل أن يموت ثلاث ميتات، فهل تريد أن تصرح بمجيء الأسد ثانية وثالثة إلى الأرض، فيموت ثلاث ميتات، ويقوم ثلاث قيامات.
الحمار :
إن ما نعلمك إياه مقدس فلا تسخر به.
الثعلب :
لم تعلموني إلا الخرافات والخزعبلات والأوهام أيها السادة الكرام، فلو كان للرب - عز وعلا - ثلاثة أقانيم لكان النزاع بينهما سائدا أبدا، ولما تمكن من تكوين هذا العالم العجيب، هل لمملكة على الأرض ثلاثة ملوك أم لجمعية ثلاثة رؤساء؟
الحصان :
أقصر عن السؤالات، فأنت هنا لتجاوب وليس لكي تسأل.
الحمار :
يظهر لي من كلامك أنك لا تدرك حقا طبيعة الله، أو أنك لا تريد أن تدركها.
الثعلب :
إني أعترف لكم بعجزي عن إدراك طبيعته كما تصفونها لنا بكتبكم المقدسة، وبلاهوتكم العويص المبهم.
الحمار :
وهل تعتقد بما لا تدركه.
الثعلب :
إني دائما أبني اعتقادي على البحث والتنقيب، والإدراك الحقيقي.
الحمار :
إذن أنت لا تعتقد بإله؟
الثعلب :
إني لا أعتقد بالإله الإنساني الذي تصفونه لنا بأوصاف وهمية مبهمة، لا نستطيع أن ندرك مغزاها، إني لا أخشى تهديداتكم البربرية، ووعيدكم الجهنمي، يعلمنا لاهوتكم أن العالم هذا ما هو إلا محطة يحط بها هنيهة أكثر الجنس البشري والحيواني في طريقهم إلى جهنم الأبدية، فإذا كان الخاطئ المرعوب يطلب تعزية وسلوى، فليأخذ مواعظكم التهديدية ويقرأها ، أما أنا فبغنى عن كل هذا، فاعتقادي لا يرعبني، ولا يعذبني، إني أعتقد بإله واحد ذي رأس واحد لا شريك له، خالق السماوات والأرض وضابط الكل، أعتقد بإله عادل رحوم شفوق، حنون حليم، قدير عظيم كريم، أعتقد بإله لا يحابي، ولا ينتقم، ولا يغضب، هو الإله العادل القدير الذي يسكب على البلاد خيراته الغزيرة دون أن يسأل من هو نبيها، وتشرق شمسه على كل الشعوب، وكل الحيوانات دون التفات إلى أجناسها ومذاهبها، هو الإله الذي يبارك الحصاد إذا زرع بالكد والاجتهاد، هو الإله الذي ينفخ روح النجاح في جسم الأمم التي يسود فيها النظام، ويتعزز العمل الصالح، هو الإله الذي يرفع إلى ذروة المجد الدولة التي تكبح القوي، وتحمي الضعيف، هو الإله الذي يجازي كل فرد على أعماله، ولا فرق عنده بين أولاده المشتتين على وجه البسيطة، هو الإله الذي لا يحرق بالنار الأبدية الأطفال الذين يموتون قبل الاغتسال بالماء المقدس، هو الإله الذي لا يعطي الطائر جناحين، ثم يهلكه إذا طار مغردا، هو الإله الذي لا يعذب خائفيه، هو الإله ...
الحمار :
كفى ... إن إلهك لا ينفع؛ لأنه وهمي.
البغل :
إنه إله شيطاني لأنه ذو أقنوم واحد.
الثعلب :
إنه إله حقيقي سرمدي أزلي، أشعر بوجوده، وأراه بعيني.
الحمار :
لا يمكن رؤية ذات الله بعين جسمانية على ما تعلمناه في الكتب.
الثعلب :
جاء في كتابكم المقدس ما يناقض قولكم: «في جسدي أعاين إلهي»، وجاء أيضا: «كنت قد سمعتك سمع الأذن، أما الآن فبعيني قد رأيتك».
الحمار :
يستحيل رؤية الله بحاسة البصر، أو غيرها من الحواس، أو بقوة خارجة حسية أية كانت؛ لأن كل قوة كذلك هي فعل آلة جسمانية، والفعل يكون معادلا لما هو فعله، فإذا لا يمكن لمثل هذه القوة أن تتعدى الجسمانيات، والله ليس بجسم كما مر، فإذا لا تجوز عليه الرؤية لا بالحس ولا بالوهم، بل بالعقل فقط.
الثعلب :
صدقني أيها القاضي العالم إني لم أفهم قط معناك العميق، وإذا أعفيتني من لاهوتك العويص، ومنطقك السامي البليغ أسحب كلامي، وأقول: إني أرى الله بالعقل وليس بالعين الجسمانية.
الحمار :
احفظ هزءك إلى يوم القيامة، فسخريتك لا تجديك نفعا في هذا الديوان، إن إلهك هو غير موجود، فكيف تقدر أن ترى الغير الموجود، أو تتصوره، فاعتقادك إذن فاسد من الأصل، وليس من وظيفتنا أن نبين لك مواطن الفساد، نعم إن اعتقادك هذا مضر بالشريعة، ومخالف للناموس، فهل تريد أن تغيره؟
الثعلب :
لا أظن أن ديوانكم هذا محل للتنقيح والتغيير.
الحمار :
إذن أنت لا تعتقد بإله؟
الثعلب :
ليس بالإله الذي تصفونه في كتبكم.
الحصان :
هل تعتقد بإله؟ فليكن جوابك كلمة واحدة سلبية أم إيجابية، سمحنا لك بأن تتكلم مليا، فجاوب الآن باختصار، اجزم.
الثعلب :
خذوني بحلمكم أيها القضاة الكرام، وأعفوني من الجواب بكلمة واحدة.
الحصان :
لا تأذن بذلك قوانين هذا الديوان، فجاوب وإلا توضع على آلة التعذيب ثانية.
الثعلب :
هل تسمح لكم ضمائركم بتعذيبي؟ هل تحللون الخيانة، وتجيزون الكذب؟ هل تريدون أن أخون ضميري وربي، وأكذب عليكم وعلى نفسي؟ أتطلبون مني أن أخاتل وأجامل، وأداهن وأراوغ؟ هل ...
البغل :
كفى كفى، أقلع عن الثرثرة والهذر، جاوب على السؤال، وإلا ألقيانك على آلة التعذيب.
الثعلب :
لا أجاوب بكلمة واحدة على سؤالاتكم، إلا إذا أكرهت، فهل أنتم فاعلون هل تسمح لكم قلوبكم بتعذيب أحد إخوانك في الحيوانية؟
الحصان :
ألقه على الآلة. (فقبض عليه الجحش، ومعاونوه ثانية، ووضعوه على الآلة المرعبة، وربطوا رجليه ويديه، ووضعوا القموع المشكوكة بالإبر في أصابعه، وأدار الجحش الدولاب دورة واحدة، فصرخ الثعلب وتأوه قائلا: أما الآن فأجاوب، إني لا أعتقد بإلهكم، إني أبغض يهواكم، إني أحتقر ربكم البشري.)
الحصان :
ليس سؤالنا عما إذا كنت تعتقد بإلهنا، بل هل تعتقد بإله جاوب. (فرفع الثعلب إذ ذاك رأسه، والتفت إلى القضاة متمرمرا متحسرا، وقال: إني أعتقد بالإله الذي وصفته لكم وأعبده.)
الحمار :
كن حكيما ولا تعاند فأنت الآن تحت العذاب المر، ولم تذق منه بعد إلا الاعتيادي البسيط، فإن تشبثت بأوهامك كنت لا محالة نادما خاسرا، فجاوب إذن على سؤالنا بكلمة واحدة فقط، هل تعتقد بإله؟
الثعلب :
أعتقد ولا أعتقد.
