مناجاة أرواح
في خيبتي غلبتي
الكآبة الخرساء
العالم الكامل
إنني عبدك يا ربي
هل تأيدت العدالة؟
أيتها الأرض
العطاء
الصداقة
ابن الفارض
مصرع البطل
الكمال
المعرفة ونصف المعرفة
القديس
الطمع
الشعراء
الخلافات
الملك الناسك
فلسفة الابتسامة
شكوى القبور
المدينة العظمى
حكم وآراء
الشيطان
الكلام وطوائف المتكلمين
مناجاة أرواح
في خيبتي غلبتي
الكآبة الخرساء
العالم الكامل
إنني عبدك يا ربي
هل تأيدت العدالة؟
أيتها الأرض
العطاء
الصداقة
ابن الفارض
مصرع البطل
الكمال
المعرفة ونصف المعرفة
القديس
الطمع
الشعراء
الخلافات
الملك الناسك
فلسفة الابتسامة
شكوى القبور
المدينة العظمى
حكم وآراء
الشيطان
الكلام وطوائف المتكلمين
مناجاة أرواح
مناجاة أرواح
تأليف
جبران خليل جبران
مناجاة أرواح
- استيقظي يا حبيبتي! استيقظي؛ لأن روحي تناديك من وراء البحار الهائلة، ونفسي تمد جناحيها نحوك فوق الأمواج المزبدة الغضوبة. استيقظي، فقد سكنت الحركة، وأوقف الهدوء ضجة سنابك الخيل، ووقع أقدام العابرين، وعانق النوم أرواح البشر فبقيت وحدي مستيقظا؛ لأن الشوق ينتشلني كلما أغرقني النعاس، والمحبة تدنيني إليك عندما تقصيني الهواجس، وقد تركت مضجعي يا حبيبتي خوفا من خيالات السلو
1
المختبئة بين طيات اللحف، ورميت بالكتاب؛ لأن تأوهي
2
قد أباد السطور من صفحاته، فأصبحت خالية بيضاء أمام عيني. استيقظي! استيقظي يا حبيبتي واسمعيني. - ها أنا ذا يا حبيبي قد سمعت نداءك من وراء البحار، وشعرت بملامس جناحيك، فانتبهت
3
وتركت مخدعي، وسرت على الأعشاب فتبللت قدماي وأطراف ثوبي من ندى الليل، ها أنا واقفة تحت أغصان اللوز المزهرة أسمع نداء نفسك يا حبيبي! - تكلمي يا حبيبتي! ودعي أنفاسك تسيل مع الهواء القادم نحوي من أودية لبنان. تكلمي، فلا سامع غيري؛ لأن الظلمة قد دحرت جميع المخلوقات إلى أوكارها،
4
والنعاس أسكر سكان المدينة وبقيت وحدي صاحيا. - قد نسجت السماء نقابا من أشعة القمر، وألقته على جسد لبنان يا حبيبي! - قد حاكت السماء من ظلمة الليل رداء كثيفا مبطنا بدخان المعامل وأنفاس الموت، وسترت به أضلع المدينة يا حبيبتي!
قد رقد سكان القرى في أكواخهم القائمة بين أشجار الجوز والصفصاف، وتسابقت نفوسهم نحو مسارح الأحلام يا حبيبتي!
قد أناخت
5
أحمال الذهب قامات البشر، وأوهنت
6
عقبات المطامع ركبهم، وأثقلت المتاعب أجفانهم، فارتموا على الفرش، وأشباح الخوف والقنوط تعذب قلوبهم يا حبيبتي!
قد سرت في الأودية خيالات الأجيال الغابرة،
7
وحامت على الروابي أرواح الملوك والأنبياء، فانثنت فكرتي نحو مسارح الذكرى، وأرتني عظائم الكلدانيين والآشوريين، وفخامة ونبالة العرب.
قد سرت في الأزقة أرواح اللصوص القاتمة، وظهرت من بين شقوق النوافذ رءوس أفاعي الشهوات، وجرت في منعطفات الشوارع أنفاس الأمراض ممزوجة بلهاث
8
المنايا، فأزاحت الذكرى ستائر النسيان، وأرتني مكاره سادوم وآثار عامورة.
9
قد تمايلت الأغصان يا حبيبتي! ويحالف حفيفها مع خرير ساقية الوادي ورددت على مسامعي نشيد سليمان ورنات قيثارة داود وأغاني الموصلي.
قد ارتعشت نفوس أطفال الحي، وأقلقهم الجوع، وتسارعت نهدات الأمهات المضطجعات على أسرة
10
الهم واليأس، وأراعت أحلام العوز
11
قلوب الرجال المقعدين، فسمعت نواحا مرا، وزفيرا متقطعا يملأ الضلوع ندبا ورثاء.
قد فاحت روائح النرجس والزنبق، وعانقت عطر الياسمين والبيلسان، ثم تمازجت بأنفاس الأرز الطيبة، وسرت مع تموجات النسيم فوق الطلول المتشعبة، والممرات الملتوية، فملأت النفس انعطافا، ومنحتها حنينا إلى الطيران.
قد تصاعدت روائح الأزقة الكريهة، واختمرت بجراثيم العلل، ومثل أسهم دقيقة خافية قد خدشت الحس وسممت الهواء. - ها قد جاء الصباح يا حبيبي! وداعبت أصابع اليقظة أجفان النيام، وفاضت الأشعة البنفسجية من وراء الجبل، وأزالت غشاء الليل عن عزم الحياة ومجدها، فاستفاقت القرى المتكئة بهدوء وسكينة على كفتي الوادي، وترنمت أجراس الكنائس وملأت الأثير نداء مستحبا معلنة بدء صلاة الصباح، فأرجعت الكهوف صدى رنينها كأن الطبيعة بأسرها قامت مصلية. قد غادرت العجول مرابضها، وتركت قطعان الغنم والماعز حظائرها، وانثنت نحو الحقول ترتعي رءوس الأعشاب المتلفعة بقطر الندى، ومشى أمامها الرعاة ينفخون الشبابات، ووراءها الصبايا المتأهلات مع العصافير بقدوم الصباح. - قد جاء الصباح يا حبيبتي! وانبسطت فوق المنازل المكردسة
12
أكف النهار الثقيلة، فأزيحت الستائر عن النوافذ، وانفتحت مصاريع
13
الأبواب، فبانت الوجوه الكالحة، والعيون المعروكة، وذهب التعساء إلى المعامل، وداخل أجسادهم يقطن الموت في جوار الحياة، وعلى ملامحهم المنقبضة قد بان ظل القنوط
14
والخوف، كأنهم منقادون قهرا إلى عراك هائل مهلك.
ها قد غصت الشوارع بالمسرعين الطامعين، وامتلأ الفضاء من قلقلة
15
الحديد، ودوي الدواليب، وعويل البخار، وأصبحت المدينة ساحة قتال يصرع فيها القوي الضعيف، ويستأثر الغني الظلوم بأتعاب الفقير المسكين. - ما أجمل الحياة ها هنا يا حبيبي! فهي مثل قلب الشاعر المملوء نورا ورقة! - ما أقسى الحياة ها هنا يا حبيبتي! فهي مثل قلب المجرم المفعم
16
بالإثم والمخاوف.
في خيبتي غلبتي
يا خيبتي، يا خيبة! يا وحدتي وانفرادي، إنك لأعز لدي من ألف انتصار، وأحلى على قلبي من كل أمجاد الأقطار.
يا خيبتي، يا خيبة!
يا معرفتي لنفسي واحتقاري لذاتي، بك أعرف أنني لا أزال فتيا سريع الخطى، فلا تغريني أكاليل الغار الذابلة الفانية، بك قد حظيت بوحدتي وانفرادي، وتذوقت لذة فراري واحتقاري.
يا خيبتي، يا خيبة!
يا سيفي البتار
1
وترسي البراق، قد قرأت في عينيك:
إن الإنسان متى جلس على عرش الملك، فقد صار عبدا،
ومتى أدرك الناس أعماق روحه، فقد طوى كتاب حياته،
ومتى بلغ أوج
2
كماله، فقد قضى نحبه.
3
بل هو كالثمرة إذا نضجت سقطت واندثرت، يا خيبتي يا خيبة! يا رفيقي الباسل الودود، أنت وحدك تسمعين إنشادي، وصراخي، وسكوتي، وليس غيرك بمحدثي عن خفقان الأجنحة، وهدير البحار، وعن قذائف البراكين الثائرة في دوامس
4
الليالي.
أنت وحدك تتسلقين صخور نفسي الجلمودية
5
الشامخة.
يا خيبتي، يا خيبة! يا شجاعتي التي لا تموت، أنت تضحكين معي في العاصفة، وتحفرين معي قبورا لما يموت مني ومنك، وتقفين معي أمام وجه الشمس بجلد
6
وثبات، فنكون معا هائلين مرعبين.
الكآبة الخرساء
أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق
1
جدران السجن وثقل قيوده، أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب: عهدا ذهبيا، يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه، ويطير مرفرفا فوق رءوس المشاغل والهموم، مثلما تجتاز النحلة فوق المستنقعات الخبيثة سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء، كانت تقطن قلبي، وتثور كالعواصف في جوانبه، وتتكاثر نامية بنموه ولم تجد منفذا تتصرف منه إلى عالم المعرفة، حتى دخل إليه الحب، وفتح أبوابه وأنار زواياه.
فالحب قد عتق لساني فتكلمت، ومزق أجفاني فبكيت، وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت.
أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم، وسمعت همس طهركم، وأنا أيضا أذكر تلك البعثة الجميلة من شمال لبنان، فما أغمضت عيني عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحرا وهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذا الاجتماع، إلا وسمعت خرير تلك السواقي، وحفيف تلك الغصون، ولكن هذه المحاسن التي أذكرها الآن، وأشوق إليها شوق الرضيع إلى ذراع أمه، هي هي التي كانت تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة
2
مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاة الوسيعة ... وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل، ومرارة التفكير، وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقابا من اليأس والقنوط حول قلبي ... فلم أذهب إلى البرية إلا وعدت منها كئيبا، جاهلا أسباب الكآبة، ولا نظرت مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إلا وشعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعت تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير، إلا ووقفت حزينا لجهلي موحيات الحزن.
يقولون: إن الغباوة مهد الخلود، والخلود مرقد الراحة ... وقد يكون صحيحا عند الذين يولدون أمواتا، ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب، ولكن إذا كانت الغباوة أقصى من الهاوية، وأمر من الموت، والصبي الحساس الذي يشعر كثيرا ويعرف قليلا، هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس؛ لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين:
3
قوة خفية تحلق به إلى السحاب، وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض، وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعا خائفا في ظلمة حالكة.
4
للكآبة أياد حريرية الملامس قوية الأعصاب تفيض على القلوب وتؤلمها بالوحدة، فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كل حركة روحية، ونفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة، شبيهة بالزنبقة البيضاء عند خروجها من الكمامة
5
ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر، وتضم أوراقها بمرور خيالات المساء، فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الأميال كانت الحياة أمامه كحبس ضيق، لا يرى في جوانبه غير أقوال العناكب، ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
أما تلك الكآبة التي أتعبت أيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي؛ لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عن افتقاري إلى الرفاق؛ لأني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض
6
علة طبيعية في النفس، كانت تحبب إلي الوحدة والانفراد، وتميت في روحي الأميال إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفي أجنحة الصبا، وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال، يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح، وألوان الغيوم، وخطوط الأغصان، ولكنه لا يجد ممرا يسير فيه جدولا مترنما إلى البحر.
هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة، فتلك السنة هي من ماضي بمقام القمة من الجبل؛ لأنها أوقفتني متأملا تجاه هذا العالم، وأرتني سبل البشر، ومروج أميالهم، وعقبات عتابهم، وكهوف شرائعهم وتقاليدهم.
