117

وقد بدا لبعض البريطانيين غريبا - حتى للرسميين منهم - أن يصدر مني بعد عودتي لمصر ما يفيد أنني وصلت إلى تحقيق الوحدة ممثلة في التاج ... ويقيني أن مغادرتي للندن فور انتهائي من المحادثات، ومن التوقيع على المشروع، ومغادرة مستر بيفن في الوقت نفسه للعاصمة البريطانية شاخصا إلى واشنجتون، كأن من شأنهما إفساح المجالات لشتى الدسائس، التي كان الغرض منها تصوير بريطانيا، سواء للبريطانيين غير الملمين بحقيقة الأغراض التي توخيناها نحن المفاوضين، أو لفريق السودانيين الواقعين تحت تأثير دعاة الاستعمار من موظفي حكومة السودان، في صورة الناقض للعهد، الجانح إلى خدمة الأطماع المصرية على حساب آمال «السودان»!

والواقع أن شيئا من ذلك لم يكن ليهدف إليه أحد من طرفي المتفاوضين، وقد سبق لي أن أوضحت ذلك بما لا يدع مجالا للبس ولا للريبة، فمحاضر المفاوضة ناطقة بأن مصر التواقة بفطرتها للاستقلال، لن تقف دون تحقيق الاستقلال لغيرها، وبالأخص إذا كان هذا الغير هو الشعب الشقيق، وإذا كان موعده هو متى آن أوانه، وبلغت الأمة السودانية الشأو الذي تنشده وننشده لها.

إذن لم يكن هناك ما يدعو للصيحة وللضجة اللتين رددهما المغرضون، سواء بالخرطوم أو بلندن، لما علموا بتحقيق الوحدة بين القطرين، وقد فهم مني مستر بيفن مما هو مدون في مضابط جلسات المفاوضة؛ أن مصر لن تعارض في استقلال السودان، على أن يتفق الجانبان على أن موعده قد حان، وأن هناك تفاهما وتوافقا على الأغراض والمصالح المشتركة بين القطرين، ولعمري ما كان لمستر بيفن أن يقبل النص الذي عرضه الجانب المصري - وهو نص واضح الأغراض مستكمل المرامي - ما كان ليقبله، ومسألة السودان هي النقطة الشائكة في محادثاتنا، النقطة التي تركزت فيها آراء بعض الدوائر البريطانية، فرفعوها إلى مصاف العقائد، ولكننا حرصنا - نحن المصريين - على أن تكون الصيغة، وما تؤدي إليه من معان صيغة بريئة محققة لكل الأهداف المشروعة، ومرضية قبل كل شيء لإخواننا السودانيين، فلما أيقن ذلك مستر بيفن - وهو الرجل الذي يوازن بين كل الاعتبارات غير عابئ بما يلقاه من عنت أو سوء إدراك حتى من مواطنيه - نزل على الرغبة المصرية، التي لا تتعارض مع أية مصلحة يسلم بها الحق ويقتضيها العدل. •••

لقد وصلت ومن معي إلى مطار ألماظة عائدين من لندن، وكانت حالتي الصحية من السوء، بحيث تسلم أمري الأطباء على الفور، ولم أتمكن من الاتصال إلا قليلا بأعضاء هيئة المفاوضة المصرية، بل وبالرأي العام ممثلا في طبقاته المستنيرة.

على أنني منذ غادرت مصر، وقبل ذلك بوقت ليس بالقصير، أدركت أن هناك من العوامل السافرة والخفية ما كان لا بد من أن يفعل فعله ويحدث أثره، فالمعارضة بالمرصاد، وقد غذاها طول الأخذ والرد، وشجعها ما كان قد عرف من اتجاهات بعض حضرات المفاوضين ...

يد شيوعية تلعب في الخفاء

وإذا ذكرت العوامل الخفية فلا بد، للحقيقة وللتاريخ، أن أذكر هنا أن مساعي إحدى الدول الشيوعية الكبرى، اتجهت بكل قوتها وبكل وسائلها، إلى إفشال كل محاولة للتقرب بين مصر وإنجلترا ... وقد نجحت هذه الدولة على الخصوص في إقناع الكثيرين منا، بأن قضية مصر ليس لها من حل إلا على يد مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة، وأنها كفيلة (أي: هذه الدولة) بتوجيه هذه الهيئات إلى ما يحقق أغراض مصر، دون تمكين لإنجلترا من أن تنفرد بمصر فتطلق لمطامعها العنان، وتستأثر بمزايا الحلف الذي سوف يمتد - بحسب تقديرها - إلى الشرق الأدنى جميعا!

وعلى الرغم من أن أنباء المفاوضة كانت قد سبقتني إلى مصر، وعرف منها المطلعون على الحقائق، بل وغير المطلعين أنها مرضية بوجه عام، فقد فهمت أنني لن ألقى تأييدا يتفق مع ما حصلنا عليه من نتائج، ووضح ذلك من تغيير آراء أولئك الذين كانوا إلى العهد الأخير متحمسين للمعاهدة، حتى قبل أن يدخل عليها ذلك التحسين الملموس، وكانت حجة البعض أن الرأي العام لم يعد يطيق المحالفة، وما تستتبعه من التزامات، وليس يرغب إلا في تحقيق الجلاء والاعتراف بسيادة مصر على السودان، وما على إنجلترا إلا أن تحزم أمتعتها، وتخلي المكان بغير إمهال!

وعبثا كنت تحاول مع أولئك المعارضين المستنيرين منهم وغير المستنيرين، أن تعود بهم إلى الرأي الإجماعي الذي صدر به قرار الهيئة السياسية في عهد المرحوم أحمد ماهر باشا، من أنه لا بد لمصر من أن يكون لها حليف ذو بأس، وذلك إلى أن يقوى ساعد جامعة الأمم الجديدة وينتظم حالها، فقد كان هذا القول يرتطم بدعوى نفور الرأي العام من كل اتفاق يظنون دائما أن الضغط الأجنبي كامن من خلفه!

خيبة أمل

अज्ञात पृष्ठ