كتاب المدخل الكبير الي علم احكام النجوم لابي معشر البلخي
पृष्ठ 41
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بما فيها من عجائبها وجعل الكواكب زينة ومصابيح وجعلها دلائل وهداية يهتدي بها وجعل الأرض مهادا وقدر فيها أقواتها فلا إله إلا الله وحده لا شريك له وصلى الله على محمد النبي عبده ورسوله وآله وسلم كثيرا
القول الأول من كتاب المدخل إلى علم أحكام النجوم
هذا كتاب ألفه جعفربن محمد المعروف بأبي معشر الخراساني البلخي المنجم في صناعة المدخل إلى علم أحكام النجوم وهو ثماني مقالات وسنذكر عند كل مقالة عدد فصولها
पृष्ठ 42
فأما الآن فنذكر فصول القول الأول وهو ستة الفصل الأول في صدر الكتاب والرؤوس السبعة الفصل الثاني في وجود علم أحكام النجوم الفصل الثالث في كيفية فعل الكواكب في هذا العالم الفصل الرابع في الصور والطبائع والتركيب والمطبوع الفصل الخامس في الاحتجاج على تثبيت الأحكام والرد على كل من زعم أن الكواكب لا قوة لحركاتها ولا دلالة لها على الأشياء الكائنة في هذا العالم الفصل السادس في منفعة علم الأحكام وأن تقدمة المعرفة بالأشياء الكائنة في هذا العالم من قوة حركات الكواكب نافعة جدا الفصل الأول في صدر الكتاب والرؤوس السبعة
قال جعفربن محمد المعروف بأبي معشر المنجم إن السبب الذي دعاني إلى تأليف كتاب المدخل إلى علم أحكام النجوم أني رأيت المحبين للعلم إنما قصدهم لمعرفة الأشياء واستنباط العلوم وتأليفها فإذا تهيأ لهم ذلك فقد تمت بغيتهم لأن تمام غرض العلماء بتمام المعرفة لما له يقصدون وإني وجدت كتبا كثيرة قد ألفها المتقدمون من أهل صناعة الأحكام ولم أر كتابا منها فيه تثبيت هذه الصناعة بالحجج المقنعة ولا فيه ابتداء ما يحتاج إليه الناظر في هذا العلم ورأيت قوما قد اختلفوا في ذات الأحكام فقال قوم إنه ليس لقوة حركات الكواكب فعل في هذا العالم البتة وقال قوم آخرون إن لها فعلا في الأجناس والأنواع والأركان الأربعة لا في شيء آخر وقال قوم إن لها فعلا في انتقال الزمان وتغييره فقط وقال قوم آخرون في دفعة أقاويل مختلفة إن لها فعلا في كل شيء في هذا العالم وهذا هو قول أصحاب صناعة النجوم ولم أر أحدا منهم احتج على قوله بحجة واضحة يقبلها الحكماء فرأيت أن أؤلف هذا الكتاب في المدخل إلى علم الأحكام على نحو ما كانت العلماء تؤلف كتبها في شرح ما يحتاجون إليه في كتبهم وتقديم ما ينبغي أن يقدم وتأخير ما ينبغي أن يؤخر وإني أبدأ فيه بذكر الرؤوس السبعة التي كانت الحكماء تبدأ بها في كتبهم تشبها بهم وسلوكا لمسلكهم وقصدا لسبيلهم
पृष्ठ 44
فأما أول الرؤوس السبعة فغرض الكتاب والثاني منفعته والثالث اسم الواضع للكتاب والرابع اسم الكتاب والخامس في أي وقت يقرأ قبل أي كتاب أو بعد أي كتاب والسادس من أي الأجزاء هو من جزء العلم أو من جزء العمل والسابع في قسمة أجزاء الكتاب بالمقالات والفصول
فأما غرضنا في كتابنا هذا فأن نبين فيه علة كل شيء يحتاج إليه المبتدئ في تعليم أحكام النجوم وإنما فعلنا ذلك لأنا وجدنا كتبا كثيرة قد كان ألفها قوم من أهل هذه الصناعة في هذا المعنى فلم نر لأحد منهم كتابا واحدا فيه جميع ما يحتاج إليه في هذه الصناعة وكان يظن كثير من الناس أن أحكام النجوم إنما هي شيء وجده الناس حدسا وتخمينا من غير أن يكون لها أصل صحيح يعمل عليه أو يقاس به وإنه لا علة لها ولا برهان عليها ولا تثبت على الحتجاج وإن كل الناس من أهل هذه الصناعة تبع للأوائل الذين كانوا في قديم الدهور في كل شيء من هذا العلم وإنه إن لم يكن تقدم قول بعض الأوائل على معنى من المعاني فإنه لا يمكن علماء هذه الصناعة أن يستنبطوا علم ذلك الشيء فألفنا كتابنا هذا في تثبيت الأحكام بالحجج والبراهين المقنعة وبينا فيه علة حالات الكواكب والبروج وطبائعها ودلالاتها المفردة والمركبة على الاستقصاء الذي يحتاج إليه في هذا الكتاب فإن ما كان من علمها غير موجود فإن استنباطه ممكن للعلماء بأصول هذه الصناعة