في تلك السنة ولدت ثانية، والمرء إن لم تخبل به الكآبة ويتمخض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
العالم الكامل
يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، استمعني! أيها القدير الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة المجنونة، أصغ إلي! فإني وأنا ناقص أعيش بين الكاملين من البشر. أنا، أنا البشرية المشوشة السديم، المضطرب العناصر، أتخطر بين عوالم تامة من شعوب قد كملت شرائعهم، وتنزهت نظمهم، وتنسقت أفكارهم
1
وترتبت أحلامهم، وتسجلت رؤاهم، في الأسفار
2
والدواوين.
رباه! إن هؤلاء الناس يقيسون فضائلهم بالمقاييس، ويزنون خطاياهم بالموازين، ولديهم سجلات وفهارس لما لا يحصى من التوافه والنقائص التي ليست بالخطايا فتعرف، ولا بالفضائل فتنصف.
ويقسمون أيامهم ولياليهم إلى أقسام مقننة مرتبة، فيفعلون كل شيء في حينه على وفق ما يخطر لهم، فالأكل والشرب والنوم وكساء العرية، ثم السآمة والضجر، في حينه.
والعمل واللعب والغناء والرقص، ثم الاستراحة عندما تحين ساعتها.
الافتكار بهذا، والشعور بذاك، ثم العدول عن الافتكار والشعور عندما يشرق نجم الأمل السعيد فوق الأفق البعيد.
سلب الجار بثغر باسم، ومنح العطايا بيد تتوقع الثناء والشكر، ثم المديح بفطنة، والملامة بترو، وقتل النفس بكلمة، وإحراق الجسد بقبلة، وغسل اليدين عند المساء كأن لم يكن هنالك من شيء.
المحبة بتقليد مطروق،
3
والتسلية على منوال مسبوق، وعبادة الآلهة كما يحق ويليق، والاحتيال على الشياطين والمكر بالزنديق، ثم نسيان كل ما جرى وصار كأن الذاكرة حلم من أحلام الأغرار،
4
التصور لغاية، التأمل بعناية، والمسرة بدراية، والتألم بوقاية، ثم إفراغ كأس الآمال رجاء أن تملأها الأيام من المآل.
5
رباه، رباه! إن جميع هذه تسبق الفكر، فيحبل بها، والعزيمة فتلدها، والدقة فتربيها، والنظام فيسودها، والعقل فيديرها؛ ثم تنحر وتلحد في زوايا سكينة النفوس، فتبقى قبورها الموسومة
6
بالعلامات والأرقام عظة لنا ولجميع الأنام.
أجل، هذا هو العالم الكامل الذي بلغ أوجه، عالم الغرائب والمعجزات، بل هو أنضج ثمرة في جنان الله وأسمى عالم بين عوالمه، ولكن لم أنا ها هنا يا رب! لم أنا ها هنا، وأنا ثمرة عجراء
7
لم تنل بعد شهوتها من النماء، وعاصفة صماء هوجاء لا شرقا تبتغي ولا غربا، وذرة هائمة تائهة من كوكب محترق ثائر؟
لم أنا ها هنا؟ لم أنا ها هنا، يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة؟
إنني عبدك يا ربي
عندما ارتعشت شفتاي بالنطق لأول مرة، صعدت إلى الجبل المقدس، وناديت الله قائلا: «إنني عبدك يا ربي، مشيئتك الخفية شريعتي، وسأظل خاضعا لك سحابة الحياة.»
فلم يجبني الله بل مر كعاصفة واختفى عن ناظري.
وبعد ألف سنة صعدت ثانية إلى الجبل المقدس، وخاطبت الله قائلا: «أنا جبلة يديك يا خالقي، من تراب الأرض صنعتني، وبنفحة من روحك العلوية أحييتني، فأنا مدين لك بكليتي.»
فلم يجبني الله! وكألف من الأجنحة الخاطفة اجتاز بي عابرا.
وبعد ألف سنة صعدت إلى الجبل المقدس أيضا، وناجيت الله ثالثة قائلا: «يا أبتاه القدوس، أنا ابنك الحبيب، بالرأفة والمحبة ولدتني، وبالمحبة والعبادة سأرث ملكوتك.»
فلم يجبني الله في هذه المرة أيضا، وكالضباب الذي يغشى قصي التلال توارى عن عيني.
وبعد ألف سنة صعدت إلى الجبل المقدس، وخاطبت الله رابعة قائلا: «يا إلهي الحكيم العليم، يا كمالي ومحجتي.
أنا أمسك، وأنت غدي، أنا عروق لك في ظلمات الأرض، وأنت أزاهر لي في أنوار السماوات، ونحن ننمو معا أمام وجه الشمس.»
فعطف الله إذ ذاك علي وانحنى فوقي، وهمس في أذني كلمات تذوب رقة وحلاوة، وكما يطوي البحر جدولا منحدرا إليه، توارى الله في أعماقه.
وعندما انحدرت إلى الأودية والسهول، كان الله هناك أيضا.
هل تأيدت العدالة؟
وكان عرس في قصر الأمير في إحدى الليالي، وكان المدعوون يدخلون ويخرجون، فدخل رجل مع الداخلين، وحيى الأمير باحترام ووقار، فنظر إليه الجميع بدهشة؛ لأن إحدى عينيه كانت مفقودة، والدم ينزف من نقرتها الفارغة.
فسأله الأمير قائلا: «ما دهاك يا صاح؟» فأجابه الرجل قائلا: «أنا لص أيها الأمير، وقد اغتنمت فرصة في ظلمة هذه الليلة على جاري عادتي، وذهبت لأسرق أموال أحد الصيارفة.
وفيما أنا أتسلق الجدار لأدخل دكان الصيرفي ضللت سبيلي، ودخلت من نافذة جاره الحائك، فعدوت طالبا الهرب وأنا لا أبصر شيئا لشدة الظلام، فلطم نول الحائك عيني وفقرها، ولذلك أتيتك الآن ملتمسا أن تنصفني من الحائك.»
فأرسل الأمير واستدعى الحائك، فأحضر الحائك في الحال، فأمر الأمير أن تقلع عينه.
فقال له الحائك: «بالصواب حكمت أيها الأمير، فإن العدالة تقضي بقلع عيني، ولكنه غير خاف على سموك أنني أحتاج في حرفتي إلى عينين لكي أرى حاشيتي الشقة التي أنسجها، غير أن لي جارا إسكافيا له عينان مثلي، ولكنه لا يحتاج في مهنته إلا إلى عين واحدة، فاستدعه إن أردت واقلع إحدى عينيه للمحافظة على الشريعة.»
فأرسل الأمير في الحال واستدعى الإسكافي، فحضر واقتلعت عينه.
وهكذا تأيدت العدالة!
أيتها الأرض
ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك!
ما أتم امتثالك للنور، وأنبل خضوعك للشمس!
ما أظرفك متشحة بالظل، وما أملح وجهك مقنعا بالدجى!
ما أعذب أغاني فجرك، وما أهول تهاليل مسائك!
وما أكملك أيتها الأرض، وما أسناك!
1
لقد سرت في سهولك، وصعدت على جبالك، وهبطت إلى أوديتك، وتسلقت صخورك، ودخلت كهوفك، فعرفت حلمك في السهل، وأنفتك
2
على الجبل، وهدوءك في الوادي، وعزمك على الصخر، وتكتمك في الكهف، فأنت أنت المنبسطة بقوتها، المتعالية بتواضعها، المنخفضة بعلوها، اللينة بصلابتها، الواضحة بأسرارها ومكنوناتها.
لقد ركبت بحارك، وخضت أنهارك، وتتبعت جداولك فسمعت الأبدية تتكلم بمدك وجزرك
3
والدهور تترنم بين هضابك وحزونك
4
والحياة تناجي الحياة في شعبك ومنحدراتك، فإنك إنك لسان الأبدية وشفاهها، وأوتار الدهور وأصابعها، وفكرة الحياة وبيانها.
لقد أيقظني ربيعك، وسيرني إلى غاباتك حيث تتصاعد أنفاسك بخورا، وأجلسني صيفك في حقولك حيث يتجوهر إجهادك أثمارا، وأوقفني خريفك في كرومك حيث يسيل دمك خمرا، وقادني شتاؤك إلى مضجعك حيث يتناثر طهرك ثلجا، فأنت أنت العطرة بربيعها، الجوادة بصيفها، الفياضة بخريفها، النقية بشتائها.
في الليلة الصافية قد فتحت نوافذ نفسي وأبوابها، وخرجت إليك مثقلا بمطامعي، مكبلا بقيود أنانيتي، فألفيتك شاخصة بالكواكب، وهي تبتسم لك، فنزعت عني قيودي وأثقالي، وعلمت أن منزل النفس فضاؤك، ورغائبها في رغائبك، وسلامتها في سلامتك، وسعادتها في الغبار الذهبي الذي تنثره النجوم على جسدك.
في الليلة المبطنة بالغيوم، وقد مللت غفلتي وجمودي، خرجت إليك فوجدتك جبارة هائلة مسلحة بالعاصفة، تحاربين ماضيك بحاضرك، وتصرعين قديمك بجديدك، وتبعثرين ضئيلك بضليعك، فعلمت أن نظام البشر نظامك وناموسهم ناموسك
5
وسنتهم سنتك، وأن من لا يهصر
6
بأرياحه ما يبس من أغصانه، يموت مللا، ومن لا يمزق بثوراته ما يلي من أوراقه، يفنى خمولا،
7
ومن لا يكفن بالنسيان ما مات من ماضيه كان هو كفنا لمآتي الماضي.
ما أكرمك أيتها الأرض وما أطول أناتك.
8
ما أشد حنانك على أبنائك المنصرفين عن حقيقتهم إلى أوهامهم، الضائعين بين ما بلغوا إليه وما قصروا عنه.
نحن نضج وأنت تضحكين!
نحن نذنب وأنت تكفرين!
نحن نجذف وأنت تباركين!
نحن ننجس وأنت تقدسين!
نحن نهجع ولا نحلم، وأنت تحلمين في سهرك السرمدي.
نحن نكلم صدرك بالسيوف والرماح، وأنت تغمرين كلومنا
9
بالزيت والبلسم!
نحن نزرع راحاتك العظام والجماجم، وأنت تستنبتينها حورا وصفصافا!
نحن نستودعك الجيف، وأنت تملئين بيادرنا بالأغمار، ومعاصرنا بالعناقيد!
نحن نصبغ وجهك بالدم، وأنت تغسلين وجوهنا بالكوثر!
نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف، وأنت تتناولين عناصرنا وتكونين منها الورود والزنابق!
ما أوسع صبرك أيتها الأرض، وما أكثر انعطافك!
ما أنت أيتها الأرض، ومن أنت؟
أذرة من الغبار تصاعدت من بين قدمي الله عندما سار من مشارق الأكوان إلى مغاربها، أم شرارة قذفت من موقد اللانهاية؟
أنواة طرحت في حقل الأثير، ليشق قشرتها بعزم لبابها، وتتعالى نصبة ربانية إلى ما فوق الأثير؟
أقطرة من الدم في عروق جبار الجبابرة، أم أنت قطرة من العرق على جبينه؟
أثمرة تلوحها الشمس ببطء، أثمرت أنت في شجرة المعرفة الكلية التي تمد عروقها إلى أعماق الأزل، وترفع غصونها إلى أعماق الأبد؟ أم جوهرة أنت وضعها إله الزمن في حفنة إلهة المسافة؟
أطفلة أنت في حضن الفضاء، أم عجوز ترقب الأيام والليالي، وقد شبعت من حكمة الليالي والأيام؟
ما أنت أيتها الأرض ومن أنت؟
أنت أنا أيتها الأرض! أنت بصري وبصيرتي، أنت عاقلتي وخيالي وأحلامي، أنت جوعي وعطشي، أنت ألمي وسروري، أنت غفلتي وانتباهي!
