وذكر في صلحاء مصر في وقته أن فلانًا منهم كان يتكلم عن اللوح فكان كل ما يكون يحتفظ به، وفلانًا كان يتكلم عن الألواح فكان ربما يخير بالشيء ولا يقع، والظاهر أن حكاية الشيخ عبد القادر ﵁ من هذا المعنى، وذلك أن رجلًا من التجار شاور بعض المشايخ وأظنه الشيخ الدباس على السفر فقال له: لا تفعل فإنك إن سافرت تقتل وينهب مالك، فلقي الرجل الشيخ عبد القادر فكلمه فقال له: سافر ولا بأس عليك، فسافر الرجل فلما كان ببعض الطريق طرح بضاعته ثم قام فنسيها وتنحى إلى مكان آخر فنام فرأى في منامه أن قد خرج عليهم اللصوص فقتلوه ونهبوا أموالهم، فاستيقظ مذعورًا، وإذا به أثر الدم كأنه أثر الطعنة التي رآها في منامه، ثم ذكر بضاعته فهرول إلى الموضع الذي نسيها فيه فإذا هي سالمة، فأخذها ورجع إلى أهله سالمًا " بماله "، فلما دخلَ لقي الشيخ الأول فقال له ذلك الشيخ: يا ولدي، الشيخ عبد القادر محبوب طلب من الله تعالى كذا وكذا مدة أن يرد القتل منامًا والنهب نسيانًا " ففعل " فهذه الحكاية مع عبارة هذا الشيخ إذا سمعها الجاهل يتوهم أن الله تعالى قضى في أزَلهِ على هذا الشخص أن يقتل في هذه السفرة ويذهب ماله وأنه أطلع الشيخ على ذلك فأخبر به ثم تبدل ذلك بدعاء الشيخ عبد القادر، وذلك باطل لا يكون، فإن علم الله تعالى لا يتبدل، وما قضي في أزله وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ لا يتحول، وإنما ذلك يخرج على ما ذكرنا من المحو والإثبات، وهو أن يظهر الله تعالى القتل والنهب ويطلع عليه الشيخ المذكور ويكون قد قضى في علمه أنَّ ذلك منام لا حقيقة، وأن دعاء عبد القادر منوط به، فلما دعا برز ما علمه الله تعالى أن يكون وقضاه، وهو الصحيح، وإظهار المعنى الآخر يكون لحكمة يعلمها الله تعالى كصدور الدعاء والتضرع من الشيخ عبد القادر في هذه الصورة وظهور شفوف منزلته وحظوته عند ربه، وهكذا يفهم كل ما يشبه هذا مما يقع من الكرامات أو المعجزات.
واعلم أن كل ما أشرنا إليه من التحذيرات " وقررنا من التحرزات " إنما هو في حال المريدين وعوام المتوجهين المعرَّضين للغلط والزّلق، وأما العارفون الكاملون وإن كانوا أيضًا غير معصومين ولا مستغنين عن التحفظ فلا حديث لنا عنهم لأنهم أعرف بأحوالهم فيما يأتون ويذرون، وما يبدون وما يكتمون، وتوصية أمثالنا لهم حماقة وسوء أدب.
وأما الإنسان في حق غيره فهو بين إحدى ثلاث: إما شيء يصدق به لمعرفته له بالبصيرة أو تقليد من يثق به من أستاذ أو نحوه فيقبله، وإما شيء تنكره الشريعة أو الحقيقة أو العقل فينكر بالشروط المقررة في إنكار المنكر في الفقه وفي التصوف مع حسن الظن في الباطن، وإما شيء محتمل " فيسلم " لا ينكر ولا يتبع، ولا تتم هذه الجملة إلاّ بسلامة الصدر للمسلمين وحُسن الظن بهم وتغافل عن مساويهم مع فطنة ويقظة ومعرفة بالزمان وأهله، والمؤمن كيس فطن ثلثاه تغافل، ويقال: اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل، أما الزمان فلا تسأل عنه، وقد مرّ في الحديث: " صِنْفَانِ إذَا صَلُحَا صَلُحَ النّاسُ، وَإذَا فَسَدَا فَسَدَ النّاسُ: الأمَرَاءُ وَالعُلَمَاءُ " وقد فسدا معًا وإلى الله المشتكى.
وكان الأمر يصلح بأئمة العدل، وفقه الفقهاء، وأدب الصحابة، وقد فسد هؤلاء الثلاثة بالجور والمداهنة والبدعة ففسد الدين بهم أولًا والدنيا ثانيًا كما قيل:
وهل أفسد الدين إلاّ الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا ... ولم تغل في البيع أثمانها
لقد وقع القوم في جيفة ... يبين لذي عقل إنتانها
وقيل:
يا معشر القراء يا ملح البلد ... ما يُصلحُ المِلْحَ إذا المِلحُ فسد؟
والمراد بالقراء الفقهاء، وبهم يصلح ما فسد كما يصلح الطعام بالملح، فإذا فسدوا تعذر الصلاح.
أما التصوف فقد كان شيخ الطائفة أبو القاسم الجنيد في زمانه يقول ﵁:
أهل التصوف قد مضوا ... صار التصوف مخرقه
الأبيات المعروفة فما بالك بزماننا؟ فقد صارت هذه المخرقة مخرقة، ولم يزل الخلق ينقص إلى الآن.
وقد قيل قبل هذا بزمان: دعوى عريضة، وضعف ظاهر، أما اليوم فالدعوى من وراء حجاب.
1 / 65