هذه المذكرات
النشأة الأولى
الحياة العملية
الحياة المثالية
ذكرياتي عن ثورة 1919
زوجتي
بين السياسة والاقتصاد
الحياة النيابية
في المعارضة البرلمانية
صدمة سنة 1926
كيف أرخت الحركة القومية؟
الأمير عمر طوسون
سكرتيريتي للحزب الوطني
الجبهة الوطنية
استجوابي عن المعتقلين السياسيين
استجوابي عن الأهداف القومية
منع تملك الأجانب الأراضي الزراعية والعقارات
عندما دخلت الوزارة
إخراجي من مجلس الشيوخ
مذهبي السياسي
اعترافاتي1
نصائحي للشباب
هذه المذكرات
النشأة الأولى
الحياة العملية
الحياة المثالية
ذكرياتي عن ثورة 1919
زوجتي
بين السياسة والاقتصاد
الحياة النيابية
في المعارضة البرلمانية
صدمة سنة 1926
كيف أرخت الحركة القومية؟
الأمير عمر طوسون
سكرتيريتي للحزب الوطني
الجبهة الوطنية
استجوابي عن المعتقلين السياسيين
استجوابي عن الأهداف القومية
منع تملك الأجانب الأراضي الزراعية والعقارات
عندما دخلت الوزارة
إخراجي من مجلس الشيوخ
مذهبي السياسي
اعترافاتي1
نصائحي للشباب
مذكراتي 1889-1951
مذكراتي 1889-1951
تأليف
عبد الرحمن الرافعي
هذه المذكرات
كنت معتزما أن أخصص فصلا من كتاب «في أعقاب الثورة المصرية» لتدوين خواطري ومذكراتي، أتحدث فيها بشيء من التفصيل عن نفسي، ومراحل حياتي؛ ثم وجدت أن هذا الفصل قد يطول، وليس من حقي وأنا أؤرخ الحركة القومية في مختلف عهودها الحديثة أن أقحم فيها حديثا طويلا عن نفسي. هذا حق لا ريب فيه، ولكن أليس لي - بعد أن ترجمت لمئات من الشخصيات في تلك الحقبة من الزمن التي أرختها والتي تزيد على مائة وخمسين عاما من تاريخ مصر الحديث - أن أترجم لنفسي؟ لقد عمل المتقدمون مثل ذلك؛ ففي «الخطط التوفيقية» فصل كتبه المرحوم علي باشا مبارك عن تاريخ نفسه، ولم يوجه إليه لوم أو عتاب في هذا الصدد. حقا إن من أشق الأمور على الإنسان أن يترجم لنفسه؛ فقد يحمل هذا على محل المباهاة والأنانية. ولكني ما قصدت إلى شيء من ذلك قط، وإنما أقصد إلى أن مثل هذه المذكرات فيها من الحقائق والخواطر ما لا تتسع له كتب التاريخ. وهي مع ذلك قد تفيد لمن يريد أن يتفهم العصر الذي عشت فيه وشاهدت حوادثه وحقائقه. ثم إني أرى أن نشرها قد يكون مساهمة مني في تكوين المواطن الصالح. ربما أكون مصيبا في هذا الظن أو مخطئا ولكن هذا هو الغرض الذي أنشده.
لهذا القصد، وبهذه الروح، أنشر هذه المذكرات، وقد دونت فصولها، بعضها في حينها وبعضها بعد وقوع حوادثها، وهي في مجموعها تشتمل على مشاهداتي وخواطري حتى نهاية العام الماضي (1951).
أما المستقبل فلا يعلمه إلا علام الغيوب، وخواطري ومشاهداتي عنه مرهونة بمشيئة الله.
عبد الرحمن الرافعي
أول فبراير سنة 1952
النشأة الأولى
ولدت يوم 8 فبراير سنة 1889 بالقاهرة بمنزل جدي لأمي المرحوم الشيخ محمود رضوان، بعطفة أبو داود رقم 2 بشارع درب الحصر (قسم الخليفة). (1) والدتي
هي السيدة حميدة، كريمة الشيخ محمود رضوان، من صميم أهل القاهرة، كان كاتبا بدائرة الحلمية،
1
وقد خدم رحمه الله هذه الدائرة وكان موضع ثقة القائمين عليها لصدقه وأمانته. وعندما أنشأت الأميرة مهوش قادن وقفها أدخلته ضمن مستحقيه، هو وذريته من بعده. ولما توفي خلفه في وظيفته نجله حسن أفندي المعايرجي (خالي) الذي صار رئيسا لكتبة هذه الدائرة، وكان أيضا رجلا مشهورا بالتقوى والصدق والأمانة، وسمي المعايرجي؛ لأن جده الشيخ رضوان أحمد كان يشغل وظيفة معايرجي دار الضرب بالقلعة.
فوالدتي مصرية صميمة، وقد توفيت في 21 يوليو سنة 1893 غير متجاوزة الخامسة والثلاثين من العمر، إثر التهاب رحمي بريتوني أصابها عقب الولادة، وكنت لا أزال طفلا؛ إذ كانت سني لا تزيد على أربع سنوات وبضعة أشهر.
إخوتي الأشقاء.
وبالرغم من صغر سني إذ ذاك فإني أذكر صورتها جيدا، وأذكر حنانها علي وعلى إخوتي الأشقاء أمين وأحمد وإبراهيم. وكانت سيدة كاملة الصفات والأخلاق، عرفت بين أفراد العائلة بطيبة القلب، وصفاء النفس، والخصال الحميدة. وقد عشت بعدها يتيما من الأم، ولم أجد بعدها من يحبوني بحنو الأمومة. ولا أدري ماذا كان تأثير حرماني من هذا الحنو في نشأتي ونفسيتي وحياتي. على أن الذي أستطيع أن أدركه من هذا الأثر أني ظللت على حبي لها وتمجيدي لذكراها طوال السنين، وتملكني مع الزمن شعور بأني مدين لها بما حباني الله من مواهب (بحسب ظني). وزاد هذا الشعور رسوخا في نفسي ما لاحظت من اجتماع هذه المزايا في إخوتي لأمي؛ فمنهم شقيقي أحمد، ثم شقيقي أمين الذي كان يكبرني بسنتين، ثم شقيقي الأصغر إبراهيم.
كان أخي أحمد قد انتظم في الأزهر، وعرف بالذكاء والميل إلى الشعر والأدب، ومات في شرخ الشباب سنة 1903.
أما أخي أمين فلست في حاجة إلى التنويه بمنزلته في الجهاد ومكانته في الصحافة، وقد توفاه الله في 29 ديسمبر سنة 1927 في سن مبكرة؛ إذ لم يتجاوز الحادية والأربعين من العمر.
وكان إبراهيم من نوابغ مدرسة المهندسخانة وأول خريجيها عام 1913. وقد حدثني زملاؤه في التلمذة والتخرج أنه كان مشهودا له بينهم بالنبوغ والتفوق، وقد عين معيدا في المدرسة عام تخرجه منها. وعندي منه خطابات تدل على ميله إلى الأدب منذ صباه؛ ومنها كتاب أرسله إلي في 9 أبريل سنة 1910 وهو بعد طالب بالمهندسخانة لمناسبة اشتغالي بالمحاماة قال فيه:
أخي العزيز، سلام يتبعه تسليم، مزاجه من تسنيم. مضت مدة ليست بالقصيرة كنت أستطلع فيها أخبارك من السيد أمين، فكنت أبتهج كلما علمت أنك سائر في طريق النجاح غير هياب ولا وجل، مع العلم بأن كثيرا ممن سلكوا سبيلكم هذا ما عتموا أن طرقوا بابه حتى ولوا على أعقابهم مدبرين، فأساءوا إلى أنفسهم وأساءوا إلى غيرهم؛ لأن كل من وصله خبرهم اتخذهم حجة دامغة وتقاعد بل تقاعس هو عن العمل، فيصبح الكل وهم عضو أبتر، عضو أشل في كيان هذه الأمة. ولكنك أيها الأخ قد ألقيت علي وعلى كثير من إخواني درسا من دروس المكافحة في هذه الحياة. فلتسر في حياتك الجديدة، ولتواصل المسير في تلك المعمعة، ولتستمر في تتميم ذلك البناء الذي وضعت أول حجر في أساسه من مدة وجيزة، ولتكن على يقين من أنك ستحيي ميت رجاء كثير من الطلبة الذين استولى عليهم القنوط وظنوا أن أبواب الفوز والنجاح موصدة في وجوههم مغلقة دونهم، ولكنك بإذن الله سبحانه وتعالى ستكون حجة على هؤلاء المتقاعدين فيحذون حذوك، فيكون لك بذلك كمال الشرف وشرف الكمال. فعليك مني السلام يوم دخلت في ذلك الدور الجديد من الحياة، وسلام عليك يوم تخرج منه وقد كللت أعمالك بالفوز والمنفعة لبلادنا المفتقرة إلى كثير ممن لا يبالون بما يصادفهم من العثرات، بل يمرون عليها وهم شم الأنوف كأن لم تكن تلك الحوائل شيئا مذكورا. والسلام.
من المخلص
أخيك إبراهيم
ويبدو لي أن مستقبلا زاهرا كان ينتظر أخي إبراهيم لولا أن عاجلته منيته وهو في ريعان الشباب؛ فقد عين رحمه الله مهندسا للري بمديرية الفيوم ومحل إقامته في «طامية»، وأصيب هناك بحمى التيفوئيد التي قضت على شبابه في يوليو 1915. (2) والدي
هو الشيخ عبد اللطيف الرافعي. ويرجع أصله البعيد إلى الحجاز؛ إذ هو من سلالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ولذلك سمي الفاروقي. وهو من علماء الأزهر. تولى مناصب القضاء الشرعي منذ سنة 1877. وكان حين ولادتي قاضيا لمحكمة البحيرة الشرعية. ونقل قاضيا للشرقية في يونيو سنة 1889، ثم قاضيا للغربية في سبتمبر سنة 1891، فقاضيا للشرقية سنة 1895، فعضوا بمحكمة مصر الشرعية سنة 1897، فمفتيا لثغر الإسكندرية سنة 1898، وبقي يتولى هذا المنصب إلى أن أحيل إلى المعاش في ديسمبر سنة 1909، واستقر بالإسكندرية منذ تعيينه مفتيا لها ومكث بها بعد إحالته على المعاش، ولما مرض مرضه الأخير انتقل إلى القاهرة حيث توفي بها في 24 يناير سنة 1918.
كان رحمه الله عالما تقيا، تلقيت عنه نشأتي الدينية؛ فكان يعودني وإخوتي على الصلوات الخمس نؤديها في أوقاتها، ويرتل القرآن بحضورنا، ويأمرنا بالصلاة في المسجد أحيانا. وأذكر أنه كان يوقظني قبل الفجر لأؤدي معه الصلاة في مسجد سيدي ياقوت العرش بالإسكندرية وكان قريبا من منزلنا بالأنفوشي، وأعود معه إلى المنزل بعد أداء الصلاة. وتعودت الصوم على يده في سن مبكرة، وكنت أراه أمرا عاديا ومألوفا. وكان رحمه الله يعظنا ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويحبب إلينا التمسك بشعائر الدين وتعاليمه. وكنت من ناحيتي مرهف الحس من الوجهة الدينية الروحية، أفهم من هذه الشعائر والتعاليم أنها اتجاه من النفس إلى الله، واستشعار بالخشوع له والعمل على اكتساب رضاه، واطمئنان إلى عدله وقدرته، وركون في أوقات الشدة إلى لطفه ورحمته. وهذه الأحاسيس كان لها دخل كبير في تكويني الروحي، وفي حياتي الوطنية؛ لأنني كنت ولا أزال أرى في الالتجاء إلى الله والاعتماد عليه القوة الروحية التي تعود النفس الصمود للشدائد والعقبات. (3) في التعليم الأولي والابتدائي
كان أول مكتب تلقيت فيه القراءة والكتابة كتاب الشيخ هلال
2
بشارع درب الحصر، ومكثت به عدة أشهر، ثم انتقلت منه إلى المدارس النظامية.
وصرت أتنقل مع والدي في البلاد التي ولي فيها مناصب القضاء؛ فدخلت مدرسة الزقازيق الابتدائية الأميرية سنة 1895، ثم مدرسة القربية الابتدائية بالقاهرة، ولما انتقل والدي إلى الإسكندرية سنة 1898 انتقلت إلى مدرسة «رأس التين» الابتدائية.
قضيت بالإسكندرية معظم سني الدراسة، وتلقيت فيها تعليمي الابتدائي والثانوي بمدرسة «رأس التين»، وكانت من أهم مدارس القطر، وكان ناظرها طيلة هذه المدة المرحوم إسماعيل بك حسنين «باشا».
ونلت فيها الشهادة الابتدائية في يوليو سنة 1901،
3
وكنت لصغر سني لا أفقه كثيرا معنى الشهادات. وأذكر أن أحد أقراني بالمدرسة حين علم بالنبأ - وكنت أجهله - سارع إلى الحضور لمنزل والدي بالأنفوشي
4
ليبشرني بالنجاح، فألفاني في حديقة المنزل الصغيرة يجرني أخي أمين في قفص من الجريد جعلنا منه شبه عربة صغيرة نتناوب ركوبها وجرها بحبل، فناداني في لهفة، فتركت القفص أسأله عن الخبر، فهنأني بالنجاح وأطلعني على نسخة اللواء التي فيها اسمي ضمن الناجحين في الشهادة الابتدائية، فضحكت مغتبطا ثم عدت إلى قفص الجريد لنتم أنا وأخي أمين عملية الجر واللعب، وكان هو أيضا من الناجحين في هذا العام. (4) في التعليم الثانوي
لم أكن - إلى أن نلت الشهادة الابتدائية - أعي من أمور الدنيا شيئا ذا بال، وكان جل اهتمامي أن أواظب على دروسي وأستذكرها وأحفظ ما يطلب من التلميذ حفظه.
دخلت القسم الثانوي (قسم فرنسي) بمدرسة رأس التين، ومكثت به ثلاث سنوات وهي مدة الدراسة الثانوية في ذلك العهد. وكنت في معظم سني الدراسة الثانوية لا أعي أيضا شيئا من الشئون العامة ولا أعرف غير منزل والدي ومدرستي.
وكنت أتردد قليلا على مكتبة بلدية الإسكندرية ؛ إذ كان أساتذتنا يذكرونها لنا كمكان يصح أن نقضي فيه أوقات الفراغ والتسلية ...
إلى أن كانت سنة 1904، فبدأت أذهب إلى قهوة بلدية أنيقة بشارع رأس التين تجاه سراي محسن باشا، وكنا نذهب إليها يوم الجمعة من كل أسبوع، وكان صاحبها «الحاج أحمد» يقدم لنا شراب الليمون (الليموناده) ويتقنه كل الإتقان حتى صار علما على قهوته، ويطلعنا على بعض الصحف اليومية التي كانت تصدر في هذا العهد، ومنها «اللواء» لصاحبه ومؤسسه الزعيم «مصطفى كامل»، ولكن لم أتبين بعد منهجه ولا منهج الصحف الأخرى. ولم تكن في ذهني أية صورة عن «مصطفى كامل»؛ إذ لم أكن رأيته بعد أو سمعته، وكنت وقتئذ في الخامسة عشرة من عمري، على أنني أدركت من قراءة الصحف وقتئذ شيئا من الوعي الذي أخذ يتفتح ويتسع مداه في مدرسة الحقوق. وكنت أسمع أثناء دراستي الثانوية من أستاذ لنا في الرياضة وهو المرحوم عثمان بك لبيب، أحاديث يلقيها علينا بين حين وآخر عن حالة البلاد السياسية، وكان رحمه الله من خريجي مدرسة المعلمين العليا القديمة (النورمال) وصار فيما بعد مدرسا بمدرسة المعلمين العليا الحديثة، وكان وطنيا صميما، لا يفتأ يطعن في سياسة الإنجليز ويذكر لنا كيف احتلوا مصر غدرا وحيلة، وكيف يعملون على إرساخ أقدامهم في البلاد ويحاربون الروح الوطنية، وكان يقول لنا خلال أحاديثه: «افهموا يا اولاد كويس»، فكنت أستشعر معاني هذه الأحاديث وآنس لها وأعجب بها، وأحببت من أجلها هذا الأستاذ. وكنت ألاحظ أنه حين يبدأ بالحديث في السياسة يقفل بنفسه باب الفصل لكيلا يسمع حديثه ناظر المدرسة عند مروره بين الفصول، فكان إقفال الباب إشارة إلى بدء دروسه الوطنية، وقد أفدت منها كثيرا.
وأذكر من أساتذتي في القسم الثانوي بمدرسة رأس التين الشيخ أحمد إبراهيم «بك» العالم الفقيه المشهور، والشيخ عرفة علي غراب، والشيخ محمد عابدين، والشيخ عبد الحكيم محمد، ومن أساتذتي الأجانب المسيو هاي والمسيو توندور وكلاهما فرنسي. (5) البكالوريا
وقد نلت الشهادة الثانوية (البكالوريا) من مدرسة رأس التين في مايو سنة 1904، وكان ترتيبي الثالث
5
في الناجحين البالغ عددهم 136. (6) أراد والدي أن يدخلني الأزهر
وأراد والدي أن يدخلني الأزهر، ولكني اعتذرت بصغر سني وبأني تعودت على المدارس النظامية ولم آلف نظام الدراسة في الأزهر؛ وإذ كنت أخجل من مراجعة والدي فقد وسطت لديه بعض الأقارب لإقناعه بالعدول عن فكرته، فأفهموه أن لا محل لتغيير منهجي في الدراسة، وما دام قد اختار هو لي المدارس النظامية فمن الخير أن أستمر فيها، وذكروا له ميلي إلى الدخول في مدرسة الحقوق ورغبوا إليه أن يلحقني بها. فقال لهم إنه يريد أن يجعلني عالما من علماء الأزهر كأبيه وعمومته، فأجابوه أن الزمن قد تطور وما دام هو لا يميل إلى الأزهر فلتختر له المدرسة التي يميل إليها. فقال: أتريدون أن يخرج منها قاضيا أهليا يحكم بغير الشرع؟! فأجابوه: هذه مسألة لا يحين وقت البحث فيها إلا بعد تخرجه من مدرسة الحقوق. وهل من المحتم أن يكون قاضيا؟! فلم يقتنع بهذا الجواب، وأراد أن يخلص من هذا الإحراج، فأعرب عن رغبته في أن يلحقني بإحدى الوظائف بالبكالوريا - وكانت لها قيمة كبيرة في ذلك العصر - فقالوا له: إنه لا يميل الآن إلى التوظف، وهو صغير السن ولا يصح أن يرهق بالوظيفة. فقال لهم: إني أختار له وظيفة «معاون إدارة» وهي وظيفة سهلة لا تحتاج إلى عناء. فعرضوا علي الأمر، فاعتذرت، وقلت لهم ولوالدي: إني صغير السن ولا أحتمل أعباء الوظيفة، وإن الدراسة لا تتعبني، فدعوني أدخل المدرسة التي تميل إليها نفسي. وإزاء هذا الإلحاح قبل والدي ما طلبت، وأدخلني مدرسة الحقوق. (7) في مدرسة الحقوق
دخلت كلية الحقوق - وكان اسمها «مدرسة الحقوق الخديوية» - في أكتوبر سنة 1904، ومقرها وقتئذ بميدان عابدين في المكان الذي به الآن ثكنات الحرس الملكي، وكان ناظرها المسيو جرانمولان، ووكيلها عمر بك لطفي. واقتضى دخولي المدرسة انتقالي وإقامتي بالقاهرة في شهور الدراسة. (8) متى تتلمذت لمصطفى كامل؟ (سنة 1904)
بدأ وعيي السياسي يتقدم في مدرسة الحقوق، وأخذت في قراءة الصحف قراءة فهم وإدراك. وكان الطلبة يجتمعون في أوقات الفراغ ويتحدثون عن السياسة وما وصلت إليه حالة البلاد تحت الاحتلال البريطاني. واخترنا لقضاء أوقات الفراغ والسمر قهوة راقية بشارع عابدين على ملتقاه بشارع الصنافيري (علي باشا ذو الفقار الآن) تدعى «قهوة الحقوق» لصاحبها الخواجة أندريا، وقد أعجبنا اسم القهوة، واخترناها لذلك منتدى لنا نقرأ فيه الصحف على اختلاف ميولها ومذاهبها، وأهمها «اللواء» و«المؤيد» و«الأهرام».