أنت الجمال في عيني، والشوق في قلبي، والخلود في روحي!
أنت أنا أيتها الأرض فلو لم أكن لما كنت!
العطاء
إنك إذا أعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتك، ولكن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءا من ذاتك؛ لأنه أي شيء هي ثروتك؟ أليست مادة فانية تخزنها في خزائنك، وتماقط
1
عليها جهدك خوفا من أن تحتاج إليها غدا.
والغد! ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ الفطنة، الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة، وهو يتبع الحجاج في المدينة المقدسة.
أوليس الخوف من الحاجة، هو الحاجة بعينها؟ أم ليس الظمأ الشديد للماء، عندما تكون بئر الظامي ملآنة، هو العطش الذي لا تروى غلته؟
من الناس من يعطون قليلا من الكثير الذي عندهم، وهم يعطونه لأجل الشهرة، ورغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهم، ومنهم من يملكون قليلا ويعطونه بأسره!
ومنهم المؤمنون بالحياة، ولسخاء الحياة هؤلاء لا تفرغ صناديقهم، وخزائنهم ممتلئة أبدا، ومن الناس من يعطون بفرح، وفرحهم مكافأة لهم، ومنهم من يعطون بألم، وألمهم معمودية لهم!
وهنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى للألم في عطائهم، ولا يتطلبون فرحا، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبير العطر في ذلك الوادي!
بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض!
جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه، ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته به، فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء، يكون له فرح بسعيه إلى من يتقبل عطاياه، والاهتداء إليه أعظم مما بالعطاء نفسه!
وهل في ثروتك شيء تقدر أن تبقيه لنفسك، فإن كل ما تملكه اليوم سيتفرق ولا شك يوما ما، لذلك أعط منه الآن، ليكون فضل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتك!
وقد طالما سمعتك تقول متبجحا: «إنني أحب أن أعطي، ولكن المستحقين فقط!»
فهل نسيت يا صاح، أن الأشجار في بستانك لا تقول قولك، ومثله القطعان في مراعيك؟
فهي تعطي لكي تحيا؛ لأنها إذا لم تعطه عرضت حياتها للتهلكة.
الحق أقول لك: إن الرجل الذي استحق أن يتقبل عطية الحياة، ويتمتع بأيامه ولياليه، هو مستحق لكل شيء منك.
والذي قد استحق أن يشرب من أوقيانوس الحياة، يستحق أن يملأ كأسه من جدولك الصغير ... لأنه أي صحراء أعظم من الصحراء ذات الجرأة والجسارة على قبول العطية بما فيها من الفضل والمنة؟
وأنت من أنت! حتى إن الناس يجب أن يمزقوا صدورهم، ويحسروا القناع عن شهامتهم وعزة نفوسهم، لكي ترى جدارتهم لعطائك عادية، وأنفسهم مجردة عن الحياة؟
فانظر أولا هل أنت جدير بأن تكون معطاء وآلة العطاء !
لأن الحياة هي التي تعطي للحياة، في حين أنك وأنت الفخور بأن قد صدر العطاء منك لست بالحقيقة سوى شاهد بسيط على عطائك.
أما أنتم الذين يتناولون العطاء والإحسان وكلكم منهم فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيديكم نيرا ثقيل الحمل على رقابكم ورقاب الذين أعطوكم.
بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه؛ لأنكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين، فإنكم بذلك تظهرون الشك والريبة في أريحية المحسن، الأرض السخية أمه، والرب الكريم أبوه!
الصداقة
إن صديقك هو كفاية حاجاتك، هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر، مائدتك وموقدك؛ لأنك تأتي إليه جائعا، وتسعى وراءه مستدفئا فإذا أوضح لك صديقك فكره فلا تخش أن تصرح بما في فكرك من النفي أو تحتفظ بما في ذهنك من الإيجاب.
وإذا صمت صديقك ولم يتكلم، فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه؛ لأن الصداقة لا تحتاج إلى الألفاظ والعبارات في إنماء جميع الأفكار والرغبات والتمنيات التي يشترك الأصدقاء بفرح عظيم في قطف ثمارها اليانعات،
1
وإن فارقت صديقك فلا تحزن على فراقه؛ لأن ما تتعشقه فيه أكثر من كل شيء سواه ربما يكون في حين غيابه أوضح في عيني محبتك منه في حين حضوره؛ لأن الجبل يبدو للمتسلق له أكثر وضوحا وكبرا من السهل البعيد، ولا يكن لكم في الصداقة من غاية ترجونها غير أن تزيدوا في عمق نفوسكم؛ لأن المحبة التي لا رجاء لها سوى كشف الغطاء عن أسرارها، ليست محبة بل هي شبكة تلقى في بحر الحياة، ولا تمسك إلا غير النافع.
وليكن أفضل ما عندك لصديقك، فإن كان يجدر به أن يعرف جزر حياتك فالأجدر بك أيضا أن تظهر له مدها؛ لأنه ماذا ترتجي من الصديق الذي تسعى إليه لتقضي معه ساعاتك المعدودة في هذا الوجود؟
فاسع بالأحرى إلى الصديق الذي يحيي أيامك ولياليك؛ لأن له وحده قد أعطي أن يكمل حاجاتك لا لفراغك ويبوستك، وليكن ملاك الأفراح واللذات المتبادلة مرفوعا فوق حلاوة الصداقة ، القلب يجد صباحه في الندى العالق بالصغيرات، فينتعش ويستعيد قوته.
ابن الفارض
كان عمر بن الفارض شاعرا ربانيا، وكانت روحه الظمآنة تشرب من خمرة الروح، فتسكر ثم تهيم سابحة، مرفرفة في عالم المحسوسات، حيث تطوف أحلام الشعراء وأميال العشاق وأماني المتصوفين، ثم يفاجئها الصحو فتعود إلى عالم المرئيات، لتدون ما رأته وسمعته بلغة جميلة مؤثرة، لكنها غير خالية في بعض الأحايين من ذلك التعقيد اللفظي المعروف بالبديع
1
وهو في شرعي ليس بالبديع.
ولكن إذا وضعنا صناعة الفارض جانبا، ونظرنا إلى فنه المجرد، وما وراء ذلك الفن من المظاهر النفسية، وجدناه كاهنا في هيكل الفكر المطلق، أميرا في دولة الخيال الوسيع، قائدا في جيش المتصوفين العظيم - ذلك الجيش السائر بعزم بطيء نحو مدينة الحق - المتغلب في طريقه على صغائر الحياة وتوافهها، المحدق أبدا بهيبة الحياة وجلالها.
وقد عاش ابن الفارض في زمن خال من التوليد العقلي، والإحداث النفسي، بين قوم منصرفين إلى التقليد والتقاليد، مشغولين باستفسار واستيضاح ما تركه الإسلام من الأمجاد الأدبية والفلسفية، غير أن النبوغ - والنبوغ معجزة إلهية - قد صار بشاعر الحموي فتنحى عن زمنه وعن محيطه، واختلى بذاته لينظم ما يتراءى لذاته شعرا أبديا، يصل ما ظهر من الحياة بما خفي منها.
ولم يتناول ابن الفارض مواضيعه من مجريات يومه كما فعل المتنبي، ولم تشغله معميات الحياة وأسرارها كما شغلت المعري، بل كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراء الدنيا، ويغلق أذنيه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية.
هذا هو ابن الفارض، روح نقية كأشعة الشمس، وقلب متقد بالنار، وفكرة صافية كبحيرة بين الجبال، وهو إن كان دون الجاهليين عزما وأقل من المولدين ظرفا، ففي شعره ما لم يحلم به الأولون ولم يبلغه المتأخرون.
مصرع البطل
ما جاء الليل حتى انهزم الأعداء وفي ظهورهم طعن السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون حاملين ألوية الفخر منشدين أهازيج النصر على وقع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء
1
الوادي.
أشرفوا على جانبه وقد طلب القمر من ثنايا الجبل، فظهرت صخوره الباسقة شامخة كصفوف القوم، وبانت غابة الأرز بين تلك البطاح كأنها وسام مجد أثيل،
2
علقته الأجيال الغابرة على صدر لبنان.
ظلوا سائرين، وأشعة القمر تلمع على أسلحتهم، والكهوف البعيدة تردد تهاليلهم، حتى إذا بلغوا جبهة العقبة أوقفهم صهيل حصان واقف بين الصخور الرمادية كأنه جزء منها، فاقتربوا منه مستطلعين وإذا بجثة هامدة ملقاة على أديم التراب
3
المختلط بنجيع الدماء،
4
فصرخ زعيم القوم قائلا: «أروني سيف الرجل لأعرف صاحبه.» فترجل بعض الفرسان، وأحاطوا بالصريع مستفسرين، وبعد هنيهة التفت أحدهم إلى الزعيم وقال بصوت أجش: «لقد عانقت أصابعه قبضة السيف فمن العار أن أنزعه.» وقال آخر: «لقد تجمدت الدماء على الكف والقبضة، وأوثقت الشفرة بالزند فصيرتهما عضوا واحدا.»
فترجل الزعيم واقترب من القتيل قائلا: «أسندوا رأسه ودعوا أشعة القمر ترينا وجهه.» ففعلوا مسرعين، وبان وجه المصروع من وراء نقاب الموت ظاهرة عليه ملامح البطش والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم صامتا، وجه متجهم فرح، وجه من لقي العدو عابسا، وقابل الموت باسما، وجه بطل حضر معركة ذلك النهار، ورأى طلائع الاستظهار، ولكنه لم يبق لينشد مع رفاقه أناشيد الظفر.
ولما أزاحوا «كوفيته» ومسحوا غبار المعمعة
5
عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرخ متوجعا: «هذا ابن الصعبي فيا للخسارة!»
فردد القوم هذا الاسم متأوهين، وجمدوا في أماكنهم، وكأن عقولهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم
6
من مجد التغلب، وعز الانتصار، وبهتوا كالتماثيل، وقد أوقفهم هول المشهد، وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال، فالبكاء والنحيب حري
7
بالنساء، والصراخ والعويل خليق بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقارا - ذلك السكوت الذي يقبض القلوب القوية، مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة - ذلك السكوت الذي يترفع عن الدموع فيزيد ترفعه البلية هولا وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى سفوحها، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة وإن لم تجئ كان هو نفسه أشد فعلا منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع، ليروا ما فعل الموت به، فبانت كلوم الشفار في صدره وظهرت أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال، فاقترب الزعيم وجثا فاحصا، فوجد دون سواه منديلا مطرزا مربوطا حول زنده، فتأمله سرا وكأنما عرف اليد التي غزلت حريره، والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره طي درعه، وتراجع قليلا إلى الوراء حاجبا وجهه بيده المرتعشة، تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رءوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت، وصارت تمسح الدموع؛ لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع عذراء مستهامة حول زند فتى جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعا ببسالته فصرع، وسوف يرجع إليها محمولا على أكف رفاقه.
وبينما نفس زعيم القوم كانت تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال أحد الواقفين: «تعالوا نحفر له قبرا تحت تلك السنديانة فتشرب أصولها من دمه، وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوة، وتصير خالدة، وتكون له رمزا فتمثل لهذه الطلول
8
بطشه وبأسه.»
فقال آخر: «لنحمله إلى غابة الأرز، ونقبره على كثب
9
من الكنيسة، فتظل عظامه مخفورة
10
في ظل الصليب أبد الدهر.»
فقال آخر: «اقبروه هنا، حيث اختلط التراب بدمائه، واتركوا سيفه في يمينه، واغرسوا رمحه بجانبه، واعقروا حصانه
11
على قبره، ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة.»
أجاب آخر: «لا تلحدوا سيفا مضرجا بدم الأعداء، ولا تعقروا حصانا خاض المنايا، ولا تتركوا في الوعر سلاحا تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه؛ لأنها أفضل ذخر وخير ميراث.»
