وقد تولى النظارة بعده حسين رشدي باشا، فاختارني ناظرا للزراعة، فأنشأت بها المجلس الفني الأعلى، وكان الخلاف بين الخديو عباس، واللورد كتشنر قد بلغ مداه، وهدده عدة مرات بإقصائه عن العرش، وضيق الخناق عليه، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فكانت الفرصة سانحة للحكومة البريطانية لإعلان عزله، وأرسلت إليه في إستانبول تمنعه من الحضور إلى مصر.
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
تحدثت عن مقتل بطرس غالي باشا رئيس النظار سنة 1910، وكيف كانت مكانته عند الخديو عباس حتى إنه بكى لمصرعه، وذهب بنفسه إلى المستشفى لزيارته وقبله في وجهه وهو يعاني سكرات الموت.
والحق أن بطرس باشا لم يكن خائنا لبلاده، كما يصوره حادث مقتله، أو على الأقل في اعتقاد قاتله، فقد كان - رحمه الله - مخلصا لوطنه محبا لحرية بلاده، وكانت له مواقف في الوزارة تدل على مبلغ إيمانه بحقوق أمته، ورغبته في خلاصها من الأجنبي.
ولو لم يكن بهذه الصفة لما حاز ثقة الخديو عباس، الذي كان يشجع الحركة الوطنية والعاملين لها، ويتمنى أن يكون على رأس أمة حرة مستقلة لا يسومها الاحتلال الهوان، ولا يهدده المحتلون بالخلع عن أريكة البلاد بين حين وآخر ...!
كانت السياسة الإنجليزية تهدف من زمن بعيد إلى التدخل في شئون السودان، والاشتراك في حكمه، أو على الأصح التفرد بحكمه دون مصر، فعلى أثر انتهاء الحملة السودانية التي أقحم الإنجليز أنفسهم فيها مع الجيش المصري، وكان على المصريين العبء الأعظم من تضحيات في الأنفس والأموال، كما كان الحال دائما، إذ لا يمكن أن ننسى أن الجيش المصري قد أبيد في حوادث الدراويش، وهو تحت إمرة قواد من البريطانيين لم يحسنوا تصريف الأمور - وعلى أثر انتهاء تلك الحملة سافر اللورد كرومر سنة 1898 إلى السودان، وخطب في «أم درمان» وفي «الخرطوم» خطبتين وضحت فيهما أغراض الحكومة البريطانية - تلك الأغراض، التي تضمنتها فيما بعد «اتفاقية السودان»، فقد قال اللورد كرومر:
إني أعد نفسي سعيدا بمقابلتي لكم لأهنئكم على الخلاص من استبداد حكومة الدراويش، بفضل ما أظهره السردار كتشنر وضباطه من الحذق في تدبير القتال، وما برهنت عليه الجنود البريطانية والمصرية من الشهامة والثبات.
وقد شاهدتم العلمين الإنجليزي والمصري يخفقان على هذا المكان، وفي هذا إشارة إلى أنكم ستحكمون في المستقبل بملكة إنجلترا وخديو مصر.
والنائب الوحيد في السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية، سيكون سعادة السردار الذي أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديو تمام ثقتهما.
واعلموا أن البلاد السودانية لا تستمد أحكامها من القاهرة ولا من لندن، بل إن السردار وحده هو الذي سيقوم بالعدل فيما بينكم، فلا يجب التعويل على أحد غيره، ولست أشك في أنه يحقق أمانيكم ، ويحقق لكم كل ما ترجون.
अज्ञात पृष्ठ