انتقلت إذن من قهوة «الحاج أحمد» بالإسكندرية، إلى قهوة «الخواجة أندريا» بالقاهرة، وكان لهاتين القهوتين أثر كبير في اتجاهي الوطني والسياسي. وبدأت أقرأ اللواء قراءة فهم وإدراك، فتعجبني روحه ومقالاته، وقد تتلمذت لمصطفى كامل (صاحب اللواء) منذ أواخر تلك السنة قبل أن أراه، وصار لي «اللواء» بمثابة المدرسة التي تلقيت عنها مبادئ الوطنية، كما أنه كان مدرسة الوطنية للجيل كله.
أما أول مرة قابلت فيها «مصطفى كامل» ففي فبراير سنة 1906، أثناء إضراب طلبة الحقوق، فقد تاقت نفسي إلى رؤيته، وكان «اللواء» يناصر الطلبة في مطالبهم الحقة، فذهبت مع لفيف من زملائي إلى دار اللواء بشارع الدواوين - نوبار باشا الآن - تجاه وزارة العدل - وكان اسمها وزارة الحقانية. وقابلت الزعيم لأول مرة، وسمعت حديثه، وشعرت بتأثيره الروحي ينفذ إلى أعماق قلبي، وصار لي بمثابة أبي الروحي في المبادئ، وأكثرت من التردد على دار اللواء لكي أقابله وأراه وأسمع صوته، فكان يفيض علينا من الأحاديث التي غرست في نفسي مبادئ الوطنية، ولعله رحمه الله قد توسم في أن أكون من تلاميذه الحافظين لعهده، فعرض علي سنة 1907 أن يوفدني في بعثة صحفية إلى باريس للتخصص في الصحافة بعد حصولي على إجازة الحقوق، فقبلت هذه الثقة شاكرا، ولكن المنية عاجلته في فبراير سنة 1908 قبل تخرجي من المدرسة. (9) نادي المدارس العليا
كانت مدرسة الحقوق أول بيئة للشباب ظهرت فيها روح اليقظة الوطنية ولبت دعوة الزعيم مصطفى كامل؛ إذ كانت الغالبية العظمى من طلبة الحقوق قد استجابت إلى ندائه.
وإذ كان الشعور الوطني الصادق يستتبع النشاط الاجتماعي والعلمي؛ فقد ظهرت بيننا روح التكتل وتنظيم الكفاح، وكان تأسيس نادي المدارس العليا أول مظهر لهذه الروح، ولقد عبرت عن هذا التطور بقولي في كتاب «مصطفى كامل»: تفتحت في قلوب الشباب زهرة الوطنية التي أنبتتها دعوة مصطفى كامل وأخذت تجيش بالشعور الوطني وتتحرك نحو أغراضه وأهدافه، وبدأت علائم اليقظة والحياة تظهر فيهم بشكل عملي سنة 1905، وكان أول مظهر لهذه الحياة الجديدة أن فكر طائفة منهم في إنشاء ناد للمدارس العليا يجمع بين طلبة هذه المدارس وخريجيها.
فكر طلبة الحقوق في إنشاء هذا النادي سنة 1905 وشاركهم في الفكرة طلبة المدارس العليا الأخرى، واجتمعت أول جمعية عمومية له - الجمعية التأسيسية - يوم الجمعة 8 ديسمبر سنة 1905 بإحدى قاعات مدرسة الطب لانتخاب مجلس الإدارة. وبلغ عدد الحاضرين من الطلبة مائتي طالب من مختلف المدارس العليا، وحضره كذلك لفيف من المتخرجين، وكان اشتراكهم في ناد للطلبة دليلا واضحا على تقديرهم للشباب المثقف وما نالوه من ثقة أسلافهم من الخريجين؛ فإنهم لم يجدوا غضاضة في أن يجتمعوا وإياهم في ناد واحد. وفي الحق إنهم كانوا رجالا في شبابهم وأخلاقهم وأساليبهم، فنالوا بذلك تقدير مواطنيهم ممن كانوا يكبرونهم سنا، بل كان بعضهم أساتذة لهم.
اشتركت في الجمعية العمومية التأسيسية لنادي المدارس العليا؛ إذ كنت طالبا في مدرسة الحقوق ومن المشتركين في تأسيسه، وأسفرت عملية الانتخاب عن اختيار المرحوم عمر بك لطفي - وكان وكيلا لمدرسة الحقوق - رئيسا للنادي، وكان من خاصة أصدقاء مصطفى كامل وأنصاره هو وشقيقه المرحوم أحمد بك لطفي.
كملت معدات تأسيس النادي، واتخذ دارا له بالمنزل رقم 4 بشارع قصر النيل بالقرب من سافواي أوتيل القديمة، وافتتح يوم الخميس 5 أبريل سنة 1906. وقد حضرت حفلة الافتتاح مع إخواني المشتركين فيه من طلبة الحقوق. وكان هذا الاحتفال يوما مشهودا، وأخذنا نجتمع بالنادي؛ وبذلك انتقلنا من «قهوة الخواجة أندريا» إلى نادي المدارس العليا. وبدا لنا الفرق كبيرا بين القهوة والنادي؛ فلقد كان بناء فخما تحيط به حديقة غناء، وبه غرف واسعة مؤثثة تأثيثا فاخرا، الأمر الذي لم نعهده من قبل، لا في قهوة الخواجة أندريا، ولا في قهوة الحاج أحمد بالإسكندرية.
وكان اجتماعنا بالخريجين مما زاد في نضجنا العلمي والثقافي، وتعددت المحاضرات والاجتماعات في النادي، فكان لنا شبه معهد علمي عال أكملنا فيه دراستنا وزدنا من ثقافتنا، وقد أفدت منه كثيرا، وكانت به مكتبة غنية بالكتب والصحف والمجلات ساعدتني على توسيع مداركي وترقية أفكاري، ولم تفتني محاضرة ألقيت فيه، وظللت عضوا به إلى أن أقفل بأمر السلطة العسكرية البريطانية سنة 1914 في أوائل الحرب العالمية الأولى، وكان مقره حين أقفل بميدان حليم باشا بعمارة الخاصة الخديوية على ملتقى شارع بولاق «فؤاد» بشارع كامل «إبراهيم باشا». (10) إضراب سنة 1906
كان لهذا الإضراب تأثير كبير في نفسي، يعدل تأثير نادي المدارس العليا؛ إذ كان بداية اتصالي الروحي الوثيق بالزعيم مصطفى كامل.
في يناير سنة 1906 وضعت وزارة المعارف نظاما لمدرسة الحقوق كان الغرض منه استفزاز شعور الطلبة والتضييق عليهم ومعاملتهم بنظام المدارس الابتدائية، وقد يكون لتظاهرهم بالشعور الوطني دخل في وضع هذا النظام إذلالا لهم وكبحا لجماحهم، فما إن علمنا به حتى قررنا الإضراب احتجاجا عليه. وأضربنا فعلا عن الدراسة في فبراير، وكانت طلباتنا العدول عن النظام الذي وضعته الوزارة والرجوع إلى النظام القديم.
لم يكن إضرابنا خروجا على النظام، ولا رغبة في التعطل عن الدراسة، أو التسكع في الشوارع، أو سعيا لمطالب مادية شخصية، بل كان مظهرا من مظاهر المقاومة الوطنية لسياسة الاحتلال في التعليم.
كان هذا الإضراب هو الأول من نوعه في مصر؛ لأنه شمل مدرسة عالية بأسرها، وكان موجها ضد سياسة التعليم التي وضعها الاحتلال، وقد تدخل اللورد كرومر (المعتمد البريطاني) في شأنه وأمر وزارة المعارف بأن تأخذ الطلبة بالشدة، فأعلنت تعطيل الدروس في المدرسة من يوم 26 فبراير سنة 1906 حتى يوم السبت 3 مارس، وأنذرتنا بأن من يتأخر عن الحضور في ذلك اليوم يفصل من سلك التلاميذ. وكان للإضراب لجنة تقوم على تنظيمه، فاجتمعت على عجل للنظر في هذا الإنذار. وتدخل المستشار القضائي البريطاني السير مالكولم ماكلريث في الأمر، وكان يعطف على الطلبة (بعكس المستر دنلوب) فوعدهم بالنظر في طلباتهم على شرط أن يعودوا إلى الدراسة، فاتفق الطلبة رأيا على الرجوع إلى المدرسة يوم السبت 3 مارس سنة 1906، وكان لهذه العودة أثرها في نفوسنا، وكان فيها معنى الرضوخ والإذعان، فزادتنا سخطا على الاحتلال وسياسته. وأراد اللورد كرومر تثبيت مركز المستر دنلوب - وكان إلى ذلك الحين سكرتيرا عاما لوزارة المعارف، وعليه تقع مسئولية الإخلال بنظام التعليم الذي أدى إلى الإضراب - فرقي مستشارا للوزارة في مارس سنة 1906 مكافأة له على أخذه الطلبة بالشدة.
وكتبت مقالة عن هذا الإضراب، ذهبت بها إلى مصطفى كامل يوم رجوعنا إلى الدراسة، وكانت لهجتها شديدة ضد الاحتلال، فقرأها الزعيم وأثنى علي، ولكن فهمت من حديثه أنه لا يرى نشرها، حرصا على مستقبلي، وكانت هذه المقالة (التي لم تنشر) بدء مراسلتي للصحف. (11) حادثة دنشواي سنة 1906
وقعت حادثة دنشواي في 13 يونيو سنة 1906، فزادتني سخطا على الاحتلال وتعلقا بالحركة الوطنية.
كنت عام وقوعها طالبا بالسنة الثانية بمدرسة الحقوق، وكنت أطالع أنباءها في «اللواء»، فأدهش لمخالفة منهج التحقيق والمحاكمة فيها لما كنا نتلقاه من أصول المحاكمات الجنائية التي تقضي بها القوانين، وتساءلت: ما فائدة ما نتلقاه من الدروس والقواعد القانونية إذا كانت لا تنطبق على الناس كافة. ولما تلوت وصف تنفيذ الحكم في «اللواء» بقلم الأستاذ أحمد حلمي أحد محرريه، اقشعر بدني من هول ما قرأت، وأدركت مبلغ هوان المصري في نظر الاحتلال، وتحققت ألا كرامة لأمة ولا لأي فرد من أبنائها بغير الاستقلال، وحفزتني هذه الحادثة إلى أن أخصص حياتي للجهاد في سبيل الاستقلال. (12) وفاة مصطفى كامل سنة 1908
كنت في السنة النهائية لمدرسة الحقوق لما فجعنا بوفاة مصطفى كامل يوم الاثنين 10 فبراير سنة 1908، ويا لها من لحظة رهيبة حين فوجئنا بنعيه ونحن في المدرسة، فقابلناه بالذهول والوجوم، وفاضت دموعنا حزنا وأسى على الزعيم الذي كان لنا إماما وطنيا وأبا روحيا. وفي غمرة الذهول الذي أصابنا من هول الكارثة تباحثنا فيما يجب علينا عمله إظهارا لشعورنا، فقررنا بالإجماع اعتبار يوم تشييع جنازة الزعيم يوم حداد عام تعطل فيه المدارس جميعها ويشترك طلبتها في تشييع الجنازة، واتصلنا بالمدارس العليا والثانوية، فرأينا من طلبتها نفس هذا الشعور ونفس هذا الإجماع، واتخذوا نفس القرار الذي اتخذناه، واشتركنا في الجنازة، وكنت ممن حملوا النعش ضمن طلبة الحقوق الذين ندبوا لذلك من قبل جميع طلبة المدارس العليا. وكان لهذا اليوم في نفسي أثر لم تمحه الأيام والأعوام؛ فلقد طبع في قلبي مبادئ الزعيم فصارت عقيدتي الوطنية. وإلى هذه الصلة الروحية أشرت في كتابي عن «مصطفى كامل» سنة 1939؛ إذ قلت في إهدائي الكتاب إليه: «إلى من كانت حياته للأمة بعثا وطنيا، من كان لي أبا روحيا، وسأبقى له تلميذا وفيا، من علمني أن الحياة بغير المثل العليا عرض زائل وعبث ضائع، إلى مصطفى كامل أهدي كتاب «مصطفى كامل» هدية الوفاء إلى روحه العظيمة.» (13) صلتي بمحمد فريد
إني إذ أعد نفسي تلميذا لمصطفى كامل، فإني كذلك تلميذ لمحمد فريد، بل إن صلتي بفريد كانت أطول مدى من صلتي بمصطفى؛ فإني لم أدرك مصطفى كامل إلا في أوقات محدودة حين كنت أستمع لبعض خطبه أو أقابله في «اللواء» منذ سنة 1906 مرات معدودة، أما فريد فقد اتصلت به عن كثب وعملت معه تحت لوائه سنين عديدة.
كنت سنة 1908 لم أتخرج بعد من مدرسة الحقوق حين تولى فريد بك زعامة الحركة الوطنية، وكنت أتردد عليه كثيرا في «اللواء»، وتلقيت عنه مبادئ الوطنية كما تلقيتها من قبل عن مصطفى، فصادفت من نفسي موضع العقيدة والإيمان، واتخذته بعد مصطفى أستاذا وإماما لي في الوطنية، وبدأت أكتب في اللواء على عهده وأنا طالب بمدرسة الحقوق. (14) أول مقالة لي في الصحف سنة 1908
وأذكر أن أول مقالة لي نشرت بالعدد الصادر في 9 مارس سنة 1908 تحت عنوان «تبدد الشعور الوطني وتجمعه» بإمضاء «حقوقي»، كتبتها بعد وفاة المرحوم مصطفى كامل بشهر، ووصفت فيها خواطري وآمالي في الجهاد، وكأنما رسمت لنفسي في هذه المقالة خطتي في الحياة؛ لذلك أود أن أنشر فقرات منها لأنها صورة من شعوري وتفكيري في مستهل حياتي السياسية، قلت: «للحوادث العظيمة على حياة الأمم تأثير كبير بما تحرك في القلوب من الشعور وتستفز فيها من العواطف؛ فلربما كانت حادثة مبدأ حياة أمة أو سببا في خلاصها من استبداد ظالم. وإذا عدت الحوادث الكبيرة التي لها يد في تكوين الشعور الوطني عندنا، لجعلنا في مقدمتها وفاة فقيدنا العظيم مصطفى كامل. فلقد كانت وفاته كشعلة من نار مست الشعور الوطني وأصابت منه موضع الإحساس والتأثر، فانفجر وظهر بمظهر لم يكن أحد منا يتنبأ به ولا يزال في نمو وازدياد.
هذا الشعور الشريف هو رأس مال الاستقلال، إذا تعهده الرجال العاملون منا زادوه قوة وشدة وحفظوه من دواعي الفتور والخمود، وساروا به في خطة منتظمة محددة، وانحصر في تيار يجري رأسا إلى غايتنا وهي التخلص من سلطة الاحتلال.
إن الشعور بالحاجة إذا لم يدفع المرء إلى العمل لنيل تلك الحاجة فلا فائدة منه البتة، فليس مجرد الشعور إلا معنى في النفس لا وجود له ما لم يظهر أثره في الخارج، الشعور قوة ولكن بشرط أن ينبعث في طريق واحد فيأمن شر التبدد والتلاشي.»
إلى أن قلت: «مات مصطفى كامل فهاج موته شعور الاستقلال في النفوس، وكان أول من أحس بوقع المصاب النابغون منا في العلم والفكر، فبكوه مع الباكين ورثوه مع الراثين، ولكن ما رأينا أحدا منهم دفعه الشعور إلى أن ينزل في ميدان الحياة الوطنية فيعمل مع العاملين في تعهد الشعور الوطني وإبلاغه الغاية التي ذكرناها. كل منا يعلم حاجتنا إلى رءوس مفكرة عاملة تنير لنا سبيل تلك النهضة، ولكنا نرى نابغينا في معزل عنها مع أنهم هم أبناء بجدتها، والشعور الصحيح هو الذي يدفع صاحبه إلى البدء في محاربة رأس مال الاحتلال أفرادا وجماعات، حتى يقوى الشعور العام في كافة الطبقات وترسخ عاطفة الحرية في القلوب، فلا يكون أمامنا سوى أمرين: الاستقلال أو الموت. حينذاك يقال: هذه أمة محال استعبادها حيث تؤثر الموت على الرضوخ، فخير لمن يريد منها نفعا أن يعاملها معاملة صديق مهاب.
ليس من الصعب علينا أن نصل بالشعور الوطني إلى هذه الدرجة ما دمنا نعمل على خطة منظمة؛ فالأساس الذي يبني عليه الاحتلال صرحه نحن مقيموه بأنفسنا؛ ألسنا راضين بأن نعيش في كنفه؟ هل يعقل أن إرادة الملايين من النفوس إذا قويت وتوجهت بصدق نحو غرض واحد، هل يعقل أن تصدها وتكبح جماحها إرادة أفراد معدودين؟! رأس مال الاحتلال في قلوبنا؛ إن شئنا استبقيناه، وإن شئنا نزعناه من بين جوانحنا، فلا يعود له مقام بين ظهرانينا؛ فصرح الاحتلال قائم على عمادين: حسن الظن به من جهة، والوهم من جهة أخرى. فبحسن الظن ترضى الملايين من البشر بتحكم الأجنبي فيهم فيثبتون سلطانه، وبالوهم يعطون له قوة لم يكن يحلم بها فيخافون من شيء هم خالقوه.
على هذين الأساسين أمكن لبضعة آلاف أن يسودوا على مئات الملايين في بقاع متباعدة؛ فلا عجب أن كانت سياسة الاستعمار الآن هي تخدير أعصاب الأمم باستجلاب حبهم من جهة وبإلقاء الهيبة والرعب من سطوتهم من جهة أخرى. فإذا نحن عملنا على هدم هذا الأساس من قلوبنا كنا مقيمين بعملنا بناء الاستقلال، وقد دلنا التاريخ على أن الأمة التي يشتد ألمها من الاستبداد وتتخلص من آثار الوهم من سلطانه تصبح على أبواب الحرية، ولم تستطع قوة ما الثبات إزاء سلطان عاطفة الاستقلال.
هذا هو الطريق الذي سلكه غيرنا فأفلحوا؛ إذا شعروا بحاجة قاموا ودفعهم الشعور إلى التكاتف سرا وعلانية على العمل لنيل ما يريدون، فوضعوا غايتهم أمامهم، ورسموا لها الخطة العملية، وأعدوا لها معداتها، فعملوا على النظام الذي وضعوه، وكانوا بذلك من الناجحين.»
الحياة العملية
(1) في المحاماة
نلت شهادة الليسانس في يونيو سنة 1908.
1
وقيدت اسمي بجدول المحاماة في 19 يوليو من تلك السنة، وكنت لم أبلغ العشرين بعد، واشتغلت محاميا بأسيوط شهرا واحدا «تحت التمرين» بمكتب الأستاذ محمد بك علي علوبة «باشا». وكان وقت التحاقي بمكتبه على أهبة القيام بالإجازة، فتركني لوكيل المكتب أتلقى عنه الإرشادات والتعليمات التي تلزم «المحامي المبتدئ»، فلم أرتح كثيرا لإرشاداته ولا لطريقته في تفهيمي القضايا، وبدا لي في أول عهدي بالمحاماة أنها لا تعجبني وأني لا آنس لها كثيرا. فضلا عن أني تساءلت في خاصة نفسي: وما مصيري في المحاماة إلى جانب نظراتي في الحياة وآمالي في الجهاد؟ فقضيت هذا الشهر قلقا أتطلع إلى الأفق لعلي أهتدي إلى طريق آخر يتفق وخواطري وآمالي.
