وبعد شهر، أي على مسافة وصول الباخرة وقدوم أختها بعد الثانية، عاد برسالة أخرى من السر رولاند ستورس إلي، وبها كتاب من السر هنري مكماهون إلى سمو الشريف. أما كتاب ستورس إلي، فيرجوني فيه أن أقدم الرسالة إلى الشريف. وبالفعل قدمت، وبها صيغ من التعرف والإكرام وبيان حسن نية بريطانيا نحو العرب، وأنها - أي بريطانيا - قد انفكت من تقاليدها الودية مع تركيا ... إلى آخر ما قاله. فأجاب، بواسطتي، إلى ستورس فقط، بأن قال: الصيف ضيعت اللبن.
ثم تتابعت مراسلات مكماهون المعروفة. وخلاصتها أن بريطانيا العظمى ستساعد العرب في حربهم التحريرية، بكل ما سيحتاجون إليه، حتى يتم جلاء الأتراك والألمان عن البلاد العربية، التي حددها المرحوم، وفق ما جاء من الهيئة المركزية لحزب العربية الفتاة في سوريا من حدود وهي: من إسكندرونة جنوبا إلى الحدود المصرية برفح ثم التيه، فالبحر الأحمر غربا حتى باب المندب، ثم يشرق مارا بمسقط وعمان وينحرف إلى الشمال محترفا حدود البحرين والكويت، ثم يشرق مع حدود ولاية البصرة فحدود إيران، ثم يشمل إلى التقاء البلاد العربية ببلاد الكرد، ثم يغرب فيدخل الجزيرة والموصل ويترك ولاية حلب إلى الجنوب فينتهي عند الإسكندرونة.
وقد قال مكماهون في إحدى رسائله عن حكومته، إنها ستثابر على الحرب والمساعدة حتى يتم تحرير هذه الأقطار. وإن إنكلترا لا تستثني أي منطقة عربية لها فيها نفوذ، ما عدا الإمارات الواقعة على خليج فارس والبحر الهندي ، تلك البلدان التي لها صلات عهد بحكومة الهند من القديم، وهي إمارة الأمير عبد العزيز العبد الرحمن الفيصل آل سعود وإمارة الكويت وإمارة البحرين وسلطنة مسقط وعمان ومشيخات حضرموت وسلطنة لحج. ثم إنها لا تقول بمحض عروبة أضنه ومرسين وغرب ولاية الشام - وقد عنت بذلك لبنان الصغير بالطبع - وقال: إن لحليفتنا فرنسا فيها حقوقا.
ثم سأل في إحدى كتبه عن الكيفية التي ستدار بها البلاد المقدسة - يعني فلسطين - متى صارت في الحوزة العربية، فأجيب بأن النية منصرفة والعزم على إدارتها على حرية الديانات الثلاث. فجاء الرد بالشكر على ذلك، وأن بريطانيا العظمى ترحب بالخلافة الإسلامية إن هي عادت إلى الدوحة الهاشمية مرة أخرى.
بوادر الثورة
وبعد ذلك كانت تجري المخابرات مع الأحزاب العربية بالشام، بواسطة المرحوم الأخ فيصل؛ وترك تعيين زمن الثورة إلى العرب. فجاء الصيف وتحرك الركاب الأميري إلى الطائف، وقد حضر الأمير فيصل من الشام والأمير علي من المدينة، وانتهى كل شيء كما يجب عمله بالطائف، وتقرر زمن الثورة بعد مضي الصيف والشتاء. وعاد الأمير فيصل إلى الشام والأمير علي إلى المدينة. وفي هذه المدة استعدت الأفكار العربية للحركة، بسبب انقطاع موارد البحر والغلاء وعدم الرخاء، وأن ليس للعرب في متابعة هذه الحرب إلا نتيجة واحدة، وهي أنهم سيبقون تحت ربقة الحكم إن ظفر الترك والألمان أو انتصر الفرنسيس والبريطان. وكان لا بد من إعلان الحركة العربية والتخلص بالحرب من عواقب الاستكانة لتحكم الغير.
ولم تجب إسطنبول مطالب والي اليمن ومتصرف عسير مما طلباه من نقود، وكذلك فعلت بالحجاز. ثم تغلغلت الجيوش الإنكليزية في العراق، وتجاوزت حدود ولاية البصرة في طريقها إلى بغداد. ثم هزم أحمد جمال باشا بالترعة المصرية.
على أنه قبل أن يتم أي عمل أو قرار مع الإنكليز، كان قد طلب المرحوم - بواسطة الأمير فيصل إلى أحمد جمال باشا - ألا تكون البلاد العربية مضغوطا عليها، وأنه لا بأس من بر الدولة بوعدها للسوريين في منحهم الإدارة اللامركزية التي طلبوها. وقد صادف هذا الطلب اشمئزازا من أحمد جمال باشا، وألح في إرسال المجاهدين من الحجاز. ثم بعد ذلك، وفي أثناء وجود الأمير فيصل بالشام، زار أنور باشا وزير الحربية ووكيل القائد العام سوريا وفلسطين، وزار المدينة المنورة. وقد أهدى الأخ المرحوم الملك فيصل - باسم والده - لكل واحد منهما سيفا مرصعا، وقد كتب على كل سيف منهما اسم المهدي والمهدى اليه، فتقبلا الهدية بسرور وعادا إلى الشام.
ثم أقبل الصيف، وجاء الطلب مرة أخرى بإرسال المجاهدين، وجاء الطلب بإعلان الجهاد المقدس في أقطار الإسلام من مكة باسم الخليفة على روسيا وإنكلترا وفرنسا؛ فأجاب الأمير بأنه:
لأجل إعلان الجهاد وإرسال المجاهدين ينبغي إرضاء العرب بما تتوق إليه نفوسهم من الوصول إلى حقوقهم، وإن أول ذلك إعلان العفو العام عن المجرمين السياسيين ومنح سوريا إدارة لا مركزية وكذلك العراق، واعتبار الشرافة بمكة معترفا لها بحقها الموروث والمتفق عليه من عهد السلطان سليم وأن تكون وراثية فمقابل هذا تقوم الأمة العربية بواجبها عن إخلاص، وأنه سيبعث بالمجاهدين إلى الأمير فيصل بالشام، وأنه سيبعث أحد بنيه إلى الجبهة الأخرى بالعراق، بعد أن يقضي على أي زعامة غير موالية بشرقي الحجاز، وإن على الدولة التأثير على ابن رشيد بأن ينضم إلى الجهاد، وأنه بدون هذا لا يستطيع التقدم بالأمة العربية في حرب نصح بألا تثار وألا تشهر، وأنه سيكتفي بوظيفة الدعاء للدولة بالنصر والظفر.
अज्ञात पृष्ठ