الحصان (وقد استشاط غضبا) :
يا لها من قحة وجسارة، هات السوط يا جلاد، وأنت أيها الجحش أذقه من العذاب الغير اعتيادي أمره أدر الدولاب خمس دورات متوالية، واجلده أيها الجلاد عشر جلدات. (فأخذ إذا ذاك المأمورون في تنفيذ أوامر المجلس والثعلب يئن تحت السوط، ويتأوه من وخزات الإبر، ويصرخ صرخات ارتجت منها أركان الإسطبل أواه يا أسيادي، إلهي، آه، إلهي لماذا تركتني، أمان يا كرام، أشفقوا، ارحموا، أنا مطيع لكم، أنا عبدكم، ارحموني وكان قد وقع عليه الجلاد بآخر ضربة أخ الله آمان.)
الحمار :
هل تعتقد بإله جاوب على سؤالنا تنج من العذاب.
الثعلب :
ألم تسمعوا كيف أتضرع إليه.
البغل :
ليس هذا بجواب رسمي، قل لنا نعم أم لا، فلا نريد منك أكثر من ذلك.
الثعلب :
لا! لا! لا! (وتمتم متحسرا)
اغفر لي يا إلهي، وخلصني من هؤلاء الظالمين.
الحصان :
انزعوا السلاسل، وعودوا به إلى مكانه، واكتب أيها الكاتب ما يلي: الاعتراف الثاني الذي لم يعترف به المتهم إلا بعد عذاب اعتيادي وغير اعتيادي، وعشر جلدات هو أنه لا يعتقد بإله، فدون ذلك الكاتب، وعاد المجلس يفحص الثعلب ويستنطقه، فما كان يخلص من آلة العذاب الجسدية إلا ليقع في آلة التعذيب العقلية.
الحمار :
قلت: إن إلهك لم يتجسد، وإن الأسد له المجد ليس بإله، فهل تأملت هذا الكلام قبل أن جاهرت به؟ هل تعرف أن للأسد مشيئتين: الواحدة إلهية، والثانية إنسانية، وأن الأسد له المجد متساو مع الأب، والأب متساو مع الروح القدس، وهذا متساو مع الاثنين؟
الثعلب :
قد تعلمت كل ذلك، ولكن لا أريد أن أعلمه لأحد؛ لأنني لم أتعود تعليم ما لا أفهم، تقولون وأقول معكم: الله قادر على كل شيء، أتنكرون هذا؟ ثم تقولون: إنه تجسد ونزل إلى العالم، وظهر بجسم الأسد، وخرق شرائع البلاد التي عاش فيها فمات على الصليب، ثم تقولون: إنه تجسد ليفدي البشر، ويمحو الخطيئة عن الأرض، فهل محاها؟ هل العالم أحسن اليوم مما كان في أيام ذلك الأسد العظيم؟ فالإله القادر على كل شيء تجسد بزعمكم لغاية شريفة، والعالم بأسره يقول لنا في تاريخه وأعماله أنه لم يتممها، ألا يوجد مناقضة في هذا الجدل الذي تحبكونه بلاهوتكم البالي، وفلسفتكم الواهنة، إن الله قادر على كل شيء، ولو تجسد وجاء إلى العالم ليمحو الخطيئة لكان محاها تماما، ولكن الخطيئة لا تزال سائدة، إذن الله - عز وجل - لم يتجسد، قد عديتموني بمرض المنطق، فصرت أخاطبكم بلسانكم، فإن أنا أنكرت التجسد إنما ذلك ليكون احترامي للأسد عظيما؛ لأنه إن كان الأسد إلها فما هو فضله علينا، إذن إني أحترم الأسد احتراما فائقا؛ لأنه بمذهبي أكبر فيلسوف وطأ الأرض، وأعظم معلم ظهر تحت الشمس، أنتم تعتبرونه إلها وتدوسون شرائعه، وأنا أعتبره فيلسوفا، وأحافظ ما استطعت على أقواله، وأعمل بموجبها، أنتم تكتفون بالسفسطة واللاهوت البالي، وأنا أقرن اعتقادي الحسن بما أستطيع من الأعمال الحسنة، أنتم تعبدونه ظاهرا ما زال اسمه يوليكم على الحيوانات، ويجلب لكم الخيرات، وأنا أحبه وأحترمه مجانا دون أن أبتغي منه شيئا من الماديات.
الحمار :
بين لنا أولا الأقوال التي لا نعمل بموجبها، ثم بين لنا الأقوال التي أنت تعمل بها.
الثعلب :
قال الأسد: «قاوموا الشر بالخير»، فإن كان ما أقوله الآن باعتقادكم شرا، لم لا تقاوموه بالأمثال الصالحة كما يأمركم السيد، وإذا كان خيرا لماذا لا تعاملونني على الأقل بالمثل، هل قال لكم السيد عذبوا من خالفوكم بالمذهب، واضطهدوهم واقتلوهم؟ ألم يقل لكم حبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم؟ (فاستولى على المجلس السكوت برهة، ثم أفاق الحصان من غفلته التي رماه بها الثعلب بقوة برهانه وقال):
الحصان :
أنت مذنب ووقفت أمامنا لتحاكم فدع الإرشاد، وكن محتشما، وخفض ما عندك من القحة والفضول، هل تعتقد بألوهية الأسد؟ جاوب حالا.
الحمار :
دعه يبين لنا الأقوال التي يعمل بموجبها، وليكن له ملء الحرية في أن يقول ما يشاء، (وتكلم مع الحصان بصوت منخفض قائلا) : دعه يتكلم لأن آخر أمره على كل الأحوال الإعدام في النار.
الثعلب :
لا أعرف من منكما أطيع.
الحصان :
جاوب على سؤال الحمار.
الثعلب :
أنا أعمل بقول الأسد، وأصلي في مخدعي، فلا حاجة لي بالكوخ المقدس الذي لم يأمر السيد بتشييده، أليس هو القائل: «ومتى صليت فلا تكن كالمرائين، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع، وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس، وأما أنت فمتى صليت فادخل مخدعك، وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء». فمن هذا يستدل على أن السيد كان يكره الجوامع والهياكل والأكواخ المقدسة، ومن كان ينتابها لغايات رديئة، ولم يأمر قط بتشييد الأكواخ؛ لأنه قال: «صلوا في مخادعكم»، فلو أراد بناية كوخ لما حذرنا من الصلاة في المحلات العمومية، ومن ثم أنا لا أقر لكم بسلطة قط، وأنكر كل النكران زعمكم أن الله - عز وجل - سلطكم علينا، فما جاء في كتاب السيد في هذا الموضوع يناقض ادعاءكم كل المناقضة، أليس هو القائل: «أما أنتم فلا تدعوا سيدي؛ لأن معلمكم واحد هو الأسد، وأنتم جميعا إخوة، ولا تدعوا لكم أبا على الأرض؛ لأن أباكم واحد الذي في السماوات، ولا تدعوا معلمين؛ لأن معلمكم واحد وهو الأسد»، فهل تظنون أنني أطيعكم، وأعصي السيد؟ هل تنتظرون مني نبذ أقواله، واتباع أقوالكم؟ من هو أعظم؟ أأنتم أم الأسد الفيلسوف الصالح؟ ومن هو أحق بأن يتبع المالك الحقيقي أم المختلس الملك؟ وما لنا ولهذا الآن أتريدون أن تفيدوني كيف يكون الابن متساويا مع الأب؟ فهل خلق الاثنان في يوم واحد؟ وكيف يمكن ذلك؟
الحصان :
قلت لك أولا، وثانيا أن تقلع عن السؤالات، فأنت في المجلس لتجاوب، وليس لتستنطق، فكن محتشما وقليل الكلام؛ إذ إن فصاحتك لا تجديك نفعا في هذا الديوان، جاوب على سؤالنا: هل تعتقد بألوهية الأسد؟
الثعلب :
لا، ولا بنبوة الجمل؛ فالاثنان عندي قائدان عظيمان يستحقان الإكرام والاحترام، ولو اعتبرتهما كإلهين لا أستطيع أن أكرمهما أكثر من إكرامي لهما كقائدين وفيلسوفين؛ إذا الاعتقاد بألوهية الأسد غير ضروري لمن يعمل بأقواله، ويسلك مسلكه، ويقتدي بأعماله.