فأما منفعة هذا الكتاب فظاهرة بينة لأن كل من يريد أن يبتدئ في تعليم الأحكام فإنه يستغني بقرائته وفهمه بهذا الكتاب عن قرائة كل كتاب في المدخل إلى معرفة الأحكام ويستدل بقرائته هذا الكتاب وحده على الأشياء التي لا يستدل عليها من قرائة كتاب أحد من المتقدمين لأني قد جمعت فيه أصول هذه الصناعة وأظهرت من أسرار علمها ما كان خفيا على كثير من متقدمي علماء هذه الصناعة وكشفت من باطنها ما لا يخفى على أحد ممن يقرأ شيئا منها مما يحتاج إليه من أصول علم الأحكام
पृष्ठ 46
فأما لمن هذا الكتاب فقد ذكرنا في أول كتابنا أنه لجعفربن محمد المعروف بأبي معشر المنجم وإنما احتاجت الحكماء ئنما إنما معرفة اسم الواضع للكتاب لأنه إذا علم القارئ له أن واضع الكتاب عالم بمذهب الكتاب صادق القول فيه قبل قوله ووثق بصواب ما يقرأ وأيضا فلأن لا يجد الجهال كتابا لا يعرف صاحبه فينسبونه إلى أنفسهم ليتخذوا به ذكرا ومكسبا
فأما اسم هذا الكتاب فهو كتاب المدخل إلى علم أحكام النجوم وإنما احتيج إلى اسم الكتاب لأنه ربما دل اسم الكتاب على غرضه
فأما في أي وقت يقرأ قبل أي كتاب أو بعد أي كتاب فإنه يقرأ قبل كل كتاب من كتب الأحكام لأنه المدخل إلى معرفة علم الأحكام وإنما احتيج إلى معرفة هذا لأنه ربما قرأ الإنسان بعض الكتب فلا يفهمه إلا بأن يقرأ قبله كتابا آخر
فأما من أي جزء هو من أجزاء هذه الصناعة فهو من جزء العلم وإنما فيه من الجزء العلمي الشيء الذي يحتاج إليه صاحب المدخل إلى علم الأحكام
فأما لكم مقالة ينقسم فإنه ينقسم لثماني مقالات
أما المقالة الأولى ففيها ستة فصول في وجود الأحكام وتثبيتها بقوة حركات الكواكب وكيفية فعلها في هذا العالم والرد على من قال بإ بطالها بالحجج والبراهين المقنعة والمنفعة بتقدمة معرفة الأشياء من علم النجوم
وأما المقالة الثانية فإن فيها تسعة فصول في عدد صور الفلك وأسمائها وحالات البروج وطبائعها المفردة
وأما المقالة الثالثة فإن فيها تسعة فصول في العلة في استعمال المنجمين الكواكب السبعة دون غيرها في الأشياء السريعة التغييرات ودلالاتها على حالات الأركان الأربعة وتحديد أحكام النجوم والمنجم في أي شيء ينبغي أن ينظر صاحب علم الأحكام وخاصية دلالات الشمس والقمر ومشاركة الكواكب لهما على ما يحدث في هذا العالم
पृष्ठ 48
وأما المقالة الرابعة ففيها تسعة فصول في ذكر طبائع الكواكب وسعودها ونحوسها على ما ذكره عامة الأولين وما كان من ردنا عليهم قولهم وما ذكرنا نحن من سعود الكواكب ونحوسها واختلاف حالاتها وطبائعها
وأما المقالة الخامسة فإن فيها اثنين وعشرين فصلا في حظوظ الكواكب في البروج كالبيوت والأشراف والحدود وسائر حظوظها
وأما المقالة السادسة فإن فيها ثلاثة وثلاثين فصلا في حالات البروج وخاصية دلالاتها على الأشياء
وأما المقالة السابعة فإن فيها تسعة فصول في حالات الكواكب وخاصية دلالاتها على الكائنات
وأما المقالة الثامنة فإن فيها تسعة فصول في استخراج السهام وعللها
पृष्ठ 50
وإنما يقسم الكتاب بالمقالات والفصول لأن الكتاب إذا كان فهمه عسرا ثم فصل وجزأ كان أقرب إلى فهم القارئ وأسهل عليه الفصل الثاني في وجود علم أحكام النجوم
पृष्ठ 52
إن في النجوم وحركاتها نوعين من العلم عجيبين في الفكرة عظيمين في القدر فالنوع الأول يقال له علم الكل وهو علم كيفية وكمية الأفلاك العليا وأفلاك الكواكب كل فلك على حدته وبعد كل فلك من صاحبه وميل بعضها عن بعض وعظمها وقدر كل فلك في نفسه وبعده من الأرض وإن الأرض مستديرة وإن الأفلاك مستديرة محيطة بها وإن الفلك الأعلى يدوربذاته ويدير هذه الأفلاك وما فيها من الكواكب على الأرض في اليوم والليلة من المشرق إلى المغرب دورة واحدة وإن الشمس تطلع على قوم دون قوم وإنه يكون في وقت واحد على قوم نهار وعلى قوم آخرين ليل وإن الأجرام العلوية كلها تتحرك حركتين فأما كثير من الأفلاك فإنها تسير سيرا موافقا لسير الفلك الأعلى من المشرق إلى المغرب فأما الكواكب