فوصلنا والمؤذن يؤذن لصلاة المغرب، فصلينا جماعة مع حاشية الأمير السابق، وبعد الاستراحة وتبديل ثياب السفر دعينا إلى حضرته جميعا، فدخلنا عليه وهو بدار النساء فسلمنا ثم قبلنا يده، فمال إلى اليمين بحركة خفيفة وأمرنا بالجلوس فجلسنا، فرحب بنا ثم قال: كيف حال سيدنا؟ فقلت: بخير يقرئك السلام ويتشوق إلى رؤية سموك، وقد بعثني لأكون في الصحبة إلى مكة. فقال: السفر غدا إن شاء الله. ثم أشار إلى جميل ومحسن وعبد الله بأن يخرجوا فخرجوا، واستبقاني وقال لي: ما الذى ستفعلونه بي؟ فقلت: الخير كله إن شاء الله. فقال: هل ترضى يا عبد الله بسفري إلى إسطنبول فيفعل بي سفهاء الاتحاد والترقي ما فعلوه بوزرائهم؟ فقلت: لا يكون ذلك إن شاء الله. فقال: كيف؟ فقلت: الذي تحب، إن رأيت البقاء فأنت في بلادك بعد أن تتفاهم مع ابن عمك، وإن أردت الخروج فابق بمصر ولا تسافر إلى إسطنبول من هنا إلا بعد أن تطمئن. فقال: أتضمن لي هذا؟ قلت: أسعى إن شاء الله. قال: ألست خالك؟ قلت: بلى والله. قال: أترضى لي الإهانة؟ قلت: حاشا لله، ولكن علي عهد الله لك في أنني إن عجزت عن تنفيذ مرغوبك ألا أفارقك حيث تسير. فقال: رضيت الآن. ودمعت عيناه ثم قبلني.
كان السفر، كما أمر الخال المرحوم، من الطائف إلى مكة؛ فتوجه ركابه ومعه عائلته الكريمة إلى مكة عن طريق ذات عرق والزيماء فمكة، ودخل مكة المكرمة ليلا، وكنت عرضت لسيدنا الوالد في رسالة خاصة كل ما قاله لي. وأول ما وصل قصد الوالد، فقابله من باب البهو، فتسالما ثم تقدما إلى المجلس فأجلسه معه على سريره، وخرجنا نحن. وبعد ساعة استأذن، فخرج إلى داره بالسبعة الأبيار، فاستدعاني جلالة الوالد وقال: لا أرى على خالك أثرا من مرض. فقلت له: إنه مريض روحيا.
وفي الصباح استدعاني، وإذا في المجلس العم المرحوم الشريف ناصر والشريف زيد بن فواز بن ناصر أمير الطائف؛ فقال: ما رأيكم في علي باشا، هل يقيم هنا أم يسافر إلى إسطنبول؟ فقال الشريف زيد بن فواز: نحن في خدمة من يتولى الحكم منكم مقام أجداده، ولم تجر العادة بأن نبدي رأيا في ما يخص سادتنا، فأرجو إعفائي، وما يقر عليه رأيكم فلا خلاف عليكم منا فيه. فالتفت إلى العم المرحوم وقال: كيف ترى؟ أجابه: أرى لزوم نفيه إلى إسطنبول، لأن في بقائه هنا ما لا تحمد عقباه؛ وهو غني مثر، والترك لا تؤمن غوائلهم، تعمل فيهم الرشوة ما لا يتصور. فالتفت إلي وقال: ما رأيك؟ فقلت: إنه يطلب إما البقاء هنا أو السفر إلى مصر، وإن أحب المقام بمكة فلا ضرر، وقد بقي الشريف عبد المطلب بن غالب وهو معزول في بيته وعون الرفيق بن محمد أمير، فما الذي حصل؟ وإن هو أحب السفر إلى مصر والإقامة بها فهو الأحسن له، فيسلم من أذى الأتراك له ونكون قد عملنا على أن يبتعد عن الحجاز بالنسبة لملاحظة العم المحترم، وإنني قد تعهدت له بأنه إن سيق إلى إسطنبول فإنني أسافر معه يصيبني ما يصيبه. فقال العم: متى جرت العادة في أخذ رأي من كان في هذه السن؟ فقال الوالد: إنه ميمون الرأي.
انتهى المجلس، وتقرر سفر الخال إلى مصر، بعد الحج والحمد لله، ولقد شاهدت في وجه العم المرحوم أثر الاغبرار. ولو سافر إلى إسطنبول لأهين أو ابتزت أمواله. لو فرض فسلم لكان محل تهديد للوالد، وفي الوقت نفسه يكون الحائل للعم في ما يصبو إليه من مقام الإمارة بعد أخيه.
الحج
كانت مكة تغوص بحجاج العالم الإسلامي: القرم، وبخارى، والداغستان، والروم إيلي، والشركس، والقازان، والكرج، والأتراك، والمغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، ومصر، وجاوه، والهند، وجنوب أفريقيا، والسودان، وحجاج بلاد العرب من الشام واليمن والعراق، وحجاج إيران. الكل في زيه ومعه الكثير من تحف بلاده وبضائعه، وكما قال الله تعالى:
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، والكل مهل بلبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والملك لا شريك لك ... فخسئ ابن عبد الوهاب ومن على مذهبه! أين الشرك من هذا التوحيد والإخلاص؟ ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله.
والحج هو موسم الإسلام، فريضة تؤدى، وتعارف يحصل، وأخوة تؤكد. وكان في ذلك العام الوارد من البحر مائة وسبعة وثلاثين ألف حاج. وكان أمير الحج الشامي عامئذ عبد الرحمن باشا اليوسف المعروف، وكان بعد عبوديته - وجده سعيد باشا - لسلاطين آل عثمان، انتقل إلى أنه علم من أعلام حزب الاتحاد والترقي التركي، وقلب إلى سادته ظهر المجن، فأبى الرجوع بالحج الشامي من طريق البر، مدعيا عدم الأمان، يريد بهذا إثبات عدم كفاءة الأمير الجديد.
وأصر الشريف بلزوم رجوع الحج الشامي ومحمله، على عادته من طريق البر، فترك هو - أي عبد الرحمن باشا - الحج، وسافر من البحر إلى مصر فالشام.
وتوجه ركب الحجاج، وعليه العم الشريف ناصر بن علي، ليوصله إلى الشام، وكنت معه، وكان السفير يعتبر كل يوم من أيامه عيدا، بمراحله ورحيله ونزوله. فزرنا المصطفى
अज्ञात पृष्ठ