الحمار :
إذن أنت تريد أن تقول: إن الأسد هو حيوان مثلنا ؟
الثعلب :
إلا أنه يفوقنا بدرجات في مواهبه ومزاياه، وفي قواه العقلية والنفسانية.
الحمار :
إن هذا مقبول في العرضيات، مردود في الجوهريات، وغاية ما نريد أن تقول لنا عما إذا كان الأسد حيوانا أم إلها؟ إن لهذا المجلس قوانين يجب المحافظة عليها.
الثعلب :
هو حيوان.
الحصان :
حسن، اكتب أيها الكاتب ما يلي: الاعتراف الثالث الذي اعترف به المتهم دون عذاب قط هو أنه لا يعتقد بألوهية الأسد له المجد، فدون الكاتب ذلك، وعادت السؤالات والجوابات إلى برازها الدموي.
قلت: إن عبادة الصورة من عبادة الأصنام؟
الثعلب :
نعم. وقلت أيضا: إن عبادة الأصنام أدت بنا إلى عبادة الإله الواحد الأزلي.
الحمار :
إذن ليست تخلو عبادة الأصنام من فائدة؟
الثعلب :
كلا، فهي التي علمتنا العبادة من البدء.
الحمار :
إذا كان لعبادة الأصنام فائدة فيجب أن تكون لعبادة الصور أيضا؛ لأنك أنت القائل: إن الثانية نشأت عن الأولى، ما قولك الآن؟ «فدون الكاتب ذلك وعادت السؤالات إلى برازها الدموي».
الثعلب :
أيبقى للوردة شذاء حين تبلى وتذبل؟ أتعطي الشجرة أثمارا بعد أن تقطع من أصلها؟ فما الفائدة من الشريعة متى صارت الحيوانات تدوسها تحت الأقدام، وتسخر بواضعيها؟ وما الفائدة من العنب بعد أن تستخرج منه الخمرة؟ كانت لعبادة الأصنام أيام زاهرة وأجيال باهرة، أما التمدن الحديث فيناقض كل تلك المظاهرات الوثنية التي نجد الآن مثلها في جمعيتكم، إن عبادة الأصنام هي سلم صعدنا عليه إلى كمال العبادة الإلهية، ومتى وصلنا إلى ذروة ذلك الكمال فلا يعود لذاك السلم من منفعة.
الحمار :
ألا ترى إذن للصورة منفعة؟ وهل تعدها ضربا من الخرافة؟ ألا يوجد في مكتبتك تماثيل أناس تعجب بهم وتعظمهم؟ ألا تزين غرفتك بصور جميلة تناسب ذوقك وتوافق أميالك؟ فإذا كانت صور الصالحين ضربا من الخرافة، لماذا لا يكون هذا القياس مطابقا على الصور العديدة المختلفة التي يغرم بها من مثلك، ويلتذ برؤيتها؟
الثعلب :
إن للصور والتماثيل فوائد جمة إذا وضعت للزينة فقط، غير أن عبادة قطعة من جفصين، أم قطعة ورق تحت لوح من زجاج لا تزيل من قلبي شيئا من اليأس، ولا تخفف عني وطأة الشقاء والكآبة، فإن أنا زينت مكتبي بتماثيل رجال عظماء ونساء صالحات، وعلقت على جدران غرفتي صورا بديعة للمعلمين الكبار؛ فذلك لأنني أعشق فني النقش والتصوير، وألتذ بتأمل ما فيها من دقة الصنعة، ناهيك عن أن تمثال رجل عظيم يذكرني أبدا بحياته وجهاده، ويشجعني في عملي، ويثبتني في الجهاد فأقتدي بحسناته، وأذكرها ما حييت، وإذا شرفتم مكتبتي فأول ما يقع نظركم على صورة الأسد الكبير الفيلسوف الصالح الذي أردد تاريخه في ذاكرتي كل يوم، وأتأمل في جهاده ودعوته.
الحمار :
وهذا ما نريده من وضع صور الصالحين وتماثيلهم في أكواخنا، وقاعات جمعياتنا؛ لأننا نفتخر بأعمالهم، وندرس سيرهم، ونجتهد في أن نتصف بما اتصفوا به من المزايا الحسنة.
الثعلب :
ولكن أنتم لا تكتفون بهذا، ولا تقفون عند حد الاقتداء، بل تعتقدون بأن الصلاة إلى هذه الصور تأتي بمنفعة روحية، وتساعد المتوسل إليها على نيل بغيته في هذه الدنيا، وفي الآخرة، أنتم تعبدون الصورة وأنا أحبها، والفرق بيننا هو أنني أقتني التماثيل والصور كي أروض عقلي، وأشرح صدري، وأمتع عيناي بمناظر جميلة، وأشغال فنية دقيقة، وأنتم تقتنونها كي تتخشعوا أمامها، وتتذللوا وتطلبوا من الله بواسطتها ما لا تنالونه بغير الكد والاجتهاد، وبرهانا على أن الذين يتذرعون لنجاحهم بالصلاة، والتضرع هم الوضيعون المنحطون، أستلفت أنظاركم إلى حالة الدول التي لا تزال تعبد الورق والجفصين، والدول التي أقلعت عن هذه العبادة، ونبذتها ظهريا بعد أن عرفت أضرارها، انظروا إلى إنكلترة والولايات المتحدة وألمانيا، وقابلوا بينها وبين إيطاليا وإسبانيا والنمسا، أليس هذا برهانا حسيا على ما يلحق بنا من الضرر إذا نحن أهملنا قوانا العقلية والجسدية، واتكلنا على الأوراق والجفصين في تدبير أعمالنا؟
الحصان :
إذن أنت لا تعتقد بمنافع الصور والتماثيل؟
الثعلب :
أنا أحب الصور الجميلة، والتماثيل البديعة، ولكن لا أعبدها كما أنني أحب اللبؤات والأفراس، والحمامات الجميلة، ولكني لا أخر ساجدا أمامها، إن العبادة مختصة بالله فقط، فإذا عبدنا الأوراق والجفصين نحط من مقام الخالق، وننقص من مجده، فضلا عن أنني لا أعرف أن أحدا صلى إلى هذه الأوراق الملونة المصونة بالزجاج، وطلب منها شيئا فناله، وأذكر أنني لما كنت صغيرا كانت أمي تحثني على الصلاة، وتقول لي: مهما ابتغيت من العالم فاطلبه من هذه الصورة بقلب متخشع تحصل عليه، فبقي هذا القول مطبوعا على صفحات قلبي إلى أن أخذت في التردد إلى المدرسة، وكنت على جانب عظيم من الكسل، وإيماني بالأوراق زادني كسلا على كسل، حتى إنني كنت آخذ أمثولاتي، وأعود إلى البيت ليس لأدرسها، بل لأغفلها ملتهيا باللعب، وفي المساء كنت أخر ساجدا أمام بعض الصور التي جمعتها أمي، وأصلي بحرارة وإيمان، وتخشع طالبا منها أن تعلمني دروسي في الليل، وأنا نائم كي أقدر على تسميعها في اليوم الثاني، وكنت شديد الاتكال عليها، ولكن وا أسفاه فقد خاب أملي؛ إذ إنني لما كنت أذهب إلى المدرسة، وأقف لتلاوة أمثولاتي لم أكن أعرف شيئا منها، وكنت أعاقب يوميا على كسلي وتهاوني، إلى أن سألني المعلم يوما عما إذا كنت أدرس المفروض علي حفظه؟ فأجبته: كلا. فقال: ولماذا؟ فقلت: لأنني أحسب أن الصور التي في البيت تلقنني دروسي في نومي، فأصبح قادرا على تلاوتها، ولكن قد خاب الرجاء في هذه الصور، نعم يا أسيادي قد صليت وطلبت بحرارة وإيمان عظيمين، وبقلب متخشع منكسر، ولم أنل من الأوراق والجفصين شيئا، وهذه لا شك حالة كل من صلى وصام، فمن ذلك الوقت حقدت على الصور وكسرتها؛ لأنها لم تدم على العهد، ولم تجب طلبي.
