إنه ليثلج الصدر، ويسر النفس، التحول من التفكير في شئون الحياة السياسية ونضالها وجلبتها، إلى الراحة والسكينة اللتين تلازمان الحياة الخاصة، ولم يكن المستر بكوك في الحقيقة نصيرا لأي حزب بالذات، ولا منتميا إليه كل الانتماء، ولكن حماسة المستر بت أوقدت مشاعره إلى حد جعله يشغل كل وقته، ويحشد كل اهتمامه؛ لمتابعة الإجراءات والتدابير التي جئنا بوصفها في الفصل السابق من كناشته ومذكراته، ولم يكن المستر ونكل أيضا طيلة انشغال زعيمه بتلك الشئون، متبطلا ولا متبلدا، بل لقد مضى يخصص كل وقته للرياضات البهيجة، والرحلات الريفية اللطيفة مع مسز بت التي لم تكن تدع أية فرصة تسنح لها إلا انتهزتها؛ التماسا للترفيه عن نفسها من تلك الحياة المملة الرتيبة التي ما فتئت تشكو منها.
وهكذا بينما كان هذان السيدان يقيمان في دار رئيس التحرير، وينزلان فيها منزلة الأهل والعشراء، كان المستر طبمن والمستر سنودجراس قد تركا وحدهما ليستمتعا إلى حد كبير بالعيش على هواهما، ولم يكونا يعنيان كثيرا بالمسائل السياسية، فراحا يقتلان الوقت في الاستمتاع غالبا بكل ما تكفله الحياة في فندق بيكوك من صنوف اللهو وألوان التسلية، وهي لا تعدو لعبة «البليارد» في الطابق الأول منه، وألعاب «الكرة» في ساحة مهجورة من فنائه الخلفي، وكان المستر ولر مستكمل العلم بهاتين اللعبتين، فتولى تدريبهما على دقائقهما، وما خفي عليهما من أسرارهما التي لا يعرفها الأشخاص العاديون، وظل يلقنهما شيئا فشيئا حتى يألفا ممارستهما على الأيام، وهكذا استطاعا رغم حرمانهما كثيرا من متعة لقاء المستر بكوك والانتفاع بمجالسه، أن يقضيا أوقاتهما بغير ملالة، وتمكنا من تجنب السآمة والضجر.
ولكن مجالس المساء في الفندق لم تكن تخلو من مفاتن، مكنت هذين الصديقين من التغلب على الدعوات التي كان «بت» الذكي الموهوب - رغم بلادته، وأحاديثه السقيمة - يوجهها إليهما، وكانت العادة أن تمتلئ في كل مساء «القاعة التجارية» في الفندق «بحلقة اجتماعية»، كان يطيب للمستر طبمن أن يلاحظ أفرادها، ويتأمل تصرفاتهم وآداب سلوكهم، ويألف المستر سنودجراس تدوين أقوالهم وأفعالهم في مذكراته.
وأكثر الناس يعرفون ما شأن تلك القاعات التجارية عادة، ولم تكن هذه القاعة في فندق «بيكوك» تختلف في شيء عن أمثالها في الفنادق الأخرى، أي إنها كانت قاعة رحيبة الجوانب، تكاد تلوح خالية من الرياش عارية، وإن كان ما فيها منه يوحي بأنه كان أحسن وأفضل منظرا، حين كان أجد وأحدث عهدا، وقد وضعت في وسطها منضدة كبيرة، وعدة مناضد أخرى صغيرة في مختلف زواياها، وجملة منوعة الأشكال من المقاعد، وبساط قديم من البسط التركية يكاد يتناسب حجمه مع مساحة القاعة ذاتها تناسب منديل غادة، وكانت الجدران ومقر الحارس مزدانة بخريطة أو خريطتين كبيرتين، وعدة معاطف «لوحتها الشمس»، أو ذهبت التقلبات الجوية بألوانها، وقلانس وقبعات مدلاة من صف مستطيل من المشاجب في ركن منها، كما ازدان الطنف بدواة من الخشب تحوي «بقية» قلم ونصف قرطاس، ودليلا للمسافرين، ودليلا للأعلام، وتاريخا للأقاليم ينقصه الغلاف، وبقايا سمكة في تابوت زجاجي، وكان أفق القاعة مختنقا بذوائب الدخان المتصاعد من اللفائف والقصبات، حتى أحالت القاعة قاتمة اللون، ولا سيما الأستار الحمر المغبرة التي تظلل النوافذ والشرفات. وكانت على الصوان الجانبي أنواع منوعة من الأشياء متجاورات متقاربات، كان أبرز ما فيها بضعة أباريق، وصناديق، وسياط، ولفاعات للسفر، وصينية للسكاكين والشوك، وآنية للتوابل والخردل.
وفي هذه القاعة كان المستر طبمن والمستر سنودجراس يجلسان في مساء اليوم الذي انتهت فيه الانتخابات مع عدة نزلاء آخرين، يدخنون ويشربون.
وأنشأ رجل بدين موفور العافية، يناهز الأربعين، أعور ذا عين سوداء شديدة البريق، يختلج فيها المكر والمجانة والولوع بالمزاح، يقول: «أيها السادة، نحن معاشر السادة، إن من عادتي أن أقترح شرب نخب الحاضرين، وأخص نفسي بشرب نخب «ماري»، إيه يا ماري!»
فأجابته الساقية، وهي تبدو غير مستاءة من هذه التحية التي وجهت إليها: «الزم شأنك أيها المنكود.»
وقال ذو العين السوداء: «لا تنصرفي يا ماري!»
وأجابت الفتاة: «دعني وهذه القحة.»
وقال الأعور وهو ينادي الفتاة بعد أن تركت القاعة: «لا بأس! سأحضر إليك بنفسي يا ماري بعد لحظة، فلا تغضبي يا عزيزتي، وكوني مرحة.»
अज्ञात पृष्ठ