मेरी यादें 1889-1951
مذكراتي ١٨٨٩–١٩٥١
शैलियों
وإذ كانت مساوئ وزارة الوفد في سنة 1950 و1951 قد فاقت كل مساوئ له في أي عهد مضى، فلم يكن في استطاعتي أن أسكت عن معارضة سياسة الوفد في الحكم،
1
ومع ذلك فإن معارضتي كانت غاية في الاعتدال وضبط النفس، لكن هذا المسلك قد أثار علي غضب الوفد وزعامة الوفد، تماما كما حدث لي سنة 1925 و1926 و1936، فلما حل موعد التجديد النصفي رشح الوفد ضدي في دائرة الشيوخ محمد عبد الرحيم سماحة، وكان عضوا بمجلس النواب.
وقد فهمت من ملابسات هذا الترشيح أن المقصود منه إقصائي عن المجلس؛ لأنه إذا كان الغرض منه هو الاستفادة من مواهب منافسي؛ فإن في مجلس النواب متسعا لها، ومع هذه الملابسات فقد خضت معركة الانتخاب، وكان ذلك في أبريل سنة 1951. ولو تركت حكومة الوفد الانتخاب حرا لما كان هناك شك - فيما أعتقد - في نجاحي؛ لأن الوعي القومي قد تنبه بحيث يمكن للناخبين لو تركوا أحرارا أن يختاروا الأصلح لعضوية المجلس. وكان الواجب على الوفد وقد ظفر بالأغلبية في مجلسي البرلمان أن يحترم حرية الانتخاب في الدوائر التي خلت في عهده. ولكن الحكم المطلق - وهو شعار الوفد - يولد في النفوس نزعة التمادي في الاستبداد والطغيان ومحاربة الحرية أينما وجدت. وبرغم أن الأحزاب المعارضة، توقعا لهذه النتيجة، قد أضربت عن دخول انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ سنة 1951، ولم يبق إلا ثلاث عشرة دائرة جرت فيها الانتخابات - ومنها دائرتي - فإن وزارة الوفد قد أتت فيها من صنوف الضغط وضروب الإرهاب والتزييف ما لم يحدث مثله في عهد أي وزارة أخرى. وتولى فؤاد سراج الدين وزير الداخلية وقتئذ الإشراف على هذه العملية الإجرامية، ففاز مرشحو الحكومة في جميع هذه الدوائر ولم ينجح أحد من المعارضين أو المستقلين فيها. وتبين من المقارنة بين الماضي والحاضر أن إسماعيل صدقي كان أرحم من فؤاد سراج الدين في التدخل في الانتخابات وأخف وطأة؛ فقد أجرى صدقي باشا انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ سنة 1946، فترك حوالي نصف الدوائر حرة لم تتدخل فيها الحكومة بأي وجه، وتدخل تدخلا هينا في نصف الدوائر الأخرى. أما فؤاد سراج الدين فقد أبى إلا أن يعصف بحرية الانتخابات في كل الدوائر، وسخر قوات الشر والإجرام لإنجاح مرشحي الحكومة فيها جميعا.
ولم أتأثر كثيرا هذه المرة مما فعله الوفد معي في الانتخاب، ويظهر لي أن هذا يرجع إلى اعتيادي محاربة الوفد لي سنة 1924 و1925 و1926 و1936، وإلى أني لم أخسر المعركة بمقدار ما خسرها الوفد معنويا ووطنيا. ولم أشأ أن أكتب شيئا عن أساليب وزارة الوفد معي في الانتخاب، ولكني رأيت جريدة «البلاغ» وهي من صحف الوفد تأخذ من سكوتي دليلا على ما زعمته من حرية الانتخابات، فلم أر بدا من أن أذكر بعض الحقائق الوجيزة وبعثت بها إلى صحيفة البلاغ فنشرتها في العدد الصادر بتاريخ 9 مايو سنة 1951. ويطيب لي أن أنشر هذا المقال فإن فيه صورة مصغرة لما جرى في عهد الوزارة التي أسمت نفسها وزارة الشعب. قلت:
حضرة الأستاذ المحترم رئيس تحرير «البلاغ» الأغر
أقحمتم اسمي مرتين فيما كتبتموه عن انتخابات الشيوخ الأخيرة، وذلك في عددي 5 و6 مايو، وفي العدد الأخير بالذات جعلتم عنوان المقال: «نحن نقدم الشواهد على حرية الانتخابات»، وذكرتم عني أني قدمت شكوى حققت بمعرفة مفتش الداخلية وأني قلت في محضر التحقيق أني مطمئن إلى حياد رجال الإدارة.