الحصان :
أفرغت من هذرك وهذيانك؟ أما كفاك تجديفا وازدراء؟ نريد أن نعرف بكلمة واحدة، ما إذا كنت تعتقد بعبادة الصور أم لا؟
الثعلب :
أليس في كلامي شيء يفهم أم أنا أغني الآن في الطاحون؟ ألم أقل لكم إن صوركم خائنة تنكث بالعهد، ولا تسمع قط تضرعات أحد، ومع ذلك فهل يستطيع الجماد أن يتوسط بين الخالق الحي والمخلوق العاقل، هل تستطيع الأوراق أن تعطينا ما لا نناله بغير الكد والاجتهاد، ومواصلة العمل .
الحصان :
قد أمللتنا بسفاسف أقوالك، وضجرنا منك ومن هذيانك، فلا تطل الكلام أطال الله وجودك، بل جاوب على سؤالنا حالا حالا كالعادة، أتعتقد بعبادة الصور المقدسة؟
الثعلب :
قد جاوبتكم مرارا على هذا السؤال، وكل كلمة قلتها في هذا الأمر هي جواب على سؤالكم، فهل يصعب على فهمكم ما بسطته لحضرتكم من الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة؟
البغل :
أف عليك ما أسقمك ... لا تكن عنيدا متمردا. جاوب على سؤالنا، وارفق بنفسك، فإن آلة العذاب لا تزال منصوبة، فكن متهيبا غير متغطرس وجاوب.
الثعلب :
إني لا أعتقد قط بعبادة الصورة، ولا بعبادة التماثيل، وأعرف بالاختبار أن التوسل والتضرع إليها لا يأتيان بشيء من الفائدة، هل يكفي هذا التصريح؟
الحصان :
دون أيها الكاتب هذا الاعتراف الذي اعترف به الثعلب دون عذاب قط، وهو أنه لا يعتقد بعبادة الصور المقدسة بتة.
الثعلب :
ولا غير المقدسة.
الحصان :
اصمت ولا تتكلم إلا متى سئلت. (فدون الكاتب الاعتراف، وعاد أعضاء المجلس إلى استنطاق الثعلب فريستهم المسكينة بعد أن تنفس الصعداء، وارتاح قليلا من عناء هذا البراز الجدلي الممل.)
الحمار :
قلت إن الكهربائية هي وجه من وجوه الله العديدة، فكيف تبرهن على ذلك؟
الثعلب :
إن الله نور والكهربائية على ما أرى نور أيضا؛ إذن الكهربائية مستمدة نورها من النور الأصلي العظيم، وهذا النور يخرج من أذيال الخالق عز وجل؛ إذن الكهربائية تأتينا من الخالق، وهي جزء منه، أو بالحري وجه من وجوهه العديدة، فاستولى على المجلس السكوت، وغاص الأعضاء في بحر التفكر إلى أن عاد الحمار فقدح زناد عقله، ونحت فكره، ولم يستطع أن يعارض قول المتهم إلا بهذا السؤال الضعيف.
الحمار :
ولكن نحن نعتقد بأن الكهربائية هي عدوتنا اللدودة؟
الثعلب :
إذا أنتم تحاولون معاداة الله، وتزعمون أنه عز وجل يريد بكم شرا، وينوي لكم الضرر، فأغمي عليهم من هذه الضربة القاضية، وبعد هنيهة أفاق الحمار، وسأل بصوت منخفض.
الحمار :
ولكن هل الكهربائية لا تضر بصالحنا؟
الثعلب :
نعم، ولكن ذلك لأنكم لا تتقدمون معها، ولا تسالمونها، فلو جعلتم أساس اعتقادكم موافقا لنواميس الطبيعة لكانت الكهربائية التي هي مظهر من مظاهر الطبيعة العديدة أخلص الأصدقاء لكم الآن؛ إذ إن نواميسكم عندئذ تنطبق كل الانطباق على نواميسها، فالمناقضة الموجودة بينكم وبينها الآن من حيث التعاليم تجعلكم أعداء، والتلاطم الكائن بينكم وبينها صيركم عبيدا أذلاء، وأعلى من تظنونهم أعداءكم إلى ذروة الكمال والمجد.
الحصان (مخاطبا الحمار بصوت منخفض) :
انتقل من الكهربائية إلى موضوع آخر، فقد أصابني صداع شديد، ولا أظنني قادرا على احتمال هذه الصدمات القوية.
الحمار :
ألم تقل: «إن البكارة تنفي الولادة» أي إن الأنثى الطاهرة لا تكون قط أما؟
الثعلب :
إنما قلت: «إن الولادة تنفي البكارة» أي إن الأنثى تخرق حجاب بكارتها يوم تتخذ لها بعلا، وتضاجعه لأول مرة، وعند إتمام هذا العمل تبطل أن تكون بكرا.
الحمار :
وماذا تفهم بالبكارة؟
الثعلب :
اعفوني من الجواب اعفوني، أنا لست طبيبا، وكل ما أعرفه هو أن النار لا تتولد إلا بالاحتكاك، وهكذا قل عن البنين.
الحمار :
ألا تستثني من قاعدتك العمومية هذه أحدا؟
الثعلب :
إني أعلم أنك تريد التوصل إلى اللبؤة التي تدعونها عذراء طاهرة، والتي يقول لنا التاريخ أنها أم الأسد.
الحمار :
نعم، ألا تعتقد بأن هذه اللبؤة حبلت دون المواصلة الحيوانية التي تشير إليها؟
الثعلب :
كيف يكون ذلك والنواميس الطبيعية تعلمنا أنه لا يتولد عن شيئين شيء ثالث إلا بعد احتكاكهما ببعضهما؟
الحمار :
بل تمم هذا العمل الروح القدس الذي حل على اللبؤة كما جاء في الكتاب المقدس.
الثعلب :
جاء هذا في أوهامكم، فإذا كان حقا حل الروح القدس على اللبؤة، فقد كان يحق لزوجها الحقيقي أن يطلقها بموجب الشريعة، وإذا لم يكن طلقها فهذا ضرب من التسامح والتساهل الذين يستوجبان له الشكر الجزيل والثناء العاطر، ومن يعلم لربما افتقر إلى الشهود و...
الحصان :
قلنا لك مرارا أن لا تسخر بالقضايا المقدسة، فأنت الآن تستحق قصاصا على سفاهتك وهزئك عشرين جلدة، هات السوط يا جلاد، فجاء الجلاد بالسوط، وشد الثعلب على العمود عريانا وجلده عشرين جلدة، ثم حل وثاقه، فعاد إلى مكانه أمام المجلس، وضم ذراعيه باحتشام منتظرا سؤالات القضاة.
إن قحتك يا شقي لا حد لها، وهزءك ضرب من السفاهة، وقد ظهر لنا أنك لا ترضخ إلا للسوط، ولا تلتذ إلا بالعذاب الجسدي، فكن إذن مستعدا لذلك، قد سخرت بقضايا مقدسة يعز علينا أن تمتهن، وقد هزلت ومزحت حين كان يجب عليك أن تعقل وتحتشم، وتحكم الضمير والنفس لا الهوى والميل الفاسد، أنت تعلم أن اللبؤة لم تعرف قط دنس المواصلة الزوجية.
الثعلب :
نعم قد تعلمت ذلك منذ حداثتي، ولكن لا أريد أن أعلمه أحدا؛ لأنني لا أفهمه، وعندي أن المسائل التي تخالف نواميس الطبيعة لا يجب أن تعلم في المدارس، ولا يجب على العاقل التمسك بها.