أجاب آخر: «تعالوا نجثو حوله مصلين، لتغفر له السماء، وتبارك انتصارنا.»
أجاب آخر: «ولنرفعه على الأكتاف جاعلين له نعشا من الرماح والتروس، فنطوف به في هذا الوادي ناشدين أهازيج النصر، فيشاهد أشلاء
12
الأعداء، وتبتسم جراحه قبل أن يخرسها التراب.»
أجاب آخر: «تعالوا نعليه سرج جواده، ونسنده بجماجم القتلى، ونقلده رمحه
13
وندخله الأحياء، ظافرا فهو لم يستسلم إلى المنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملا ثقيلا.»
أجاب آخر: «تعالوا نودعه أصل هذا الجبل،
14
فيكون صدى الكهوف له نديما، وخرير السواقي مؤنسا فترتاح عظامه في مفازة
15
يكون وطء أقدام الليالي عليها خفيف الوقع.»
أجاب آخر: «لا تغادروه ها هنا في وحشة مملة، ووحدة قاسية، بل تعالوا ننقله إلى مقبرة القرية، فيكون له من أرواح أجدادنا رفاق يناجونه في سكينة الليل، ويقصون عليه أخبار حروبهم، وأحاديث وقائعهم.»
فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله، وأسكتهم بإشارة ثم قال متنهدا: «لا تزعجوه بذكرى الحروب، ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة حول رءوسنا أخبار السيوف والرماح، بل هلموا نحمله ببطء وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب عودته، نفس حبيبته تنتظر رجوعه من بين الأسنة لتزفه إليها كيلا تحرم نظرة من وجهه، وقبلة من جبينه.»
حملوه على المناكب مطأطئي الرءوس، خاشعي الأبصار، وساروا به الهوينا يتبعهم حصانه الكئيب، يجر مقوده على الأرض ويصهل من حين إلى آخر، فتجيبه الكهوف بصداها كأن للكهوف أفئدة تشعر مع الحيوان بشدة الضيم والأسى.
بين أضلع هذا الوادي، حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جارا أجنحته المكسورة.
الكمال
تسألني يا أخي: متى يصير الإنسان كاملا؟
فاسمع جوابي: يسير الإنسان نحو الكمال عندما يشعر بأنه هو الفضاء ولا حد له، وهو هو البحر بدون شواطئ، وأنه النار المتأججة دائما، والنور الساطع أبدا، والأرياح إذا هبت أو إذا سكنت، والسحب إذا أبرقت أو أرعدت وأمطرت، والجداول إذا ترنمت أو ناحت، والأشجار إذا أزهرت في الربيع أو تجردت في الخريف، والجبال إذا تعالت، والأودية إذا انخفضت، والحقول إذا خصبت أو أجدبت.
إذا شعر الإنسان بكل هذه الأمور، بلغ منتصف طريق الكمال، أما إذا شاء بلوغ محجة الكمال فعليه إن شعر بكيانه، أن يشعر بأنه الطفل المتكل على أمه، والشيخ المسئول عن عياله، والشاب الضائع بين أمانيه وغرامه، والكهل الذي يصارع ماضيه ومستقبله، والعابد في صومعته، والمجرم في سجنه، والعالم بين كتبه وأوراقه، والجاهل بين ظلمة ليله وظلمة نهاره، والراهبة بين أزهار إيمانها وأشواك وحشتها، والمومس بين أنياب ضعفها ومخالب حاجتها، والفقير بين مرارته وامتثاله، والغني بين مطامعه وادعائه، والشاعر بين ضباب أمسائه وشعاع أسحاره.
إذا استطاع الإنسان أن يختبر ويعلم جميع هذه الأمور، يصل إلى الكمال، ويصير ظلا من ظلال الله.
المعرفة ونصف المعرفة
جلست أربع ضفادع على قرمة حطب عائمة على حافة نهر كبير، فجاءت موجة هوجاء، واختطفت القرمة إلى وسط النهر، فحملتها المياه، وسارت بها ببطء مع مجرى النهر، فرقصت الضفادع فرحا بهذه السياحة اللطيفة فوق المياه؛ لأنه لم يسبق لهن أن أبحرن من ذي قبل.
وبعد هنيهة، صرخت الضفدعة الأولى قائلة: «يا لها من قرمة عجيبة غريبة! تأملن أيتها الرفيقات كيف تسير مثل سائر الأحياء، والله إنني لم أسمع قط بمثلها!»
فأجابتها الضفدعة الثانية وقالت: «إن هذه القرمة لا تمشي ولا تتحرك أيتها الصديقة، وهي ليست عجيبة غريبة كما توهمت، ولكن مياه النهر المنحدرة بطبيعتها إلى البحر تحمل هذه القرمة معها، وتحملنا نحن أيضا بانحدارها!»
فقالت الضفدعة الثالثة: «لا لعمري! لقد أخطأتما أيتها الرفيقتان في خيالكما الغريب، فإن القرمة لا تتحرك والنهر أيضا لا يتحرك مثلها، وإنما الحقيقة أن فكرنا هو المتحرك فينا، وهو الذي يقودنا إلى الاعتقاد بحركة الأجسام الجامدة.»
القديس
زرت في حداثتي قديسا في صومعته الهادئة، القائمة بين التلال، وبينا كنا نبحث ماهية الفضيلة، أطل علينا لص وهو يتعرج على الجانبين فوق الروابي، والتعب قد أعياه، وعندما وصل إلى الصومعة جثا على ركبتيه أمام القديس، وقال له: «أيها القديس الشفيق، قد جئتك طالبا تعزية، فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي.»
فأجابه القديس قائلا: «يا بني، إن آثامي أنا أيضا قد تعالت فوق رأسي.»
فقال له اللص: «عفوك يا سيدي، فأنا سارق وقاطع طريق، ويستحيل أن تكون مثلي.»
فأجابه القديس: «إنك واهم يا بني، فإنني بالحقيقة مثلك سارق وقاطع طريق.»
فقال له اللص: «ماذا تقول يا سيدي؟ فأنا قاتل! ودماء الكثيرين من الناس تصرخ في أذني.»
فأجابه القديس قائلا: «وأنا أيضا قاتل يا بني، وفي أذني تصرخ دماء الكثيرين.»
فقال له اللص: «يا سيدي أنا قد ارتكبت شرورا لا تحصى وجرائم لا عداد لها، فكيف تساوي نفسك بي، وأنت رجل الله البار؟»
فأجابه القديس وقال: «إنك لو عرفت كثرة شروري لما ذكرت شرورك.»
فانتصب اللص إذ ذاك، وحدق بالقديس طويلا، وملأ عينيه دهشة وغرابة ومضى من غير أن ينبس بشفة.
أما أنا فكنت صامتا إلى تلك الدقيقة، فالتفت آنئذ إلى القديس وسألته قائلا: «ما دعاك إلى أن تنسب لنفسك شرورا لم ترتكبها قط يا سيدي؟ ألا ترى أن هذا الرجل قد مضى ولم يعد بعد من المصدقين بدعوتك، والمؤمنين ببشارتك؟»
فأجاب القديس وقال: «أجل يا بني فإنك بالصواب حكمت بأنه لم يعد من المصدقين بدعوتي، ولكن الحق أقول لك: إنه قد انصرف والعزاء يملأ فؤاده.»
وفي تلك اللحظة سمعنا اللص يغني من بعيد، وكانت الأودية تردد صدى صوته الممتلئ بالمسرة والتعزية.
الطمع
رأيت في جولاتي في الأرض وحشا على جزيرة جرداء له رأس بشري وحوافر من حديد.
وكان يأكل من الأرض، ويشرب من البحر بلا انقطاع ... فوقفت أراقبه ردحا
1
ثم دنوت منه وسألته قائلا: «ألم تبلغ كفافك بعد؟ أليس لجوعك من شبع، أو لظمئك من ارتواء؟»
فأجابني وقال: «نعم، نعم، قد بلغت كفافي،
2
بل قد مللت الأكل والشرب، ولكنني أخاف ألا تبقى إلى غد أرض لآكل منها، وبحر لأرتوي من مائه.»
الشعراء
كان أربعة من الشعراء جالسين إلى خوان،
1
وكان على الخوان إناء من الخمر.
فقال الشاعر الأول: «يخيل إلي أني أرى عبير هذا الخمر مرفوعا في الفضاء كسحابة من الطيور في غاب مسحور.»
فرفع الشاعر الثاني رأسه، وقال: «أما أنا، فإني أسمع بأذني الباطنة هذه الطيور تغرد، فتأخذ ألحانها بمجامع قلبي
2
فتأسره الزنبقة والنحلة بين وريقاتها.»
فأغمض الشاعر الثالث عينيه، ورفع ذراعه، وقال: «أما فأنا فإني أكاد ألامسها بيدي، وأشعر بحفيف أجنحتها يهب في وجهي، كأنه لهاث جنية نائمة.»
فنهض الشاعر الرابع إذ ذاك، ورفع الإناء بيديه وقال: «عفوكم أيها الإخوان، فإني شحيح البصر، ثقيل السمع، كليل اللمس
3
فليس في طاقتي أن أراها، ولا أن أشعر برفرفة أجنحتها، أواه! إنني لا أشعر بغير الخمرة ذاتها ولذلك يجب أن أشربها لتوقظ حواسي الخاملة، وتشعل روحي بنار بركتكم العلوية ووحيكم الطهور.»
ثم وضع إناء الخمر على شفتيه، وأتى على آخر نقطة فيه.
أما الشعراء الثلاثة رفقاؤه فكانوا ينظرون إليه بدهشة فاتحين أشداقهم، وفي عيونهم غلة لا تروى لهبتها، وبغضة لا تخمد حدتها.
الخلافات
حدث عندما كانت ملكة عيشانا في فراش مخاضها والملك وعيون بلاطه يترقبون نجاتها من آلامها الشديدة، وهم جالسون على أحر من الجمر في قاعة الثيران المجنحة
1
أنه دخل عليهم فجأة رسول مستعجل، وركع على قدمي الملك وقال: «أيها الملك المعظم! إنني أحمل لكم بشائر الفرح وللمملكة ولعبيد الملك أجمعين، ذلك أن محراب
2
الجائر عدوك اللدود ملك البترون قد قضى نحبه.»
فلما سمع الملك وكبار رجال دولته هذه البشرى، نهضوا منتصبين على أقدامهم، وهللوا فرحين؛ لأنه لو طال أجل محراب الجبار سنة واحدة، لغزا أرض عيشانا، وقاد سكانها عبيدا إلى بلاده.
وفي تلك اللحظة دخل طبيب البلاط إلى قاعة الثيران المجنحة، ودخلت وراءه قابلة الملكة، فانحنى الطبيب باحترام للملك، وقال له: «ليعش سيدي الملك إلى الأبد، فها قد رزقك الله طفلا ذكرا سيخلفك على العرش، ويخلد حكمك على شعوب عيشانا عديد السنين.»
فتهلل الملك، وطارت روحه فرحا؛ لأنه في اللحظة الواحدة، هلك عدوه، وتأصلت الخلافة في نسله.
وكان في مدينة عيشانا في ذلك العهد نبي حق، ولكنه كان فتى جريء القلب باسل الروح.
فأمر الملك أن يحضر النبي بين يديه في تلك الليلة، فأحضر في الحال.
فقال له الملك: «تنبأ أيها النبي، وقل لنا كيف سيكون مستقبل ابني الذي ولد الآن للمملكة.»
فأجابه النبي على الفور قائلا: «أصغ أيها الملك! فأنبئك الصدق عن مستقبل ابنك الذي ولد لك اليوم، فإن روح عدوك - عدوك اللدود: الملك محراب - الذي مات في مساء الأمس، لم تلبث على متن
3
الأرياح سوى ليلة واحدة، وقد هبطت إلى الأرض ثانية تطلب جسدا تأوي إليه، فلم تر أفضل من جسد ابنك هذا الذي ولد لك اليوم، فتقمصته.»
