ثم إن الحاسد إذا أحب زوال الخير فهو لا محالة يسعى في زواله، أو في إلحاق مضرة تذهب " بها " طلاوة ذلك الخير، ما لم يحجزه حاجز، وهذه مضرة تتوقع من الحاسد، فالحاسد خبيث شرير مضر.
إذا علم هذا فمن استحب وجود الحاسد فلم يحبه لذاته، بل أحب ما يقارنه من الخير، لا من حيث إنه محسود عليه به من حيث كونه خيرًا، وإلاّ فيود الإنسان أن لو أعطي الخير وأعفي من الحساد، فإن ذلك أهنأ لعيشه، وأروح لقلبه، وأبعد له عن الأذاية والهول، ولم تَجْرِ حكمة الله تعالى غالبًا بذلك، إذ نعم الدنيا مشوبة بالنقم، وصفوها مشوب بكدر، فأمام كل عين قذى، وعلى كل خير أذى، فلما لم يكن بد من وجود الحاسد غالبا، كان وجوده مبشرًا بالخير معلمًا بالنعمة، فيفرح بوجوده لذلك لا لذاته.
ومثاله في ذلك الذباب الواقع على الطعام، والفأر الناقب على المخزن فإنهما دليلان على الخير من حيث ذلك، حتى إنه يكنى عن البيت الخالي عن الخير بأنه لا تطور فيه فارة، فمن أحب وجود الذباب ووجود الفار فلم يحبهما لذاتهما، فإنهما مؤذيان مكروهان، بل لما يقارنهما من الخير، ولو وجد الإنسان الخير مع السلامة عنهما كان هو الغنم البارد البارد، ولم تجر بذلك الحكمة.
وبلغني أن ناسًا من الجند قدموا من بلاد السودان أيام السلطان أحمد المنصور، وقاسوا في تلك الفيافي ما هو المعهود فيها من العناء وشظف العيش، فلما لحقوا بقرية من قرى السوس الأقصى خرج منها نفر من اليهود، فحين بصر بهم الجندي قال: مرحبًا بوجوه الخير، فاليهود بغضاء عند كل مسلم، ومع ذلك استبشر بهم الجندي التفاتًا منه إلى النعمة التي تقارنهم، إذ لا يزايلون غالبًا الحاضرة، ومحل الخصب والرفاهية، وهكذا الحاسد.
وقد يكون في وجود الحاسد نعمة ولذة أخرى للمحسود إذا وقي شره، فإنه ينعم هو والحاسد يحترق على عينيه، وهو يزداد ظهورًا وشفوفًا، فيلتذ باحتراقه وإقصاره عنه وشفوفه عليه، ومن كره الحاسد فإنما كرهه لذاته، إذ هو منغص بما يبدو من أقواله وأفعاله، ولما يتوقع من شره وضرره، ولا شك أنه محذور، ولذا أمر بالتعوذ منه بالله تعالى، ولا دواء له هي مع الصبر أعلى ما يرى ويسمع، وبذلك ينعكس على الحاسد البلاء فيموت غمًا، قال تعالى:) قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ (وقال الشاعر:
اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
فائدة: من ابتلي بالحسد لشخص فعلاجه بإذن الله أن يكلف نفسه السعي في زيادة الخير على المحسود ولو بالدعاء له بذلك، فإنه إذ لازم ذلك ولو تكلفا سيثيبه الله تعالى من فضله انسلال السخيمة من قبله وسلامة الصدر، فإن بقي شيء فليغمه في صدره مع كراهته ولا يظهره ولا يسع في مقتضاه بقول ولا فعل فذلك لغاية ما يطلب منه والله الموفق.
لله الأمر من قبل ومن بعد
كلمة الإخلاص
وتغالي فقهاء سجلماسة في فهمها وتفهيمها للعوام
كنت في أعوام السبعين وألف قصدت إلى زيارة شيخنا البركة، وقدوتنا في السكون والحركة، أبي عبد الله محمد بن ناصر - سقى الله ثراه - فمررت ببلد سجلماسة فوجدت فتنة ثارت بين الطلبة فيها في معنى كلمة الإخلاص، فكان بعض الطلبة قرر فيها ما وقع في كلام الشيخ السنوسي من أن المنفي هو المثل المقدر، فأنكر عليه بعض من لهم الرياسة في النوازل الفقهية، وفصل الأحكام الشرعية، وليس لهم نفاذ في العلوم النظرية، وأخذوا بنحو ما أخذوا به الشيخ الهبطي في مشاجرته المشهورة مع أهل عصره، حتى امتحنوه بالسياط، فجعلت أقرر لأولئك المنكرين الكلمة بوجه يقرب بين المأخذين، ويصلح بين الخصمين، فلم يفهموا ذلك، وصمموا على ما طرق أسماعهم من أن الهبطي أخطأ في هذه المسألة وضل ضلالًا مبينًا، ثم وقعت هذه الفتنة " أيضًا " بمدينة مراكش عن قريب " من هذه " بين طلبتها حتى ضلل بعضهم بعضًا، فمن " أجل " ذلك ألفت كتاب " مناهج الخلاص، من كلمة الإخلاص "، كما نبهت على ذلك في خطبته، فجاء بحمد الله كافيًا في الغرض، شافيًا للمرض.
1 / 45