كانت سياسة الإنجليز في مصر ترمي إلى محاربة التعليم، وبخاصة التعليم العالي؛ لأنه ينير البصائر، ويدفع المصريين إلى محاربة الاحتلال والتمسك بالحرية والاستقلال.
ولهذا عندما نجح مشروع إنشاء الجامعة المصرية الأهلية سنة 1906، لم يصادف هوى في نفوسهم، وقام اللورد كرومر يحاربه، ويدعو إلى إنشاء الكتاتيب، وينادي بأن الأمة في حاجة إلى التعليم الأولي قبل التعليم العالي، ولكن القائمين بهذا المشروع لم يعبئوا بذلك، وساروا في طريقهم، بل إنهم استفادوا من الدعوة إلى نشر التعليم الأولي.
وقد تألف مجلس إدارة الجامعة الأهلية، وكنت أحد أعضائه، وكان من زملائي فيه المرحومون عبد الخالق ثروت باشا، ومحمد علوي باشا، وإسماعيل حسنين باشا ومرقس حنا باشا، وعلي بهجت بك وغيرهم.
وأجمع اختيارنا لرياسة الجامعة على «الأمير» أحمد فؤاد «الملك فؤاد الأول»، وقد صادف ذلك ارتياحا عاما، لما عرف به من تشجيع المشروعات العلمية والعمرانية، وكان له الفضل في نجاح الجامعة المصرية قبل أن تضم إلى الحكومة، ثم بعد أن ضمت، وأصبحت بجهوده المشكورة من أكبر الجامعات، ومن جهتي الشخصية يسرني أن أقول: إنه كان أول اتصال لي بالمرحوم الملك فؤاد، هذا الاتصال الذي نما، وكان له أثره العظيم فيما بعد.
سياسة الخديو عباس
تولى الخديو عباس أريكة مصر وهو شاب، وكان ولا شك وطنيا صميما، ولكن بعض نواحي سياسته وتصرفاته أتاحت للإنجليز زيادة التدخل في شئون مصر.
وقد رأيت كيف أنه مكن اللورد كتشنر من التدخل في الأوقاف، حتى تحولت من ديوان إلى وزارة ، وكيف أدى به السعي وراء المادة في مسألة سكة حديد مريوط إلى أزمة بينه وبين الإنجليز ... وقد كانت الإشاعات عن تقرب الخديو من الألمان، ومساعدته للطليان وتشجيعه للحركات المعادية للإنجليز، وجمع الطوائف حوله، مما أخافهم منه، وكان له أثره بعد ذلك في إقصائه عن العرش.
وكان مما نبه الإنجليز إلى الخديو عباس، وزاد في حذرهم منه تلك الرحلة التي قام بها في الوجه البحري سنة 1914، وكنت وقتئذ ناظرا «وزيرا» للزراعة في وزارة رشدي باشا. فقد أعدت هذه الرحلة إعدادا ضخما، ووضع لها برنامج حافل بالاستقبالات والمظاهرات في كثير من المدن، وتقرر أن يتناوب النظار «الوزراء»، ورئيسهم مرافقة الخديو، وقسمت الرحلة إلى مناطق، وكان من نصيبي أن أكون في معيته من إيتاي البارود إلى الإسكندرية وكنت وقتئذ أتمتع بثقته، بل بعطفه.
وحدث قبيل هذه الرحلة أن عرض مشروع قانون الجمعيات التعاونية الزراعية على الجمعية التشريعية، وكان فريق من الأعضاء على رأسهم المرحوم سعد زغلول باشا معارضين في هذا المشروع، وكانت وجهة الخلاف في تقرير رقابة الحكومة على الجمعيات التعاونية، فذهبت للدفاع عن رأي الحكومة في وجوب رقابتها على هذه الجمعيات، كما هو الشأن في البلاد الأخرى، واستطعت أن أفوز بموافقة الأغلبية.
كان هذا الفوز مما اغتبطت به كثيرا لاعتقادي بفائدته للمصلحة العامة؛ ولأن الرأي العام كان قد اهتم الاهتمام كله للموضوع، وقد ظهرت آثار هذا الاغتباط على وجهي عند مقابلتي للخديو في إيتاي البارود، فسألني سموه عن سبب انشراحي واغتباطي، فأجبت: ذلك يا أفندينا؛ لأن حكومتكم قد فازت اليوم بمطلبها فيما يتعلق برقابتها على الجمعيات التعاونية.
अज्ञात पृष्ठ