فاستشاط
4
الملك غيظا، واستل سيفه، وقطع رأس النبي بيده، والزبد يخرج من فمه غضبا.
وها قد مرت الأيام، وتصرمت
5
حبال السنين على تلك الحادثة، وحكماء عيشانا يسرون
6
واحدهم للآخر قائلين: «أما قيل لنا في القدم وأثبتت الأيام ذلك المقول أن عيشانا يحكمها عدوها؟!»
الملك الناسك
خبرت أن فتى يعيش في غابة بين الجبال، وأنه كان فيما مضى ملكا على بلاد واسعة الأرجاء في عبر النهرين، وقيل لي أيضا: إن هذا الفتى قد تخلى بملء اختياره عن عرشه، وعن أرض أمجاده، وجاء ليستوطن القفار.
فقلت في نفسي: «لأسعين إلى ذلك الرجل سعيا، وأقف على ما في قلبه من الأسرار؛ لأن من يتنازل عن الملك فهو بلا شك أعظم من الملك.»
فذهبت في ذلك النهار بعينه إلى الغاب حيثما كان قاطنا، فوجدته جالسا في ظلال سروة بيضاء، وبيده قصبة كان ممسكا بها، كأنما هي صولجانه، فحييته كما يحيى الملوك، وبعد أن رد التحية التفت إلي وقال بلطف: «ما عساك تبتغي في هذا الغاب الأعزل يا صاحبي، أجئت تنشد ذاتا ضائعة في الأظلال الخضراء، أم هي عودة إلى مسقط رأسك عند انقضاء شغل النهار؟»
فأجبته قائلا: «إنني ما نشدت إلاك، ولا شافي إلا الوقوف على ما حدا بك إلى استبدال مملكتك الكبيرة بهذه الغابة الحقيرة.»
فقال: «وجيزة قصتي، فقد انطفأت فقاقيع غروري فجأة وإليك حكايتي:
بينما كنت جالسا إلى نافذة في قصري، كان وزيري يتمشى مع سفير أجنبي في حديقتي، وعندما صارا على مقربة من نافذتي، سمعت الوزير يتكلم عن نفسه قائلا: «أنا مثل الملك أتعطش للخمرة المعتقة، وأعشق جميع ضروب المقامرة، ويثور بي ثائر الغضب كسيدي الملك.» ثم توارى الوزير والسفير بين الأشجار، ولكنهما ما لبثا أن عادا بعد برهة، وإذا بالوزير يتكلم عني في هذه المرة قائلا: «إن سيدي الملك مثلي يستحم ثلاثا في النهار».»
وسكت لحظة ثم زاد قائلا: «في عشية ذلك اليوم تركت بلاطي، ولا شيء معي سوى عباءتي؛ لأنني لم أشأ بعد ذلك أن أكون ملكا على قوم يدعون نقائصي لأنفسهم، ويعزون فضائلهم إلي.»
فقلت له: «ما أغرب قصتك وما أعجب أمرك!»
فأجابني قائلا: «ليس هنالك من غرابة يا صاحبي، فقد قرعت أبواب سكينتي طامعا منها بالكثير، فلم يكن لك منها سوى اليسير، بربك قل لي: من لا يستبدل مملكته بغاب تترنم فيه الفصول، وترقص طروبة أبدا، كثيرون هم الذين تركوا ممالكهم ليستبدلوها بأدنى مراتب الوحدة والتمتع بحياة العزلة السعيدة؟ وكم هنالك من نسور هبطت من جوها الأعلى لتعيش مع المناجذ
1
في أنفاقها الصامتة، فتتفهم أسرار الغبراء،
2
بل ما أكثر الذين يعتزلون مملكة الأحلام لكي لا يظهروا للناس أنهم بعيدون عمن لا أحلام في نفوسهم، والذين يعتزلون مملكة العري ساترين عرية نفوسهم حتى لا يستحي الأحرار من النظر إلى الحق عاريا، والتأمل في الجمال سافرا، وأعظم من هؤلاء جميعهم ذاك الذي يعتزل مملكة الحزن، لكي لا يظهر للناس معجبا مفاخرا بكآبته.»
ثم نهض متوكئا على قصبته، وقال: «ارجع الآن إلى المدينة العظمى! وقف بأبوابها مراقبا جميع الداخلين إليها والخارجين منها، واعن بأن تجد الرجل الذي زعم أنه ولد ملكا فهو بدون مملكة، والرجل الذي زعم أنه مسود بجسده فهو سائد بروحه - ولكنه لا يدري بذلك ولا رعاياه يدرون بسيادته - والرجل الذي يبدو للعيان حاكما، ولكنه في الحقيقة عبد لعبيد عبيده.»
وبعد أن فرغ من كلامه، نظر إلي فلاحت لي منه ابتسامه خلتها ألف فجر وفجر.
ثم تحول عني متغلغلا في قلب الغاب.
أما أنا فرجعت إلى المدينة، ووقفت بأبوابها أراقب العابرين بي، على نحو ما قال لي، وما أكثر الملوك الذين مرت أظلالهم فوقي، منذ ذلك اليوم حتى الساعة، وأقل الرعايا الذين مر فوقهم ظلي.
فلسفة الابتسامة
الامرأة كالغرفة، لا أقصد كل الغرف، بل تلك الغرفة الدافئة التي تستميل الإنسان حينما يدخل فيشعر برفاهيتها وموافقتها له، حتى ينسى كونه غريبا، وأنه ضيف يسمع كلمات التأهيل فيظن نفسه في بيته، هكذا الامرأة، إنها تبث ما حولها سحرا وبشاشة، فيسرع القوم في سكب عواطفهم أمامها.
لم يكتب أحد حتى الآن تاريخ الابتسامة، والسبب في ذلك أن النساء اللواتي يقدرن على كتابته لا يردن أن يكتبنه، بل يحافظن على كتمانه دفعا لإفشاء أسرار
1
جنسهم، أما الرجال فمن أين يستطيعون إدراك أسرار عميقة كهذه، فهم يجهلون تماما أسباب الابتسامة وأهميتها، كما يجهلون الأشياء المتعلقة بالنساء وحياتهن الجنسية الداخلية.
قد حادثت بنفسي كثيرا من مشاهير الأطباء الاختصاصيين في أمراض النساء والدارسين طبائع الجنس اللطيف، فكنت أظهر لهم تعجبي مما يعرفونه عن أسرار النساء، ولكني كنت أضحك في سري على جهلهم وقلة ما يعلمونه، إنهم يحسنون شق الجسوم للجراحة، كما يصنع الأطفال إذ يبترون
2
بطون لعيباتهم لينظروا ماذا في داخلها، ثم يخيطون تلك الجسوم بالإبرة والخيط.
مهما يكن الطبيب النسائي ضليعا
3
وحاذقا، فلا يستطيع أن يكشف ما كتمته النساء فيما بينهن، قد يفهم هذا الأمر كل من يعلم أن بين الجنسين اللطيف والنشيط عداوة داخلية، وقوة هائلة لا تغير؛ لأن الجنسين لم يتفاهما حتى الآن.
لو أخذنا كل الكلمات من معاجم اللغات، واجتهدنا أن نعبر بها، لما استطعنا أن نجسم بها ابتسامة واحدة، الابتسامة عند الامرأة كالعلامة السرية عند أبناء الماسونية
4
كل النساء تستطيع استعمالها بجرأة؛ لأنه ليس أحد سواهن يستطيع فهمها.
الابتسامة لغة لا يعرفها سوانا، الابتسامة كالمرآة، تعكس فضائل كثيرة وفراغا عظيما، واللبيبات منا يستترن وراء الابتسامة المصطنعة.
الرجال عموما لا يتقنون فن الابتسام، بل لا يستطيعون أن يبتسموا، فهم ينظرون إما بانعطاف قليل أو كثير، أو بوداعة قليلة أو كثيرة، أو بانشغاف قليل أو كثير، فليس عندهم من الدهاء ما يمكنهم من أن يبتسموا ابتسامة حقيقية.
أما النساء اللاتي يتنكرن ببرقع
5
الابتسامة لا لرصانة وحسن تعقل، فأولئك يخن أنفسهن، ويبحن بأسرارهن، وقد رأيت نساء كثيرات من هذا النوع، يكشفن كل ما في أنفسهن بابتسامة واحدة.
لا أحد منا يفكر بصوت عال، ولكن كثيرات يبتسمن بدون ارتباك، والبرهان الذي يشهد لنا بقوة تعاضد
6
وتكافل جنسنا، هو أننا نلقي ابتسامتنا يمنة ويسرة بدون أن نخشى انفضاح أمرنا أو نفاذ دهائنا.
هل حدث أن امرأة فضحت سر جنسها؟ كلا، أما سبب هذه الأمانة فهو ليس في شرف العواطف، بل في الخوف من أن تفضح الامرأة سرها بنفسها؛ لأن سر جنسها هو سرها.
ولنفرض أن امرأة أرادت أن تكشف كل نفسها، فماذا يصير حينئذ ... قد فكرت كثيرا قبل الآن في هذا الأمر، ولم أزل جاهلا ماذا أقول، ولكنني أظن أن تلك الامرأة تضرب جنسها الضربة القاضية وتسبب له ضررا لا يمحى.
قد اختلط فينا الخير والشر، والإخلاص والتدليس
7
حتى صعب جدا أن يفك أحد خيوطها المتعقدة، ويمسك بأطرافها، ولا يستطيع أحد صنع ذلك إلا إذا كان ذا شعور أدق من الدقيق، وبديهي أن الرجل لا يصلح لأمر كهذا.
أذكر رجلا ذا نفس شريفة وميل إلى الخير، يعتقد بمقدرته كل الاعتقاد، خطر له أن يرد إلى الطريق القويمة غاوية
8
قد توغلت في شرور السقوط، فأخذها إلى بيته وعاملها كأخت له، كان يحترمها ويكرس لها كل أوقات فراغه، ويثق بها كل الوثوق، فتغيرت الفتاة في بادئ الأمر، وافتخر الرجل بذلك التغيير الذي طرأ عليها، وصارت تلك التي كانت بالأمس غاوية، من أعف الفتيات، ملأ قلبها شكر من أحسن إليها، أمينة خجولة، فعزم منقذها على أن يتزوجها، ولكنه عاد إلى منزله في أحد الأيام فوجد الفتاة قد هربت وتركت له ورقة مكتوبا عليها: أشكرك جدا، ولكني ضجرت منك!
وكان ذلك مسببا من أنه لم يدرك نفسها في كل تلك المدة التي كان عائشا فيها معها، ولم يفهم أنه من الواجب عليه أن يعوض عليها ما انتزعه من حياتها بأشياء تقوم مقامها سوى اللطف والمؤانسة.
شكوى القبور
مر ملاك في المقبرة الساكنة، وكان حزينا حزن من يرى الموت قريبا، وكان على الأرض ليل وربيع، وأريج أشجار الأزدرخت يتدفق منتشرا فوق المقبرة.
فبكت القبور، وتألمت نفس المسجونين فيها؛ لأنها لم تكن مستريحة، بل كانت تحلم في نومها بآمال بعيدة.
فقال الملاك: ناموا، فإن القبور أولى لكم، ففيها سكون وراحة، لماذا تشكون؟ ألعل حياتكم كانت بلا مصائب ومتاعب؟ ألم تمر كلها كالخيال ؟ هو ذا كثير من الأحياء يتنهدون ويقولون: آه ما أحلى الموت! فناموا ولا تذكروا الماضي، ولا تأسفوا عليه.
فأجابت الأصوات من القبور باكية: على الأرض ربيع فلا نقدر أن ننام.
وقال واحد منها للملاك: لقد وصل إلي أرج الأزهار مخترقا الثرى، وأيقظني وأذكرني تلك التي كنت أحبها، فاسمح لي أن أنهض وأفتش عنها تحت ظل شجرة الياسمين التي كنا نجلس تحتها سعيدين، لعلي أرى شفتيها وعينيها التي كنت أقبلها سابقا.
