الثاني أن يقضى عليه بملاقاة المنافر ولا تخلق في قلبه نفرة عنه أو يخلق له الميل إلى الميل إليه، وفي كلا القسمين تقع السلامة من العذاب وإن لم يحصل نعيم أو يحصل نعيم موهوم أو خسيس تابع لخسة عقل صاحبه أو ضعف حسه كالصبي الذي يأكل التراب، ومن القسم الثاني قصة صاحب القرية المذكور.
الثالث أن يبتلى بالميل إلى شيء ومحبته بحكم القضاء ملائمًا أو غير ملائم ولا يقضى له بملاقاته.
الرابع: أن يبتلى بالنفرة عن شيء وكراهته بحكم القضاء أو غير منافر ويقضى عليه بملاقاته، وفي كلا القسمين يقع العذاب والمحنة بالنظر إلى الباطن، وإلى الأول يشير المجنون في قوله:
قضى لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
وكأنه يقول: لو قضاها لي أي الرب سبحانه بأن أتزوجها حين ابتلاني بحبها لنعمت ولو لم يبتلني بحبها حين قضاها لغيري أن يتزوجها لاسترحت فلا أنا بحصولها في يدي ولا أنا بخروجها من قلبي فهذا هو العذاب المبين، وإلى القسمين معًا يشير " الآخر في قوله ":
من لم يعش بين أقوام يسر بهم ... فعيشه أبدًا همٌّ وأحزان
وأخبث العيش ما للنفس فيه أذى ... خُضْرُ الجنان مع الأعداء نيران
وأطيب العيش ما للنفس فيه هوى ... سَمّ الخياط مع الأحباب ميدان
وحاصله تحكيم القلب وأنه المرجع في النعيم والعذاب، ولا عبرة بالمحسوس إلاّ بما فيه من التأدية إلى ما في القلب، وإلى هذا المعنى يشير الصوفية في النعيم والعذاب الموعود في الدار الآخرة كما قال في الحكم: النعيم وإن تنوعت مظاهره ... إنما هو لشهوده واقترابه، والعذاب وإن تنوعت مظاهره ... إنما بوجود حجابه. فسبب العذاب وجود الحجاب. وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وإلى هذا المعنى يرجع كل ما يذكر من الحنين إلى الأوطان النائية، والبكاء على المراسم الخالية، وذكر الأحباب النازحة، والأيام الصالحة، ومن مرارة الفراق، ولوعة الاشتياق، وما قيل في ذلك يملأ الأرض، ويفوت الطول والعرض، كقول الأول:
وكل مصيبات الزمان رأيتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
وكتب المهدي وهو بمكة إلى الخيزران:
نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلاّ بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور
فأجدوا المسير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا
فأجابته:
قد أتانا الذي وصفت من الشوْ ... ق فكدنا وما فعلنا نطير
ليت أن الرياح كن يؤدي ... ن إليكم ما قد يجن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي ... في سرور فدام ذاك السرور
وقال أبو تمام:
لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلاّ الفراق على النفوس دليلا
وقال أبو الطيب:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
" وقال أحمد بن رجاء الكاتب: أخذ مني تميم بن المعز جارية كنت أحبها وتحبني فأحضرها ليلة في منادمته فنام فأخذت العود وغنت عليه صوتًا حزينًا من قلب قريح وهو:
لا كان يوم الفراق يوما ... لم يبق للمقلتين نوما
شتت مني ومنك شملا ... فساء قومًا وسر قوما
يا قوم من لي بوصل ريم ... يسومني في الغرام سوما
ما لامني الناس فيه إلاّ ... بكيت كيما أزاد لوما
فأفاق المعز مع فراغها ورأى دمعها يسيل فقال: ما شأنك؟ فأمسكت هيبة له، فقال لها: إن صدقتني لأبلغنك أملك، فأخبرته بما كنا عليه فأحسن إليها وردها إلي وألحقني بخاصة ندمائه، وقال ابن ميادة:
ألا ليت شعري هل يحلن أهلها ... وأهلك روضات ببطن اللوى خصرا
وهل تأتينّ الريح تدرج موهنًا ... برياك تعروري بها بلدًا قفرا
بريح خزامي الريح بات معانقًا ... فروع الأقاح تهضب الطل والقطرا
ألا ليتني ألقاك يا أم جحدر ... قريبًا فأما الصبر عنك فلا صبرا
وقال أبو العتاهية:
أمسى ببغداد ظبي لست أذكره ... إلاّ بكيت إذا ما ذكره خطرا
إن المح إذا شطت منازله ... عن الحبيب بكى أو حن أو ذكرا
وقال آخر:
أقول لصاحبي والعيس تخدي بنا بين المُنيفة فالضِّمَار
تمتع من شميم عرّار نجد ... فما بعدَ العشية من عرّار
1 / 75