كبرى المسائل التي تناولها البحث
ولقد تناول البحث في أحاديثنا على صورة خاصة مسألة السودان، التي كان لها النصيب الأوفى في المداولات، كما كان تحديد أغراض المعاهدة ولجنة الدفاع المشتركة ومسألة الجلاء من أهم ما دار بشأنه البحث ... وأستطيع أن أقرر هنا أن للجانب المصري أن يفخر بنجاح محقق واضح في كل هذه القضايا المتشعبة النواحي التي تعرض لمعالجتها، وإن نظرة منصفة لمشروع المعاهدة، الذي اتفق عليه الرأي بلندن كفيلة بتأييد ما ذهب إليه أولو الرأي، من أن «مشروع لندن» حقق من التحسين في الصيغ، التي انتهت إليها هيئة المفاوضة المصرية بالقاهرة ما جعله أفضل وأدنى إلى تحقيق الأهداف القومية من كل مشروع سواه ...
مسألة السودان
وإذ تحدثنا عن السودان أظهر مستر بيفن دهشته للاهتمام البالغ الذي يبديه الجانب المصري بشأن هذا الإقليم! فكان ردي عليه أن عدم الاهتمام هو الذي يدعو إلى الدهشة ... أليست مصر كما كتب «هيرودتس» من أكثر من ألفي سنة هي «هبة النيل»؟ أليست مصر هي التي رأت من مصلحتها الحيوية، ومن مقومات كيانها أن تضع يدها على السودان منذ ثلاثة آلاف سنة في عهد تحتمس الثالث، بينما كانت شقيقته الملكة «هتشبسوت» قد استولت على السودان الشرقي، وغزت بلاد الصومال؟
ولقد أدرك مستر بيفن في آخر الأمر أن سيادة مصر لا تحتمل الشك ولا الجدل، وقد سبق لغيره من الساسة البريطانيين - وأخصهم لورد كرومر - الاعتراف بها، غير أنني إذ لاحظت أن القوم سيستغلون مطالبتنا بالسيادة لإظهار مصر في صورة المستعمر الطامع، أوضحت أن مصر لا تقصد منها غير استظهار الوضع، الذي يسمح لها بتقديم جميع صنوف المعاونة، التي ينتظرها الشقيق الأصغر من شقيقه الكبير ذي الحول والخبرة الممتزجين بالعطف والحب. وقد تتمثل هذه المعاني وما يلازمها من تبعات في كلمة «الوحدة تحت تاج مصر المشترك»، وهو الرمز الذي يسعد السودان أن يعيش في ظله ...
ولقد طالت مناقشاتنا في أمر السودان، وتبادلنا بشأنه المذكرات، وعاد مستر بيفن إلى ما كان مستر بوكر وزيره بمصر قد أشار إليه من «وعود»، يقولون إن إنجلترا بذلتها للسودانيين بشأن استقلال بلادهم، متى حانت الساعة وجاء الوقت. وكان ردي أن البلد التواقة إلى الاستقلال - كما كانت مصر دائما - ليست هي التي تقوم في وجهه، وتضع في سبيله العراقيل، غير أن هذا الاستقلال ليس محله معاهدة تبرم بين مصر وإنجلترا، بل ستمنحه مصر يوما ما لشقيقتها الصغرى متى تفاهمنا على أن وقته قد حان، ومتى اتفقنا على الأوضاع التي تحقق مصالح الطرفين.
وقد انتهينا في آخر الأمر مع الجانب الإنجليزي، الذي سلم بوجهة نظرنا على الصيغ الأخيرة بشأن السودان، وكان بحثا احتاج إلى شيء كثير من التشدد المقترن بسلامة التقدير، ومن الإيمان بالحق، حتى إن الفراغ من وضع صيغة البروتوكول السوداني لم يتم إلا في الساعة التاسعة والربع من ليلة 25 أكتوبر سنة 1946؛ أي قبل إمضاء مشروع المعاهدة بفترة يسيرة.
وما كنت لأتصور وقد فزت باعتراف الجانب البريطاني بوحدة الوادي تحت تاج مصر، أن تقوم في وجه هذه النتيجة الباهرة الصعاب من كل فج، والاعتراض من كل ناحية، وإني إذ أفهم رد الفعل في الناحية البريطانية، وفي بعض الأوساط السودانية الواقعة تحت تأثير الفريق الاستعماري من موظفي حكومة السودان، لا أفهم كيف يكون الحل الذي وصلنا إليه محل الانتقاد - بل محل المقاومة - في بعض الأوساط المصرية!
وقد بلغ سروري لبلوغ هذه النتيجة إلى الدرجة، التي دفعتني للاتصال ليلا بالقصر الملكي بالإسكندرية؛ لإبلاغه بأن تاج مصر قد ازدان بدرة جديدة، وأن ملك مصر قد عاد إلى الحدود التي رسمتها الطبيعة وسجلها التاريخ!
وأستميح القارئ بمناسبة التكلم عن التاريخ أن أقول له: كم أنا آسف إذ أغفلت في ذلك الحين مستندا له قيمته بشأن إثبات حقوقنا في السودان؛ وذلك جهلا مني إذ ذاك بوجوده! فقد أرشدني الإخصائيون منذ أسبوعين فقط أثناء زيارة جديدة قمت بها لذلك الأثر الرائع المعلن عما بلغته مصر من عظمة ومن مجد وما أحرزته من إتقان في الفن، وأقصد به أثر الكرنك - أقول إنهم أرشدوني إلى واجهة المعبد الخاص بتحتمس الثالث في داخل المعبد الكبير، وإذا بالنقوش التي تعلو الواجهة المذكورة تمثل الملك الفاتح، ومن حوله الرموز التي تشير إلى فتوحاته، وإذا جانب كبير من هذه الرموز يتعلق بالمقاطعات السودانية، التي ضمت في عهده إلى الإمبراطورية المصرية، وهي تمتد في الجنوب إلى خط الاستواء!
अज्ञात पृष्ठ