قد كنت أظن أني سألتقي بها بعد الموت، ولكن قد خاب ظني، وها أنا وحيد كما تراني في قبري، ولا أستطيع المكوث في هذه الوحدة، فاسمح لي بالقيام.
فأجاب الملاك: إن التي أحببتها قد ماتت، وشجرة الياسمين التي تحتها السعادة قد يبست من أمد،
1
وقد رأيت بعيني آخر زهرة منها تسقط إلى الأرض ذاوية،
2
فنم.
ثم وطأ القبر بقدمه، فخرج منه صوت شبيه بالأنين وصمت.
فبكى قبر آخر وقال: أسمع حفيف الأشجار وخرير المياه، فلا أستطيع النوم، قد أخذت حينما كنت حيا في تأليف ترنيمة حب جميلة، ولكنني مت قبل أن أكملها، وها أنا الآن يخيل لي أني أسمع حفيف الأوراق ألحانا خفية مختلطة منها، فاسمح لي أن أنهض لأكملها، ومتى أكملتها سأقدمها للورى، فترنمها الأم الفتية على مهد
3
طفلها، وتنشدها الغادة العذراء في حضور خطيبها.
فقال له الملاك: إن ألحان ترنيمك قد ذهبت دون أن يرجع لها صدى، فنسيها الورى
4
وليست إلا الأشجار ذاكرة إياها، ولذلك تسمعها تعيدها فوق قبرك بحفيف لطيف لكي تنام على ألحانها، وخطا الملاك ووطئ القبر بقدمه
5
فتنهد الصوت الباكي وصمت.
فبكى قبر ثالث وقال: إن القبر منير، فلا أستطيع النوم بسببه؛ لأني كنت عندما أرى النور في حياتي أندفع بكليتي إليه لجماله، وقد سمى الناس هذا النور بأسماء عديدة، غير أني كنت أحبه في كل هيئاته ومظاهره غير مكترث بأسمائه.
لما كنت طفلا كانت أمي تقول لي: إني بعد الموت سوف أعاين
6
ذلك النور إلى الأبد، وكنت أصدقها، ولكن هو ذا أنا في القبر تحيط بي ظلمة مدلهمة
7
ولست أرى النور، فاسمح لي بالنهوض لعلي أراه.
فصمت الملاك، ولم يجب ببنت شفة.
فقال الصوت: أجبني أيها الملاك، لعل النور قد انطفأ من على وجه الأرض، أجبني لعلي أنام.
فلم يجب الملاك ولم يطأ الضريح بقدمه، ولم يعز الباكي في قبره، بل وقف حائرا وأطرق حزينا؛ لأن كلمات الملحود الباكي وقع لها صدى في قلبه، فشعر كشعوره، ولكنه لم يكن قادرا على إنهاضه من القبر.
المدينة العظمى
السلم والهاوية لا نهاية لهما في الحياة؛ لأن الدرجة الأولى منهما في المهد، والدرجة الأخيرة في القبر، أينما كان المرء إذن يرى كثيرين من الناس فوقه، وكثيرين تحته، وكلما ارتقى درجة في معالم الفوز والفلاح، يسمع أصواتا بعيدة تدعوه إلى ما فوقها.
وكما في الناس كذلك في المدن، فلا يحق للوندرة، مثلا، أن تصعر خدها للقاهرة، ولا للقاهرة أن تشمخ بأنفها
1
على بيروت؛ لأن حسنات المدينة العظمى قد تكثر في هذه وتقل في تلك.
المدينة العظمى هي التي لا تتداخل في شئونها سلطة أجنبية، هي التي يكون كل امرئ فيها تمثالا للحرية والإخاء، وهي التي يتعلم الأولاد الاستقلال وعزة النفس في مدارسها قبل كل العلوم، وهي التي تكون الصداقة فيها أمرا مقدسا، والإخلاص محترما كسر من الأسرار الإلهية.
قيل لبعض العرب: من سيدكم؟
قالوا: فلان.
قيل: بم سادكم؟
قالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دنيانا.
وقال سيد العرب لقومه: اعلموا أني ما سدت عليكم حتى صرت عبدا لكم، أغدق
2
على سائلكم، وأصفح عن جاهلكم، وأحوط حريمكم، وأدفع عن غريمكم، فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن فعل فوق فعلي فهو فوقي، ومن فعل دون فعلي فهو دوني.
فهل يا ترى يوجد بين المتمدنين اليوم من تجتمع فيه هذه الخلال
3
الشريفة كلها؟! أفلا يحق لمدينة المستقبل أن تفاخر سائر المدن بمثل هذا الأمير؟
وبين العرب من كان أعظم منه، دخل ابن العباس على علي بن أبي طالب خارج الكوفة وهو يقطب نعله، فقال له: ما قيمة هذا النعل؟
فقال ابن العباس: لا قيمة له.
فقال له علي: لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا.
فالمدينة العظمى، هي التي يكثر فيها مثل هؤلاء الرجال العظام الصالحين.
حكم وآراء
من نقب وبحث ثم كتب فهو ربع كاتب، ومن رأى ووصف فهو نصف كاتب، ومن شعر وأبلغ، وأبلغ الناس شعوره فهو الكاتب كله.
عندما فهمت أسرار الحياة، تشوقت إلى الموت؛ لأنه أعمق أسرار الحياة.
من يشنفه صوت الماضي، لا يستطيع مخاطبة المستقبل.
ما أفصحني متكلما عن القشور، وما أعياني أمام اللباب.
من حسنات الناس أنهم لا يستطيعون إخفاء سيئاتهم طويلا.
إن شئت أن ترى المرأة حقيقة، فتأملها وعيناك مغمضتان.
يحب الرجل امرأتين: امرأة يراها بعين خياله، وامرأة لم تولد بعد.
الرجل: هو الذي لا يغتفر عيوب المرأة، لا ولن يعرف حسناتها.
ما الدموع تلك التي تظهر متلمعة بأجفاننا، بل تلك التي تختبئ مستترة بقلوبنا.
رب جنازة في الناس، كانت عرسا عند الملائكة.
كان الأقدمون يقولون: ألا فاختر لنفسك الدنيا أو الآخرة، وأنا أقول: لقد اخترت الاثنين الدنيا والآخرة؛ لأنهما من صنع الله، والله يحب كل ما صنعت يداه القدسيتان.
الشيطان
كان الخوري سمعان عالما بدقائق الأمور الروحية، متبسطا بالمسائل اللاهوتية، متعمقا بأسرار الخطايا العرضية والمميتة، متضلعا بخفايا الجحيم والمطهر
1
والفردوس.
وكان يتنقل بين قرى شمال لبنان، ليعظ الناس ويشفي أرواحهم من أمراض الإثم، وينقذهم من حبائل الشيطان، فالشيطان كان عدو الخوري سمعان، يحاربه ليلا ونهارا بلا ملل ولا تعب.
وكان سكان القرى يكرمون الخوري سمعان، ويرتاحون إلى ابتياع عظاته وصلواته بالفضة والذهب، ويتسابقون إلى إهدائه أطيب ما تثمره أشجارهم، وأفضل ما تنبته حقولهم.
ففي عشية يوم من أيام الخريف، وقد كان الخوري سمعان في مكان خال نحو قرية منفردة، بين تلك الجبال والأدوية، سمع أنينا موجعا آتيا من جانب الطريق؛ فالتفت، فإذا برجل عاري الجسم منطرح على الحصباء، ونجيع الدم يتدفق من جراح بليغة في رأسه وصدره، وهو يقول مستنجدا: «أنقذني، أعني، أشفق علي، فأنا مائت!»
فوقف الخوري سمعان محتارا، ونظر إلى الرجل المتوجع ثم قال في ذاته:
2
هذا أحد اللصوص الأشقياء، وأظن أنه قد حاول سلب عابري الطريق، فغلب على أمره ... فهو منازع، فإذا مات وأنا بقربه اتهمت بما أنا براء منه!
قال هذا وهم ليتابع السير، فأوقفه الجريح بقوله: «لا تتركني، لا تتركني، أنت تعرفني وأنا أعرفك، أنا مائت لا محالة!»
فقال الخوري في ذاته، وقد اصفر وجهه، وارتعشت شفتاه: «أظنه أحد المجانين الذين يتوهون
3
في البرية.» ثم عاد وقال لنفسه: «إن منظر جراحه يخيفني، فماذا عسى أن أفعل له؟ ... إن طبيب النفوس لا يستطيع أن يداوي الأجساد.»
ومشى الخوري بضع خطوات، فصاح الجريح بصوت يذيب الجماد قائلا: «اقترب مني، اقترب، فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد، أنت الخوري سمعان الراعي الصالح، وأنا - أنا - لست بلص ولا بمجنون، اقترب فأقول لك من أنا.»
فاقترب الخوري سمعان من المنازع، وانحنى فوقه متفرسا،
4
فرأى وجها غريب الخطوط، يأتلف بين تقاطيعه الذكاء بالدهاء، والقباحة بالجمال، والخباثة بالدماثة،
5
فتراجع إلى الوراء، وصرخ قائلا: من أنت؟
فقال المنازع بصوت خافت: «لا تخف يا أبت، فنحن أصدقاء منذ عهد بعيد، أعني على النهوض وسر بي إلى الساقية القريبة، واغسل جراحي بمنديلك.»
فصرخ الخوري: «قل لي من أنت، فأنا لا أعرفك، ولا أذكر أنني رأيتك في حياتي.»
فأجاب الجريح، وحشرجة الموت تعانق صوته: «أنت تعلم من أنا، فقد لقيتني ألف مرة، وشاهدت وجهي في كل مكان، أنا أقرب المخلوقات إليك، بل أنا أعز عليك من حياتك.»
فصاح الخوري قائلا: «أنت كاذب محتال، وخليق بالمنازعين الصدق، فأنا لم أر وجهك في حياتي، قل من أنت وإلا تركتك تموت مضرجا بدمائك.»
فتحرك الجريح قليلا وشخص
6
بعيني الخوري، وقد ظهرت على شفتيه ابتسامه معنوية، وبصوت هادئ ناعم عميق قال: أنا الشيطان.
فصرخ الكاهن صوتا هائلا، ارتعشت له زوايا ذاك الوادي، ثم نظر إليه محدقا، فرأى أن جسد الجريح ينطبق بتفاصيله ومعالمه على هيئة الأبالسة في صورة الدينونة المعلقة على جدار كنيسة القرية ثم صرخ مرتجفا: «لقد أراني الله صورتك الجهنمية، ليزيد بك كرهي، فلتكن ملعونا إلى أبد الآبدين!»
قال الشيطان: لا تكن متسرعا يا أبتاه، ولا تضيع الوقت بالكلام الفارغ، بل اقترب وضمد جراحي قبل أن يسيل ما في جسدي من الحياة.
فقال الخوري: «إن أصابعي التي ترفع الذبيحة الربانية في كل يوم، لن تلمس جسدك المصنوع من مفرزات الجحيم فمت ملعونا من ألسنة الدهور وشفاه الإنسانية؛ لأنك عدو الدهور والعامل على إبادة الإنسانية!»
فقال الشيطان متململا:
7 «أنت لا تدري ما تقول، ولا تعلم أي ذنب تقترفه نحو نفسك، اسمع فأخبرك حكايتي؛ كنت اليوم سائرا وحدي في هذه الأودية المنفردة ولما بلغت هذا المكان، التقيت بجماعة من أجلاف
8
الملائكة، فهجموا علي وضربوني ضربا مبرحا، ولو لم يكن مع أحدهم سيف ذو حدين، لفتكت بهم جميعا، ولكن ماذا يفعل الأعزل مع المسلح؟»
وقف الشيطان عن الكلام هنيهة، واضعا يده على جرح بليغ في جانبه، ثم زاد قائلا: «أما الملاك المسلح وأظنه ميخائيل، فداهية يحسن ضرب السيف، ولو لم أنطرح على الأرض وأمثل دور النزع والموت، لما أبقى مني عضوا بجوار عضو آخر.»