فإنها تسير من المغرب إلى المشرق مخالفة لسير الفلك الأعلى وإن كثيرا من الأفلاك يكون سيره موافقا لسير الكواكب وقد ذكرنا جميع ذلك في زيجنا الكبير وفيه ذكر أنواع حركات الأفلاك والكواكب كل فلك وكل كوكب على حدته وما خاصة كل واحد منها وأيها أسرع حركة وأيها أبطأ وأيها أعلى من صاحبه وإن قدر الأرض في الصغر عند الفلك الأعلى كقدر النقطة عند الدائرة ومعرفة كسوف الكواكب بعضها لبعض وكسوف النيرين فمعرفة هذا وكل شيء يحتاج إليه من هذا الجنس من كيفيات الأفلاك وكمياتها وكمية حركات الكواكب وحالاتها فهو يقال له علم الكل فأما كثير من كيفية ظاهر علم الكل وكميته فهو موجود بالعيان وما لا يوجد من ذلك عيانا فالقياس عليه هو المضطر إلى قبوله لأن الدلالات والبراهين عليه من أسباب بينة واضحة متفق عليها من علم الحساب والهندسة والمساحة التي لا يخالطها شك ولا تمتنع العقول من قبولها ولا يدفع هذا العلم إلا معاند للحق وقد ألف بطلميوس الحكيم كتابا يقال له كتاب المجسطي فيه جميع ما يحتاج إليه من علم حالات الأفلاك والكواكب على الاستقصاء
والنوع الثاني علم الأحكام وهو معرفة طبيعة كل كوكب وكل فلك وخاصية دلالاتها وما يتولد ويحدث من قوى حركاتها المختلفة وطبعها في هذا العالم الذي هو دون فلك القمر من اختلاف الأزمنة وتغيير الطبائع التي هي النار والهواء والماء والأرض وفي الأشياء التي تحدث من هذه الطبائع من أشخاص الحيوان والنبات والمعادن وبالنوع الأول من علم النجوم الذي هو علم الكل يستدل على هذا النوع الثاني الذي هو علم أحكام النجوم
فأما كثير من علم الأحكام فهو ظاهربين موجود وما كان منه غير ظاهر فإنه يستدل عليه بالقياسات الواضحة من علم طبائع الأشياء وما يظهر من قوى حركات الكواكب على هذا العالم في وقت مسامتتها بعض المواضع وبعدها عن الأرض وقربها منها ولا يدفع هذا النوع الثاني من علم النجوم إلا القوم الذين بعدوا عن المعرفة والتمييز والفكرة في حالات الأجرام العلوية
पृष्ठ 54
فمن القياسات التي توجد ما ذكرنا من تصحيح الأحكام على النجوم أشياء كثيرة بعضها ظاهرة عند العامة وبعضها غير ظاهرة عندهم فمن الأشياء الظاهرة التي تعرفها العامة بظاهر تجاربهم أنهم يجدون الأزمنة كالربيع والصيف والخريف والشتاء ئنما إنما يكون بانتقال الشمس في أرباع الفلك ويجدون الطبائع إنما تتغير وتنتقل من بعضها إلى بعض ويقوى بعضها ويضعف بعض بالأزمنة وبموافقتها لها وبمخالفتها إ ياها فإذا كانت الطبائع إنما تتغير بالأزمنة والأزمنة إنما تتغير بانتقال الشمس في أرباع الفلك فانتقال الطبائع بعضها إلى بعض إذا إنما يكون بانتقال الشمس في أرباع الفلك فقد نجد للشمس أيضا في كل يوم وفي كل وقت فعلا في تغيير الطبائع خلاف فعلها في الوقت الآخر وذلك لأنها كلما صارت إلى مشرق موضع من المواضع أو ارتفعت عليهم أو انخفضت عنهم تغيرت طبائعها ومزاجاتها وحدث في هواء ذلك الموضع من الحار أو البارد أو الرطب أو اليابس في حيوانها ونباتها ومعادنها في كل وقت من اليوم والليلة من التغيير والكون والفساد شيء من الأشياء خلاف ما كان عليه في الوقت الآخر وذلك كما نرى في ابتداء حركة الناس وسائر الحيوان عند بلوغ الشمس إلى مشرقهم فما دامت الشمس صاعدة إلى وسط سمائهم فإن حركتهم في زيادة وقوة فإذا مالت الشمس عن وسط السماء فإن حركتهم تضعف وتقل إلى غيبوبة الشمس فإذا غابت الشمس عنهم كان الليل وهدن فيه الأبدان وسكنت وضعفت واسترخت للنوم والهدوء وأوت عامة الحيوان إلى بيوتها وأجحرتها فإذا طلعت الشمس عليهم ثانية في اليوم الآخر رجعوا إلى الحال الأولى من الحركة
فأما النبات فإن فعل الشمس ظاهر فيه لأن كثيرا منه يظهر ويقوى وينمو ويزيد فيها عند طلوع الشمس مثل الريحان الذي يقال له النيلوفر والآذريون والخباز وورق الخروع وأشياء أ خر كثيرة من النبات التي تتحرك وتنموا مع حركتها فإذا غابت الشمس مالت هي وضعفت واسترخت وأظهر من هذا من فعل الشمس أن الزروع والنبات لا تنمو ولا تنشؤ إلا في المواضع التي تطلع عليها الشمس أو يصيبها فيها قوة حرها