ولولا أن إقحام اسمي في هذا السياق قد يفهم منه أني موافق على أن هذه الانتخابات جرت في حياد وحرية لآثرت السكوت عن الخوض في شأنها؛ لأني أستنكف أن أقف موقف الشاكي من أي ضيم وقع بي. أما وفي مقالكم تعريض بي فلا يسعني إلا أن أعقب عليه بأن ما جرى في دائرة فارسكور هو التدخل الإداري السافر المبني على الضغط والإرهاب وكل صنوف التزييف.
لقد شكوت إلى معالي وزير الداخلية قبل موعد الانتخاب بنحو شهر تدخل مأمور المركز وجمعه العمد والتنبيه عليهم بمساعدة مرشح الحكومة وتهديدهم بما حدث لزملاء لهم من العمد من الفصل والإيقاف عقب انتخابات يناير سنة 1950. فأكد لي معالي الوزير بأن الانتخابات هذه المرة ستجرى في حياد وحرية تامين، وكلم مأمور مركز فارسكور بالتليفون بحضوري منبها عليه بالتزام الحياد. ولم ينكر المأمور الواقعة التي شكوت منها، وانتدب الوزير مفتش الداخلية بالدقهلية لتحقيق هذه الشكوى. وكان المراد من التحقيق أن أذكر أسماء من أبلغوني ذلك التهديد، ولكني وجدت من الحكمة ألا أذكر أسماءهم حتى لا يتعرضوا هم أيضا للأذى والتنكيل واكتفيت بما تضمنته برقيتي التي أرسلتها إلى الوزير، وقلت في محضر التحقيق بأني لا أتردد عن الشكوى كلما حدث تدخل من الإدارة.
ولا أذيع سرا إذا قلت لكم إني شكوت لسعادة مدير الدقهلية «فؤاد عثمان» مشافهة وبالتليفون في كل يوم تدخل الإدارة عشرات المرات، وكان يعدني كل مرة بأنه سيوقف هذا التدخل دون أن أجد نتيجة لهذه الوعود. وأما إعطاؤه إجازة لمأمور مركز المنصورة «قريب مرشح الحكومة» عقب شكواي من تدخله؛ فقد تبين لي أن المقصود من هذه الإجازة هو إفساح المجال لحضرته ليمر باستمرار ليلا ونهارا مع قريبه في معظم بلاد الدائرة والتنبيه على العمد والمشايخ بأن الحكومة يهمها نجاح مرشحها. ومما فعله هذا المأمور أنه في اليوم السابق للانتخاب حصل من المديرية على أسماء المندوبين الذين اخترتهم عني في جميع لجان الانتخاب، رغم سرية هذه البيانات، وتسنى له ولرجال الإدارة بهذه الوسيلة معرفة أسمائهم جميعا وتهديدهم شخصيا وتشريدهم لكيلا يحضروا عملية الانتخاب. وقد وصلوا فعلا إلى هذا الغرض؛ ومن الأمثلة على ذلك أنه في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة الانتخاب دق جرس التليفون في منزل صهري بالمنصورة، وإذا بالمتكلم أحد مندوبي في لجنة كفر العرب من بلاد مركز فارسكور يحدثني من دمياط ويخبرني في لهجة من الهلع والفزع أن عمدة كفر العرب وخفراءها نبهوا عليه وعلى الوكيل الذي اخترته في هذه اللجنة بأن الإدارة تأمرهما بمغادرة البلدة وتهددهما بالحبس إذا لم يغادراها واضطرهما العمدة والخفراء تحت تأثير هذا التهديد إلى مغادرة البلدة ليلا إلى دمياط. وتبين لي في الصباح أن معظم مندوبي في اللجان منعوا بهذه الطريقة من حضور عملية الانتخاب، وخلت معظم اللجان من وجود ممثلين لي؛ مما سهل مأمورية رجال الإدارة في تسويد تذاكر الانتخاب.
अज्ञात पृष्ठ