عبد الرحمن الرافعي سنة 1908 عام تخرجي من مدرسة الحقوق. (2) في الصحافة
فما إن دعاني فريد بك إلى أن أشتغل بالصحافة محررا باللواء حتى قبلت دعوته، وبدأت حياتي الصحفية في أكتوبر سنة 1908 على عهده، ومن يومئذ ازدادت صلتي به؛ إذ كان يشرف على سياسة «اللواء» وتحريره ويكتب فيه كثيرا ويتردد عليه يوميا، وكنت أسمع منه ثناء على ما أكتب. وأذكر أني كنت أترجم إلى اللغة العربية مقالات المرحوم إسماعيل شيمي بك أحد أعلام الحركة الوطنية، وكان يكتبها بالفرنسية؛ إذ كان يتقنها دون اللغة العربية، وكانت آية في البلاغة، فجهدت نفسي في أن أبرزها إلى اللغة العربية في مستوى لا يقل عن بلاغتها الأصلية، ولعلي وفقت إلى بعض ما كنت أرجو، وكان فريد بك يراجع ترجمتي لمعظم هذه المقالات ويبدي لي إعجابه بها، فشجعني ذلك على الكتابة والترجمة.
وكنت أميل إلى كتابة المقالات المتسلسلة في موضوع واحد، ومن هنا نشأ ميلي إلى التأليف؛ إذ وجدت أن المقالة الواحدة في الصحف لا تتسع للموضوع الذي كنت أفكر فيه.
وأذكر أن أولى سلسلة مقالاتي كانت في موضوع الدستور، وعنوانها «آمالنا في الدستور»، بلغت عدتها سبع مقالات نشرت باللواء في أكتوبر ونوفمبر سنة 1908، وتوليت الرد على تقرير السير إلدون جورست المعتمد البريطاني عن سنة 1908، فكتبت في ذلك تسع عشرة مقالة نشرت في شهر مايو سنة 1909 تضمنت عرضا تحليليا للحركة الوطنية وموقف الاحتلال والحكومة حيالها.
وكتبت عدة مقالات عن حياتنا الاقتصادية وما يتهددها من خطر، وعن الاحتلالين السياسي والاقتصادي، والانقلابات الاقتصادية (اللواء 11 و14 و21 يناير و28 فبراير و7 مارس سنة 1909). (3) مدارس الشعب
وجه الحزب الوطني الشباب إلى المساهمة في بناء النهضة القومية في مختلف نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن أعماله في الناحية الاجتماعية إنشاؤه مدارس الشعب الليلية في أواخر سنة 1908، وكان الغرض منها تعليم الفقراء والعمال مجانا، وقد تطوعت مع لفيف من الشباب للتدريس في هذه المدارس، ووضع الحزب برنامجا لها يتناول المواد الآتية: القراءة والكتابة، دروس الدين، قانون الصحة والاحتياطات الصحية، العناية بتربية الأطفال، القوانين الخاصة بالمعاملات اليومية، الشئون الاجتماعية، دروس الأشياء، الحساب، تاريخ مصر والتاريخ الإسلامي، جغرافية مصر، أخلاق وآداب.
وبلغ عدد المدارس التي أنشأها الحزب في القاهرة سنة 1909 أربع مدارس في أقسام الخليفة وبولاق وشبرا والعباسية. تحوي كل منها نحو مائة وعشرين تلميذا من مختلف الحرف، وقد ألقيت بعض الدروس في مدرسة الخليفة، وسمعت محمد بك فريد يلقي فيها درسا، وسمعت أيضا أحمد بك لطفي يلقي درسا في مدرسة بولاق.
وأنشأ نادي المدارس العليا عدة مدارس أخرى على غرار هذه المدارس.
كان لمدارس الشعب فضل كبير علي، فهي التي ألهمتني الفكرة الأولى لتأليف كتابي «حقوق الشعب»؛ فإن هذا الكتاب هو سلسلة دروس ومحاضرات لتفهيم الشعب حقوقه وواجباته، وكانت دروسي في مدرسة الشعب بالخليفة نموذجا مصغرا للأسلوب الذي انتهجته في هذا الكتاب. (4) عودتي إلى المحاماة
حدث تحول في حياتي العملية في أواخر سنة 1909، ذلك أن زميلي وصديقي المرحوم الأستاذ أحمد وجدي الذي كنت أعزه وأنزله من نفسي منزلة الأخ الشقيق، رغب إلي أن أترك الصحافة، وكان هو أيضا يعمل فيها رئيسا لتحرير جريدة الدستور التي كان شقيقه الأستاذ محمد فريد وجدي بك يتولى إصدارها، وقال لي إننا يمكننا أن نشتغل بالمحاماة مستقلين، وأن نكتب في الصحف ما نشاء من الآراء والمقالات، وإن ذلك أولى من الانقطاع للصحافة مما قد يفقدنا ميزة الاستقلال في حياتنا العملية. وقد ترددت في قبول هذه الفكرة؛ إذ كنت منصرفا عنها، وما زال يقنعني بها حتى قبلت نصيحته بعد أن أمعنت النظر فيها ورأيتها في جملتها أصوب من انقطاعي للصحافة، وأدركت مع الزمن أنه أسدى لي أعظم نصيحة، وساءلت صديقي حين تبادلنا الرأي في تحقيق فكرته: كيف نشتغل بالمحاماة مستقلين وأنا لم أتمرن عليها إلا شهرا واحدا وهو أيضا لم يقض مدة كافية في المران عليها؟ وانتهينا إلى أن الحياة يجب أن تنطوي على شيء كثير من المجازفة ، فعولت وإياه على الانقطاع عن مهنة الصحافة، وعملنا معا في المحاماة بمدينة الزقازيق منذ يناير سنة 1910، وفتحنا في تلك السنة مكتبا آخر لنا بالمنصورة كنت أتولى مباشرة قضاياه، ثم انتقلت بمفردي إلى المنصورة واستقر بي المقام فيها منذ أكتوبر سنة 1913 حين أنشئت بها المحكمة الابتدائية، وظللت بها نحو عشرين سنة، إلى أن انتقلت نهائيا إلى القاهرة في ديسمبر سنة 1932.
وقد ارتحت كثيرا إلى التحول من الصحافة إلى المحاماة لأنني رأيتني قد بدأت حياتي في المحاماة هذه المرة (سنة 1910) بداية حسنة، ولم أجد فيها الصعوبة التي كنت أتخيلها، بل شعرت كأني متمرن عليها، فألفتها وأحببتها، وأدركت أنها هي المهنة التي يجب أن أختارها لأؤدي واجبي الوطني إلى جانب واجباتي الشخصية، وأخذت أكتب المقالات من آن لآخر وأبعث بها إلى جريدة «العلم» لسان حال الحزب الوطني، وظهرت أول مقالة لي وأنا محام في عدد 13 مارس سنة 1910 تحت عنوان: «قوة الرأي العام والحكومة». وكتبت في عدد 30 مارس من تلك السنة مقالة مطولة عنوانها: «الشدائد خير مرب للأمم»، هنأني عليها فريد بك؛ إذ جاءت مطابقة للظرف الذي نشرت فيه مطابقة عجيبة؛ فقد أرسلتها إلى جريدة العلم في الوقت الذي صدر فيه قرار وزارة الداخلية بإيقافها شهرين، ولم أكن أعلم بصدور هذا القرار، فنشرها الحزب في أول عدد من جريدة «الاعتدال» التي اتخذها لسان حاله مدة إيقاف العلم، فهونت على القراء أمر الإيقاف؛ إذ دعوت فيها إلى مقابلة الاضطهاد بالصبر والثبات، وكأنها كتبت ردا على قرار وزارة الداخلية، فكان لها ضجة استحسان كبيرة، وصارت حديث الناس في مجالسهم، وبخاصة حين علموا أني كتبتها دون أن أعلم بقرار إيقاف «العلم»، واستبشروا خيرا بما أكتب، وطلب مني فريد بك المزيد من الكتابة، فكان ذلك التشجيع حافزا لي على توكيد صلتي بالصحافة، وزاد في توطيدها أن أخي «أمين» كان محررا مقيما بصحيفة الحزب الوطني ثم رئيسا لتحريرها.
وفي سبتمبر سنة 1910 انقطعت مؤقتا عن مكتبي، وتوليت رئاسة تحرير العلم في غيبة شقيقي أمين الذي سافر إلى أوروبا لحضور جلسات المؤتمر الوطني الذي انعقد ببروكسل في ذلك العام وموافاة العلم برسائل المؤتمر، وكان الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس التحرير يقضي مدة السجن المحكوم بها عليه من محكمة جنايات مصر في قضية «وطنيتي»، وكانت إدارة العلم بشارع محمد علي بالمنزل رقم 116. (5) في مؤتمر بروكسل سنة 1910
ساهمت في مؤتمر بروكسل سنة 1910، وكان موضوع خطبتي فيه «مركز الصحافة في مصر والأدوار التي تعاقبت عليها في عهد الاحتلال»
2
بالفرنسية، وقد ألقاها عني فؤاد بك حسيب بجلسة 24 سبتمبر ولم أحضر المؤتمر بنفسي؛ إذ كنت مشغولا بالإشراف على تحرير العلم وقت انعقاده. وقد نوهت مدام جولييت آدم إلى هذه الخطبة في كتابها «إنجلترا في مصر» الذي ظهر سنة 1922 في فصل «الصحافة»، وأثنت على الخطبة وصاحبها، ونقلت منها صحائف بأكملها محبذة مؤيدة لمحتوياتها.
ولما رجع المرحوم أمين من بروكسل عدت إلى عملي في المحاماة. (6) في المؤتمرات الوطنية
كان الحزب الوطني يعقد مؤتمرات سنوية تجتمع فيها الجمعية العمومية للحزب ويستعرض فيها فريد بك تطور الحركة الوطنية في العام المنصرم، وكانت هذه الاجتماعات تسمى المؤتمرات الوطنية، وأهمها مؤتمر سنة 1908 و1910 و1911.
وكنت أحضر هذه المؤتمرات كعضو في الحزب الوطني، وقد انتخبت عضوا في اللجنة الإدارية للحزب في مؤتمر سنة 1911 الذي انعقد بدار العلم بشارع الصنافيري (علي باشا ذو الفقار الآن)، وانتخب فيه فريد بك رئيسا مدى الحياة. (7) مع فريد في أوروبا
في سبتمبر سنة 1911 صحبت فريد بك في رحلته إلى أوروبا لحضور مؤتمر السلام الذي كان مزمعا اجتماعه بروما في أواخر ذلك الشهر. وكان لمصاحبتي إياه في هذه الرحلة أثر كبير في نفسي وزادت صلتي الروحية به؛ إذ رأيت من عطفه وحنانه الأبوي، ودماثة أخلاقه، ورقة شمائله، ما حببه إلى نفسي. وصحبنا في هذه الرحلة الأستاذ أحمد وفيق. وقد أفدنا كثيرا منها لأن فريدا كان يعرف أوروبا من قبل معرفة تامة، فكان يرشدنا إلى ما يجب أن نتعلمه ونعرفه ونشاهده في البلاد التي زرناها. وصحبنا في جزء من الرحلة الدكتور منصور رفعت، وأخذت لنا صورة بباريس تذكارا لسياحتنا مع الفقيد.
الخطاب الذي أرسله فريد بك إلي في 5 ديسمبر سنة 1912.
وفي هذه الرحلة زرنا إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا، وعرجنا بالآستانة، وعدنا منها إلى مصر. وكتبت خلال سفري عدة مقالات عن مشاهداتي وخواطري في السفر، منها مقالة بعنوان «الأمم سيف وأخلاق» أرسلتها من تورينو بإيطاليا ونشرت في عدد 6 أكتوبر سنة 1911 من العلم، ومقالة عن «الإسلام في إفريقية، مسألة طرابلس الغرب والمسألة المراكشية» أرسلتها من باريس ونشرت في عدد 16 أكتوبر، ومقالة عن «الوطنية والإنسانية وكيف يفهمونهما في أوروبا» نشرت في عدد 20 أكتوبر، ومقالة عنوانها «يومان في مجلس المبعوثان» أرسلتها من الآستانة ونشرت في عدد أول نوفمبر سنة 1911.
الحياة المثالية
وهل هي ممكنة؟
كنت وأنا طالب بمدرسة الحقوق أعد نفسي للجهاد والمساهمة في سبيل تحرير البلاد والنهوض بها. رسخ في نفسي هذا الاتجاه حتى صار (فيما أظن) عقيدة كان ولم يزل لها أثرها في حياتي السياسية والاجتماعية؛ فمن الوجهة السياسية اعتنقت المبدأ الذي يتفق مع هذا الاتجاه وهو مبدأ الجلاء، وانضويت تحت لواء الزعيمين اللذين رأيت فيهما المثل العليا للوطنية الحقة، وفهمت الوطنية على أنها إخلاص للوطن، وسعي متواصل لتحقيق أهدافه واستمساك بحقوقه، وتغليب لمصالحه العليا على مصالح الإنسان الشخصية. ومن الوجهة الاجتماعية جعلتني هذه العقيدة أرى أن الوطنية تتطلب من الوطن أن يحيى حياة مثالية؛ لأن الحياة المثالية هي الأساس الوطيد للحياة الوطنية. فتاقت نفسي عندما تخرجت من مدرسة الحقوق وانتظمت في سلك الحياة العملية أن أنشد المثالية في حياتي الشخصية والعائلية والاجتماعية، وأن أنشدها في الحياة السياسية أيضا. ولم أكن أخفي على نفسي أن الحياة المثالية ليست من اليسر ولا من السهولة بحيث تغري شابا مثلي في مقتبل العمر أن يسلك سبيلها، ولكن هكذا شاءت الأقدار أن أنشدها لنفسي، ولست أدري مبلغ ما حققت منها، وإلى أي مدى كنت مثاليا أو غير مثالي، وهل الحياة المثالية ممكنة أم لا، نافعة أم ضارة، وهل هي - بوجه خاص - ممكنة في الحياة السياسية أم لا، وهل أخطأت أم أصبت في نشداني لها؟
كل هذه أمور لست أستطيع بعد طول السنين أن أجيب عنها، وما فائدة البحث فيها الآن؟
لكن الذي يمكنني الإفضاء به أني اجتهدت أن آخذ من الحياة المثالية أقصى ما أستطيع، ويمكنني أن أقول إن نصيب الإنسان منها يتبع مبدئيا الوسط والبيئة التي يعيش فيها؛ فالمجتمع الذي يؤمن بها يساعد بداهة على أن يحياها المواطن الصالح، والمجتمع الذي لا يؤمن بها يخذلها ويباعد بين الإنسان وما ينشده منها. على أن الإرادة الشخصية لها دخل في توجيه المواطن إليها، وهي على أي حال تحتاج إلى ذخيرة من الصبر، ومن الصوفية الوطنية، تجعل المرء غير مكترث لما يلقاه من العقبات والمتاعب.
أوليست الوطنية نضالا في سبيل المثل العليا؟ وهذا النضال يقتضي توطين النفس على احتمال الأذى في سبيل محبة الوطن؟ هكذا قالوا! فهل هي مجرد أقوال وخيالات وأحلام أم أقوال تؤيدها الأعمال؟ وكيف يمكننا أن نبث روح الوطنية في نفوس الجيل إذا لم نكن مثاليين في وطنيتنا؟
على أي حال قد سعيت في أن أجعل لهذه الخيالات نصيبا من الحقائق، ولست أدري هل حققت شيئا منها أم كنت واهما في تفكيري ومسعاي؟
ومما رغبني في الحياة المثالية اعتقادي أنها من أقوم السبل إلى النهوض بالأمة وتحريرها من قيود النقص والضعف التي تتعثر فيها من الوجهة الوطنية والأخلاقية والاجتماعية، وهذا التحرير الوطني هو السبيل إلى التحرير السياسي. وليس من الميسور أن تحرر الأمة من عيوبها ومواطن الضعف فيها بالقول والكتابة، بل يجب أن تكون القدوة الصالحة هي أولى السبل في هذا الجهاد، فعلى الإنسان أن يكون مواطنا صالحا ومواطنا مثاليا قدر ما يستطيع؛ فإنه بذلك يقيم لبنة في صرح النهضة القومية. ولقد كنت قبل أن أتخرج من مدرسة الحقوق أنتقد الصفوة المتعلمة من الأمة في تقاعدها عن أداء واجباتها الوطنية، وأعربت عن هذا الشعور في مقالتي الأولى باللواء؛ ومن ثم أخذت نفسي بأن أنشد الجانب المستطاع من الحياة المثالية؛ إذ كيف أعد المآخذ على غيري دون أن آخذ نفسي بما يجب أن يفعلوه؟!
حقا إن طريق الحياة المثالية ليس معبدا ولا مفروشا بالأزهار والرياحين، بل هو طريق قد يكون شائكا كثير المتاعب والعقبات، وربما جر على صاحبه بعض العنت والخذلان وجعله عرضة لكثير من صنوف العداوة وضروب التجهم والتنكر. ولكن على الإنسان أن يكون له هدف في الحياة، فإذا كان هذا الهدف شريفا، فليتذرع بالشجاعة والإيمان والقناعة والإقدام؛ فإنه بالغ بفضل الله غايته أو نصفها أو ربعها أو القليل منها، ولكنه سائر على أي حال في الطريق القويم، والأمم لا تنهض إلا بهذا النوع من الحياة. إنها لا تنهض بالحياة النفعية الفردية، وإنما تنهض بالحياة الوطنية. إن الحياة النفعية تفيد صاحبها، ولكنها إذا اصطبغت بالأنانية وعمت المواطنين، كانت الأمة مجموعة من الأفراد المتخاذلين لا يعتمد عليهم في النهوض بالوطن والبذل في سبيله ودفع الأذى عنه.
كان لي صديق في الدراسة ارتبطت وإياه برباط الود والإخلاص، تخرجنا معا من مدرسة الحقوق، ومع طيبة أخلاقه واستقامته وحسن سريرته؛ فإنه يرى خدمة البلاد بغير الطريقة التي كنت أنشدها. كان قليل الثقة في المجتمع وفي المواطنين، ونظريته أن على الإنسان أن يكون قويما في ذاته ومسلكه فحسب، أما أن ينشد الحياة المثالية فإنه بذلك يعرض نفسه للأذى بغير نتيجة، وكانت تدور بيننا من حين لآخر مناقشات ومحاورات في مختلف الرأيين، وكان يحذرني دائما مغبة الحياة التي كنت أنشدها، وكنت أخالفه في الرأي، وأقول له إن أمتنا لم تلق من بنيها الخدمات الصادقة الصحيحة، ولو هي وجدت منهم هذه الخدمات لكانت حالها خيرا مما هي عليه، فإذا لم يجد من الطبقة المتعلمة المثقفة مثل هذه الخدمات فممن تنتظرها؟! أما هو فكان يقول لي: وهل يضحي الإنسان بنفسه في وسط لا يقدر التضحية بل يخذل صاحبها؟ وأين الوسط الذي يقدر الإخلاص والمثل العليا؟
وكثيرا ما كان يقول لي: إنك تعيش في جو من الأوهام، وستصدمك الحقائق العملية في الحياة، وسترى أن المجتمع لا يقدر المثاليين بل يقدر النفعيين والوصوليين بأكثر مما تتوهم أنه يقدر المثاليين وينصر أولئك بمقدار ما يخذل هؤلاء! وكنا نفترق مختلفين في الرأي والحجة دون أن يؤثر هذا الخلاف في صداقتنا، ولكل وجهة.
لست أدري على وجه التحقيق من كان منا على حق ومن كان منا مخطئا - على الأقل في حق نفسه. كل هذا لم يصرفني عن التمسك برأيي، وقد يكون تمسكي بهذا الرأي أمرا غير إرادي، ولكن هكذا اتجهت نفسي هذه الوجهة ولقد كان لها أثرها في مختلف مراحل حياتي.
اخترت المحاماة وآثرتها على الوظيفة متأثرا بالنظرية المثالية.