पृष्ठ 56
فأما المعادن فإنما يتولد فيها الجواهر على قدر قربها من مدار الشمس أو بعدها عنه لأن الشمس إذا سامتت موضعا من المواضع كان هناك حر وإذا تنحت عنه كان هناك برد فهذا وكثير من هذا الجنس من ظاهر فعل الشمس قد تعرفه العامة وقد يوجد للقمر أيضا فعل ظاهر في كثير من الأشياء لأنه كلما تغير القمر من حال إلى حال يحدث تغييرات كثيرة في الحيوان والنبات والمعادن وفي ماء البحر وفي مسقط النطف وتولد الحيوان وابتداء النتاج واللقاح ويكون ذلك على قدر زيادته في ضوئه ونقصانه منه وسائر اختلاف حالاته
وقد يعرف أيضا كثير من الأمم المختلفة ما يحدث في أيام السنة من الحر والبرد والرياح والأمطار وأصناف تغيير الهواء من حلول القمر في كل منزلة من المنازل الثمانية والعشرين وكثير منهم إذا رأوا كل واحد من هذه المنازل في المغرب بالغدوات فإنهم يقولون إن الهواء يتغير في هذا اليوم بالريح أو بالغيم أو بالحر أو بالبرد على قدر ما تقدمت تجربتهم له وقد يوجد للكواكب كلها أفاعيل مختلفة في هذا العالم إلا أن أفاعيلها عند العامة أخفى من أفاعيل الشمس والقمر ومما تستدل به العامة من فعل الكواكب في هذا العالم ما تجد من اختلاف حالات الأزمنة بالكيفية الزائدة أو الناقصة لأن اختلافها في الزيادة والنقصان إنما يكون بمشاركة الكواكب للشمس والقمر عند حلولهما في بعض مواضع الفلك ولولا مشاركة الكواكب لهما فيه لكان لا يكون صيف أحر من صيف ولا شتاء أ برد من شتاء
وقد تجد وتعرف ما ذكرنا من تغيير الطبائع وانتقالها من حال إلى حال العامة من جميع الأمم والأقاليم ممن لهم تجربة قليلة ويصح عندهم من هذه الجهة الظاهرة أن النشوء والفساد إنما يكونان على قدر تغيير الأزمنة والطبائع وإنما يكون تغيير هذه الأشياء بالشمس وبسائر الكواكب فأما القوم الذين تقدمت تجربتهم وطالت أيامهم وسنوهم فيها وتعلموا بعض ذلك من أسلافهم فإنهم حين قاسوا على هذه الأشياء الظاهرة التي وجدوها من فعل الكواكب في الأزمنة وفي هذه الطبائع من التغيير عرفوا منها أشياء غامضة لطيفة
पृष्ठ 58
وقد يعرف الصناع المختلفو الصناعات أعني المستعملين لصناعات التدبير والعلوم من جميع الأمم مثل أصحاب الزروع والغرس ورعاة الدواب والغنم وسائر الحيوان ومدبري السفن وسائر الصناعات التدبيرية كل واحد من هؤلاء يعلم من التجارب اللطيفة بمجاري الكواكب أي الأوقات والأحايين أفضل وأيها أردأ لكل شيء يريدون فعله من ابتداء الزرع والغرس وإرسال الفحولة للنتاج وتوالد سائر الحيوان
فأما الزراع فإنهم يعرفون الوقت الذي يكون فيه الزرع أحسن نباتا وأكثر ريعا وزكاء فيزرعون في ذلك الوقت وأما أصحاب الغرس فإنهم يعرفون الوقت الذي يصلح فيه غرس أصناف الغروس والوقت الذي لا يصلح فيه ذلك وكل نوع من الغرس في أي زمان يكون أعلق وأجود وأحسن نشوءا وأقوى فيغرسون كل نوع منه في زمانه الذي يصلح له
وأما أصحاب النتاج فإنهم يعرفون الزمان الذي يصلح فيه إرسال الفحولة على الإناث للتوالد فيقصدون لإرسالها في الوقت الصالح ليتم حملها وتكون ولادتها في وقت يحسن نشوئها وتربيتها والملاحون ومدبرو السفن فقد يعرفون الوقت الذي يهيج فيه البحر لهبوب الرياح والأمواج والوقت الذي يسكن فيه وكل ريح في أي وقت تهب من أوقات السنة فيمتنعون من ركوب البحر في الوقت الذي يعرفون أنه يهيج فيه البحر بالرياح والأمواج الرديئة ويركبونه من أوقات السنة في الوقت الذي يعلمون أنه يكون الريح معهم ولا يؤذيهم
पृष्ठ 60
