طرائق شتى في أفكارهم، ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله، واتسعت مداركه، واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل به ثاقب فكره، وانتهت به تجاربه إلى أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب من أجله رءوسهم إليه، إعجابًا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول حتى عدوه شعوذة، وكهانةً، أو ضربًا من ضروب السحر، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد، ومرّ الأزمان ما كان قد خفي عليهم، فيذعنوا له، ويوقنوا بما كانوا به يكذّبون، ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه، فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الواضح، فأنكر البدهيات، وردّ الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه، واضطره تفكيره، إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السونسطائية (١) .
_________
(١) السونسطائية ثلاث فرق الأولى: العنادية وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية، والعقلية، وتكذب حواسها، وعقلها فيما تشاهد. أو تدرك وتراه وهمًا وخيالَاَ. الثانية: اللاأدرية: وهي التي تشك في حقائق الأشياء، وتتردد فيها فتقول: لا أدري، ألها وجود أم لا؟ الثالثة: العندية: وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها، بل تتبع إدراك، من أدركها وعقيدة من خطرت بباله، وهذه المذاهب باطلة بضرورة الحس، والعقل. والقائلون بها قد سقطوا عن رتبة البحث والمناظرة.
1 / 45