الحصان :
إذن أنت لا تعتقد ببكارة اللبؤة العذراء أم الأسد له المجد؟
الثعلب :
إن كنت أعتقد ببكارة أمي التي ولدتني أعتقد ببكارة اللبؤة أيضا، ومتى حل روح القدس على زوجتي وحبلت بعد ذلك بدون مضاجعة أظن أني أغير عندئذ اعتقادي، أما الآن فلا أزال متمسكا بالقاعدة الطبيعية التي كررتها على مسامعكم مرارا، وهي أن الولادة تنفي البكارة، أي إن الأم لا تكون قط عذراء بمعنى الكلمة الوضعي.
الحصان :
دون أيها الكاتب ما يلي: قد اعترف المتهم الملحد الهرطوقي «بأن اللبؤة لم تحبل بلا دنس، وذلك دون أن يعذب». (فدون الكاتب اعتراف الثعلب هذا، وعاد المجلس إلى تتمة الاستنطاق المضنك لجميع الحاضرين.)
الحصان :
ألا تعتقد بالعجائب؟
الثعلب :
كيف لا وقد حاربت في مائة معركة، وأصابني ألفا رصاصة، وهأنذا لا أزال حيا. كيف لا وليلة أمس كنت أنا وزوجتي جالسين في مخدعنا نصلي، فدخل علينا حمار معتبر، وأخذ يرشدنا حتى نبت على كتفيه رأسان آخران، فدخل والحالة هذه برأس واحد، وخرج بثلاثة رءوس، كيف لا أعتقد بالعجائب، وأنا لا أطبع إلا نسخة واحدة من جريدتي، وأوزع منها مائة ألف نسخة، كيف لا أعتقد بالعجائب والخمر الذي أشربه يتحول في أمعائي إلى ماء أصفر، كيف لا أعتقد بالعجائب، وديوان التفتيش لا يزال في الوجود، كيف لا وحضرتكم لا تزالون قواد الحيوانات، ورؤساء هذا المجلس؟ كيف لا أعتقد بالعجائب و...
المجلس (بصوت حي) :
اصمت يا شقي، قصر لسانك، أقلع عن السفاهة. (فالثعلب كان خاضعا لمزاج التهكم والهزل الذي استولى عليه في أثناء هذه الجلسة، ولولا ذلك لكان مات لا شك من العذاب الجسدي والعقلي الذي ذاقه، ومع أنه تطرف أحيانا في تهكمه، فالمتفكر العادل لا يسعه إلا أن يثني على تجلده وصبره، فهو لم يظهر في كل الجلسة شيئا من أمارات الغضب مع أن القضاة أثاروا كامن حقده، وعذبوه عذابا مؤلما، وناهيك عن أنه فاز في آخر الأمر على مستنطقيه بتهكمه الجارح، واستهزائه الفاتك، وعلى الأخص الحمار الذي ضاق صبره في تلك الآونة عند كلام الثعلب عن العجائب، وكان يضم الواحدة من أذنيه الطويلتين إلى الأخرى، ويقوم عن مجلسه ويقعد، ثم يرفس برجليه حتى إنه أخيرا نهق نهقة عظيمة، وضرب بيده على الطاولة، فوقعت على صليب من خشب، فتناوله وضرب به الثعلب، فأصاب رأسه الصغير، وشجه شجة عميقة، فوقع في الحال مغميا عليه، مختبطا بدمائه.)
الحصان (يخاطب الحمار) :
اكظم غيظك يا حضرة الأخ، ولا تبتدئ بالقصاص من الآن، فإن عملك هذا يدل على نقص في الحكمة، وضعف في احتمال المصائب.
الحمار :
ألا ترى وتسمع كيف أن هذا الشقي الكافر يشتمنا، ويهزأ بنا في وسط مجلسنا هذا، أما والله لو لم أكن على ثقة بأن الحكم سيكون بالإعدام لكنت أذبحه ذبحا، وأسلخه سلخا، أليس هذا عدو الله اللدود، وعدو الحيوانات العنيد؟ ألم يقل إنه لا يريد أن يملك عليه أحدا؟ ألم يقل لنا الأسد: «أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فآتوا بهم هاهنا، واذبحوهم قدامي»؟
الحصان :
نعم قال ذلك، ولكن فليذبحهم غيرنا بأمرنا، ولا نتنازل نحن لتدنيس أيدينا بهذه النطفة القذرة. (وفي مدة هذه المفاوضة كان الثعلب مطروحا على الأرض مغميا عليه، فأشار الحصان إلى الجحش بأن يضمد له جرحه، ويعطيه بعض المنعشات، ففعل ذلك، وعادت إلى الثعلب روحه، فأنهضه إذ ذاك الجحش عن الأرض، وهو لا يستطيع الوقوف من شدة الألم والدوار، فأذن له المجلس بالجلوس، فجلس على كرسي الاستنطاق ثانية، وعادت السؤالات كالصواعق تتراكم على رأسه الدامي.)
البغل :
أرأيت إلى أين أدت بك وقاحتك، قلت لك مرارا: الزم جانب الأدب، وكن محتشما ولا تجدف على الآيات المنزلة، ولا تسخر بالقضايا المقدسة، أنت تعرف حق المعرفة بأن الأسد لما جاء إلى العالم صنع العجائب الكثيرة، فأبرأ الأبرص، وسكن اضطراب البحر، ومشى على وجه الماء، وأحيى الصبية، وفتح العميان، وطرد الشياطين من المجانين، وأدخلهم في الخنازير.
الثعلب (يخاطب نفسه متمتما) :
لا والله فقد أدخلهم في البغال والحمير.
الحمار :
ماذا تقول؟
الثعلب :
قلت إن عندي في بيتي عددا من الخنازير.
الحمار :
وماذا تريد بهذا القول؟
فجلس على كرسي الاستنطاق ثانية وعادت السؤالات كالصواعق تتراكم على رأسه الدامي.
الثعلب :
أن لا أثر في هذه الخنازير لعجائب الأسد، فقد ذبحت أحدها في الأسبوع الغابر، وفتشت على الشيطان بالنظارة المكبرة في كل عضو من أعضائه، وكل ليفة من ألياف عضلاته فلم أجده، وأنا أقول لكم عن اختبار: إن الخنزير هو أهدأ وأعقل، وأسلم وأحب، وأنفع خليقة أوجدها الله على هذه البسيطة، فكيف لا أعتقد بالعجائب بعد هذا كيف لا ...
الحمار :
اصمت يا خنزير.
الثعلب :
إن عبدكم ثعلب وليس خنزيرا، لا تتطرفوا أجلكم الله في الشتيمة.
البغل :
أمرناك بالصمت، فما بالك لا تصمت، ونهيناك عن السفاهة والاستخفاف، فما بالك تزداد صفاقة وحماقة؟ ألا ترى نتيجة ضلالك المشوه بالسفاهة في رأسك المهشم.