وكل هؤلاء يتقدمون في القول بما يكون منه من الجيد والرديء ويعلمون ذلك من لا يحسنه ولا يتفقده ولا عنى به مثل عنايتهم به ويخبرون أنهم علموا ذلك بطول تفقدهم وتجربتهم لفصول السنة وأحوالها ومجاري الشمس والقمر وكون القمر في بعض المنازل الثمانية والعشرين ومن قبل زيادة القمر في ضوئه ونقصانه منه ومن تشريق الكواكب وتغريبها في ذلك الوقت وقد يستدل أيضا كثير من هؤلاء على أشياء غامضة مما يجدونها في ذلك الوقت من قبل هبوب بعض الرياح وتغيير الهواء بزيادة الحر أو البرد أو الاعتدال حتى أنه ربما قال الراعي في يوم إرسال الفحولة على الإناث إن صفاء الجو وقوة هبوب الشمال أو من هبوب ريح أخرى يدل على أن أكثر الغنم التي تعلق في هذا اليوم تلد الذكور أو الإناث وأن أكثر ألوانها يكون كذا وكذا على قدر ما تقدمت معرفتهم بالتجارب وأيضا فإنهم عند ولادتها يخبرون بأنها تسلم أو لا ويسرع نشوئها أو يموت وربما قالوا إن هذه السنة يقع الموت في جنس كذا وكذا من الدواب أو الغنم أو البقر أو سائر الحيوان على قدر ما وجدوا في تجاربهم من مجاري القمر وتغيير الهواء وكذلك مدبرو السفن فإن ذوي التجارب منهم يقولون إن الريح التي تهب قبل زوال الشمس فإنها تتغير عند زوال الشمس أو تسكن
وكذلك أصحاب الغرس فإنهم يقولون في النوع الواحد من الغرس الذي قد غرس في زمان واحد إن هذه الشجرة تحمل أسرع من هذه أو أبطأ منها على قدر ما يرون في كل واحدة من الخاصية بطول التجارب وكذلك جميع الصناعات فإن لهم في صناعاتهم أشياء لطيفة قد عرفوها بطول التجارب فلا يخطؤون فيها ويقولون إن الأسباب التي بها يعرفون هذه الأشياء ئنما إنما هي بطول تجاربهم لتغييرات الهواء واختلافه ومنازل الشمس والقمر
وقد يدرك الناس بالتجارب من غير دلالات النجوم أشياء كثيرة أيضا وذلك كالنساء القوابل فإنهن يعرفن بالتجارب هل حملت المرأة أو لا وذكر الحمل أو أنثى ويعرفون أيضا من مولود البكر هل تلد المرأة بعد ذلك أو لا وعدد الذي تلد ويقل خطاؤهم فيما يخبرون من هذه الأشياء لطول تجاربهم ولكثرة ما سمعوا من الأسلاف الذين كانوا جر بوا هذه الأشياء على قديم الدهور فأما معرفتهن بالمرأة أحاملة هي أم لا فإنهن ينظرن إلى المرأة التي يتوهمون بها الحمل فإن رأوا رأس ثديها قد انبسط أو تغير عن اللون الذي كان عليه علموا أنها حبلى ومما يستدلون به أيضا على الحمل أنهم ينظرون إلى عيني تلك المرأة فإن رأوهما قد غارتا وكان في جفنيها استرخاء ورأوها حادة النظر صافية الحدقة ممتلئة بياض العين غليظة علموا أنها حبلى
पृष्ठ 62
فأما معرفتهم بالتذكير والتأنيث فإنهم ينظرون إلى بطن المرأة فإن رأوه ممتلئا مستديرا خشنا فيه صلابة ورأوها نقية اللون علموا أن الحمل ذكر وإن كان بطن المرأة فيه طول واسترخاء وسماجة وظهر في لونها نمش وكلف علموا أن الحمل أنثى ثم ينظرون بعد ذلك إلى رأس ثديها فإن كان تغيرهما إلى السواد علموا أن الحمل أنثى وإن كان تغيرهما إلى الحمرة علموا أن الحمل ذكر على أن هذه الدلالة الواحدة ربما تكذب في الواحدة بعد الواحدة من النساء وأيضا فإنه يؤخذ من لبن المرأة الحامل بين الإصبعين وينظر فإن كان في اللبن غلظ ولزوجة شديدة علموا أن الحمل ذكر وإن كان ذلك اللبن مسترخيا إلى الرقة ما هو ولا يكون فيه لزوجة علموا أن الحمل أنثى
وأيضا فإنه يقطر من لبن المرأة الحامل على مرآة حديد ويوضع في الشمس وضعا رفيقا كي لا يتحرك ثم يترك ساعة فإن اجتمع حتى يصير شبه حبة لؤلؤ علموا أن الحمل ذكر وإن انبسط علموا أنها أنثى فأما معرفتهم بما يكون بعد الولادة فإنها حين تلد المولود ويقع إلى الأرض ينظرون إلى رأسه ذكرا كان المولود أو أنثى فإن كان على رأسه شبه إكليل من رقة الشعر علموا أن المولود الذي تلده المرأة بعد ذلك يكون ذكرا أي وقت ولدت بعد سنة أو أكثر وإن كان على رأسه إكليلين علموا أنها تلد بعده غلامين في بطن واحد ويتبرك بكل مولود أو مولودة فيكون على رأسها إكليل في وقت ولادتها ومما يتبرك بالمولود أيضا أن تكون غشاوته حين تلده أمه صحيحة لأن غشاوة المولود ربما تقطعت قبل أن يخرج من بطن أمه
فأما معرفة عدد الولد الذي تلده المرأة فإنهم ينظرون إلى المرأة البكر إذا ولدت أول ولدها فإذا وقع المولود إلى الأرض فإنه يكون في طول سرته المتصلة بالمشيمة تعجير وعقد فإنهم ينظرون كم فيها من التعجير والعقد فيقولون إن تلك المرأة تلد بكل تعجير وعقدة في طول تلك السرة ولدا واحدا وإن لم يروا فيها تعجيرا يقولون إنها لا تلد بعد ذلك شيئا وإن كانت المرأة أسقطت بكرها ثم ولدت بعد ذلك فربما بطلت هذه الدلالة