اخترت المحاماة، ثم الصحافة، ثم عدت إلى المحاماة وبقيت فيها على تعاقب السنين؛ إذ رأيت أنها أقرب إلى أن أجد فيها الحياة المثالية لمن يريد أن يحياها، رأيت فيها المجال فسيحا لأساهم بنصيبي في الكفاح الوطني، وكنت أرى في الوظائف مجالا ضيقا لهذا الكفاح. ومن هنا آثرت المحاماة على الوظائف، ورأيت في المحاماة أيضا الحرية التي كنت أنشدها، فلا يحد من عملي فيها رئيس أو رقيب. وكنت أتخير من القضايا ما أراه سليما، فأجد من حرية الاختيار ما لا أجده لو كنت موظفا؛ فإن على الموظف مهما كان مستقل الرأي حي الضمير أن يعمل بما يؤمر به من الرؤساء ولو خالف ضميره في بعض المواطن، والنظام الحكومي بل الاجتماعي يقتضي ذلك. حقا إن المناصب القضائية التي كانت تؤهلني لها إجازة الحقوق هي أبعد مناصب الدولة عن التأثر بأوامر الرؤساء وأكثرها استقلالا، ولكني مع ذلك رأيتني في المحاماة أكثر حرية واستقلالا وأقرب إلى ميدان الكفاح الوطني مما لو اخترت الوظيفة. (1) أول مؤلفاتي: حقوق الشعب (سنة 1912)
اتجهت نفسي منذ سنة 1910 إلى الجمع بين المحاماة والتأليف، فقضيت أوقات فراغي من المحاماة سنة 1911 وأنا بالزقازيق في تأليف أول كتاب لي وهو «حقوق الشعب»، وقد تم طبعه وظهوره في مارس سنة 1912.
1
وعنوانه يدل على موضوعه ومعناه. ضمنته شرحا للمبادئ الدستورية، ووضعته لتأييدها وتدريسها وتعميمها، عبرت فيه عن الحكام بأنهم «وكلاء الأمة»، وأهبت بالأمة أن تناضل عن كيانها بكل ما أوتيت من حول وقوة، وجعلت شعار الكتاب: «تبتدئ القوة حيث ينتهي الضعف.» وقلت في مقدمته تعريفا بالغرض من تأليفه: «القوة والعلم، هذان العاملان هما الدعامتان اللتان تضمنان للأمم حياتها وحقوقها. جئت في هذا الكتاب أخاطب فئتين من الأمة كانوا دائما جنود الحرية في كل بلاد، وهما: رجال الغد، وجمهور الشعب. جئت أخاطب إخواني الشبان رجال الغد الذين أعد نفسي واحدا منهم وأعتقد أن عليهم واجبا كبيرا هم مدينون به نحو الله ونحو الأمة وهو واجب العمل لتحرير بلادنا؛ فكل شاب منا، سواء كان لا يزال في مهد التعليم يتلقى العلوم ويتغذى بلبان المعارف في المدارس، أو دخل في معترك الحياة، كثيرا ما يتساءل: «كيف أقوم بالواجب؟» ويطلق لنفسه عنان البحث للجواب على هذا السؤال؛ لأنه سؤال لا يكفي للجواب عنه تفكير لحظة واحدة أو يوم واحد، بل يحتاج إلى إطالة في البحث والتفكير، هذا السؤال الذي يجدر بكل إنسان أن يجعله وجهته في الحياة والذي يجب ألا نعد الرجل رجلا إلا إذا عرف كيف يجيب عنه قولا وفكرا وعملا، هذا السؤال قد جعلت غرضي من وضع الكتاب أن أجيب عنه.» إلى أن قلت: «أردت في هذا الكتاب من جهة أن أطرح بين يدي إخواني نموذجا مختصرا للعمل على أداء واجبهم نحو الأمة، ثم تخيرت من جهة أخرى في وضعه طريقة أغلب المؤلفين الغربيين الذين وضعوا الكتب والمؤلفات لتعميم حقوق الشعب ونشر النظريات الدستورية. وقصدت من ذلك أن يكون هذا الكتاب كمجموعة دروس لمبادئ الحقوق العمومية وبسط العلاقات بين الشعوب والحكومات حتى لا يحرم عامة القارئين من عرفان تلك المبادئ الضرورية لكل مجتمع يريد أن يكون حرا.»
وجعلت الكتاب في قالب محاورات واجتماعات بين فريق من الشباب وجمهرة من القرويين يدور فيها الحديث حول هذه المواضيع.
وقد أعجب فريد بك بهذا الكتاب وهنأني بتأليفه وقال لي: «في البلاد صحافة وطنية، وينقصها التأليف الوطني، وقد سلكت هذا السبيل فاستمر فيه وفقك الله.» وقد عملت بنصيحته جهد المستطاع. (2) صلتي بفريد بك «في منفاه»
هاجر محمد فريد من مصر في تلك السنة (1912)، فاستمرت صلتي به في منفاه، وكنت أراسله وأعرب له في رسائلي عن إخلاصي له وثباتي على عهده، وزرته في منفاه بالآستانة في أغسطس سنة 1912، وشعرت بغبطة كبيرة؛ إذ رأيته في صحة موفورة ونفسية مطمئنة. وقد سافر يوم 20 أغسطس قاصدا باريس فجنيف وودعته على المحطة مع من ودعوه من المصريين، وكانت هذه آخر مرة رأيته فيها، ثم بادلته المراسلة في منفاه، وجاءتني منه عدة رسائل تفيض عطفا علي وتقديرا لي، فزادت صلتي به توثيقا وتوكيدا، منها رسالة بعث بها إلي في بطاقة بريد «كرت بوستال» من جنيف بتاريخ 5 ديسمبر سنة 1912 قال فيها:
حضرة ولدنا الفاضل
سلاما وتحية. وبعد، فأخبر الأخ أني في غاية الصحة رغما عن البرد الشديد الذي نزل اليوم إلى ما تحت الصفر، وعن الثلج الشديد الذي كسا الأرض أول أمس حلة بيضاء نقية وغطى جميع الجبال المحيطة بنا، ثم أرجو تبليغ سلامي لحضرة الشقيق الأمين وباقي الإخوان، وفقكم الله وإيانا لخير العمل وعمل الخير.
محمد فريد
وأرسل إلي بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1912 الكتاب الآتي من جنيف:
جنيف في 21 ديسمبر سنة 1912
أخي الصادق رفع الله مقامه
استلمت بيد السرور جوابك رقم 14 الجاري، وأثلج صدري ما به من العبارات الدالة على الصدق والإخلاص للوطن الأسيف. لدي الآن مسألة مهمة جدا أحب أن تهتم بها أنت والإخوان، وهي أننا كنا معتادين على مساعدة جريدة «إجيبت» التي تصدر بلوندرة بمائتي جنيه سنويا دفعناها تماما في سنة 1911 ودفعنا جزءا منها في أوائل سنة 1912 وهو 40 جنيه فقط، فقام مستر بلنت وإخوانه بمصروفها إلى آخر عدد ظهر منها (ووصلني صباح اليوم) بمساعدة بعض الطلبة بإنجلترا، واليوم كتب لي المستر بلنت بعدم إمكان اللجنة القيام بنشرها ما لم ندفع لها إعانة سنوية قدرها مائتا جنيه. وفي نظري أن بقاء هذه المجلة في عالم الوجود ضروري لنا الآن؛ خصوصا وقد أصبحنا بلا لسان يعبر عن أفكارنا في مصر إلا «الشعب» وطبعا هو قصير العمر ما دامت الوزارة الحالية موجودة.
فأرجوك التكلم في هذه المسألة مع الإخوان لجمع هذا المبلغ ولو على قسطين يدفع الأول في شهر يناير والثاني في أبريل مثلا؛ لأنه لا يصعب على الأمة التي تجود بمئات الآلاف من الجنيهات ألا تبخل بمائتي جنيه فقط لمثل هذا العمل المفيد. إني أشتغل الآن في وضع رسالة صغيرة بالفرنساوية أشرح فيها الأسباب التي أوصلت الدولة العلية لهذه النقطة الخطرة وهذا المركز الحرج، وربما ظهرت هذه الرسالة في بحر يناير.
وفي الختام أهديك أنت وجميع الإخوان مزيد سلامي ووافر تحيتي. دمت لأخيك أو والدك المخلص.
لم أر في الجرائد ذكرا لعيد رأس السنة الهجرية، هل لم يحتفل به نادي المدارس العليا كالمعتاد؟
إذا أمكنك أن ترسل لي كتاب مصطفى الرافعي «حديث القمر» أكون لك من الشاكرين. عنواني الحالي:
7 bis Boulevard du Pont d’Arve, Genève .
محمد فريد
وقد شهدت في سنة 1913 وما بعدها انفضاض بعض أنصار الفقيد البارزين من حوله، وكأن وجوده في المنفى قد أنساهم عهده، وزاد في انصرافهم عنه غضب الخديو عليه، إلى غضب الاحتلال. وكنت أفضي إليه في بعض رسائلي بألمي من تقاعس الكثيرين عن القيام بواجبهم الوطني، فأرسل إلي من الآستانة في مارس سنة 1913 خطابا يحثني فيه على عدم اليأس وعدم التأثر للذين تخلفوا وتركوا الصفوف، ويرغب إلي وإلى الإخوان العمل في نشر الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادي لكي تستمر الحركة الوطنية في نموها ونشاطها، قال:
الآستانة في 25 مارس سنة 1913
حضرة الأستاذ الفاضل والوطني المخلص
عزيزي، وصلني جوابك المؤرخ 9 الجاري المرسل إلى جنيف، وعلمت منه عدم وصول أعداد رسالتي إليك، وهذا غير مستغرب؛ فقد اتصل بي أن الطرد المرسل إليكم حجز وصودر بجمرك الإسكندرية مع طردين آخرين مرسل أحدهما إلى ديمر الكتبي والآخر إلى السخاوي، ولم يفلت إلا الطرد المرسل إلى الأخ عبد الملك، ولا أدري إذا كانت أعداد المجلة وصلتك؛ إذ ربما تحجز هي أيضا.
هذا وقد ساءني ما جاء بجوابكم المذكور من العبارات التي تشف عن اليأس من مستقبل الأمة بسبب ما ظهر من بعض أبنائها من الخور والضعف، تلك الحالة التي أدت إلى تلبية العموم لدعوة عميد أعداء البلاد، وما كنت لأنتظر هذا «الشبه اليأس» منك لما أعهده فيك من قوة الإرادة وشدة الوطنية. فإذا كان الخوف من رجال السلطة حدا بالكثيرين إلى عدم إظهار إحساسهم الوطني، فما يمنعهم من صرف همتهم إلى المشروعات الاقتصادية، كالنقابات وشركات التعاون المنزلي والمالي، وقد برهن ما أسس منها عن نجاح عظيم وعلى استعداد الأمة للإقبال على مثل هذه المشروعات. هذا ميدان واسع للجميع، فادخلوا فيه بهمة ونشاط، فاستقلال مصر الاقتصادي مقدمة لاستقلالها السياسي.
على أني لم أزل أرى من الضروري تقوية لجنة الحزب الإدارية وتتميم أعضائها بانتخاب المخلصين وضمهم إليها وإتيان بعض الأعمال التي تبرهن على وجودها.
أرجوكم الاجتهاد في إدخال أعضاء عاملين في جمعية ترقي الإسلام وأن تكون أنت في مقدمة المشتركين (والاشتراك عشرون فرنكا في السنة)؛ فإن هذه الجمعية سيكون لها مستقبل عظيم وأثر فعال في جميع جهات الإسلام لو وجدت أقل مساعدة.
وفي الختام أهديكم أنت والإخوان مزيد السلام.
محمد فريد (3) كتابي عن التعاون (1914)
وقد عملت بنصيحته وضاعفت جهودي في خدمة الحركة التعاونية والحركة الاقتصادية، وصرفت سنة 1913 في وضع كتابي عن «التعاون» والمساهمة في تأليف بعض النقابات الزراعية ودراسة بعض الشئون الاقتصادية. فكتبت في «الشعب» سلسلة مقالات عن ميزان مصر الاقتصادي (أعداد 23 سبتمبر وأول و2 و5 و10 و14 أكتوبر سنة 1913)، وعن الكماليات في مصر وخسارتها منها (عدد 24 أكتوبر سنة 1913)، وعوائق الصناعة الوطنية (عدد 18 نوفمبر سنة 1913).
ولما علم الفقيد باشتغالي بوضع كتابي عن التعاون، أرسل إلي في 22 أبريل سنة 1913 الخطاب الآتي:
الآستانة البلد في 22 أبريل سنة 1913
حضرة عزيزي الفاضل عبد الرحمن أفندي الرافعي
وصلني عزيز خطابك الرقيم 4 الجاري، وقد سرني اشتغالكم بهذا المؤلف الاقتصادي، كما سرني خبر انصراف همة أحمد بك لطفي لهذه الغاية المفيدة؛ خصوصا وقد علمت من مطالعة الجرائد أن كتشنر سيشتغل بها استجلابا للأمة نحوه ونحو الاحتلال، فيجب عليكم أن تسبقوه لهذا العمل؛ حتى لا تغش الأمة ولا تنصرف إليه. على أني لم أسمع من مدة بتشكيل نقابات جديدة أو شركات تعاون أو شيء آخر من هذا القبيل، مع أنكم لو قام كل فرد منكم بتأسيس جمعية اقتصادية في دائرته لبلغ عددها في وقت قليل العشرات بل المئات؛ ولذلك أرى أن اشتغالك بالتأليف لا يجب أن يمنعك من الاشتغال عمليا في تأسيس النقابات مع إخوانك، وما هذا بعزيز عليكم لو أردتم، ولعلني أسمع قريبا بأخبار ما تؤسسونه من الشركات والجمعيات الجديدة.
سرني كذلك ما قررته اللجنة من عقد مؤتمر وطني بجنيف، وقد رأيت أن يكون في 22 سبتمبر أي تاريخ انعقاد المؤتمر الأول. وإني أقترح عليك أن تكتب تقريرا عن حالة النقابات بمصر وتاريخها وبعض إحصائيات عنها وعن أعمالها، لنظهر للعالم شيئا من أعمالنا العملية ونبرهن على أن حزبنا حزب تعمير لا حزب تخريب كما يتهمونه به.
إني بانتظار نتيجة أعمالك لصالح جمعية ترقي الإسلام.
ماذا تقصد عمله في الإجازة المقبلة؟ هل تحضر لأوروبا أو تنتظر انعقاد المؤتمر؟ إني أكون سعيدا جدا لو رأيتك بين خطباء المؤتمر. وفقك الله لخدمة البلاد آمين.
سلامي لك ولجميع الإخوان، وبالأخص للأخ أمين حفظه الله لك ولنا.
المخلص: محمد فريد
وجاءني منه في يونيو سنة 1913 الخطاب الآتي:
جنيف في 6 يونيو سنة 1913
ولدي المحترم الفاضل عبد الرحمن أفندي الرافعي
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فقد وصلني جوابكم المؤرخ 10 الماضي من مدة. ولم يمنعني عن الرد عليه إلا الكسل من جهة، واشتغالي بمجلة ترقي الإسلام من جهة أخرى، فقد أصدرت العدد الثاني منها عقب عودتي من الآستانة. وأرسلت لك نسخة منها، لعلها وصلت ولم تصادرها حكومتنا الأبوية الرحيمة.
من 7 مايو لم يصلني إلا جريدة أخرى مصرية، ولا أدري لذلك من سبب، مع أني كتبت للإدارة قبل سفري من الآستانة بعنواني الجديد، وها قد كتبت من عشرة أيام للإدارة مجددا. فأرجوك التحرير لأخيك أمين بالتنبيه على من يلزم بإرسال النسخ المتأخرة جميعها ابتداء من 8 مايو وعدم قطع الشعب أو أي جريدة تقوم مقامه.
2
أرجوك أن ترسل لي نسخة من تقرير كتشنر بالعربية وأخرى بالفرنسية إن كان طبع بها؛ لأن وجوده بين يدي ضروري للكتابة والمناقشة.
كيف حال نادي المدارس؟ وهل سكتت عنه الحكومة؟ وما هي الحالة العمومية بالإجمال؟ أرجوك أن تكتبها مطولا، وأن يكون الجواب «مسوكرا».
بلغ سلامي لجميع الإخوان وبالأخص للأخ وفيق، وأخبره بأني في اشتياق زائد لجواباته وأخباره. هل أؤمل أن أراكم في هذه السنة بأوروبا، ومن من الإخوان عزم على السفر في هذا الصيف إلى ربوع سويسرة؟
محمد فريد
وفي يونيو سنة 1914 أهديته كتابي عن التعاون، فجاءني منه الخطاب الآتي:
جنيف في 23 يوليو سنة 1914
حضرة ولدنا الفاضل عبد الرحمن بك الرافعي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فقد وصلني كتابكم في تاريخ النقابات ومستقبلها في مصر، وقرأته من أوله لآخره، فألفيته أحسن كتاب أخرج للأمة المصرية في هذه العام. فشكرا على هذه الخدمة الوطنية التي لا تقدر. وفقكم الله للاستمرار في هذا الطريق المفيد، وأفاد البلاد بآرائكم. والأمل الآن أن كل النقابات التي تؤسس تنشأ حرة بحيث يسقط قانون الحكومة من نفسه أو تضطر هي لتعديله.
مؤتمر الشبيبة ينعقد بعد باكر، والمنظور أن سيكون شاملا لمندوبين عن جميع الجمعيات؛ فقد حضر للآن مندوبو لندرة وبرلين وباريس وبلجيكا والآستانة، وسنجمع أعماله ونرسلها للشعب؛ عله يوفق وتساعده الظروف السياسية على نشرها كلها أو بعضها.
أؤمل أن أكون بالآستانة حوالي 20 أغسطس لأحضر عيد الفطر بها، فلعلي أراك بها بخير وصحة وعافية. والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد فريد
وقد نشبت الحرب العالمية الأولى في أغسطس سنة 1914، وانقطعت المواصلات بين مصر وأوروبا، فلم يتح لي أن أرى فريدا على شدة رغبتي في أن أسعد برؤيته، وانقضت أعوام الحرب، ثم أعلنت الهدنة في نوفمبر سنة 1918 وقامت الثورة في مصر.
وترقبت أن تعود الفرصة فتتاح لي لكي أسافر إلى حيث ألتقي بإمامي في الوطنية، ولكن الموت عاجله في نوفمبر سنة 1919 وحال بيني وبين أن أراه، وغاب عني شخصه ولكن لم تغب عني قط ذكراه، ولن تغيب ما دمت حيا. (4) اعتقالي 1915-1916
شبت الحرب العالمية الأولى في يوليو-أغسطس سنة 1914، وأعلنت السلطة العسكرية البريطانية الأحكام العرفية في مصر ابتداء من 2 نوفمبر من تلك السنة على أثر دخول تركيا الحرب ضد الحلفاء.
وفي ديسمبر سنة 1914 وقع الانقلاب المشئوم الذي أعلنت فيه الحماية البريطانية الباطلة على مصر، وخلع الخديو عباس حلمي الثاني، وعين الأمير حسين كامل سلطانا.
وقد احتجبت جريدة «الشعب» - وكان يتولى رئاسة تحريرها المرحوم أمين الرافعي - عن الظهور احتجاجا على إعلان الحماية. وتولت السلطة العسكرية حكم البلاد في خلال الحرب، فكان أول عمل لها اضطهاد الحزب الوطني ومطاردة رجاله، فضبطت أوراقه ودفاتره وسجلاته، وشتتت شمل أعضائه أو الذين اشتبهت في أنهم من أعضائه أو أنصاره، واعتقلت الكثيرين منهم ووزعتهم على سجن الاستئناف بالقاهرة، وسجن الحدرة بالإسكندرية، والمعتقلات التي أنشأتها لهم خصيصا في درب الجماميز وطره والجيزة وسيدي بشر، ونفت بعضهم إلى مالطة وأوروبا، وكنت ممن أصابهم الاعتقال. وأذكر من أسماء المعتقلين وقتئذ: أحمد بك لطفي، علي فهمي كامل بك، عبد الله بك طلعت، عبد اللطيف بك الصوفاني وقد وضع تحت المراقبة في دمنهور، عبد اللطيف بك المكباتي، الأساتذة: عبد المقصود متولي، محمد زكي علي، أحمد وفيق، أمين الرافعي، عبد الرحمن الرافعي، مصطفى الشوربجي، إسماعيل حافظ صهر محمد بك فريد، محمد فؤاد حمدي، إبراهيم رياض، الدكتور عبد الحليم متولي، الدكتور عبد الفتاح يوسف، الدكتور شفيق منصور، أحمد أفندي رمضان زيان، اليوزباشي حافظ محمود قبودان، اليوزباشي أحمد حمودة، محمد أفندي الشافعي، مصطفى أفندي حمدي، يعقوب أفندي صبري، اليوزباشي أحمد نبيه قبودان، إسماعيل أفندي حسين، الشيخ إبراهيم مروني، إلخ إلخ.