الثعلب :
وهل تظنون أن الضرب والعذاب يغيران اعتقادي؟ هل في هذا الجرح برهان على ضلالي وحماقتي؟
الحصان :
يا أيها الثعلب التعيس، قد ضجرتنا بساسف أقوالك، وهيجت فينا كامن الحقد والرجز، وقد صبرنا على فضولك وتجديفك، حتى طفحت كأس الصبر، فالمجلس يأمرك الآن بأن تجاوب على هذا السؤال: «هل تعتقد بالعجائب التي صنعها الأسد على الأرض؟»
الثعلب :
من أين لي أن أرى هذه العجائب وأشاهدها، ولم لا يحدث نظيرها في هذه الأيام، إن العالم بحاجة كلية إلى العجائب والمعجزات ، وبالأخص لأن القوات الكهربائية والبخارية تزداد نشاطا، والاختراعات الجديدة تكثر عددا، وتعرفون حق المعرفة أن عدد الثعالب المفتكرين المتنورين يزداد يوما فيوما، وعبراتكم المقدسة كادت أن تفرغ من الركاب، فلم لا يرينا الأسد من عجائبه في هذا الزمان المكهرب المبخر؟ كم من الحيوانات تموت غرقا في هذه الأيام؟ فلم لا يخلصهم الحوت، لم لا يبتلعهم ويبقيهم في جوفه ثلاثة أيام، ثم يتقيأهم على جزيرة أو شاطئ وهم أحياء؟ «أنا لا أصدق، ولا أؤمن إلا إذا شاهدت بعيني»، هكذا قال أحد الحمير الصالحين، فما أحسن هذا الكلام الذي اتخذته لي سنة لأجل راحة ضميري وعقلي، لربما قلتم لي: إن تلاميذ الأسد يشهدون على معجزاته وإن شهاداتهم مطابق بعضها لبعض، فأسألكم باعتبار من هم هؤلاء الشهود أليسوا حيوانات مثلنا، وزد على ذلك أنهم كانوا أميين لا يحسنون القراءة والكتابة، ولا يقوون على الحكم والتمييز في مسائل دقيقة كهذه، فلو قلنا: إن الأسد فتح الأعمى يجب أن يكون الشاهد على عمله هذا ماهرا في تطبيب العينين؛ كي يستطيع أن يميز بين الرمد والعمى، فقبل أن تصدقوا هذه القصة افحصوا أولا غير مأمورين حالة الأعمى كي تتحققوا أمره، فلربما كان مصابا برمد شديد، فتوهمت بقية الحيوانات الغبية أنه أعمى، فجاء الأسد وهو ماهر في فن الطب، وشفاه بالأدوية، فهل تحسب هذه أعجوبة؟ برهنوا لي أولا أن الحيوان كان حقيقة أعمى، ثم هاتوا شهودكم المتضلعين من فن الطب لتثبتوا روايتكم، ثم جئوا بالأسد وقولوا له: هذا حيوان أعمى، فتح عينيه، فإذا فتحها وكنت أنا حاضرا أظن أنني أصدق وأؤمن، أما الآن فالعجائب التي ترون قصصها في كتابكم مفتقرة إلى شهود فيهم الكفاءة، وبينات يقبلها العقل، ولا يمحها الذوق السليم، ولربما كنت مخطئا في رأيي، ولكن هو الضمير الذي يجب أن يطاع، والعقل الذي يجب أن تبدو أحكامه باستقامة وجرأة، فقد بينت لكم أفكاري كما هي دون تصنع ولا رياء، فلكم أن تقبلوها أو ترفضوها، إن الواجب الذي يفرضه علينا الضمير مقدس، وأنا أتممه بسرور وارتياح ، ولو تحت ظل المشنقة، أو فوق لهيب النار، إن الله قادر على كل شيء، ولو كان اعتقادي مخالفا لنواميسه لكان يلهمني أن أستبدله باعتقاد آخر، فإذن اعتقادي موافق لنواميس الله الذي أؤمن بقوته، وأصنع مشيئته، فأنا لست ...
الحصان :
كفاك شقشقة، كفاك صفاقة وهذرا، قل لنا بكلمة واحدة: هل تعتقد بالعجائب الإلهية أم لا؟
الثعلب :
إن الله قادر على كل شيء، فكيف إذن لا يصنع العجائب، ولكن قلت وأقول لكم: إن العجائب التي تدونت قصصها في كتبكم مفتقرة إلى بينات معقولة، وشهادة شهود متنورين، فأنا لا أنكر هذه العجائب ولا أصدقها، فلربما نكون قد حدثت بطرائق لم يخبرنا عنها التاريخ، ولربما تكون صنعة الدجالين والكذابين، فأقول إذن: لا أعرف، لا أدري.
الحمار :
كأنك مشتاق إلى العذاب فهل لك أن تجاوب على سؤالنا.
الثعلب :
لا أدري.
الحصان :
أذقه هذه المرة العذاب المائي. (فجاء الجحش ببرميل من الماء، وركب فيه أنبوبة، ومددوا الثعلب على الأرض، وقبضوا على يديه ورجليه، ثم أدخلوا الأنبوبة في فمه، وأخذ الجحش يضخ الماء حتى كاد الثعلب يختنق، فصرخ صرخة خفيفة، وحملق بعينيه مشيرا إلى رضوخه، فوقفت يد الجحش عن العمل، ورفع الثعلب رأسه وقال: «إني أجاوب»، فأعاد عليه الحصان السؤال فأجاب سلبا، فأنهضوه عن الأرض، وعادوا به إلى مركزه.)
دون أيها الكاتب ما يلي: قد اعترف الثعلب بأنه لا يعتقد بالعجائب الإلهية، وذلك بعد أن سيم العذاب المائي الاعتيادي.
فدون الكاتب، ثم أمره الحصان بأن يقرأ على مسامع القضاة اعترافات الثعلب، فنهض الكاتب وقرأ ما يلي: قد اعترف الثعلب المتهم بأنه: أولا: لا يؤمن بالكتاب المقدس. ثانيا:لا يعتقد بالله. ثالثا: لا يعتقد بألوهية الأسد. رابعا: لا يعتقد بالصور المقدسة. خامسا: لا يعتقد بأن اللبؤة حبلت بلا دنس. سادسا: لا يؤمن بالعجائب الإلهية. ولما انتهى الكاتب من قراءة الوقائع أمر المجلس بأن يقيد الثعلب بسلاسل الحديد، ويقاد إلى السجن لينتظر هنالك حكم القضاة، وبعد أن وضعت يداه ورجلاه في القيود وقف كالفريسة الضالة أمام المجلس، ووجنتاه مخضبتان بالدم الذي كان يسيل من رأسه المجروح، وقال: «هاتوا صليبكم لأحمله وجيئوا باللصين لأموت معهما»، أما المجلس فكان قد ارفض، ولم يكترث القضاة بكلام الثعلب المؤثر الذي يذكرهم لو تأملوا بحياة الأسد وجهاده ضد الشر، فخرجوا غير مبالين يتشاورون في قضية الملحد الذي سيق محتقرا مهانا إلى السجن.
الفصل السادس
فلتكمل مشيئة الله
وفي اليوم الثالث اجتمع الحصان والبغل والحمار في ديوان التفتيش، وأمروا بإحضار الثعلب المتهم بالكفر والإلحاد إلى المجلس كي يسمع الحكم الذي أصدره القضاة الثلاثة، وكانت قضيته قد اشتهرت، فسمع بها القاصي والداني من جميع الحيوانات، فحضر منهم عدد غفير إلى المجلس ليروا الثعلب المتهم، ويسمعوا تلاوة الحكم المخيف، ولما دخل الثعلب المجلس مكبلا بالحديد، ومحاطا باثنين من الخفر أخذت الحيوانات في اللبيط والصفير والنهيق، ولم يكن المتفرج ليسمع إلا كلمات يفهم منها الصلب والشنق والحريق: فليمت الثعلب! فلتسقط الكهربائية! فليحيا المجلس!