فقال الخوري بصوت تعانقه رنة النصر والتغلب: «ليكن اسم ميخائيل مباركا فقد أنقذ الإنسانية من عدوها الخبيث!»
فقال الشيطان: «ليست عداوتي للإنسانية أشد سوادا من عداوتك لنفسك، فأنت تبارك ميخائيل وهو لم يفدك بشيء، وتجدف
9
على اسمي في ساعة انكساري، مع أنني كنت ولم أزل سببا لراحتك وسعادتك، أتجحد نعمتي وتنكر معروفي، وأنت عائش في ظلال كياني؟ أولم تتخذ وجودي صناعة لك، واسمي دستورا لأعمالك! هل أغناك ماضي عن حاضري ومستقبلي؟ هل نمت ثروتك إلى حد لا تحتمل معه الزيادة؟ ألم تعلم أن زوجتك وبنيك وهم كثيرون، يفقدون رزقهم بفقدي، بل ويموتون جوعا بموتي؟ ماذا تفعل لو حكم القضاء باضمحلالي، وأية صناعة تحسنها إذا أبادت الأرياح اسمي؟ منذ خمس وعشرين سنة وأنت تسير متجولا بين قرى هذا الجبل لتحذر الناس من حبائلي، وتبعدهم عن مصائبي، وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم، فأي شيء يبتاعون منك غدا إذا علموا أن عدوهم الشيطان قد مات؟ وأنهم أصبحوا في مأمن من حبائله ومعاقله؟ وأية وطنية يسندها القوم إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟ ألا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق: أن وجود الشيطان قد أوجد أعداءه الكهان، وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ والمرشدين؟ ألا تعلم - وأنت العالم الخبير - أنه بزوال السبب يزول المسبب؟ إذن كيف ترضى بموتي، وبموتي تفقد منزلتك، وينقطع رزقك، ويكف الخبز عن أفواه زوجتك وبنيك؟»
وسكت الشيطان دقيقة، وقد تبدلت في وجهه دلائل الاستعطاف بأمارات الاستقلال، ثم عاد فقال: «ألا فاسمع أيها الغبي المكابر، فأريك الحقيقة التي تضم كياني بكيانك، وتربط وجودي بوجودك، في أول ساعة من الزمن، وقف الإنسان أمام الشمس وبسط ذراعيه، وصرخ للمرة الأولى قائلا: «ما وراء الأفلاك، إله عظيم يحب الخير!» ثم أدار ظهره للنور، فرأى ظله منبسطا على أديم التراب، فهتف قائلا: «وفي أعماق الأرض شيطان رجيم يحب الشر!» ثم سار نحو كهفه هامسا في نفسه: «أنا بين إلهين هائلين: إله أنتمي إليه، وإله أحاربه.» ومرت العصور إثر العصور، والإنسان بين قوتين مطلقتين: قوة تصعد بروحه إلى العلاء فيباركها، وقوة تهبط بجسده إلى الظلمة فيلعنها، غير أنه لم يكن يدري معاني البركة، ولا معاني اللعنة، بل كان بينهما كشجرة بين صيف يكسوها، وشتاء يعريها، ولما بلغ الإنسان فجر المدينة، وهي الألفة البشرية، ظهرت العائلة، ثم القبيلة، فتفرقت الأعمال بتفريق الميول وتباينت الصناعات بتباين المشارب والمنازع، فقام البعض من تلك القبيلة بحراثة الأرض، وآخرون ببناء المآوي، وغيرهم بنسج الملابس، وغيرهم بصهر المعادن، في ذلك العهد البعيد، ظهرت الكهانة في الأرض، وهي الحرفة الأولى التي ابتدعها الإنسان بدون حاجة حيوية، أو داع طبيعي إليها.»
وقف الشيطان دقيقة عن الكلام، ثم قهقه ضاحكا بصوت ارتعشت له تلك الأودية الخالية، وكان الضحك قد أوسع فوهات
10
كلومه، فأسند خاصرته بيده متوجعا، ثم شخص بالخوري سمعان وزاده قائلا: «في ذلك العهد ظهرت الكهانة في الأرض ، وإليك يا أخي كيفية ظهورها: كان في القبيلة الأولى رجل يدعى «لاويص» ولا أدري لماذا اتخذ له هذا الاسم الغريب، كان لاويص رجلا ذكيا ولكنه كان بطالا متوانيا
11
يكره حراثة الأرض، وبناء المآوي، ويكره رعاية المواشي وصيد الوحوش، بل كان يكره كل عمل يستلزم السواعد والحركة الجسدية، ولما كان الرزق في ذلك العهد لا يأتي إلا بالعمل، كان لاويص يبيت أكثر لياليه خاوي الجوف فارغه، ففي ليلة من ليالي الصيف وأفراد تلك القبيلة ملتئمون
12
حول كوخ زعيمهم، يتحدثون بمآتي يومهم ويترقبون النعاس، انتصب
13
أحدهم فجأة وأشار نحو القمر، وصرخ بخوف قائلا: «انظروا نحو إله الليل فقد شحب وجهه،
14
واضمحل بهاؤه، وتحول إلى حجر أسود معلق بقبة السماء.» فشخص القوم بالقمر، ثم ضجوا صارخين، متهيبين، مرتعشين، خائفين، كأن أيدي الظلام قد قبضت على قلوبهم؛ لأنهم رأوا إله لياليهم يتحول ببطء إلى كرة قاتمة، وقد تغير لذلك وجه الأرض، وانحجبت البطاح والأودية وراء نقاب أسود، فتقدم إذ ذاك لاويص وكان قد شهد الخسوف والكسوف مرات عديدة في سابق حياته، فوقف في وسط الجماعة رافعا ذراعيه إلى العلاء، وبصوت أودعه كل ما في ذكائه من التصنع والاحتيال، صاح قائلا: «اسجدوا، اسجدوا وصلوا مبتهلين، وعفروا
15
وجوهكم في التراب، فإله الشر المظلم يصارع إله الليل المنير، فإذا غلبه متنا، وإذا غلب بقينا عائشين، اسجدوا وصلوا وعفروا وجوهكم في التراب، بل أغمضوا أجفانكم، ولا ترفعوا رءوسكم نحو السماء؛ لأن من يشاهد صراع إله النور وإله الشر، يفقد بصره ورشده، ويظل مجنونا وأعمى إلى نهاية أيامه، خروا
16
راكعين، وساعدوا بقلوبكم إله النور على عدوه.»
وظل لاويص يتكلم بهذه اللهجة مبتدعا من خياله ألفاظا جديدة غريبة، مرددا كلمات ما سمعوها قبل تلك الليلة، حتى إذا ما مر نصف ساعة، وقد عاد القمر إلى سابق كماله وجلاله، رفع لاويص صوته عن ذي قبل، وقال بلهجة تعانقها رنة الغبطة والسرور: «قفوا الآن وانظروا، فقد تغلب إله الليل على عدوه الشرير، وتابع سيره بين الكواكب والنجوم، واعلموا أنكم بركوعكم وابتهالكم قد نصرتموه وسررتموه، ولذلك ترونه الآن أبهى نورا وأشد لمعانا.»
فوقف القوم وشخصوا بالقمر، فإذا به قد عاد ساطعا منيرا، فتحول خوفهم إلى طمأنينة واضطرابهم إلى مسرة، وأخذوا يقفزون راقصين، ويصرخون مهللين، ويضربون بنبابيتهم
17
صفائح الحديد والنحاس، مفعمين خلايا ذلك الوادي بعويلهم وضجيج لهجتهم.
في تلك الليلة استدعى زعيم القبيلة لاويص وقال له: «لقد أتيت في هذه الليلة بما لم يأته بشري قبلك، وعلمت من أسرار الحياة ما لا يعلمه بيننا سواك، فافرح وابتهج؛ لأنك ستكون من الآن وصاعدا صاحب المقام الأول من بعدي في هذه القبيلة، فأنا أشد الرجال بطشا وأقواهم ساعدا، وأنت أكثر الرجال معرفة وأكثرهم حكمة، بل أنت الوسيط بيني وبين الآلهة تبلغني مشيئتهم، وتبين لي أعمالهم وأسرارهم، وتعلمني ما أحب أن أفعله لأكون خالصا حاصلا على رضائهم ومحبتهم.»
فأجاب لاويص: «كل ما يقوله لي الآلهة في الحلم، أقوله لك في اليقظة، وما أراه من مآتيهم، أظهره لك فأنا الوسيط بينك وبين الآلهة.»
فسر الزعيم، ووهب لاويص فرسين، وسبعة عجول، وسبعين كبشا، وسبعين شاة، وقال له: «سوف يبني لك رجال القبيلة بيتا يماثل بيتي، وسيهدونك في نهاية كل موسم قسما من غلة الأرض وأثمارها، فتعيش سيدا مطاعا مكرما.»
وانتصب إذ ذاك لاويص للانصراف، فأوقفه الزعيم وسأله قائلا: «ولكن من هو هذا الإله الذي تدعوه بإله الشر؟ ومن هو هذا الإله الذي يجسر أن يصارع إله الليل البهي؟ إننا لم نسمع به قط، ولا علمنا بوجوده!»
ففرك لاويص جبهته وأجاب قائلا: «اعلم يا سيدي أنه في قديم الزمان - وذلك قبل ظهور الإنسان - كان جميع الآلهة يعيشون بسلام ومودة في مكان قصي وراء المجرة، وكان إله الآلهة - وهو والدهم - يعلم ما لا يعلمونه، ويفعل ما لا يستطيع أحدهم أن يفعله، يحفظ لنفسه بعض الأسرار الربانية الكائنة وراء النواميس الأزلية، ففي العصر السابع من الدهر الثاني عشر، تمردت روح «بعطار» وهو يكره الإله الأعظم، فوقف أمام أبيه، وقال: «لماذا تحتفظ لنفسك بالسلطة المطلقة على جميع المخلوقات حاجبا عنا أسرار الأكوان والنواميس والدهور، أولسنا أبناءك وبناتك، ومشاركين لك بقوتك وخلودك؟»
فغضب إله الآلهة وأجاب: «سوف أحفظ لنفسي القوة الأولية، والسلطة المطلقة، والأسرار الأساسية إلى أبد الدهر، فأنا البدء وأنا النهاية.» فقال بعطار: «إن لم تقاسمني قوتك وجبروتك، تمردت أنا وأبنائي وأحفادي على قوتك وجبروتك.» فانتصب إذ ذاك إله الآلهة فوق عرشه، وقد امتشق المجرة
18
سيفا وقبض على الشمس ترسا، وبصوت ارتعشت له جوانب العالم صرخ قائلا: «ألا فاهبط أيها المتمرد الشرير إلى العالم الأدنى، حيث الظلمة والشقاء، وابق هناك منفيا شريدا تائها حتى تنقلب الشمس رمادا وتتحول الكواكب إلى هباء منثور.» في تلك الساعة هبط بعطار من مقر الآلهة إلى العالم الأدنى، حيث تقيم الأرواح الخبيثة، وقد أقسم بسر خلوده أنه سيصرف الدهور محاربا والده وإخوانه واضعا الأشراك
19
لكل محب لوالده أو مريد لإخوانه.» فقال الزعيم وقد تقلصت جبهته، واصفر وجهه: «إذن فاسم إله الشر بعطار؟»
فأجاب لاويص: «كان اسمه بعطار إذ كان في مقر الآلهة، ولكنه قد اتخذ له بعد هبوطه إلى العالم الأدنى أسماء أخرى منها: بعلزبول وإبليس وسطنائيل وبليال وزميال وأهريمان وماره وابدون والشيطان، وأشهرها الشيطان.»