تذكرة المعتقل عبد الرحمن الرافعي سنة 1915:
وفيها تاريخ الاعتقال: 18 / 8 / 1915، والاسم، وعبارة: «يفرج عنه ويرسل للمحافظة، 30 أغسطس سنة 1915» لا تدل على الإفراج بل الانتقال إلى معتقل درب الجماميز.
وممن نفوا إلى أوروبا: الدكتور نصر فريد بك، وإلى مالطة: الدكتور عبد الغفار متولي، الأستاذ الدكتور محمد عوض محمد، الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي، الأستاذ محمد عوض جبريل، حامد بك العلايلي، سلامة أفندي الخولي، الأستاذ علي فهمي خليل، الأمير أفندي العطار، وغيرهم وغيرهم. وقد لبثوا في المعتقلات أو في المنفى مددا طويلة، ومنهم من لبث في السجن أو المنفى إلى ما بعد الهدنة سنة 1918، أما من أفرج عنهم فقد قيدت حريتهم ووضعوا تحت المراقبة. (5) إلى السجن
كان اعتقالي بالمنصورة يوم 17 أغسطس سنة 1915، وفي نفس هذا اليوم اعتقل لفيف من خاصة أهل المنصورة ممن عرفوا بميولهم الوطنية، ورحلونا معتقلين إلى القاهرة حيث أودعونا سجن الاستئناف بباب الخلق، وهناك التقيت بأخي أمين وبفوج آخر من الوطنيين اعتقلوهم بمصر يوم اعتقالنا. وكان نظام الاعتقال بسجن الاستئناف أن تخصص كل غرفة من الغرف الانفرادية لاثنين من المعتقلين، وقد نسقوا اختيار كل اثنين بحسب مراكز المعتقلين وشخصياتهم، وإذ كنت قد اعتقلت بالمنصورة فقد وضعوني أنا والمرحوم عبد اللطيف بك المكباتي عضو الجمعية التشريعية (وعضو الوفد المصري فيما بعد) في غرفة واحدة وهي الغرفة رقم 15 من العنبر رقم 5. وكنا صديقين حميمين، ومنزله بالمنصورة تجاه منزلي بها وقتئذ، وكنا قبل الاعتقال نتبادل الزيارات والأحاديث، وله ميول نحو مبادئ الحزب الوطني، وكنت أقدر فيه وطنيته وشجاعته الأدبية، واحتفاظه بكرامته، واعتزازه بشخصيته وكفاءته الممتازة. فلما علم كلانا أنه زميل لصاحبه في «الزنزانة»، اطمأنت نفسنا إلى هذه الزمالة، وخففت عن كلينا غضاضة السجن. وقد استقبلنا موظفو السجن وعماله بالاحترام والتقدير؛ لأنهم عرفونا وعرفوا سبب اعتقالنا، وعرفوا على الأخص أننا لسنا من طراز ضيوفهم الآخرين نزلاء سجن الاستئناف، فأكرموا وفادتنا وبذلوا لنا كل ما أمكنهم بذله من التسهيلات، ولكن في حدود اللوائح؛ لأن عليهم رقباء من رؤسائهم في المحافظة. (6) في الزنزانة
ولما التقينا أنا والمكباتي بك أول مرة في «الزنزانة» وأقفلوا علينا بابها و«تمموا» علينا طبقا للتعليمات، نظر كل منا إلى صاحبه نظرة دهشة واستغراب، وأخذنا نتأمل في تصاريف الأقدار، ثم ما لبثنا أن مزجنا الدهشة بشيء من الفكاهة والسخرية من سياسة الحكومة التي تعتقل الناس جزافا وفي غير حدود العدل والقانون دون أن توجه إلينا أي تهمة. وقد رأيت من المكباتي جلدا وصبرا أعجبت بهما، وزادا من تقديري له؛ إذ كنت أظن أنه قد يتسخط على مسلكه الوطني الذي أدى به إلى الاعتقال، ولكني على العكس رأيته فخورا به، معتزا بشخصيته، عالي الرأس كعادته، وأخذنا نقطع الوقت بالأحاديث نتناولها في شتى المواضيع فكانت خير سلوى لنا في هذه الأوقات العصيبة.
وفي 30 أغسطس جاءنا الفرج، لا بإطلاق سراحنا، بل بنقلنا إلى معتقل أعدوه لنا بدرب الجماميز في مبنى مخازن وزارة المعارف؛ ذلك أن اعتقالنا في سجن أعد لاستقبال المحكوم عليهم أو المنتظر أن يحكم عليهم في الجرائم قد قوبل من مختلف الطبقات بالسخط والاستنكار، وأبديت رغبة في معاملتنا كمعتقلين سياسيين لهم على كل حال حق الرعاية والمعاملة الإنسانية، فأعدوا لنا المعتقل الجديد بدرب الجماميز. وقد شعرنا فيه بشيء من الراحة النسبية إذا قورن بسجن الاستئناف، وسمح لنا فيه على الأقل أن نجتمع معا في أي وقت نشاء، وأن نختار من الغرف الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ما نشاء، وأن يختار كل منا زملاءه، فاخترت مع أخي أمين غرفة واحدة كان بابها مفتوحا في كل وقت، ولا رقابة علينا في خروجنا منها. وكتبت لأهلي خطابا أبشرهم فيه بأننا انتقلنا من سجن الاستئناف إلى المكان الجديد وأن دواعي الراحة متوفرة فيه.
على أنه قد كتب علي أن أنتقل وقتا ما إلى سجن انفرادي آخر يشبه من بعض الوجوه سجن الاستئناف، وهو سجن «الحدرة» العمومي بالإسكندرية؛ إذ نقلوني إليه وأبقوني فيه مدة أسبوعين مع لفيف من معتقلي المنصورة للتحقيق معنا في بلاغ كاذب عن تهمة باطلة تبين من التحقيق كذبها وتلفيقها. وقد صحبني أيضا المكباتي بك في سجن الحدرة وأفرج عنه هناك، ثم عدنا إلى معتقل درب الجماميز، فرحب بنا الإخوان والزملاء وهنئوني على بطلان التهمة التي وجهت إلينا. (7) في رحاب ليمان طره
وفي شهر سبتمبر سنة 1915 نقلونا إلى معتقل آخر أعدوه لنا في بلدة طره بجوار ليمان طره المشهور. ويبدو لي أن سبب نقلنا إلى هذا المعتقل الجديد أن السلطة العسكرية رأته أبعد عن أنظار الناس وعن الزيارات العائلية من معتقل درب الجماميز، فضلا عما يوحي به اعتقالنا في طره - حيث الليمان المشهور - من الرهبة والفزع لمن كانوا مطلقي السراح من الوطنيين. وربما كان من أسباب هذا النقل أيضا أن معتقل درب الجماميز ضاق بمن فيه، إذ زاد علينا بعض طلبة الحقوق الذين اتهموا بتحريض زملائهم على الإضراب يوم زيارة السلطان حسين كامل لمدرستهم.
ثم نقلونا في فبراير سنة 1916 إلى معتقل آخر أعدوه لنا بالجيزة في مبنى سجن قديم مهجور كان يعرف بالسجن الأسود، وقد تحول بعد ذلك إلى عدة مبان حكومية بأول شارع الهرم بالقرب من كوبري عباس.
ومكثنا به إلى أن أفرج عنا يوم 17 يونيو سنة 1916؛ أي إننا مكثنا معتقلين عشرة أشهر، وكان الإفراج عني مع أخي أمين بك وعبد الله بك طلعت في يوم واحد.
وقد ذهبوا بنا نحن الثلاثة إلى الإسكندرية حيث أعدوا لنا عدة زيارات اقترنت بإطلاق سراحنا. فقابلنا حسين رشدي باشا رئيس الوزارة في منزله بالرمل بمحطة كارلتون (الآن محطة رشدي باشا)، فأحسن استقبالنا وتحدث إلينا عن ضرورات الحرب وعن مساعيه لدى السلطة العسكرية البريطانية لإطلاق سراحنا حتى كللت أخيرا بالنجاح، فشكرناه على حسن مسعاه. وطلب إلينا أن نذهب لمقابلة السير رونلد جراهام مستشار وزارة الداخلية وقال عنه إنه هو أيضا سعى في الإفراج عنا، فذهبنا إليه بدار الوزارة ببولكلي وقابلناه وأبدى نحونا شعورا طيبا. (8) في حضرة السلطان
ثم ذهبنا إلى سراي رأس التين حيث قابلنا المغفور له السلطان حسين، وقد استقبلنا بعطف وحفاوة، وأخذ يدافع عن سياسته منذ إعلان الحرب العالمية وقبوله عرش السلطنة، وقال إنه قصد خدمة مصر والأسرة العلوية، والتفت في ختام الحديث إلى أخي أمين وقال له: «طلع الغازيتة يا أمين بك.» ووعده بالمساعدة المالية لإصدار الغازيتة (صحيفة الشعب وكانت محتجبة احتجاجا على إعلان الحماية)، فشكره أمين، وانتهت المقابلة بالتحيات المقرونة بالدعوات، على أن أمينا رحمه الله لم يفكر في إعادة صحيفة الشعب طيلة مدة الحرب.
ذكرياتي عن ثورة 1919
كنت سنة 1919 لا أزال في الثلاثين من عمري أزاول مهنتي (المحاماة) في «المنصورة»، وكانت تغلب علي نزعة الشباب وأتوق إلى أن تسلك الأمة سبيل العنف في جهادها. أما الآن فإني أميل إلى مبدأ عدم العنف وأراه أقوم السبل وأقربها إلى النجاح والتقدم، وبعبارة أخرى لست من دعاة الثورة
révolution
وأوثر عليها التطور في النهضة
évolution ، ومع ذلك لم تتغير وجهة نظري في الجهاد؛ فإني أشعر والحمد لله بأن الشعلة التي تضطرم في نفسي لا تزال كما كانت لم تهبط لها حرارة ولم يضعف لها أوار؛ فالمقاومة الوطنية هي سبيلي في الحياة، وهي هي السبيل التي أدعو إليها وأنشد للوطن المزيد منها والثبات عليها، وهي سبيل كل أمة تريد المحافظة على كيانها في خضم هذا المعترك العالمي؛ إذ لا بد لها من ذخيرة من المناعة تدافع بها الحادثات، على أن المقاومة أو المناعة شيء والعنف شيء آخر، وقد يكون عدم العنف أدعى أحيانا لدوام المقاومة واستمرارها وأجدى عليها من عنف يعقبه فتور ثم تراجع وخمود.
تتبعت منذ نوفمبر سنة 1918 حركة تأليف الوفد المصري، وسعيت جهدي مع الساعين في التوفيق بين الوفد والحزب الوطني، على أن يمثل الحزب في هيئة الوفد، وجرت مفاوضات بينهما في هذا الصدد. وذهبت يوما لمقابلة المغفور له سعد باشا للتحدث إليه في هذا الشأن، يصحبني الأستاذ عبد المقصود متولي، والأستاذ عبد الفتاح رجائي، والمرحوم محمد بك رمضان القاضي السابق، بغية الاتفاق على هذا الأساس، وقبل الحزب مبدأ تمثيله في هيئة الوفد، ولكن وقع الخلاف بينه وبين الوفد على أشخاص الأعضاء الذين يمثلونه، وانتهى الأمر إلى عدم الاتفاق على أشخاصهم، واختار الوفد من تلقاء نفسه مصطفى النحاس بك «باشا» وحافظ عفيفي بك «باشا» باعتبار أنهما يمثلان مبادئ الحزب الوطني.
وكنت منذ اشتداد الحركة أقضي معظم الأيام بالعاصمة، وشهدت وقائع الثورة الأولى وامتدادها إلى الأقاليم، فرأيت بعثا جديدا للأمة، رأيت روح الإخلاص والتضحية تعم طبقاتها بعد أن كانت من قبل محصورة في دائرة ضيقة.
حدث الإضراب في المدارس يوم 9 مارس سنة 1919 على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه، وخرج الطلبة من معاهدهم متظاهرين محتجين منادين بالحرية والاستقلال، فانتعشت لذلك نفوسنا إذ رأينا في هذا الشباب طليعة جيش الإخلاص الذي يغضب لمصر ويثور من أجلها.
حقا لم يكن هذا أول إضراب من نوعه؛ فلقد شهدت من قبل إضراب طلبة الحقوق في فبراير 1906 كما تقدم بيانه، ولكنه اقتصر على طلبة الحقوق ولم يشاركهم فيه طلبة المدارس الأخرى الذين اكتفوا بإظهار العطف عليهم، وانتهى برجوع طلبة الحقوق إلى مدارسهم في مارس من تلك السنة.
وشهدت بعد ذلك وقف الدراسة في جميع المدارس يوم تشييع رفات الزعيم «مصطفى كامل»، وخروج الطلبة جميعا من معاهدهم في ذلك اليوم المشهود (11 فبراير سنة 1908) إظهارا لشعورهم، فكان أول إضراب عام حدث في مدارس العاصمة جميعها، وكان جزءا من المظاهرة الهائلة التي تجلت في موكب الجنازة، واشتركت فيها طبقات الشعب كافة توديعا وتقديرا لزعيم الوطنية الأول.
وقد رأيت في إضراب 9 مارس سنة 1919 صورة مصغرة من إضراب 11 فبراير سنة 1908، فكأن شباب سنة 1919 قد تلقى وحي الوطنية من مشهد ذلك اليوم العظيم.
عادت بي الذكرى إلى مظاهرات اشتركت فيها وأخرى شهدتها منذ سنة 1908، كمظاهرة طلبة الحقوق سنة 1908 لمناسبة عرض جيش الاحتلال في ميدان عابدين، وموكب الذكرى الأولى لوفاة مصطفى كامل (11 فبراير سنة 1909)، ومظاهرات الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة وإعادة قانون المطبوعات (مارس-أبريل سنة 1909)، ومظاهرات المعارضة في مشروع مد امتياز قناة السويس (يناير-أبريل سنة 1910)، ومظاهرات الاحتجاج على الكولونل تيودور روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة لمناسبة خطبته في مناصرة الاحتلال (مارس سنة 1910)، ومظاهرات الشباب تكريما للمرحوم فريد بك (ديسمبر سنة 1910)، ومظاهرات المطالبة بالدستور سنة 1910 وسنة 1911، ومواكب الذكريات السنوية لوفاة مصطفى كامل، وغير ذلك من المظاهرات الوطنية، وأخذت أقارن بينها وبين مظاهرات سنة 1919، فرأيت أن غرس الوطنية قد نما واشتد على تعاقب السنين؛ إذ إن مظاهرات سنة 1919 وإن كانت استمرارا لمظاهرات السنين السابقة إلا أنها في مجموعها أضخم منها وأكثر جموعا وجنودا، ولم تقتصر على العاصمة بل عمت مدن الوادي وقراه، وبدا لي فيها أن روح التضحية والفداء قد تغلغلت في نفوس الشعب أكثر مما كانت من قبل، وكان هذا دليلا على تطور الروح الوطنية واتساع مداها. وكان الذين يسيئون الظن في وطنية هذه الأمة يعتقدون أن الإرهاب كفيل بإخماد الحركة في مهدها، وأخذوا في صحفهم المناصرة للاحتلال يزجون إلى الشباب نصائح معكوسة بحثهم على الخضوع والاستسلام تحت ستار الإشفاق على مستقبلهم، ولكن هذه الظنون قد تلاشت أمام استمرار الإضراب واتساع المظاهرات واستمرارها في الأيام التالية، بالرغم من أن السلطة العسكرية قد تصدت لها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين منذ يوم 10 مارس، فلم يرهب الناس القتل وأخذوا يألفون رؤية الدم المسفوك في الشوارع، وتقبل الشعب، شبابه وسائر طبقاته، التضحية بلا خوف ولا تراجع، فكان لهذه التضحية وهذا الإجماع الرائع أثرهما في رفع صوت مصر عاليا مدويا في أرجاء العالم، بعد أن كان خافتا طيلة سني الحرب، وأخذت الصحف التي كانت تمالئ الاحتلال وتزدري بالأمة طوال السنين تغير أسلوبها وتتملق الشعب وتكتب عنه وعن مطالبه الوطنية بلهجة جديدة ملؤها التقدير والإعجاب.
رأيت الجماهير يشتركون في المظاهرات ولا يبالون ما يستهدفون له من الأخطار، كانوا يواجهون رصاص البنادق والمدافع الرشاشة (المتراليوزات) بشجاعة لا تقل عن شجاعة الجند في ميادين القتال، وسقط كثيرون منهم قتلى أثناء المظاهرات.
كان إذا سقط رافع العلم في موكب المظاهرة مضرجا بدمائه، تقدم غيره ورفع العلم بدله مناديا بحياة الوطن، فيردد إخوانه نداءه.
كان الجرحى منهم لا ينفكون ينادون بحياة مصر والدم ينزف منهم، وكثيرا ما شاهد المارة مركبات الإسعاف تحمل جريحا في مظاهرة يسيل دمه ومع ذلك يرفع ستار المركبة وهي تسير إلى مركز الإسعاف ويطل على الناس وينادي: «نموت ويحيا الوطن!»
تبدلت حالة الشعب النفسية بتأثير الثورة، وحاكى في الضحية أرقى الأمم وطنية وإخلاصا.
ويتصل بهذا السياق أن رجال البوليس قبضوا في إحدى المظاهرات على جماعة من الطلبة المتظاهرين وساقوهم إلى القسم واعتقلوهم به، فلم يكد إخوانهم يرون هذا المشهد حتى تقدموا جميعا إلى القسم وطلبوا أن يقبض عليهم كلهم لأنهم قد اشتركوا مع إخوانهم المعتقلين فيما يسميه البوليس جريمة، وأنهم شركاء معهم فيها ولا يريدون أن يختص زملاؤهم بشرف التضحية والألم في سبيل الوطن، فكان لهذا التضامن البديع وهذه التضحية أثر بالغ في نفوس الشعب.
كانت هذه المشاهد وغيرها دليلا ناهضا على أن الحركة الوطنية قد خطت خطوات واسعة إلى الأمام، وقوي فيها عنصر الإخلاص الذي هو أساس الوطنية الحقة؛ فإن هؤلاء الذين استهدفوا للأذى والقتل لم يكونوا ينتظرون جزاء ولا مكافأة على جهادهم، بل كانوا يشعرون وهم يجودون بحياتهم أنهم يؤدون واجبا نحو بلادهم فحسب، وتلك لعمري أقصى درجات الإخلاص والبطولة.
ومن المشاهد التي أثرت في نفسي مناظر جنازات الشهداء؛ فقد كانت هائلة حقا. كانت الجموع تسير فيها دون أن تعرف شخصية الشهيد أو الشهداء الذين تشيع جنازاتهم، بل دون أن يعرف المشيعون بعضهم بعضا. كان يكفي أن يذاع أن جنازة أحد الشهداء ستشيع في ساعة ما من مكان ما حتى يجتمع الألوف من الناس من مختلف الأوساط والطبقات يسيرون فيها يعلوهم الحزن العميق. لم نكن نسمع فيها عويلا أو نحيبا، بل كنا نرى جلالا وخشوعا، وحزنا رهيبا يتخلله الهتاف بين آونة وأخرى بحياة ذكرى الشهداء والتضحية وضحايا الحرية. فكانت هذه الجنازات مظاهر رائعة لتقدير الشعب معاني التضحية والبطولة، كانت بعثا جديدا لحياة جديدة.