पृष्ठ 64
وأيضا فإن لذوي التجارب من رعاة الغنم وأنواع الدواب علامات في كل جنس يعرفون بها حمل ذلك النوع وتذكيره وتأنيثه وألوانه وقل ما يخطؤون فيه وإنما عرف هؤلاء القوم هذه الأشياء لطول تجاربهم فيما هم فيه
فأما الأطباء فإنهم يعرفون ما يحدث في فصول السنة في أبدان الإنس من غلبة الحار أو البارد أو الرطب أو اليابس فأما العلماء الحذاق من الأطباء فإنهم يتقدمون بالقول فيما يكون في كل فصل في أبدان الحيوان من أصناف الأمراض والحميات والأورام واختلاف حال كل علة ومرض من قوته أو ضعفه وزيادته أو نقصانه وطول مكثه أو سرعة ذهابه وسليم هو أو غير سليم على قدر ما يرون من اختلاف هواء البلدان وأسنان الحيوان وغلبة بعض الطبائع على الأبدان ويقولون إنما يستدل على هذه الأشياء من قبل مزاج السنة واختلاف الهواء في صلاحه أو فساده عند انتقال الزمان وتغيير الطبائع وهذه الأشياء التي استدلت بها الأطباء من اختلاف فصول السنة وهواء البلدان وتغيير الطبائع إنما يكون بقوة حركة الكواكب كتسخين قوة الشمس وترطيب قوة القمر وما يظهر من أفعال الكواكب عند امتزاجها مع الشمس والقمر في كل فصل والأطباء أعلم بالعلل وأسبابها ومعرفة الطبائع من أصحاب النتاج والرعاة وغيرهم وصناعتهم أقرب إلى صناعة النجوم من الصناعات التي ذكرناها قبل لأن صناعة الطب إنما هي معرفة طبائع الأركان الأربعة وأبدان الحيوان والنبات والأحجار والمياه وامتزاجها ومعرفة خاصيتها وما يتفق من ذلك ويختلف في البلدان
पृष्ठ 66
وأما صناعة النجوم فإنما هي معرفة ما ينفعل من حركات الكواكب في اختلاف هواء البلدان وفي حالات أهلها وتغيير الطبائع وانتقالها من شيء ئلى إلى شيء وتركيبها في أشخاص الحيوان والنبات والجواهر ومعرفة قواها في الزيادة والنقصان فللعلل التي ذكرناها صارت صناعة الطب أقرب إلى صناعة النجوم وأشرف من الصناعات التي تقدم ذكرنا لها وإنما عرفت الأطباء طبائع الأشياء وما فيها من القوى العامة والخاصة بما يظهر من أفعالها وتغييرها للأبدان ثم نسبوا كل شيء ئلى إلى طبيعته التي وجدوها له بالقياس على ما ظهر من قواها وفعلها في الأبدان فقالوا هذا حار وهذا بارد وهذا رطب وهذا يابس وخاصة كل واحد أن يفعل كذا وكذا فمن هذه الجهة عرفت الأطباء طبائع العقاقير والأدوية وخاصيتها وطبائع العلل والأمراض ثم أخبروا بما يكون ويحدث في كل واحد من ذلك قبل كونه بزمان وأما المنجمون فإنهم عرفوا قوى الكواكب بما يظهر من فعلها في هذا العالم فقالوا الشمس حارة لما رأوا من تسخينها والقمر رطب لما رأوا من قوة فعله في ماء البحر وسائر المياه وكذلك عرفوا قوى سائر الكواكب المتحيرة والثابتة بالقياس على ما ظهر من قوى حركاتها على هذا العالم وأخبروا من هذه الجهة بما يكون ويحدث في هذا العالم من العام والخاص واستدلوا على ذلك بقوى حركات الكواكب الفاعلة في الطبائع والمغيرة لها فكل من ذكرنا من جميع أصحاب هذه الصناعات كالفلاحين ومدبري السفن وسائر الصناعات المختلفة فإن صناعتهم جزئية لأنها تستعمل في صناعتها نوعا واحدا وإنما عرفوا كثيرا من علوم صناعتهم وتدبيرها بالتجارب بمجاري بعض الكواكب
पृष्ठ 68