الحصان :
يأمركم المجلس بالنظام، وينهاكم عن المظاهرات والصفير والنهيق، اسمعوا قراءة الحكم الذي أبرزه المجلس بصوت حي. (فاستتب عند ذلك السكوت، وبدأ الكاتب بقراءة ما يلي):
قد ظهر للمجلس وتحقق للمستنطقين: أولا أن للثعلب اعتقادات خصوصية شريرة تخالف تعاليم جمعيتنا المقدسة، وتناقض شريعة الله التي أقامنا عليها أمناء وأوصانا بها، وهذا ما ندعوه كفرا وإلحادا. وقد تبين ثانيا أن المتهم لم يبرهن عن اعتقاداته الفاسدة إلا بأسلوب التهكم والازدراء والاستخفاف؛ إذ كان يتكلم عن القضايا المقدسة بالهزء والسخرية، وهذا ما نسميه تجديفا. وثالثا أنه لم يجاوب على سؤالات القضاة إلا بعد أن سيم العذاب الاعتيادي والغير اعتيادي، وهذا ما نعتبره تمردا وتكبرا. ورابعا أنكر على القضاة السلطة، واحتقرهم وأهانهم بإلقائه عليهم سؤالات ليس من شأنه إلقاؤها، وهذا ما نعده وقاحة وفضولا، ولذلك قد التأم المجلس في جلسة سرية، وتفاوض الأعضاء في أمر المتهم، وأبرموا الحكم الآتي: «بقوة السلطة الروحية المعطاة لنا نحن أعضاء مجلس التفتيش نحكم على الثعلب أولا بالفضول والوقاحة. وثانيا بالتمرد والعصيان. وثالثا بالتجديف. ورابعا بالكفر والهرطقة والإلحاد، وعقابه على كل واحد من هذه الجرائم هو كما يلي: قصاص الذنب الأول هو أن نغصب من الملحد كل أملاكه، وتضاف إلى أملاك الجمعية المقدسة، وعقاب الذنب الثاني أن يبقى تحت الحرم سنة كاملة، والثالث: أن يلقى في السجن خمس سنوات، وأما عقاب الذنب الرابع فهو الإعدام بالنار، وقد حركت أعضاء المجلس عاطفة الشفقة والرحمة، فعزموا على نقض الحكم بالإعدام إذا أنكر المتهم اعتقاداته الخبيثة الشيطانية المضرة، واعترف بشرائعنا، واعتذر أمام المجلس عن كل كلمة وقحة فاه بها أثناء المحاكمة. أما الذنوب الثلاثة الأخرى، فعقاب المتهم عليها ثابت كما ذكرنا تأديبا للكافرين المارقين، والمتمردين المجدفين، ويسأل المجلس الثعلب أمام الجمع عما إذا كان يريد أن يرجع عن غيه، ويكفر عن ذنوبه بإنكاره كل اعتقاداته الخبيثة، ويعترف بتعاليمنا كي يعفى عنه من الموت»، ولما انتهى الكاتب من قراءة الحكم عاد الحصان إلى السؤال قائلا: هل تريد أن تفعل ذلك؟ فأجاب الثعلب بدون تردد: هل تريدون أن أشتري حياتي بضميري، إني لا أرى نسبة بين الثمن والمشترى اطلبوا مني غير هذا.
تذكر أنك رب عائلة فلك زوجة وأولاد يشق - لا شك - عليك فراقهم، ألا تعرف بأنك تجلب إلى عائلتك التعاسة والشقاء إذا أنت لم تنكر اعتقاداتك الخبيثة؟ ألا تعرف بأنك مديون لأولئك الصغار أولادك، فلا تكن لهم مثلا رديئا، وقدوة قبيحة تأمل قليلا أعد نظرك على هذه المسائل الخطيرة لا تكن أحمق متمردا، إذ إن هذه الصفات السافلة لا تكسبك شيئا، وشكاسة أطباعك تفضي بك إلى النار، فنسألك الآن ثانية، هل تريد أن تنكر اعتقاداتك، وتعتذر عن وقاحتك، وتجديفك، وترتد إلى اعتقادك الأصلي الذي نشأت عليه، وورثته عن أجدادك؟
الثعلب :
أنتم أيها القضاة المحترمون الأفاضل أحوج في رأيي إلى الإنكار والاهتداء مني، فأنتم في عيني كما أنا في أعينكم، فإذا طلبتم مني إنكار اعتقادي تجعلون لي حقا بأن أطلب منكم إنكار اعتقادكم، وإذا تركتموني وشأني أترككم وشأنكم، فلم تحكمون علي بالإعدام، وأنا لم أرتكب قط ذنبا، لماذا أعطاني إلهي عقلا، ووهبني قوتي الحكم والتمييز، ألكي أقتلهما وأعيش من أجل بطني فقط؟ أيعطي الله العصفور جناحين، ثم يهلكه إذا طار بهما؟ أيعطيني عقلا ثم يهلكني إذا استخدمته للافتكار والتأمل؟ لا شك في أن اعتقادي هو أرسخ في قلبي من اعتقادكم في قلوبكم، ومتى أنكرت وجود الخالق أنكر إذ ذاك اعتقادي، وأقر لكم بتعاليمكم الخرافية، فأنتم أكرهتموني فاعترفت بما لا أعترف به إلا بعد العذاب الأليم اضطررتموني إلى إنكار وجود الله، وأنا لا أنكر إلا إلهكم، أجبرتموني على إنكار الكتاب بكامله، وأنا لا أستهجن إلا ما جاء فيه من الخرافات والخزعبلات، تقولون إني أنكر العجائب، وأنا لم أنكر ولم أثبت، ولكن لكم الأمر وعلي الطاعة، أما ما تطلبونه الآن فهو أكثر مما أطلبه من نفسي، لا يا أسيادي إن الحياة التي تريدون قتلها بخسة جدا بالنسبة إلى الضمير الذي يحيا سعيدا شريفا طاهرا، إن هذا الجسد لا يسوى ما تطلبونه مني، أنتم تطلبون قتل ضميري ليبقى جسدي حيا، وما نفع الجسد بلا ضمير، فأنا أفضل أن أرى نفسي في النار المستعرة على أن أرى ضميري مكبلا بسلاسل العبودية، خذوا جسدي، واتركوا لي ضميري.
الحمار :
أيها الثعلب المسكين، اسمع صراخ زوجتك، ترأف على أولادك، أشفق على نفسك، إن الحياة عزيزة، والهلاك الأبدي فظيع مرعب، فاحفظ الأولى واتق الثاني، احفظ حياتك بكلمة واحدة، أنكر اعتقاداتك، وعش مع زوجتك وأولادك سعيدا.
الثعلب :
لا تزدني من هذه الإرشادات، فقد عزمت على أن أموت من أجل اعتقادي، كما مات الأسد على الصليب من أجل دعوته، خذوني إلى النار، وألقوني فيها فأستريح من هذه الحياة، وأفرح بالآخرة.
الحصان :
إذن أنت تأبى الإنكار، وترفض الاهتداء، فلا حول ولا قوة، فالمجلس إذن يبعث بك تحت الحفظ إلى أصحاب السلطة المدنية لينفذوا فيك حكمه المبرم. (وتبوأ عندئذ الحصان كرسيه، وأمر الكاتب بأن يأخذ قرطاسا وقلما، ويكتب ما يلي):
إلى الثور قاضي قضاة الحكومة المدنية:
إن مفتاح السماء يستنجد سيف الدولة، فالثعلب الواصل إليكم قد حوكم في مجلسنا على اعتقاداته الشخصية الخبيثة المضرة بتعاليمنا، ووجد بعد المخابرة والاستنطاق أنه ارتكب الذنوب الآتية: أولا الوقاحة والاستهزاء. ثانيا التمرد والمكابرة. ثالثا التجديف. ورابعا الكفر والهرطقة والإلحاد، وقد رفض أن يهتدي، وينكر اعتقاداته الشيطانية، مكفرا بذلك عن ذنوبه القبيحة، وفضل أن ينفذ فيه حكم المجلس الذي هو كما تعلمون الإعدام في النار، فأملنا أن تستخدموا القوة المعطاة لكم لتنفيذ حكم المجلس، وفي كل الأحوال إن مفتاح السماء يستنجد سيف الدولة.
الداعون لحضرتكم
الحصان، الحمار، البغل
أعضاء مجلس التفتيش (ولما فرغ الكاتب من كتابة الرسالة قدمها إلى المجلس فوقع عليها كل منهم بإمضائه، وسلمها الحصان مختومة إلى الخفر قائلا: خذ الثعلب تحت الحفظ إلى السجن، وسلم هذه الرسالة إلى صاحبها، فنحن والحمد لله قد تممنا وظيفتنا، ونقدر أن نقول براحة وسرور، وضمير مستقيم: «إننا أبرياء من دم هذا الصديق»، فلتكمل مشيئة الله.)
