لقد ظل كلام المسيو ه.ج. يردد نفسه في أذني مذ سمعته، وأعاد أمام ذاكرتي ما قرأته في كتب كارليل (الأبطال) حين وصف الأدوار التي مرت بها الإنسانية في اعتبارها العظماء حيث كانت تجلهم كآلهة أولا ثم كأنبياء وكشعراء وملوكا وكتابا، وفكرت في ذلك كثيرا ولحقني ألم حين رأيت معنى الوحل الجميل على ما كنت أتصوره في هبوط ملك ذي أجنحة بيضاء عظيمة تغطي الكون وهي نورانية فتزيده نورا، يتقلص ليحل محله معنى آخر هو النتيجة اللازمة لأقوالهم ولطول التفكير وللإحساس ساعات الوحدة العميقة بخلوص النفس من الجسم المادي الذي يثقلها ووصولها مجردة تجتلي الحقيقة تطلع على هذا العالم وما حواه وما أحاط به، وهذا المعنى هو الوحي، وصول النفس الكبيرة وقد تجردت عن المادة إلى ما يستكن في جوف العالم الحاضر بجميع أجزائه من الحقائق مما يبعد عليها أن تراه وهي لابسة جسمها محاطة بضجة الكون وعوامل النقص، ومن هنا يدخل إليها أحيانا اعتقاد جازم أن هذا الذي وصلت إليه جاءها من قوة فوقية كبيرة مصرفة للعالم وما فيه، أي جاءها من الله.
لكن هناك مسألة عرضت أمامي جعلتني أتردد أمام فكرتي، تلك هي أنه لو فرضنا صحة ما تقدم فهل من مصلحة الإنسانية إذاعته؟ وهلا يحسن إبقاء الناس في سكونهم النفسي والسكينة أساس السعادة! أم أنا نخرجهم إلى تيهاء الحيرة التي يضرب فيها الأكثرون ممن يذرون العقيدة الدينية جانبا، وما دامت الحقيقة المجردة غير ممكنة في العالم والوصول إليها مستحيل، فالحالة الموجودة خير من غيرها، وترك الناس كما هم أفضل ما يمكننا عمله لهم.
غير أن ذلك يخالف الطبيعة البشرية من الميل إلى الحركة، وقديما قام العظماء نبيا بعد نبي وعالما بعد عالم وفيلسوفا بعد فيلسوف، ولكل آراؤه، ويعتقد أنها أقدر على إيجاد أكبر حظ من الخير على الأرض، ولما انقضى عصر النبوات لم ين المفسرون عن الاختلاف وإظهار آراء شخصية لهم، وإذن فمحال أمام سير العالم الدائم أن نبقى وقوفا، فواجب علينا إذن أن نسدد خطى السائرين ما أمكن ونرشدهم إلى أقوم سبيل وأقربه إلى المصلحة.
وما هو هذا السبيل إذن في الوقت الحاضر ، ذلك هو السؤال الذي يجيء أمامي والذي يسبب الحيرة عندي، وأراني أميل لرأي القائلين بوجوب الإصلاح فيما عندنا خصوصا أمام هذه المدنية الأوربية المادية التي تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه، ولكنى لا أستطيع إلى الآن أن أرسم بشكل أعده طيبا الطريق الذي يجب أن نسلك للوصول إلى هذا الإصلاح.
5 سبتمبر
جمعتني صدفة لم أكن أتوقعها بصديقي ع. واتفقنا على أن نمضي النهار في روبنصن، ولقد قابلنا ب. في الطريق ونحن ذاهبان إلى محطة اللكسمبور ولكن أشغالا خاصة عنده منعته عن أن يجيء معنا.
أخذنا القطار الذي كان خاليا إلا من قليل، وما كاد يخرج بنا من سردابه بين أراضي باريس حتى تميزت السماء الصافية وبعثت الشمس بنورها من النوافذ، وكلما تقدمنا في الطريق زادت المحيطات بنا تميزا وقامت أشجار قليلة الارتفاع وحشائش وشجيرات ذات أزهار تحيط بالطريق المرتفع وعن الجانبين منخفضات، وهنا تمتد المزارع الواسعة تغطيها أنواع الغلال.
عمدنا من محطة روبنصن إلى مطعم أخذنا فيه غذاءنا، ثم قمنا فاستأجرنا عربة وخرجنا بها، فلما خلالنا الجو واعتدلنا على الطريق رحنا بها عدوا تخترق بنا منا بين الاشجار والغابات مرة ثم بين الغيطان أخرى، وأحسسنا بأننا قد ابتعدنا وأن قد ضاع من زماننا أكثره فقفلنا مسرعين نكاد نطير، وفيما نحن كذلك لحقنا سيدة وفتاة على دراجاتهما فلما بصرتا بنا أسرعت الفتاة أمامنا وتخلفت السيدة عنا فلم نزد إلا إسراعا، وكلما ألهبنا جوادنا بذلت الفتاة من جهدها حتى لا نلحقها، وبقينا في مطاردتنا هذه حتى أحسسنا بالسيدة تنفذ هي الأخرى كالسهم وتنضم للفتاة وتنجوان في طريق ضيق لا قبل لعربتنا به، ثم يشيران لنا برأسيهما تحية الوداع.
ظللنا بعد ذلك في سيرنا والطريق ينحدر أمامنا حتى إذا كان في منتهى انحداره تجلت لنا روبنصن تتدرج مرتفعة قليلا كأنها سفح أخضر من سفوح الفردوس، ويقابلنا ما بين آونة وأخرى فتيات من الريفيات سكان البلد وقد أعطتهن الطبيعة إزاء ما حرمتهن منه من اجتماع المدن ولذائذها صحة ونشاطا.
بعد أن فرغنا من العربة أخذنا حصانين على عزم أن نستبق، ولكن لم نبتعد حتى نزل مطر شديد احتمينا منه تحت الأشجار ورجعنا لأول ارتفاعه أدراجنا وقبعاتنا وملابسنا تتصبب، وصعدنا إلى قهوة أقيم فيها مرقص آملين أن نجد فيها موئلا حتى يزول ولو بعض الشيء أثر الماء الذي بللنا، والموسيقى تصدح بنغمات قوية فتقوم الأوانس ويخلعن أرديتهن ويدرن راقصات فيعطين المكان سرورا يعوضه عن قتوم السماء وعبوس الجو.
अज्ञात पृष्ठ