فأما الأطباء والمنجمون فإن صناعتهم كلية لأنها تستعمل كل الأنواع الموجودة وإنما عرف هؤلاء علم صناعتهم بكنهها بما ظهر لهم من فعل الكواكب في الطبائع وفعل الطبائع في الأشخاص المفردة وبالقياس بما وجدوه على ما غاب عنهم من سببه إلا أن علم النجوم أشرف وأعلى وأجل من علم الطب لأن الأطباء ئنما إنما يستدلون على الصحة والعلل والأمراض وحالاتها من قبل الطبائع وتركيبها وامتزاجها وتأليف القوى التي في الحيوان والشجر والمعادن فأما المنجمون فإنما يستدلون على ما يكون ويحدث في هذا العالم بحركات الكواكب وفعلها في هذه الطبائع وتغييرها أو نقلها إ ياها من حال إلى حال فالكواكب بحركاتها علة لتغيير الطبائع والطبائع تتغير بحركات الكواكب والمنجم يستدل بالكواكب وبقوى أفاعيلها في الطبائع والطبيب يستدل بقوى الطبائع وتغييرها وانتقالها من حال إلى حال وإنما يكون تغيير الطبائع وانتقالها بفعل الكواكب فيها فصناعة النجوم إذا أعلى من صناعة الطب ومن جميع الصناعات ومما يستدل به أيضا على شرف صناعة النجوم أن صناعة النجوم صناعة علوية وموضوعها الكواكب التي لا تتغير ولا تقبل الكون والفساد إلى الوقت الذي يشاء الله
पृष्ठ 70
وصناعة الطب وسائر الصناعات صناعة أرضية وموضوعها الأبدان والأشخاص الزائلة المتغيرة القابلة للزيادة والنقصان والكون والفساد فصناعة النجوم إذا أشرف الصناعات كلها قدرا وأجلها مرتبة فإذ كان علم النجوم كما ذكرنا وكان في ظاهر علم حركات الكواكب ومعرفة قواها التي تظهر في هذا العالم ما وصفنا من استدلال كثير من العامة والصناع بقليل تجاربهم ومعرفتهم على كثير مما هو كائن في جميع هذه الصناعات بما يحدث في كل زمان وفصل من فصول السنة بشدة حر أو برد أو رطوبة أو يبوسة من قبل اختلاف حركات الكواكب في ممرها ومسيرها وانتقالها في أرباع الفلك فما ينكر على العالم بحركات الكواكب وطبائعها وطبائع الزمان الكثير التجارب الذي قد انتهى إليه مما جر به العلماء بصناعة النجوم على قديم الدهور وما استخرجته العلماء والفلاسفة بحكمتها وعلمها ولطيف أفكارها أن يقول إذا رأى الزمان معتدلا بحسن المزاج هذا زمان صحة الأبدان وبقائها واعتدال طبائعها والدال عليه كوكب كذا وكذا وإذا كان الزمان غير معتدل بغلبة بعض الطبائع عليه أن يقول هذا زمان مرض الأبدان وثقلها وفسادها وضعف طبائعها والدال عليه كوكب كذا وكذا ويكون ذلك الكوكب المنسوب إليه ذلك الشيء من الجودة والردائة هو المعروف عند كل من تقدم من أهل صناعة النجوم والمتفق عليه عندهم بتقديم المعرفة وطول التجارب وظاهر الدلالة وباطنها أنه الدال على ذلك الشيء الذي نسبوه إلى ذلك الكوكب من الصحة والمرض أو الخير أو الشر ثم ينظر إلى ذلك الكوكب الدال على فساد الزمان أو صلاحه فإذا انفرد بالدلالة على بعض أشخاص الحيوان وكانت حاله مثل الحال التي دلت على صلاح الزمان أو فساده إن يقول إن ذلك الشخص يكون حاله كذا وكذا من البقاء أو التلف أو الصلاح أو الفساد ويستدل على كل حالات ذلك الشخص من الخير أو الشر على قدر ما يستدل به على حال الزمان من الاعتدال أو غيره لأن الكواكب التي تدل على الكل وحالاتها تدل على جزء ذلك الكل فإذا كان الكوكب يدل على الزمان وعلى أحواله وما يكون فيه من الأشخاص وحالاتها فقد يدل على الشخص الواحد وعلى حالاته أيضا ولأن الأبدان والنفوس والخلق والأخلاق وسائر الأشياء تختلف على قدر اختلاف قوى حركات الكواكب في أحوال السنة وفي أحوال الزمان وفي المكان يترقى من هذا العالم على مثل هذه المراتب إلى أن يصف من اختلاف قوى حركات الكواكب في الزمان والمكان وفي أحوال السنة ومن مسقط النطفة ومن ابتداء مولد الإنسان وخلقه وخلفه ومكانه وغذائه ونشوئه وانتقاله وقوته وضعفه وشجاعته وجبنه وسخائه وبخله وغير ذلك من حالاته ويعرف من مثل هذه الجهة حالات سائر الحيوان والنبات والمعادن ثم يستدل بجميع حركات الكواكب على جميع أحوال الأشخاص من البقاء أو التلف أو الصلاح أو الفساد أو الجودة أو الردائة وسائر الأشياء
पृष्ठ 72