كان الظن عندما وقعت الحوادث الأولى في ثورة سنة 1919 أنها مقصورة على العاصمة، ولكن لم تلبث أن غمرتنا الأنباء من مختلف الأقاليم بأن مظاهرات قامت فيها على غرار مظاهرات القاهرة وزاد عليها قطع السكك الحديدية، وشهدنا بأعيننا انقطاع المواصلات بين العاصمة والأقاليم كما انقطعت بين أحياء القاهرة نفسها، فأدركنا أننا أمام ثورة عامة شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها، وفي الحق إنني مع ما أشعر به من ميل دائم إلى التفاؤل، لم أكن أتوقع أن تقوم في البلاد ثورة في مثل هذه الظروف، وبمثل هذا الاتساع، وبتلك السرعة والقوة والروعة التي تجلت في سنة 1919. ولم أكن أنا وحدي في هذا الشعور، بل إن فريدا رحمه الله حين بلغته وهو في منفاه أنباء الثورة عدها من الحوادث المفاجئة، وقال عنها في مذكراته: «من الأمور التي كانت غير منتظرة ما حصل بمصر في شهري مارس وأبريل من هذه السنة (1919) وهو قيام ثورة عامة اشتركت فيها الأمة بجميع طبقاتها.» وقال عنها أيضا: «إن هذه الحركة لم تكن في الحسبان، وإن ما أظهره المصريون من التضامن والاتفاق ما كان أحدهم ليحلم به.»
تتابعت حوادث الثورة، وارتسمت في ذهني صورة واضحة عنها، وأدركت مع الأيام عظم مداها.
شعرت أمام هذه المشاهد بغبطة كبيرة تتملكني؛ إذ أدركت أن روح الحياة قد سرت في الأمة وأنها أخذت تنفض عنها أكفان الخضوع والاستسلام. ورأيت في اتساع الحركة واتحاد الصفوف تحت لوائها تحقيقا للوحدة التي طالما كنا ننشدها ونتمناها، كما رأيت في تعدد مظاهر التضحية نجاحا لدعوة الإخلاص في الجهاد، تلك الدعوة التي هي أساس كل نهضة قومية وسبيل النجاح لكل أمة تريد لنفسها الحياة والعزة. (1) رحلة نيلية في إبان الثورة (مارس سنة 1919)
في 18 مارس سنة 1919 وقعت مظاهرة بالمنصورة قتل فيها تسعة عشر من المتظاهرين، وكنت وقتئذ في القاهرة، وعلمت وأنا بها أن قائد القوة العسكرية البريطانية في تلك المنطقة أنذر سكان المدينة بأنه إذا حدثت مظاهرة أخرى فإنه سيلقي مسئوليتها على عاتق أربعة منهم عينهم بأسمائهم وهم: محمود بك نصير، والدكتور محمود سامي، والأستاذ عبد الوهاب البرعي، وأنا، وأنه سيأمر بضربنا بالرصاص في حالة قيام أية مظاهرة.
وكانت المواصلات منقطعة، وكنت معتزما العودة إلى المنصورة لأتعهد الروح المعنوية فيها، فقابلني صديق لي قدم منها، وأفضى إلي بأمر هذا الإنذار، ورغب إلي أن أبقى في العاصمة؛ لكيلا أستهدف لتنفيذ ما توعدونا به. فرأيت في نفسي شعورا قويا، لم أعرف مصدره أو سببه، يدفعني إلى العودة إلى المنصورة بالرغم من تحذير إخواني والأقربين. فأخذت أبحث عن سبيل للعودة، وكانت السكك الحديدية مقطوعة، وما أصلح منها كان السفر عليه ممتنعا إلا بترخيص من القيادة البريطانية بالعاصمة، وكانت ترفض كل طلبات السفر التي يتقدم بها المصريون غير الموظفين، وكذلك شأن السفر بالسيارات، فضلا عن حدوث فجوات في الطرق الزراعية تمنع مواصلة السير فيها. ولم يبق سوى السفن الشراعية (المراكب) تنقل الناس بطريق النيل وفروعه إلى الجهات التي يقصدونها، وقد شاعت هذه الطريقة في تلك الأيام، وارتفعت لذلك أجور السفن ارتفاعا كبيرا. فطفقت أبحث عن رفقاء لي يقصدون المنصورة أو البلاد التي في طريقها، فاجتمعت إلى نخبة من الأصدقاء والمعارف كانوا أيضا يبحثون عن سفينة يقصدون بها بلادهم في مديرية الدقهلية، واهتدينا إلى صاحب سفينة شراعية كان قادما من المنصورة ويسره العودة إليها فيربح ذهابا وإيابا، وطلب منا سبعة جنيهات أجرة الرحلة، فقبلناها عن طيب خاطر؛ لأنها كانت أجرة زهيدة بالنسبة لما كان يطلبه أصحاب المراكب في ذلك الوقت، وكانت في ذاتها يسيرة إذ وزعناها على المقتدرين منا.
وتواعدنا على أن نلتقي بمرسى روض الفرج يوم 26 مارس سنة 1919 في الساعة الأولى بعد الظهر؛ فالتقينا في الميعاد المحدد، وركبنا السفينة بعد أن اشترينا ما يلزمنا من المئونة لمدة ثلاثة أيام؛ إذ قدر ربان المركب (الريس) أنها المدة التي تكفي لقطع المسافة بحرا بين القاهرة والمنصورة. وكنا سبعة عشر راكبا عدا الريس وزميله، أذكر منهم: محمود بك عبد النبي، والوجيه بكير الجندي، وكريمته الآنسة لطفية الجندي (الآن زوجة الأستاذ حسين مطاوع)، وكريمة أخيه الآنسة سنية محمود الجندي (الآن زوجة الأستاذ رياض الجندي)، وعبد اللطيف بك غنام، والشيخ محمد الخشاب قاضي محكمة أجا الشرعية، والدكتور صديق أبو النجا (وكان طالبا بالطب)، وأخاه محمود أفندي أبو النجا، وبعض الطلبة الذين لا تحضرني الآن أسماؤهم.
أقلعت بنا السفينة في نحو الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم إلى القناطر الخيرية، وفي أثناء الطريق قابلتنا باخرة حربية من بواخر الدوريات البريطانية التي كانت تجوب النيل لتعاون القوات المسلحة على قمع الثورة، فخشينا أن تمنعنا عن متابعة السير، ولكنها لم تتعرض لنا بسوء، وتابعنا السير، فوصلنا إلى القناطر الخيرية قبيل غروب الشمس، واجتزنا هاويس الرياح التوفيقي في نحو ساعة. وتابعنا السفر ليلا إلى بنها، وكان الجو باردا؛ فقد كنا في فصل الشتاء، والليل غير مقمر، والسماء مقنعة بالسحب، فأخذت السفينة تسير الهوينا في بطء وعلى حذر؛ لأن مياه الرياح التوفيقي كانت منخفضة وشواطئه مرتفعة مما يزيد في ظلمة الليل . فلما قاربنا الوصول إلى بنها في نحو منتصف الليل، أشار علينا النوتي أن لا بد من رسو السفينة على بعد كيلومتر من كوبري بنها وألا تجتاز هذه المنطقة وإلا استهدفت لإطلاق النار عليها من الدوريات البريطانية، فبتنا الليلة في السفينة وهي راسية على الشاطئ، وشعرت ببرودة الجو؛ إذ كان مبيتنا في العراء تقريبا، ولم نستعد بغطاء كاف، ولم يكن مما يتفق والحالة النفسية للثورة أن نعنى بغطاء أو فراش، وقضينا مع ذلك ليلة هادئة لم نشعر فيها بأي تعب أو عناء. واستيقظنا يوم 27 مارس أكثر ما نكون نشاطا وابتهاجا، وتناولنا طعام الفطور، وكان طعاما بسيطا، فأكلنا منشرحين. واستأنفت السفينة سيرها على طول الرياح التوفيقي، وشاهدنا على الجانبين معالم الثورة ومظاهرها، وما أحدثته من تغيير في نفسية الشعب، فكنا نرى الأهلين في كل ناحية، نساء ورجالا، شيبا وشبانا، يحيوننا على الجانبين دون أن يعرفوا أشخاصنا، وينادون بهتافات لم نعهدها من قبل في الطرق الزراعية وعلى شواطئ الترع، فكنا نسمع نداء: لتحي مصر، ليحي الاستقلال، لتحي الثورة. واسترعى سمعي بوجه خاص نداء كنت أسمعه بين حين إلى آخر: «ليحي العدل». وقد تساءلت أولا عما يقصد القوم من هذا النداء، وهل ظنونا قضاة جئنا لنحكم بينهم بالعدل؟ ثم أدركت شعورهم الحقيقي وأنهم لا يطلبون العدل لأنفسهم، بل يطلبونه لمصر؛ فإن مصر لم تكن تطالب إلا بالعدل والمساواة بينها وبين الأمم الحرة المستقلة، وليس من العدل في شيء أن تهدر حريتها وتسلب حقوقها، فأكبرت هذا الشعور تفيض به نفوس القرويين ويدل على فطرتهم السليمة.
هذه الروح التي شاهدناها على طول الطريق، هي غرس الثورة ونتيجتها، وهي من ناحية أخرى عتادها وعدتها، وهي علامة الحياة في شعب نهض نهضة قوية يطالب بحقوقه المهضومة.
كانت نفوسنا تفيض بشرا وفرحا؛ إذ شاهدنا هذا التبدل في نفسية الشعب، وشعرت بأن آمالا قديمة كانت تجول في نفسي قد بدأت تتحقق وأنه لا يجوز لنا أن نيأس من هذه الأمة، بل هي من أكثر الأمم استعدادا للرقي، إنما ينقصها أن توجه دائما توجيها صادقا نحو المثل العليا، وهي مستعدة لتلبية كل دعوة صالحة صادقة، والعيب الذي نشكو منه أحيانا لا يرجع إلى جمهرة الشعب، بل هو عيب الخاصة أحيانا والعامة أيضا في انصرافهم في كثير من المواطن عن المثل العليا إلى الأغراض الشخصية، وهذا العيب يزول بالقدوة الصالحة، يبدأ بها الخاصة أولا ثم يقلدهم فيها العامة؛ فالخاصة هم أول المسئولين عن حالة الأمة، وعلى الخاصة أن ترفع من مستواها الأخلاقي وأن تصلح نفسها، ثم تعمل على إصلاح أخلاق الشعب وتهذيبه وترقيته؛ فإنهم المطالبون بهذا الإصلاح.
تابعت السفينة سيرها وسط هذه المشاهد الرائعة حتى وصلت إلى «طنامل» في نحو الساعة السادسة مساء، فغادرنا بكير الجندي والآنستان كريمته وكريمة أخيه، ثم وصلنا ليلا إلى منشأة عبد النبي حيث نزل محمود بك عبد النبي وقضينا الليلة بمنزله، وفي صباح اليوم الثالث من الرحلة (28 مارس) أقلعت بنا السفينة، حتى إذا وصلنا إلى «نوسا الغيط» نزل بها الدكتور صديق أبو النجا وأخوه، وتابعت سيرها حتى وصلنا إلى المنصورة عصر ذلك اليوم.
كانت هذه أطول رحلة لي من القاهرة إلى المنصورة؛ إذ إن المسافة تقطع عادة بين المدينتين سواء بالقطار أو بالسيارة في نحو ثلاث ساعات، بل دون ذلك، وقد قطعناها هذه المرة في ثلاثة أيام. وتذكرت ما كان يتحدث به أسلافنا من أنهم قبل إنشاء السكك الحديدية كانوا يقطعون المسافات بين مختلف العواصم في عدة أيام، إما بطريق المراكب في النيل وفروعه أو على ظهور الإبل والدواب، فازددت شعورا بما كانوا يعانون من المشاق في قطع المسافات بهذه الوسائل وبما أحدثه العمران والاكتشافات العصرية من التيسير على الناس في سفرهم وإقامتهم وريفهم وحضرهم.
وصلت إلى المنصورة عصر يوم 28 مارس سنة 1919 بالبحر الصغير، وما إن علم أهل المدينة بحضوري في تلك الملابسات العصيبة حتى دهشوا، وكان ظنهم أن أبقى بالقاهرة ولا تثريب علي في ذلك، وعدوها لي عملا قالوا عنه إنه شجاعة، وقلت لهم إنه عمل عادي. ولاحظت أنهم وأهل البلدان المجاورة من مركز المنصورة لم ينسوا لي هذا الموقف، وكان له أثر في نجاحي بعد هذه الحوادث بنيف وأربع سنوات في انتخابات سنة 1923-24؛ إذ على الرغم من ترشيح نفسي للبرلمان عن مركز المنصورة معارضا لمرشح الوفد فقد فزت عليه ونلت النيابة عن المركز في البرلمان الأول، في حين ليست لي به عصبية عائلية أو حزبية. وقد دلني هذا الفوز على أن الشعب بالرغم من تأثره من مختلف الدعايات يقدر (أحيانا) أعمال الناس. حقا إنه قد يضل حينا وقد يضل كثيرا، ولكن يجدر بمن يتصدى لخدمته - وخدمته واجب محتم على كل فرد - ألا ينقم من الشعب خطأه في التقدير، ولا يثور عليه لمجرد أن يتنكر له في بعض المواقف أو يتخطاه في تقديره مرة أو مرات. فإذا كانت الجماهير تتنكر أحيانا لمن يخدمها، فإن هذا العيب لا يقتصر عليها؛ وما أكثر ما يقع فيه المثقفون والممتازون، بله أقرب الناس إلى الإنسان وأعرفهم بفضله وأكثرهم علما بإخلاصه وخدماته. وقد تعذر الجماهير لجهلها أو عجزها عن إدراك الحقائق، ولكن ما عذر الخاصة والمثقفين والأصدقاء والأقربين في تنكبهم سبيل الحق وهم له عارفون؟
فعلينا أن نعالج الشعب في رفق وهوادة؛ فإن الشعب معذور، وهو سهل الرجوع إلى الحق، ولا ينقصه في ذلك إلا النصح والزمن الكافي، وصدق الإرشاد، واستمساك مرشديه بالمثل العليا واتباعهم الآية الكريمة:
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر . فعلى من يتطوعون لإرشاده وقيادته أن يكونوا له دعاة للهدى وأن يظلوا له ناصحين مرشدين، لا طغاة مستبدين، ولا حكاما متجبرين.
وقفت على تفاصيل الحوادث الدامية التي وقعت بالمنصورة في يوم 18 مارس وما يليه، وعرفت أسماء الشهداء الذين قتلوا في تلك الأيام العصيبة، وأدركت أن أهلهم، على الرغم من الحزن الذي تملكهم لفقد أعز الناس لديهم، فإنهم قابلوا مصابهم بالصبر والجلد وبروح من الاعتزاز بأنهم ساهموا بأشخاص شهدائهم في التضحية في سبيل الوطن، فأكبرت فيهم هذه الروح العالية التي كانت مظهرا من مظاهر التبدل في الروح العامة للشعب.
زوجتي
هي «عائشة» بنت خالي محمد المعايرجي. تزوجت بها سنة 1920 في إبان الثورة، وكنت في الحادية والثلاثين من عمري، وكان لزواجي بها قصة ...
فقد كنت مترددا بين الزواج والعزوبة، هل أتزوج أم لا أتزوج؟ وأخيرا رجحت عندي فكرة الزواج لأنه الحالة الطبيعية العادية للإنسان في المجتمع. ولم أر ما يدعوني إلى أن أشذ عن هذه الحالة الطبيعية. ثم جاءت المرحلة الثانية، وهي التفكير في أي البيئات أختار منها زوجتي.
وكان لي صديق صدوق يخلص لي النصح، ويسدي إلي نصائحه بين آن وآخر. فقال لي يوما دون أن يعلم بتفكيري في الزواج: «لي رأي أود أن أبديه لك.» قلت: «وما هو؟» قال: «إنك في حاجة إلى نقطة ارتكاز في حياتك السياسية.» قلت: «وما هي؟» فقال على الفور: «زوجة غنية!» فصدمتني هذه النصيحة ولم تقبلها نفسي. وشعر صديقي أن تعبيره لم يكن رقيقا ولا موفقا، وأراد أن يعبر عن رأيه بصيغة أخرى مخففة ومفسرة. فأبيت أن أستمع إلى نصيحته ومضيت في سبيلي.
وكان حبي لأمي - وقد توفيت وأنا صغير السن وعشت بعدها يتيما من الأم (ومعذرة للغويين عن هذا التعبير) - قد مال بي مبدئيا إلى أقرب البيئات إليها.
فلما شبت ثورة سنة 1919 كنت في زياراتي لعائلات خئولتي ألاحظ على «عائشة» تطورا عجيبا في نفسيتها وتفكيرها وإحساساتها. كانت ثائرة، واشتركت في مظاهرة السيدات والآنسات (16 مارس سنة 1919)، وكانت تتدفق في أحاديث عن الحالة السياسية وعن تطور الأمة، وأعجبني منها ذكاؤها وجاذبيتها وإخلاصها وروحها الوطنية، فعقدت النية على الزواج بها. ولم أفاتحها في الأمر؛ لأن ذلك لم يكن مألوفا في هذا العصر، وخاصة في البيئات المحافظة، ولأني كنت واثقا من رضاها بأن تكون زوجتي، إلى أن تم عقد زواجي بها في 12 مارس سنة 1920.
ولما علم صديقي الصدوق بزواجي هنأني بحرارة، ثم سألني في تلطف وفي غير فضول: «هل بنت خالك غنية؟» فقلت له: «إن لها إيرادا يسيرا في وقف أستحق أنا أيضا فيه بنصيب يماثل نصيبها؛ أي إنها ليست غنية ولا ذات ثراء.» فكرر لي التهنئة ثم سكت ولم يتكلم. وقطعت سكوته بقولي: «وأنا أيضا لست غنيا ولا ذا ثراء، وهذا في نظري أدعى للانسجام بيننا . ثم إن الغنى مسألة نسبية لا عددية كما يتوهم كثير من الناس؛ فالأغنياء ماذا يصنعون بما يزيد عن مطالبهم المعقولة والمحتملة؟ لا شيء، وما دام الإنسان في غير حاجة إلى الناس فهو لا يقل غنى عن أغنى الأغنياء.»
وقد اقتنع صديقي بهذه الآراء ووافقني عليها قائلا: «إن ما تقوله هو الحق، ولكننا كثيرا ما ننساق وراء أوهام أو أكاذيب اجتماعية يصطلح عليها الناس. ومهما اختلفت الآراء في هذا الصدد؛ فالأمر الجوهري في الحياة الزوجية ليس في الغنى أو قلة الغنى، بل هو التوفيق بين الزوجين، فأرجو لك التوفيق في حياتك الزوجية، وأود لك يا صديقي أطيب التمنيات.»
وأستطيع أن أقول عن زوجتي في صدق وتوكيد: إني وجدت فيها، والحمد لله، شريكة حياتي التي عاونتني على توفير الحياة المنزلية السعيدة، وتيسير الهدوء العائلي الذي ساعدني على العمل والإنتاج.
وأخص صفاتها الإخلاص، والعناية بصحتي وراحتي. وأنا من ناحيتي أبادلها حبا بحب، وإخلاصا بإخلاص.
ويتجلى إخلاصها أكثر ما يتجلى عندما أمرض أو أحزن، فإذا أصابني مرض تتمنى حقا لو أنها مرضت بدلا عني، وتعتني بي في مرضي أكثر من عنايتها بنفسها ومن عنايتي أنا بها إذا هي مرضت، وعندما ألاحظ ذلك تقول لي: «إن حياتك أنفع للبلاد من حياتي» - هكذا تقول - فأكبر منها هذا الشعور.
