لكن ع. ف. لم ير نفسه قادرا على السير فتركنا وذهب، وسرنا نحن الاثنان قليلا ثم افترقنا ... ... ها هو ع. ف. ولا شك أنه يريد أن يذهب معي إلى المحطة ...
الفصل الخامس
في إنكلترا
11 يونية
قمت من باريس بقطار الساعة العاشرة وثلث من محطة سان لازار.
قطار ربيد
1
لا يقف قبل دييب إلا في روان، وراح يقطع الطريق ويخرق الصخور مما يجده الإنسان في كل نواحي فرنسا حتى كنا على مقربة من روان، فتجلت البلد بطرقها تضيع وسط المزروعات أو ترتقي الجبل، وظهرت كنيسة البلد الجميلة وأوصلنا القطار إلى الباخرة فعلوتها وكلي الخوف من المانش ومن مرض البحر بعد أن عانيت منه الصعاب في البحر المتوسط، وأقول في نفسي ماذا رباه سيكون من أمري على ما يصفون به هذا المضيق من الشدة والحمق والهياج، وارتقيت سطح المركب وجعلت أدخن من حين لحين سجارات سجارات متتابعة مع أني لم آخذ غذائي في ذلك النهار خوفا من هذا المرض المشؤوم، فإذا وقفت على قدمي خيل لي أني أدوخ فأجلس من جديد، وأخذ مكانه إلى جانبي فتى يظهر أنه أسباني وفتاة فرنساوية جاء بها كرفيقة له، وطفشا معا من باريس إلى لندرة، وهو يحدثها بلهجة عبيطة تكاد تكون أشد بلاهة من اللهجة الشرقية، ويرتب لها جملا ثقيلة فتجيبه بما عندها ويغتبط هو بجوابها، حتى لقد نسيته أو لم ترض بالدخول إلى رأسه فكرة أنه سيمرض، ولما كانت الساعة الرابعة قلت في نفسي وقد بدأت أحس بالجوع: اللهم إن تكن ساعة مرض فما هي بالكثير، والبحر في كل تلك المدة مصقول الصحيفة أصفى من المرآة لا يهيجه من شيء إلا ما تطرده المركب حولها من الماء والزبد، والهواء بارد يتشرب وسط الضباب إلى الرؤوس والقلوب والصدور، والشمس لا تتميز إلا دقائق ثم تختفي عن الناظرين، والماء يكاد يكون سهلا يضيع في الآفاق القريبة دون أن يظهر فيه حراك ... لما كانت الساعة الرابعة هبطت إلى قاعة المطعم وطلبت شيئا من الشاي وتوست، وتناولت هذا بهذا ثم ارتكنت في مكاني لا أتحرك، وأنا خائف لا أزال من المرض، وأقول متى تنتهي السويعة الباقية، ثم سألت الخادم فقال لي أن لم يبق إلا خمس دقائق فهرولت إلى إهابي وبدت أمامي أول مينا إنكليزية في تلك الجزيرة النادرة، وانتقلت بإهابي إلى القطار الصاعد توا إلى لندرة بعد أن مررت بالجمرك، وانتظرت الجبال والمفاوز والمخافات يقدها الوابور ويفتح صدرها خط الحديد، ولكن عجبي كان شديدا أن رأيت هاته البلاد أشبه ببلادنا المصرية مسطوحة حتى ليرى الإنسان الأفق مما لا يوجد في فرنسا، وقام فوقها الشجر وامتدت المراعي ورتعت الابل وتموج الهواء وأطلت سماء صافية تتهاوى فيها قلائل من السحب وينتشر حولنا الظلام رويدا رويدا.
والأرض الخضراء تروح إلى مرامي النظر وتمتع فيها العين بما تحب، ويمتلئ القلب سرورا والفؤاد نعشة، وتطير الروح في جو خال كبير تجد فيه الراحة والطمأنينة، وبقينا هكذا بين تلك المروج الممرعة حتى وصلنا أول المدينة، ووقف القطار ثم عاود السير حتى محطة فكتوريا، ومنها هبطت وأخذت عربة إلى الأوتيل الذي يقيم فيه صديقي م.ص. قطعت بي طرقا وشوارع تختلف كل الاختلاف عن شوارع باريس؛ فلا شجر فيها ولا قهوات بها على سعتها وعظمها، بل لكأن العربة ترمح بي بين آثار مدينة قديمة من مدن العصور السالفة، أهذه لندرة التي يحكون عنها، أأنا الآن في عاصمة بلاد الإنكليز؟ وهؤلاء القلائل، وأكثرهم من الفقراء الذين يسيرون في الشوارع، هم أبناء هاته الأمة المتكبرة المتجبرة، وتلك الأبنية المنخفضة في ارتفاعها إلى جانب العاصمة الفرنساوية هل تكن في جوفها إنكليزا، كل ذلك صحيح وكله غريب.
12 يونية
अज्ञात पृष्ठ