فإذا تقدمت معرفته بحركات الكواكب وحالاتها تقدم هو أيضا بالاستدلال على حالات الأشخاص والقول فيها بما يكون من جميع أحوالها قبل كونها بزمان من الأزمنة فأحكام النجوم إنما قدر على علمها الأولون من مثل هذه الجهة التي ذكرنا فإن عرض فيه الخطاء فليس ذلك من قبل هذه الصناعة بل إنما ذلك من تقصير علم كثير من أهل النظر في هذه الصناعة عن الإحاطة بعلمها وضعفهم عن فهم لطائف الأسباب والعلل التي يقاس عليها بكنهها وقلة حذقهم بتأليف قوى حركات الكواكب وطبائعها في اتفاقها واختلافها في هذا العالم وذلك لأن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى أن يكون عالما بمجاري الكواكب ومسيرها وحالاتها ودرجها ودقائقها من برجها على الحقيقة في كل وقت يحتاج إليه وبمعرفة طبائع الكواكب وقواها الفاعلة في هذا العالم في أحوال السنة وتركيب الطبائع واتفاقها واختلافها وطبائع الأشياء وتركيبها وامتزاجها وكيفية النشوء والتوالد واختلاف أحوال الحيوان والنبات والمعادن وما يحدث في كل واحد منها عند تغيير الأزمنة في الأقاليم كلها وأشياء سنذكرها فيما يستقبل فإن قصر عن معرفة شيء مما ذكرنا أحد من أصحاب هذه الصناعة كان غير كامل لما يحتاج إليه في صناعة أحكام النجوم ولأن كثيرا ممن يستعمل هذه الصناعة لا يقدر أن يحيط علما بهذه الأشياء كلها للطافتها وغموضها واختلاف أسبابها وقواها فهم لا يسلمون في بعض الأوقات من الخطاء والزلل في بعض ما يحتاجون إلى النظر فيه
पृष्ठ 74
وربما عجز أيضا بعض علماء هذه الصناعة في وقت نظرهم في بعض الأشياء ئلى إلى أن يبلغوا من حقيقته والإحاطة به ما لا يخطؤون فيه لعجزهم في ذلك الوقت عن استعمال الفكرة في كل شيء يحتاجون إلى معرفته في ذلك المعنى بعينه وربما كان ذلك الخطاء لاشتباه دلائله وعسر تمييز بعضها من بعض وكذلك كل العلوم اللطيفة الغامضة فإنه ربما عجز كثير من الناس أن يحيط بها علما وربما لم يأمن علماؤها في بعض الأوقات الخطاء والزلل وخاصة إذا كان على مثل ما ذكرنا من علم هذه الصناعة فإذا كان علم هذه الصناعة وسائر الصناعات التي يحتاج فيها إلى تقدمة المعرفة على ما ذكرنا من الغموض وبعده من الحواس فلا ينبغي أن يبطل ما يدرك من علمها لمكان ما لا يدرك منه ولا يحمل جهل من جهلها أو حرفها عن موضعها على من علمها وصدق عنها ولا يرفض ما قوي عليه من ذلك زهدا فيه إذ لم يقدر على أكثر منه ولا يمنعه ضعفه عما لا يعلم منه من استعمال ما يعلم منه ولا يصده خوف ما يعرض فيه من الخطاء عند ضعفه عن أن يستمتع بما يقوى عليه منه فيقضي به حاجته فإن قليل العلم كثير النفع ولا سيما تقدمة المعرفة بما هو كائن وعلم ما هو آت
وقد نرى الأطباء وغيرهم من أصحاب الصناعات قد يخطؤون في تقدمة المعرفة بالأمراض والعلل عند ما يخبرون به عما يكون ويحدث بالمريض من شدة علته أو خفته وسرعة بروئه أو طول مرضه وسلامته أو موته وسائر حالات الأمراض مما يحدث فيها ويؤول إليه حاله منها فلا يمنع الأطباء قليل خطائهم من الرغبة في صناعتهم والتزين بها واستعمالها ولا يشتد إنكار الناس ذلك عليهم ولا يمنعهم ما رأوا من قليل خطاء هؤلاء في صناعتهم من طلب الانتفاع بعلاجهم والاستراحة إلى مداواتهم والسرعة إلى تصديقهم في إخبارهم عما هو كائن من الصلاح والفساد في أبدانهم بما تقدمت لهؤلاء عندهم من المنفعة والصواب الذي كانوا قد عرفوه منهم في قديم الأيام بطول التفقد والتجارب وكذلك مدبرو السفن فإنه لا يدع الملاح ملاحته ولا يدع الناس ركوب الماء بقليل خطاء الملاح وكذلك سائر العلوم والصناعات لا يكاد أهلها يسلمون من عارض خطاء أو حادث آفة يتهيأ لهم ولا تبطل صناعتهم لذلك
पृष्ठ 76
وكل من ذكرنا فخطاؤه أكثر ضررا من خطاء صاحب صناعة النجوم لأن الطبيب إذا أخطأ في تقدمة معرفة الأمراض والأدوية والعلاجات فربما كان خطاؤه سببا لقتل الناس وموتهم وإذا أخطأ الملاح فربما كان ذلك سببا لغرق الناس وتلفهم وإذا أخطأت الرعاة وأصحاب النتاج فربما كان ذلك داعيا إلى فساد وتلف ذلك الجنس من الحيوان وإذا أخطأ صاحب الغرس والزرع فربما كان ذلك سببا لفساد الزرع والغرس وإذا أخطأ صاحب صناعة النجوم فإنما يكون فيه أكثر ذلك أن يجهل صاحبه تقدمة المعرفة بالشيء الذي يحدث ويكون فيدع أن يتقدم في التحرز من الأذى والمكاره قبل حلولها به فربما كان تركه للتقدمة في التحرز داعيا للمكروه والزائل وربما كان فيه التلف وربما لم يكن فيه واحد مما ذكرنا ولا يضر صاحبه ذلك الخطاء
पृष्ठ 78