وهي تتشدد معي في اتباع تعليمات الطبيب وأحيانا تلزمني إلزاما باتباعها.
وعندما مرضت بالتيفوئيد سنة 1923 ولزمت الفراش نحو شهرين واشتد بي الخطر، كان الأطباء الذين يعالجونني يقرءون على ملامح وجهها درجة حرارتي قبل أن يقيسوها بميزانهم، ويقولون إن وجهها هو الترمومتر الصادق لحالتي الصحية.
ولما توفيت والدتها سنة 1934 - وكنت في رحلة بأوروبا - عدت في أعقاب الوفاة، فأبت أن تقابلني بملابس الحداد، وقابلتني بملابس بيضاء، وتظاهرت باطراح الحزن وكتمته بين جوانحها، على الرغم من أني حزنت لوفاة أمها الحنون، وعاتبتها على كتمان حزنها.
وهي تطالع كتبي بإمعان، وتقرأ كل ما أقول وأكتب، وتبدي لي أحيانا ملاحظات سديدة ، وتستمع إلى كل أحاديثي بالراديو وتعجب بها، ومرة أو مرتين قالت لي : «حديثك هذه المرة ضعيف.» فقلت مبتسما: «كيف ذلك والناس قالوا لي غير هذا؟» فقالت: «لعلهم يجاملونك، ولكن الحديث ضعيف.» وذكرت الأسباب، فاغتبطت كثيرا لملاحظاتها، وحمدت الله على أنها تراقبني إلى هذا الحد.
وهي تشاركني في اتجاهاتي الوطنية وتشجعني عليها، ولم أرها مرة تتبرم بالسبيل التي سلكتها في الحياة، ولا رغبتني يوما في أن ألحق بركب «الحياة العملية» كما يصفونها.
إنها زوجة مثالية وكفى، وإني لمدين لها إلى حد كبير بتوافري على العمل والإنتاج، وبالراحة والسعادة في حياتي العائلية.
بين السياسة والاقتصاد
كنت ولا أزال أعتقد أن السياسة والاقتصاد بينهما ارتباط متين وصلات ووشائج وثيقة، وأن الجانب الاقتصادي للحركة الوطنية لا يقل أهمية عن الجانب السياسي منها، وأن البعث الوطني كما يحفز النفوس إلى تحرير البلاد سياسيا فإنه يهيب بها في الوقت نفسه إلى تحريرها ماليا وتحقيق استقلالها الاقتصادي. وقد لاحظت أن زعامة «الوفد» للثورة قد أهملت الجانب الاقتصادي، وهنا تبدو ناحية من نواحي النقص في تلك الزعامة إذا قورنت بالزعامة الوطنية قبل الثورة؛ فإن زعامة قبل الثورة - زعامة الحزب الوطني - تفضل زعامة الوفد في توجيه الأمة إلى البعث الاقتصادي؛ مما بدا أثره في تأسيس البنوك التعاونية منذ سنة 1909، ومنشآت التعاون عامة، والمؤسسات النقابية والعمالية، كما أن «غاندي» وأنصاره في الهند قد جعلوا أيضا لدعوتهم جانبا اقتصاديا واسع المدى كان له الأثر الفعال في زيادة الثروة الأهلية وفي قوة الحركة الوطنية عامة في الهند، أما زعامة الوفد فلم توجه الأمة إلى البعث الاقتصادي.
على أن منطق الثورة السليم قد اتجه من تلقاء نفسه إلى بعث النهضة الاقتصادية، وقد ساهمت في هذا البعث قدر ما استطعت. (1) جمعية تعميم النقابات الزراعية (سنة 1919)
ففي يوليو سنة 1919 أسست مع لفيف من أصدقائي بالمنصورة جمعية لتعميم النقابات الزراعية (جمعيات التعاون الزراعية) بمديرية الدقهلية، ووضعنا لها قانونا طبعناه ووزعناه، وجعلنا من أهم أغراضها نشر الجمعيات التعاونية في أنحاء المديرية ومساعدتها في تحقيق أغراضها، ووجدت أن الفرصة سانحة لإحياء الحركة التعاونية التي ركدت في خلال الحرب العالمية الأولى ، وأذعت نداء للانضمام إلى هذه الجمعية وقعه معي كل من: الدكتور محمد حسين هيكل «باشا»، إبراهيم الطاهري بك، حسين بك هلال، الأستاذ عبد الوهاب البرعي، الدكتور إبراهيم الوكيل، محمود بك نصير، عبد الفتاح بك نور، الأستاذ محمود موسى.
ووضعنا نموذجا لقانون جمعية تعاونية زراعية تنشأ الجمعيات على أساسه، ووزعناه في أرجاء المديرية، وكان له صداه في تأسيس بعض الجمعيات التعاونية بها. (2) جمعيات التعاون الخيرية (سنة 1920)
وفي أوائل سنة 1920 فكرت في الاستعانة بالتعاون على مكافحة الغلاء، واتجهنا بالتعاون إلى ناحية اقتصادية وخيرية معا، بإنشاء جمعيات أسميناها جمعيات التموين الخيرية، وكتبت في صحيفة «الأخبار» التي أصدرها أخي أمين بك الرافعي منذ فبراير سنة 1920 عدة مقالات بعنوان: «تطبيق مبادئ التعاون لمكافحة الغلاء وجمعيات التموين الخيرية»،
1
وألقيت كلمة في اجتماع عقد بدار الأوبرا في الدعوة إلى إنشاء هذه الجمعيات يوم 5 مارس سنة 1920، وكان صاحب الدعوة إلى إنشاء هذا الاجتماع وخطيبه صديقي المرحوم الأستاذ محمد أمين يوسف بك.
وهذه الجمعيات هي تنويع وتفريع للجمعيات التعاونية، وقد أدخلنا فيها هذا التنويع للجمع بين قواعد التعاون وقواعد البر بالفقراء ومساعدتهم على مكافحة الغلاء؛ لأن أساس التعاون أن تكون فائدته الجوهرية والأساسية لأعضاء الجمعيات التعاونية. ولكن الحالة التي واجهناها سنة 1920 اضطرتنا أن نعفي جمهور المستهلكين من الفقراء ومتوسطي الحال من عضوية جمعيات التعاون، وعلى هذا الأساس أنشأنا جمعية التموين الخيرية بالمنصورة، والغرض منها مشترى المواد الغذائية والحاجات الضرورية وبيعها لأعضاء الجمعية ولطبقة صغار المستخدمين والعمال والفقراء بدون ربح، بقصد تخفيف وطأة الغلاء عنهم ومساعدتهم على الحصول على حاجاتهم بأرخص الأسعار الممكنة، وجعلنا رأس مال الجمعية مقسما إلى حصص قيمة الحصة الواحدة خمسون جنيها توزع على الموسرين من أهل المدينة. وجعلنا مهمة مجلس إدارة الشركة شراء الأصناف بالجملة وقت نزول أسعارها، وعليه أن يسعى لدى الخيرين من أصحاب المزارع والمتاجر من أعضاء الجمعية أو من غيرهم في مديرية الدقهلية أو غيرها للحصول على تعهدات منهم بتوريد بعض الأصناف الضرورية للتموين بأسعار تقل عن الأسعار التي يبيعون بها في الأسواق ؛ مساعدة منهم لصغار المستهلكين التي أنشئت الجمعية لدفع الضر عنهم، وعلى مجلس الإدارة أيضا أن يجتهد في الحصول من جهات الحكومة على توريد بعض الأصناف للجمعية بأسعار مخفضة، وأعددنا كشوفا بأسماء صغار المستهلكين في أقسام المدينة، وعهدنا إلى لجان من أعضاء الجمعية حصر أسمائهم في كل قسم، وتقدير حاجات كل منهم وعائلته، واتفقنا على أن تباع الأصناف لصغار المستهلكين بالثمن الأصلي، ولمجلس الإدارة أن يأخذ في بعض الأصناف ربحا لا يزيد عن الخمسة في المائة، وأن تباع هذه الأصناف للجمهور من غير المقيدة أسماؤهم في كشوفها بالثمن المناسب لأسعار السوق، وكل ما تربحه الجمعية من هذا الباب تخفض بمقداره أسعار البيع لصغار المستهلكين. وجعلنا مجلس الإدارة ضامنا لحملة الحصص قيمة حصصهم.
أسست جمعية التعاون للتموين الخيري بالمنصورة في فبراير سنة 1920، وأسست جمعيات أخرى على هذا الغرار في بعض المدن، وقد أقبل بعض الموسرين على الاكتتاب في حصصها، وكان الاكتتاب بمثابة قرض يرد إلى صاحبه بعد انتهاء مهمة الجمعية. وقد دفع هؤلاء الموسرين إلى الاكتتاب في حصصها حبهم للخير من جهة، ولأنهم هم أيضا كانوا من المستفيدين بالشراء من الجمعية بالأسعار المخفضة، هذا إلى ما في عملهم من الحدب على الفقراء والمحتاجين.
وقد أدت هذه الجمعيات خدمات جليلة لصغار المستهلكين، وانخفضت بفضلها أسعار الحاجات والأصناف الضرورية، فكانت من خير الوسائل لمكافحة الغلاء. (3) لجنة لتوزيع أسهم بنك مصر
وفي أواخر سنة 1921 أسست في المنصورة أيضا لجنة لتوزيع أسهم بنك مصر في الدقهلية، جعلت اسمها «لجنة الدقهلية للاكتتاب في أسهم بنك مصر» كانت بمثابة دعاية للاكتتاب في أسهم البنك. وكان المرحوم طلعت حرب بك «باشا» يرسل إلي خطابات بإيصالات سداد مبالغ الاكتتاب، وأغلب هذه الخطابات في سنة 1921 وسنة 1922، كان ذلك سنة 1921 حيث كان البنك في حاجة إلى مثل هذه الدعاية، أما الآن فهو والحمد لله في غير حاجة إليها ولا إلى مثلها بعد أن أصبح النواة المالية لنهضة مصر الاقتصادية.
وكتبت عدة مقالات في «الأخبار» تحت عنوان: «بنك مصر وبنوك بولونيا»
2
جعلتها بمثابة دعوة للإقبال على أسهم البنك. (4) ظهور كتابي في الجمعيات الوطنية (سنة 1922)
إن حوادث سنة 1919 وسنة 1920، والتواء السياسة الإنجليزية تجاه مصر، وتصريحات أقطابها ومناوراتهم ودسائسهم، ودراستي السابقة للمسألة المصرية، كل أولئك قد أقنعني بأنه لا يزال أمام مصر نضال طويل لتحقيق أهدافها، وأن ما كان يظنه البعض من أن حل القضية المصرية على أساس سليم أمر قريب المنال إنما هو وهم من الأوهام، وأن معنويات الأمة في حاجة إلى أن يلم المشتغلون بالحركة الوطنية أو من يودون الاشتغال بها بجهاد الأمم في سبيل حريتها واستقلالها. فاتجهت في سنة 1921 إلى عرض صفحات من هذا الجهاد على أنظار المواطنين، وإبراز ما تحتويه من مثابرة وثبات وصدق وإخلاص، ليترسموا الخطوات الصحيحة للجهاد الصحيح. نشرت هذه المقالات تباعا في صحيفة «الأخبار»، ثم جمعتها في كتاب واحد عنوانه: «الجمعيات الوطنية، صحيفة من تاريخ النهضات القومية» دعوت الأمة فيه إلى التمسك بأهداب المقاومة الوطنية وتدعيمها بالإخلاص وإنكار الذات، قلت في هذا الصدد في مقدمة الكتاب: «إن الأمم تختلف في وسائل جهادها وطرائقه باختلاف أحوالها وظروفها وميراثها القومي. على أن هناك حقيقة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وهي أن قوام الجهاد الصحيح المثمر في كل أمة هو تنظيم المقاومة الوطنية المرتكزة على إرادة الشعب وقوته القائمة على مبدأ الإخلاص وإنكار الذات.
هذا هو الأساس الثابت الذي تبنى عليه النهضات القومية، هذه هي الدعامة التي ترتكز عليها حياة الأمم العاملة لاستقلالها، هذه هي السبيل التي تكفل للأمم تحقيق آمالها ولو بعد حين.
وما من أمة تتنكب هذه السبيل وتستسلم للأماني والأحلام أو تسير وراء الأهواء وتتراخى في خطة المقاومة الوطنية إلا وتصاب حركتها بالشلل فتصبح حركة عرجاء تتعثر في سيرها ولا تلبث أن ترجع بها إلى الوراء، وفي هذا الرجوع هدم لصرح الوطنية وتقويض لبناء الجهاد الوطني الذي أسس على مجهودات الأمة ومتاعبها وأحزانها وآلامها وضحاياها.
إن سياسة المقاومة الوطنية هي سياج الأمم المهضومة الحقوق وسبيلها لاستقلالها ؛ فهي مناط الفضائل ومصدر الأخلاق، وقوام الشجاعة والنبل، هي روح الاتحاد الوطني ، هي كلمة الأمة التي تجمعها وتحث أبناءها على العمل، هي الوقاية الكبرى من انحلال العزائم وفتور الهمم وفساد النفوس وتفرق الكلمة، هي المدرسة الكبرى التي يكتسب فيها أبناء البلاد فضائل الإخلاص والصدق والمثابرة وإنكار الذات وتذليل العقبات، هي مصدر القوى المعنوية للشعب، هي عماد نهضة الأمم وقوام تربيتها السياسية، فبفضلها تكونت الأمم وغالبت اليأس وقاومت عوامل الفناء وحققت آمالها ووصلت إلى أسمى درجات الرقي السياسي والأخلاقي والاجتماعي.
إن العالم لا يستقر على وتيرة واحدة، وأحواله دائمة التبدل والتحول، فلا يجوز أن نيأس من طول الجهاد أو ننثني أمام العقبات؛ فإن الإنسانية سائرة حتما نحو الكمال، والأمم لا تذعن لحكم القوة، والأرض لا يستقر فيها سلام ولا وئام حتى تشرق في أرجائها شمس الحرية وتعيش الأمم في ظل الاستقلال.
حاول أنصار الفتح والاستعمار أن يطوقوا الأمم بسلاسل الأسر والاستعباد بعد أن تم لهم النصر في ميادين الحرب العامة «الأولى»، وظنوا أن العالم في قبضة يدهم والأمم سلع تباع وتشترى في سوق الأطماع والأهواء. ولكن إذا كان للسيف والمدفع في الدنيا أحكام، فلعزم الأمم وحزمها وجدها وإخلاص بنيها أحكام وآثار؛ فالقوة الغشوم لا سلطان لها على الأرواح والمبادئ والعقول والأفكار، وليس في مقدورها أن تقف نهضة أمة تسير إلى الأمام نحو المطمح الأسمى.
برهنت الحوادث التي تعاقبت بعد انتهاء الحرب العامة على أن العالم قد دخل دورا جديدا من أدواره التاريخية، وهو دور حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. ومهما يبذل دعاة الفتح والاستعمار من الجهود في مقاومة هذا الحق المقدس؛ فإن الشعوب تأبى أن تعيش مستعبدة تسوقها إرادة المستعمرين؛ لأن من أعظم نتائج الحرب العامة ارتقاء القوى المعنوية في الأمم وإدراكها أن تلك القوى الكامنة فيها إذا اتحدت وعملت فلا سبيل للقوة أن تتغلب عليها.
لقد رفعت الغشاوة القديمة عن أبصار الشعوب، وقرأت مبادئ الحرية ومعاني الحياة الصحيحة على ضوء النار التي اشتعلت في ميادين القتال أربع سنوات طوال ؛ فإن التاريخ قد خطها بأحرف لا تمحى من دماء الملايين من بني الإنسان، فسمع الناس في سائر أرجاء الدنيا نداء الحلفاء في كل آونة أن تلك الدماء والضحايا تبذل دفاعا عن حرية الشعوب؛ فالناس في مختلف الأرجاء قد سمعوا هذا النداء ووعوه، وهيهات أن ينسوه، وما من قوة في العالم تستطيع أن تغير سير التاريخ أو تصد أمواج الحرية التي تتدفق في مشارق الأرض ومغاربها.
إن المؤتمرات والمعاهدات لم تعد تملك البت في مصير الأمم، وقد أيدت حوادث التاريخ تلك الحقيقة الأزلية: «الحكومات تمر وتزول والأمم تبقى وتدوم.»
فقديما انعقد مؤتمر فيينا سنة 1815 بعد أن خرجت الدول الأوروبية فائزة من حروب نابليون، وظن الملوك والسياسيون أنهم قادرون على التصرف في أقدار الأمم بعد أن تخلصوا من خصمهم القوي العنيد، فوضعوا في فيينا أساس «المحالفة المقدسة» التي تعاهد الملوك فيها على أن يحكموا الشعوب حكما لا رأي فيه للأمم ولا قيمة فيه للحقوق الوطنية. ولكن الحوادث خيبت آمالهم؛ فإن الشعوب أخذت تعمل على استرداد حقوقها المشروعة في الحرية والحياة، وأخذت أركان معاهدة فيينا تتداعى تحت تأثير مبادئ الحرية التي انتشرت بين الشعوب الغربية في أثناء حروب نابليون. ولم تكد تمضي أعوام معدودات حتى انفرط عقد المحالفة المقدسة وتغلبت إرادة الشعوب على قوة السياسيين المتآمرين على حرية العالم، وتحطمت القواعد والأركان التي شيدتها الأهواء السياسة والمطامع الاستبدادية في مؤتمر فيينا.
فالتاريخ يعيد نفسه بعد مائة عام، مع فرق عظيم في مبلغ ارتقاء الشعوب وانتشار مبادئ الحرية التي عمت الدنيا بأسرها شرقا وغربا، ولا غرو فليس في التاريخ حرب أمكنها أن تهز أعصاب الإنسانية كلها وتنبه الأمم التي كانت غارقة في بحار الخمول والجمود مثل الحرب الأخيرة. فلا عجب أن يسير العالم الآن إلى الأمام بخطوات سريعة لم يخطها من قبل، وإن آثار ذلك لماثلة للعيان في تطور الحركات الوطنية والنهضات القومية بين الأمم المهضومة الحقوق؛ فالأمم التي تصرفت مؤتمرات الحلفاء في مصيرها لا يمكن أن تستسلم لأحكام الهوى ولا أن تذعن لقرارات تلك المؤتمرات؛ لأن الشعوب أقوى وكلمتها هي العليا، والإنسانية الجديدة، وليدة الأجيال المتعاقبة، وليدة الأحزان والآلام، وثمرة التجارب والمصائب والمتاعب، تأبى أن تعيش الآن في ظلام العبودية، فحسبها ما تحملته الأمم من المصائب لتنفر من كل نظام يحول بينها وبين حريتها واستقلالها، وليس في استطاعة العابثين بأقدار الشعوب مهما أوتوا من بطش وقوة أن يحرموا الأمم من رحمة الله ونعمة الحرية.
فالدور الذي دخلته الإنسانية بعد الحرب العامة هو دور حرية الشعوب والأمم، هو دور الأمل والعمل، فيجب أن نعمل ونور الأمل يضيء لنا السبيل، يجب أن نعمل لجهاد طويل تشترك فيه طبقات الأمة وتنظمه إرادتها العامة.
يجب أن نمضي في سبيلنا دون أن نرجع إلى الوراء أو نقف في منتصف الطريق أو نتعب من طول الجهاد.»
22 يناير سنة 1922
الحياة النيابية
(1) في البرلمان الأول (سنة 1924)
صدر الدستور في 19 أبريل سنة 1923، وقانون الانتخاب الأول في 30 من هذا الشهر، واستعدت الأمة للانتخابات العامة عقب صدور الدستور مباشرة. وإذ كان الانتخاب وقتئذ على درجتين فقد حدد لانتخاب المندوبين الثلاثينيين يوم 27 سبتمبر سنة 1923، ولانتخاب النواب يوم 12 يناير 1924، ولإعادة الانتخاب يوم 17 منه عند عدم حصول المرشح في اليوم الأول على الأغلبية المطلقة؛ أي النصف زائدا واحدا من أصوات المندوبين الحاضرين.