فردد الزعيم لفظة الشيطان مرات بصوت مرتعش يشابه حفيف الأغصان اليابسة لمرور الهواء، ثم قال: «ولماذا يا ترى يكره الشيطان البشر بكرهه الآلهة؟»
فأجاب لاويص: «إن الشيطان يكره البشر ويعمل على إبادتهم؛ لأنهم من نسل إخوانه وأخواته.»
فقال الزعيم محتارا: «إذن فالشيطان هو عم البشر وخالهم؟»
فأجاب لاويص وقال بلهجة لا تخلو من التشويش والالتباس:
20 «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة، ولياليهم بالأحلام المخيفة، فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالغيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم، هو إله قوي شرير خبيث، يضحك لشقائنا، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه لنبتعد عن سبل احتياله.»
فأسند الزعيم رأسه على نبوته، وهمس قائلا: «قد عرفت الآن ما كان خافيا عني من أسرار تلك القوة الغريبة، التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا ، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن فيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله.»
وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحا بذكاء فكرته، نشوانا بخمرة خياله، أما الزعيم ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.»
وقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينيه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.
ثم استأنف الشيطان الكلام قائلا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببا لظهورها، وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت وتدرجت حتى صارت فنا دقيقا مقدسا لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع.
ففي «بابل» كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعاليمه، وفي «نينوى» كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر، وفي «ثيب» كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر، وفي «بابلس» و«افسس» و«أنطاكية» كانوا يضحون أبناءهم وبناتهم إرضاء لخصمي، وفي «أورشليم» و«رومة» كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي. في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس كان اسمي محورا لدوائر الدين والعلم والفن والفلسفة، فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي، فأنا العزم الذي يولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس، أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا الشيطان الذي يحاربه الناس ليظلوا عائشين، وإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم! أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا عاصفة هوجاء خرساء، أهب في أدمغة الرجال، وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة والصوامع، ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة، ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي، فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل، لكي أبتعد عن مضجعه، هو كالمومسة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها، أنا الشيطان الأبدي! ... أنا باني الأديرة والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة! فإن زال كياني، زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة كقيثارة مقطعة الأوتار مكسرة الجوانب، أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب والنميمة والاغتياب والغش والسخرية، فإذا انقرضت هذه العناصر في العالم أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة، أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا زالت الخطيئة زال محاربوها، وزلت أنت أيضا، وزال أبناؤك وأحفادك وزملاؤك ورصفاؤك،
21
أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحى المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية؟ أجبني أيها اللاهوتي؟ هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟»
وبسط الشيطان ذراعيه، وألوى عنقه إلى الأمام، وتنهد طويلا فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار، كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل، ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي، وأنا جريح منازع، ألا أطيل معك الحديث، ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني؛ وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي. أما الآن، فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان؛ لأنازع وأموت.»
وكان الشيطان يتكلم، والخوري سمعان يرتعش، ويفرك يدا بيد، وبصوت تعانقه الحيرة والارتباك، قال: «أنا أعرف الآن، ما لم أكن أعرفه منذ ساعة، فسامح غباوتي، أنا أعلم بأنك موجود في العالم لكي تجرب، والتجربة هي مقياس يعرف الله بواسطته قدر النفوس البشرية، بل هي ميزان يستخدمه الله عز وجل ليدرك ثقل الأرواح أو خفتها، أنا أعلم الآن بأنك إذا مت تموت التجربة، وبموتها تزول تلك القوى المعنوية التي تجعل الإنسان أن يكون متحذرا، بل يزول السبب الذي يقود الناس إلى الصلاة والصوم والعبادة، يجب أن تحيا؛ لأنك إن قضيت
22
وعرف الناس، يزول خوفهم من الجحيم، فيبطلون العبادة، ثم يتمرغون
23
بالإثم، ومن أجل ذلك يجب أن تحيا؛ لأن بحياتك خلاص الجنس البشري من الرذيلة، أما أنا، فسوف أضحي كرهي لك على مذبح محبتي للجنس البشري.»
فضحك الشيطان ضحكة تشابه انفجار بركان؛ ثم قال: «ما أدهاك وما أبرعك يا حضرة الأب، بل وما أعمق معارفك بالأمور اللاهوتية، فها قد أوجدت بقوة إدراكك سببا لوجودي لم أكن أعرفه من قبل، والآن وقد فهم كل منا الأسباب الوضعية واللاهوتية التي أوجدتنا في البدء وتوجدنا الآن، يجب أن نترك هذا المكان، اقترب يا أخي، تعال واحملني إلى بيتك، فأنا لست بثقيل الجسم، ها قد غمر الليل البطاح بعد أن أهرقت نصف دمي على حصباء هذا الوادي.»
فاقترب الخوري سمعان من الشيطان، وقد شمر عن ساعديه، وشكل أطراف عباءته بحزامه، ورفع الشيطان فوق ظهره، ومشى نحو الطريق.
بين تلك الأودية المغمورة بالسكون، الموشاة بنقاب الليل، سار الخوري سمعان نحو قريته، منحني الظهر تحت هيكل عار، وقد تلطخت ملابسه السوداء ولحيته المسترسلة بقطرات الدم السائلة من كلومه.
الكلام وطوائف المتكلمين
لقد مللت الكلام والمتكلمين!
لقد تعبت روحي من الكلام والمتكلمين!
لقد ضاعت فكرتي بين الكلام والمتكلمين!
أستيقظ في الصباح، فأرى الكلام جالسا بجانب مضجعي على صفحات الرسائل والجرائد والمجلات وهو ينظر إلي بعيون ملؤها الدهاء والخبث والرياء.
أغادر فراشي وأجلس إلى جانب النافذة لأزيح تقلب النوم عن بصيرتي بفنجان من القهوة، فيتبعني الكلام وينتصب أمامي راقصا صارخا معربدا، ثم يمد يده مع يدي إلى فنجان القهوة، ويرتشف منه بارتشافي وإذا تناولت لفافة يتناولها معي، وإذا رميت بها رماها معي أيضا.
أقوم للعمل فيلحق بي الكلام موسوسا في أذني، مهمهما حول رأسي، مقرقعا في خلايا دماغي، فأحاول طرده فيضحك مقهقها، ثم يعود إلى الوسوسة والهمهمة والقرقعة.
أخرج إلى الشوارع فأرى الكلام واقفا في باب كل حانوت، منبسطا على جدران كل منزل، أراه في أوجه الناس وهم صامتون، وفي حركاتهم وسكناتهم وهم لا يدرون.
إن جالست صديقي يكون الكلام ثالثنا، وإن التقيت بعدوي ينتفخ الكلام إذ ذاك ويتمدد، ثم يتجزأ متحولا إلى جيش عرمرم، أوله مشارق الأرض، وآخره مغاربها، فإذا غادرته هاربا ظل صدى كلامه يتمايل مختبطا في باطني اختباط طعام لا تهضمه المعدة.
أذهب إلى المحاكم والمعاهد والمدارس، فأرى الكلام وأباه وأخاه، وهم يلبسون الكذب رداء، والاحتيال عمامة والكلام حذاء.
ثم أسير إلى المعمل وإلى المكتب والإدارة، فأجد الكلام واقفا بين أمه وعمته وجدته، وهو يقلب لسانه بين شفتيه الغليظتين، وهن يبتسمن له ويضحكن مني.
وإذا بقي لي شيء من العزم والتجلد، وزرت المعابد والهياكل، رأيت هناك الكلام جالسا على عرشه، وهو متوج الرأس في صولجان دقيق الصنع، لطيف الجوانب ناعمها.
وعندما أعود في المساء إلى غرفتي أجد الكلام الذي سمعته سحابة نهاري، متدليا كالأفاعي من سقفها، منسلا كالعقارب في قرانيها.
الكلام في الفضاء وما وراءه، وعلى الأرض وتحتها.
الكلام على أجنحة الأثير، وفي أمواج البحر، وفي الغابات والكهوف، وفوق قمم الجبال.
الكلام في كل مكان! فإلى أين يذهب من يريد الهدوء والسكينة؟
أيوجد في هذا العالم طائفة من الخرسان؛ لأنتمي إليها؟
هل يرحمني الله ويمنحني موهبة الطرش، فأحيا سعيدا في جنة السكون الأبدي؟
أليس على وجه البسيطة قرنة خالية من شقشقة اللسان وبلبلة الألسنة، حيث الكلام لا يباع ولا يشرى، ولا يعطى ولا يؤخذ؟
ليت شعري أبين سكان الأرض من لا يعبد نفسه متكلما؟ هل يوجد بين طغمات
1
الخلق من لم يكن فمه مغارة للصوص الألفاظ؟
ولو كان المتكلمون نوعا واحدا لرضينا وتجلدنا، ولكنهم أنواع وأشكال لا عداد لها.
فهناك طائفة «المستضعفين» الذين يعيشون في المستنقعات النهار بطوله، وعندما يجيء المساء، يقتربون من الشواطئ رافعين رءوسهم فوق سطح الماء، مفعمين صدر الليل بضجيج قبيح تأباه المسامع والأرواح.
وهناك طائفة «المستبعضين » والبعوض من مولدات المستنقعات أيضا، وهم الذين يرفرفون حول أذنك بنغمة تافهة رفيعة شيطانية سداها النكاية ولحمتها البغضاء.
وهناك طائفة «المستطحنين» وهي طائفة غريبة، في داخل كل فرد من أفرادها حجر يدار بالكحول، فيولد جعجعة جهنمية أخفها أثقل مما تحدثه حجارة الرحى.
وهناك طائفة «المستبقرين» وهم الذين يملئون أجوافهم حشيشا، ثم يقفون على منعطفات الشوارع والأزقة، مبطنين الهواء بخوار ألطفه أغلظ من خوار الجاموس.
وهناك طائفة «المستبومين» وهم الذين يصرفون الساعات بين مقابر الحياة وأجداثها، محولين سكينة الدجى إلى عويل أفرحه أحزن من نعيب البوم.
وهناك طائفة «المستنشرين» وهم الذين لا يرون من الحياة إلا أخشابها، فيصرفون الأيام بتجزئتها وتفصيلها، محدثين بذلك خشخشة أعذبها أضنك مما تحدثها المناشير.
وهناك طائفة «المستطبلين» وهم الذين يقرعون نفوسهم بمطارق ضخمة، فيخرج من أفواههم الفارغة قرقعة، ألطفها أغلظ من قرقعة الطبول.
وهناك طائفة «المستعلكين» وهم الذين لا شغل لهم ولا عمل، فيجلسون حيثما يجدون مقعدا، ويمضغون الكلام ولكنهم لا يلفظونه.
وهناك طائفة «المستهرئين» وهم الذين يستغيبون الناس، ويستغيبون بعضهم بعضا، ويستغيبون نفوسهم، ولكنهم يدعون الاستغاثة باسم المجون، والمجون ضرب من الجد، ولكنهم لا يعلمون.
وهناك طائفة «الأنوال» التي تحوك الهواء بالهواء، ولكنها تظل هي بدون قمصان ولا سراويل.
وهناك طائفة «الأجراس» وهي تدعو الناس إلى الهياكل، ولكنها لا تدخلها.
وهناك طوائف وعشائر، لا تعد ولا تحصى ولا توصف، أغربها في طائفة نائمة، ولكنها تملأ الفضاء غطيطا، ولكنها لا تدري.
والآن، وقد أبنت بعض قرفي واشمئزازي من الكلام والمتكلمين، أراني كالطبيب المعتل، أو كمجرم يقف واعظا بين المجرمين وقد هجوت الكلام ولكن بالكلام، وتطيرت من المتكلمين، وأنا واحد من المتكلمين، فهل يغفر الله ذنبي قبيل أن يرحمني وينقلني إلى غابة الفكر والعاطفة والحق، حيث لا كلام ولا متكلمون.
अज्ञात पृष्ठ