إن الإنسان معرض للموت في كل لحظة، وإن هناك حدا للشجاعة البشرية لا تستطيع تجاوزه، فلا غرو إذا كان المستر بكوك بعد نظرة سريعة من خلال منظاره، إلى هذه الكتل الزاحفة، قد ولى ظهره لها، ولذا نقول: لاذ بأذيال الفرار ... لأنه أولا تعبير محبب، وثانيا: أن شكل المستر بكوك لا يتفق مع هذا الأسلوب من التقهقر، ولكنا نقول: إنه انطلق «خببا» على قدر ما استطاعت ساقاه أن تحملاه، أي نعم انطلق بسرعة بالغة، لم يفطن معها إلى غرابة موقفه كل الفطنة، إلا بعد حين.
وكانت القوات التي اصطفت قبالة المستر بكوك من قبل، وحار في إدراك المراد من اصطفافها بضع ثوان على هذه الصورة، قد وقفت هكذا لصد هجمة تمثيلية من الجنود المحاصرين للقلعة، على سبيل التمثيل. وإذا بالمستر بكوك ورفيقاه قد وجدوا أنفسهم فجأة محصورين بين صفين من القوات الكبيرة، أحدهما يزحف بخطى سريعة، والآخر ثابت؛ للاشتباك في قتال وطعان.
وصاح الضابط في الجيش الزاحف: «هو ...»
وصرخ الضباط في الجيش الواقف: «ابتعدوا عن الطريق، أفسحوا السبيل ...»
وصاح البكويكيون الثلاثة مروعين: «إلى أين نذهب ...؟»
فكان الجواب الوحيد: «هو ... هو ... هو ...»
وتلت هذا الموقف حيرة بالغة، وذهول شديد، ووقع أقدام ثقال، ورجة عنيفة، وضحكة مكبوتة، وكانت الآلايات الستة على قيد خمسمائة ياردة، ولكن حذاء المستر بكويك بدا طائرا في الفضاء، وأما المستر سنودجراس والمستر ونكل فقد اضطرا إلى الانقلاب ظهرا لبطن في خفة ظاهرة، وكان أول شيء وقعت عين المستر ونكل عليه حين حط على الأرض، بعد ذلك الانقلاب في الفضاء، وهو يمسح بمنديل حريري أصفر «نهر الحياة» الذي نزف من أنفه - مشهد زعيمه الموقر على قيد خطوات منه، وهو يعدو في إثر قبعته، وهي تصفر لاهية ذاهبة مع الهواء كل مذهب.
وقلما تعرض للمرء في حياته لحظات يواجه فيها محنة تثير الضحك، ولا تبعث كثيرا من الإشفاق عليه والرثاء لحاله، كاللحظة التي يجري فيها مطاردا قبعته، وأن القبض عليها ليقتضي قدرا كبيرا من الهدوء، وحدا بالغا في الاتزان، فلا ينبغي للمرء أن يتعجل الهجوم عليها، وإلا داسها بقدميه، أو استبقها في عدوه، كما لا يصح له الغلو في الهدوء، وإلا فقدها إلى الأبد، وإنما الطريقة المثلى هي التلطف للطريدة، والأخذ بالحذر والحيطة، وترقب الفرصة المواتية، والتقدم شيئا فشيئا أمامها، ثم الانقضاض العاجل عليها، والإمساك بها من قمتها، وحشرها في رأسك حشرا لا فكاك لها منه، وأنت في ذلك كله باسم بسعة الرضى، كأنك تعتقد أنها منظر مضحك لك، كما هو مضحك لسواك من الناس.
وكان الريح رخاء، فراح المستر بكوك يتدحرج أمامها مداعبا، ثم هبت الريح، فهب المستر بكوك مثلها، فانطلقت القبعة متدحرجة دحرجة مرح ودعابة كأنها سمكة حية في موج شديد، وكان من الجائز أن تظل متدحرجة على هذا النحو حتى تعز على منال المستر بكوك، لولا أن وقف فجأة في طريقها حائل ساقته الأقدار، في اللحظة التي أوشك ذلك السيد أن يدعها إلى مصيرها المحتوم.
نقول: إن المستر بكوك أحس بإعياء تام، وكاد ينثني عن المطاردة، في اللحظة التي اندفعت فيها القبعة بعنف؛ فاصطدمت بعجلة مركبة كانت واقفة في صف مستطيل من بضع مركبات أخرى في البقعة التي ساقته إليها خطاه، وأدرك المستر بكوك أن الظرف في مصلحته؛ فاندفع بخفة إلى الأمام، فاسترد قبعته ووضعها فوق هامته، وتمهل ليملك أنفاسه اللاهثة، ولكنه ما كاد يقف في مكانه نصف دقيقة، حتى سمع صوتا ينادي باسمه في لهفة، وتبين في الحال أنه صوت المستر طبمن؛ فرفع بصره ليرى أين هو، فشهد منظرا ملأ خاطره دهشة وحبورا.
अज्ञात पृष्ठ