الحمار :
وسيرى الثعالب أي منقلب ينقلبون.
البغل :
فلتكمل مشيئة الله، وارفض المجلس عندئذ، وخرج جميع الحيوانات متهللين فرحين وهم ينتظرون أن يشاهدوا عن قريب إحراق الكافر المسكين.
أما الثور، فإنه عندما وصله الكتاب فضه، وقرأه، ثم صادق عليه، وناوله للجلاد؛ ليعمل بموجبه، وأعطي الثعلب فرصة عشرة أيام ليتفكر في أمره؛ لعله يرتد عن غيه، وينكر اعتقاده، وكان الثور يذهب كل يوم إلى الثعلب في سجنه، ويحاول إقناعه، ولكنه لم يظفر بأرب إذ إن المحكوم عليه بقي مصرا على عناده، متشبثا بآرائه، ومحافظا على ما كانت تدعوه إليه استقامة ضميره التي أفضت به إلى الموت احتراقا، وبعد أن مضت المدة المعينة، وجاء صبح اليوم الحادي عشر ذهب الجلاد مع أعوانه إلى الساحة العمومية في المدينة، وأضرموا هنالك نارا متأججة، وجاءوا بالمحكوم عليه راسفا بسلاسل الحديد، محاطا بالخفر، وأوقفوه على دكة عالية تشرف على النار المضطرمة بالقرب منها. وكانت الحيوانات قد ازدحمت في الساحة العمومية، ومن جملتهم الحصان والحمار والبغل الذين أتوا ليروا هذا المشهد المرعب، ويتلذذوا بثمرة أعمالهم الصالحة، ولم يكن بين كل هذه الخلائق المحتشدة ثعلب واحد؛ لأن الحكومة كانت قد اتخذت كل الاحتياطات لمنع المظاهرات الثعلبية، وأعلنت أنها تستخدم القوة في هذا اليوم لقمع كل عنيد مكابر يحاول أن يثير الخواطر، ويدس الدسائس، فبقيت الثعالب في بيوتها، واحتملت المصيبة بقلب مملوء من الخوف والحنق.
وكان السرور والابتهاج يشملان كل الجماهير المحتشدة؛ إذ إن أكثر الحيوانات كانوا يكرهون الثعالب الكافرة، ويعتقدون بأن وجودهم مضر بالصالح العمومي، فشكروا المجلس الذي أصدر الحكم، والقاضي الذي صادق عليه، وجاءوا الآن ليسدوا شكرهم الجزيل إلى الجلاد الذي ينفذه.
فوقف إذ ذاك الجلاد بالقرب من الثعلب على الشرفة، وحلق له شعره، وعصب عينيه بمنديل، وخاطبه قائلا: أسألك لآخر مرة إن كنت تريد أن تنكر اعتقادك، وترتد عن غيك مهتديا إلى الصواب، فرفع الثعلب يده إلى السماء، وقال: «اسأله عز وجل، ولا تسألني».
الجلاد :
لا تريد أن تنكر اعتقادك إذن؟
الثعلب :
إني أموت لأن الحيوانات نيام، أما أنتم فستموتون؛ لأنهم سيكونون أيقاظا.
الجلاد :
إذا بالسلطة المعطاة لي من الثور قاضي القضاة، وبموجب الأمر الذي بيدي أرمي هذا الثعلب الكافر في النار لتطهر جامعتنا، وتنقى آدابنا من سفاهات الزندقة، التي تشوهها. (وعند ذلك رجع الجلاد إلى الوراء، وأخذ الحبل الموصول باللوح، وشد به فانسحب اللوح من تحت أقدام الثعلب، ووقع في النار المستعرة، تحته فصرخ إذ ذاك الجلاد قائلا: (فلتكمل مشيئة الله)، فكان لصرخته صدى تصاعد من بين الجمع الذي هتف مرددا: «فلتكمل مشيئة الله»، فليمت كل كافر، فليحا البغل والحمار والحصان.)
أما الثعلب، فلما انسحب من تحت أقدامه اللوح، ووقع في جوف النار المستعرة صرخ صرخة مرعبة هائلة، وكان لم يزل مالكا على عقله عندما هتف الجمع المحتشد: «فلتكمل مشيئة الله»، فحركته عواطفه الفطرية لتذكر خالقه، فهتف معهم بصوت يخنق اللهيب: (فلتكمل مشيئة الله)، وبعد مضي برهة من الزمن أصبح الثعلب رمادا، فسرت الحيوانات، وصعد بعدئذ الحمار والبغل والحصان إلى الشرفة ليشكروا الله، ويتوسلوا إلى العزة الإلهية كي تساعدهم دائما على استئصال شأفة كل كافر ملحد، ولم يكد الحصان يلفظ اسم الخالق حتى حدث في الجو اضطراب عظيم، فاكفهرت السماء، وهطلت الأمطار، وتساقط البرد كالحجارة، وجالت ريح عاصفة في أرجاء الفضاء تجر وراءها البرق والصواعق، وبقي هذا الحال مدة نصف ساعة، فوقف الجميع مرتعشين خائفين، ثم انقشعت الغيوم، وظهر من ورائها الأسد راكبا أوتومبيلا كبيرا، فوقف فيه وخاطب الحصان والحمار والبغل قائلا: «اطلب رحمة وليس ضحية، قلت لكم: حبوا أعداءكم، قلت لكم: لا تدينوا لئلا تدانوا، قلت لكم: مثلما تريدون أن يفعل الغير بكم افعلوا أنتم بهم أيضا، قلت لكم: لا تقتلوا، بأي جسارة ترتكبون هذه الجرائم الفظيعة، ومن ثم تقولون: إنها من أجلي؟ أي متى قلت اذبحوا وأحرقوا إخوانكم من أجلي؟ بأي كتاب قلت عذبوهم، واطردوهم، وأحرقوهم، واسجنوهم من أجلي؟ أما والحق أقول لكم: إنكم دنستم اسمي، وافتريتم علي، وأفسدتم تعاليمي، ويل لكم من العقاب الشديد الصارم، ويل لكم حين تقفون يوم الدين لتجاوبوا عن كل جريمة ترتكبونها باسمي من أجل مطامعكم، وغاياتكم الذاتية!» فتشجع عند ذلك الحمار، ونفض عن جسمه غبار الرعشة، وخاطب الأسد بصوت خافت قائلا: ألم تقل لنا: «أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فآتوا بهم ها هنا واذبحوهم قدامي»، فصرخ الأسد إذ ذاك صرخة مرعبة قائلا: «هذا كذب باسمي وافتراء علي، فأنتم أفسدتم تعاليمي، ونقحتموها على ما يوافق أذواقكم، ويساعدكم على نيل مطامعكم، بأي جسارة تضيفون عليها هذه الآيات الشيطانية، فكيف أقول لكم حبوا أعداءكم، ثم أناقض نفسي بنفسي، وآمركم بذبح أعدائي، الحق أقول لكم: إن جرائمكم عديدة، وويل لكم في الآخرة، فاذهبوا من أمامي، ولا تتجاسروا على تكرير هذه الأعمال الفظيعة»، وتلبدت إذ ذاك السماء بالغيوم، وغاب الأسد في أوتومبيله عن الأبصار.
أما الحصان والبغل والحمار، فذهبوا إلى إسطبلهم منكسين وجوههم خاسئين، وبينما هم سائرون ذات يوم على طريق السكة الحديدية؛ إذ صفر قطار العلم القائد عربات البخار والكهربائية والاختراعات، ومر عليهم جميعا فسحقهم سحقا، وتطايرت رءوسهم، وبقايا أجسادهم في الجو، وتشتتت أعضاؤهم المتقطعة على طريق التمدن الحديث ا.ه.
अज्ञात पृष्ठ