واهتمت الأمة بالانتخابات بدرجتيها اهتماما عظيما دل على ارتقاء النضج السياسي في البلاد، وتتبع الناس بلهفة إجراءات التمهيد للانتخابات، وتألفت اللجان الشعبية في مختلف المدن والقرى، وكان معظمها من لجان «الوفد».
وكانت الدلائل تدل على أن الوفد سينال الأغلبية الساحقة في الانتخابات «وقتئذ»؛ فشخصية سعد زغلول وزعامته للأمة والمنزلة التي نالها في نفوس المصريين كانت وحدها كفيلة بهذا الفوز، ولا غرو فقد تركزت فيه الثورة لأنه كان زعيمها، وكان نفيه مرتين مما زاد الشعب تعلقا به والتفافا حوله وتلبية لندائه في الترشيح للانتخابات، وبخاصة لأن عودته الثانية من المنفى كانت قبيل الانتخابات بمدة وجيزة، فكان ترشيح الوفد «وقتئذ» يضمن في الغالب فوز كل من يتقدم للانتخابات.
ظهر فوز الوفد أول ما ظهر في الانتخابات الثلاثينية ؛ فإن معظم المندوبين الثلاثينيين كانوا من أنصاره، وممن تعاهدوا على انتخاب مرشحيه للبرلمان، فكان ذلك إيذانا بفوز الوفد في انتخابات النواب والشيوخ.
ولم يكن يزاحم الوفد في الانتخابات سوى عدد قليل من مرشحي الحزب الوطني والأحرار الدستوريين وبعض المستقلين؛ إذ لم تكن قد كثرت الأحزاب بعد في البلد كما حدث بعد ذلك، وكان مرشحو الحزب الوطني يعتمدون على مبادئهم وماضيهم في الجهاد، أما مرشحو الأحرار الدستوريين والمستقلون فكانوا يعتمدون في مناطقهم على عصبياتهم العائلية ونفوذهم الشخصي.
لمست تيار الوفد الجارف في هذه الانتخابات؛ فقد رشحت نفسي في دائرة مركز المنصورة معتمدا على الله ومستندا إلى مبادئي وشخصيتي وماضي في الحركة الوطنية، وكان الوفد قد رشح ضدي علي بك عبد الرازق من أعيان المنصورة.
وقد تألفت لجنة وطنية لتأييد ترشيحي أخذت تجوب الدائرة وتوزع المنشورات على المندوبين والناخبين للدعوة إلى انتخابي. ويطيب لي، وقد مضى أكثر من ربع قرن على تلك الحوادث، أن أدون أسماء من أذكرهم من أعضاء هذه اللجنة، اعترافا بما لهم علي من فضل في نجاحي في هذه المعركة الهائلة، وهم: الحاج محمد عبد البر، سيد أفندي علي، الأستاذ عبد المجيد البيومي، صالح أفندي الطنطاوي، الأستاذ محمود السيد عقل «بك المستشار بمحكمة الاستئناف الآن»، الأستاذ حسين فهمي الصباغ، الأستاذ محمد عبد الرحمن، الأستاذ عبد الحميد الطوبجي، الحسيني أفندي العسقلاني، الأستاذ علي عبد الله، الشيخ إبراهيم جمعة، مصطفى أفندي أبو الوفا، الشيخ أحمد السعيد الجمل، إسماعيل أفندي هواش، صالح أفندي رمزي، حامد أفندي عبد المجيد، شكري أفندي صادق ... إلخ، وفي الحق إنهم عانوا متاعب كثيرة في الطواف بالدائرة والمرور على كل مندوب أو ذي مكانة في بلده وإقناعهم بانتخابي، وكنت أمر أنا أيضا معهم، مجتمعين أو منفردين، وألقى أحيانا ترحيبا وأحيانا إعراضا، ولم يحصل لي أذى بفضل الله؛ فإن مخالفي في الرأي كانوا في الجملة يحترمونني شخصيا. وقد وزعت على جميع مندوبي الدائرة وذوي الرأي والمكانة فيها مؤلفاتي التي ظهرت إلى ذلك الحين، وهي: «حقوق الشعب»، و«نقابات التعاون الزراعية»، و«الجمعيات الوطنية»، فكان لها أثر كبير في تزكيتي وتقدير المندوبين والناخبين لي.
وكان لطلبة الدقهلية لجنة تسمى «لجنة الطلبة العامة بالدقهلية» ساهمت في المعركة الانتخابية، وكان أعضاؤها يزكون مرشحي الوفد في دوائر المديرية، ولكنهم استثنوا دائرة مركز المنصورة، فمع أنهم كانوا في الغالب وفديين، آثروني على مرشح الوفد وعملوا ذلك بوازع من ضميرهم ووجدانهم. وكان لانضمامهم إلى جانبي أثر محمود في نجاحي، وحفظت لهم هذا الجميل على مدى السنين، وقد صاروا الآن من رجالات القضاء أو المحاماة أو الطب، أذكر منهم: الأستاذ أحمد كمال «بك المستشار بمحكمة الاستئناف»، الأستاذ حسين حسني المحامي، الأستاذ علي السعدني «القاضي الآن»، الأستاذ عبد الحميد خلاف «القاضي»، الأستاذ محمود البحيري «رئيس النيابة»، الدكتور زكي منتصر، الأستاذ بدوي حمودة «بك المستشار بمجلس الدولة الآن»، الأستاذ محمد عاشور سكرتير عام شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، الأستاذ عبد الخالق الطنطاوي المفتش بالأوقاف، الأستاذ عباس رمزي وكيل النيابة ... إلخ.
وبدأت المعركة الانتخابية تقريبا منذ أبريل سنة 1923، أي من يوم صدور الدستور وقانون الانتخابات، واستمرت إلى 12 يناير سنة 1924، أي يوم الانتخابات، فكانت معركة طويلة المدى، حامية الوطيس، عانيت فيها متاعب جسيمة؛ إذ كان مطلوبا مني أن أمر على المندوبين في بلادهم وإقناعهم شخصيا باستحقاقي لثقتهم. وقد أصبت أثناء الحملة بمرض التيفوئيد في يونيو سنة 1923، ولزمت الفراش نحو شهرين، اشتد بي خطر المرض في خلالهما، حتى أذن الله لي بالشفاء. كتب أخي المرحوم أمين بك في جريدة «الأخبار» بالعدد الصادر يوم 27 يوليو سنة 1923 النبذة الآتية تحت عنوان «شفاه الله»: «لزم الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي المحامي بالمنصورة الفراش منذ أيام لمرض انتابه، ويسرنا أن نعلن بأن الأطباء قرروا زوال الخطر عنه وأن صحته آخذة في التحسن، فنحمد الله على لطفه في قضائه وقدره ونسأله الشفاء التام.»
وقامت اللجنة أثناء مرضي بالطواف بدلا عني في الدائرة.
وفي الحق أن ضمير الشعب لم يتأثر إلى الحد الأقصى من الانقسام الذي حدث سنة 1921، فعلى الرغم من أني لم أعتمد في حملتي الانتخابية على عصبية عائلية أو نفوذ شخصي أو قوة حزبية؛ فإن ما عرفه الناس عني من ماض وصفوه بالوطنية قد أوجد شيئا من التوازن بيني وبين منافسي مرشح الوفد.
نجحت بصوت واحد
فزت على منافسي بصوت واحد؛ إذ نلت 171 صوتا ونال هو 170 صوتا، وكان عدد المندوبين الذين أعطوا أصواتهم 341 مندوبا.
كان هذا الصوت الواحد حديث الناس في مجالسهم، وقال الذين شهدوا إعطاء الأصوات أن أحد المندوبين، وكان متقدما في السن، دخل ليعطي صوته، فسأله رئيس اللجنة «المرحوم بيومي بك مكرم القاضي بمحكمة مصر الابتدائية وقتئذ» عمن ينتخبه، فأجاب على الفور: عبد الرحمن الرافعي، ثم سكت هنيهة، وتلعثم قائلا: بل أريد علي عبد الرازق، فرفض رئيس اللجنة عدوله عن رأيه واعتمد صوته لي. وأخبرني الذين شهدوا هذا الحادث أنهم سألوا الرجل بعد ذلك عما دعاه إلى العدول، فاعترف لهم بأنه كان يريد إعطاء صوته لعلي بك عبد الرازق، ولكن اسمي جرى على لسانه عفوا دون تفكير منه، ولما فطن إلى خطئه (كذا تعبيره) أراد أن يتدارك الخطأ فصارح رئيس اللجنة بأنه إنما يقصد انتخاب علي عبد الرازق لا عبد الرحمن الرافعي، فرفض منه هذا العدول، وقال إن هذا تلاعب لا يجوز وأنه استنفد حقه في الانتخاب بإعطائه صوته أول مرة.
وتحدث الناس كثيرا عن نجاحي بصوت واحد، وقال لي بعض الصوفية إنه صوت الله، فحمدت لهم هذا التعبير، وقلت لهم إنني فعلا كنت وما زلت «ولا أزال» معتمدا على الله.
وقد طعن في انتخابي أمام مجلس النواب، واكتنف الطعن بحوث فقهية طويلة في نصاب الأغلبية، ومدلولها، وفي قيمة هذا الصوت الذي رجح كفتي في الميزان وكان سببا لنجاحي. وكان محور الطعن أن الأغلبية هي نصف الأصوات زائدا واحدا، وبما أن عدد الأصوات التي أعطيت 341 فيكون نصفها
زائدا واحدا، وتكون الأغلبية
لا 171، وأنني على هذا الحساب ينقصني نصف صوت! ولكن لجنة الطعون رأت أن طريقة الحساب بهذا الشكل غير معقولة، وأن الأغلبية في هذه الحالة تكون بجبر الكسر، وأقر المجلس وجهة نظر اللجنة وقرر رفض الطعن.
نال الوفد تسعين في المائة من مقاعد النواب، وفشل في الانتخاب أشهر خصوم سعد أو الذين لا يؤيدون سياسته، وسقط رئيس الوزارة يحيى إبراهيم باشا في دائرته الانتخابية «منيا القمح» وفاز عليه مرشح الوفد، وكان سقوطه شهادة ناطقة له بنزاهته ومحافظته على حرية الانتخابات وتجنيبها تدخل الحكومة وضغطها على حرية الناخبين في جميع المناطق، مما يذكر له بالخير حقا؛ إذ كانت هذه الانتخابات نموذجا للانتخابات الحرة.
في المعارضة البرلمانية
إن المثالية هي التي جعلتني أختار المعارضة في البرلمان الأول سنة 1924؛ فقد شعرت أن من واجبي كنائب أن أتخذ من الحياة النيابية أداة للكفاح الوطني، وأن تكون استمرارا لكفاحي الماضي، وهذا يقتضي مني أن أكون على شيء من الاستقلال عن الوزارة القائمة - وزارة سعد - فأؤيدها فيما تحسن وأنتقدها فيما تخطئ فيه، وأعبر عن مبادئ وأفكار قد لا تدين بها الأغلبية، وهذا ما يسمى «المعارضة». فاتجاهي إلى المعارضة كان إذن اتجاها سليما قويما فيما أظن، ولكنها مع ذلك جلبت علي متاعب وعداوات كثيرة ظهر أثرها على تعاقب السنين، بالرغم من اعتراف الجميع أن المعارضة ضرورية للحياة الدستورية. إن هذا كلام يقولونه بأفواههم، ولكنهم في خاصة نفوسهم لا يطيقون المعارضة ويتربصون بها الدوائر، وينتهزون الفرص للتخلص من المعارضين وإسقاطهم، وهذا ما حصل لي سنة 1926 و1936 و1951.
ساهمت مع لفيف من إخواني وزملائي في وضع التقاليد الصالحة للمعارضة البرلمانية القويمة.
تألفت المعارضة في بداية الحياة البرلمانية سنة 1924 من نواب الحزب الوطني، وكنا في مجلس النواب لا نزيد على أربعة وهم: عبد اللطيف الصوفاني بك، وأنا، والدكتور عبد الحميد سعيد، والأستاذ عبد العزيز الصوفاني. حملنا معا لواء المعارضة، وكانت غايتنا أن نجعل من الحياة النيابية أداة جهاد في الذود عن حقوق البلاد، ومجال توجيه للحكومة للأخذ بوسائل الإصلاح في شتى نواحيه وإقامة حكم صالح نزيه. وقد حرصت مع إخواني على أن نسير على مبادئ الحزب الوطني داخل مجلس النواب، فكنا لا نفتأ نتمسك بالجلاء ووحدة وادي النيل، وننشد أن يشاركنا الجميع في ذلك، كما كنا نعالج المسائل الداخلية بروح الرغبة الصادقة في الإصلاح. ولم نكن ننظر إلى وزارة سعد كخصم نحاربه، بل كنا نقدر فيها صفة الوكالة عن الشعب، تلك الوكالة التي نالتها في ميدان الانتخاب، فكان موقفنا منها موقف التوجيه الخالص لخير البلاد، كنا نعضدها فيما كان يتفق ومبادئنا وننقدها في رفق ولين فيما كنا نختلف وإياها فيه، ولم يدر بخلدنا أن نخلق لها العقبات أو نشارك في المساعي لإسقاطها. ولكن الوفد لم يقابل هذه الروح بالتقدير والاعتدال، بل حنق من موقفنا؛ إذ كانت سياسته (ولم تزل) اضطهاد المعارضة والمعارضين، وخلق ديكتاتورية برلمانية يتمثل فيها الحكم المطلق بشكل يتفق مع ظواهر الدستور دون حقيقته ومعناه.
وأذكر أن أول موقف لي في المعارضة كان لمناسبة المناقشة في خطاب العرش (جلسة 29 مارس سنة 1924) الذي ألقاه سعد زغلول يوم افتتاح البرلمان (15 مارس من تلك السنة). وكانت جلسة هامة، حضرها سعد وبقية الوزراء، ورأس الجلسة أحمد مظلوم باشا، وكان يقدرني تقديرا خاصا وينظر إلي بود واحترام ويعطيني حقي في الكلام بارتياح وسهولة مما كان ييسر لي مهمة الكلام في المجلس. كان دوري في الكلام في تلك الجلسة يأتي بعد عبد اللطيف الصوفاني بك، وقد قوطع في بعض العبارات غير مرة، ولكن المجلس تركه يستكمل كل ما أراد الإفضاء به، وفي أثناء خطابه همس في أذني هارون سليم أبو سحلى «باشا» نائب فرشوط، وكان صديقا لي ويجلس خلفي، ناصحا لي أن أتنازل عن كلمتي لأنه يرى جو المجلس غير موائم للمعارضة، فلم ألق بالي إلى نصيحته وتكلمت معارضا في دوري، فألفيت من المجلس إصغاء تاما وحسن استقبال على خلاف ما كان يظن هارون بك، ورأيت مثل ذلك في كل مرة طلبت فيها الكلام.
وكنا من ناحيتنا نحن المعارضين نجتنب العبارات العنيفة أو الكلمات النابية في النقاش، وبذلك وضعنا في مستهل الحياة البرلمانية تقاليد أظن أنها صارت أسسا صالحة للمعارضة النزيهة. وقد انضم إلينا في المعارضة النواب الدستوريون وبعض المستقلين وبعض النواب الوفديين الذين مالوا إلى اتجاهاتنا ، فبلغت عدتنا عشرين نائبا، طوى الردى معظمهم وبقي منهم ثلاثة أو أربعة، وجميعهم هم : عبد اللطيف الصوفاني، عبد الحميد سعيد، عبد الرحمن الرافعي، عبد الحليم العلايلي، عبد العزيز الصوفاني، محمد شوقي الخطيب، السيد عبد العزيز خضر، الدكتور محمود عبد الرازق، عبد الجليل أبو سمرة، علي علي بسيوني، سلطان السعدي، هارون سليم أبو سحلى، علي الطحاوي المغازي، أحمد المليحي، محمد الشريعي، خليل أبو رحاب، عبد الله أبو حسين، محمود وهبة القاضي، محمد توفيق إسماعيل.
ومع أن مجلس النواب سنة 1924 كان في الجملة واسع الصدر بإزاء المعارضة؛ فالوزارة نفسها - وزارة الوفد - لم تكن على هذا الغرار؛ فقد كانت تنظر إلى المعارضين بعين الحقد، وبدا ذلك مما أضمره الوفد لنا من المحاربة في الانتخابات اللاحقة.
وقد قيل عني إنني بمواقفي في المعارضة كنت أريد إحراج سعد، ولعمري إن هذا كان أبعد ما يكون عن خاطري؛ فإني ما قصدت إحراج سعد أو وزارته، بل كنت أرى في الحياة البرلمانية ميدانا لاستمرار الكفاح ضد الاحتلال، فكنت لا أفتأ أحمل على سياسة العدوان البريطاني في مختلف المناسبات، وهي الخطة التي اتبعتها الأغلبية الوفدية في مجلس النواب حينما اشتد هذا العدوان في يونيو ونوفمبر سنة 1924 لمناسبة حوادث السودان.
لم أكن أقصد إحراج سعد، ولكن سعدا كان لا يطيق المعارضة ويحنق عليها؛ لأنه لم يكن يريد من النواب إلا مؤيدين له. وقد زاد حنقه علي حين بدرت منه كلمة بجلسة 24 مايو سنة 1924 عدت عليه خطأ سياسيا كبيرا؛ ذلك أني وجهت سؤالا إلى وزير الأشغال «المرحوم مرقس حنا باشا» طلبت فيه العمل على وقف المشروعات التي كان الإنجليز يقيمونها في الجزيرة (بالسودان)، ولقد أجاب مرقس باشا على سؤالي في هذه الجلسة إجابة غير مطمئنة، وحصل نقاش بيني وبينه، وكان غرضي التنبيه إلى وجوب درء خطر يتهدد مصر من استمرار هذه المشروعات. ومع أن السؤال كما تحدده الأوضاع البرلمانية يجب أن يظل مقصورا بين السائل والمسئول؛ فإن سعدا تدخل في النقاش وقال موجها الكلام إلي: «هل عندكم تجريدة؟» وأراد بهذه الكلمة أن يظهر استحالة وقف هذه المشروعات.
وكانت سقطة كبيرة اتخذها خصومه مادة للطعن عليه، أما أنا فلم يزد تعليقي عليها على قولي: «كنا ننتظر أن نستمد الأمل من كلمات دولة الرئيس لا أن نسمع كلمات تبعث اليأس في النفوس.» ولكن الوفديين حملوني مسئولية تلك الكلمة وكانوا يقولون إنني أحرجت سعدا وجعلته يقولها! وهذا من أغرب ما يسمع في معرض التجني؛ فسؤالي لم يكن موجها إليه، وهو الذي أقحم نفسه في موضوع موجه إلى أحد الوزراء، وكان تدخله مفاجأة لي، فإذا كان قد أخطأ في تدخله وفي قولته هذه، فكيف أتحمل هذا الخطأ؟! (1) حوادث السودان سنة 1924 وصداها في البرلمان
وقعت أزمة سياسية في يونيو سنة 1924 على أثر منع حكومة السودان سفر وفد يمثل خيرة رجاله المؤيدين لارتباطه بمصر والمقاومين للحركة الانفصالية التي دبرها الإنجليز هناك؛ فقد منعت سفر هذا الوفد إلى مصر، ولم تكتف بذلك بل اعتقلت بعض أعضائه، وفي الوقت نفسه أخذت تستكتب صنائعها عرائض بالولاء للحكم البريطاني.
كان لهذه الأزمة صداها في مجلس النواب بجلسة 23 يونيو سنة 1924، وكانت من أهم جلسات البرلمان، تكلمت فيها، وتكلم فيها أيضا عبد اللطيف الصوفاني بك، ومما قلت في كلمتي: «إن البرلمان كما قال دولة الرئيس هو ضمير الأمة، وهو قلبها الخفاق، وفي هذه الأيام تدور حوادث خطيرة في السودان؛ إذ تقوم هناك حركتان متناقضتان: حركة طبيعية صادرة من أحشاء الشعب السوداني، وحركة مصطنعة تقوم بها السلطة الإنجليزية.
أما الحركة الطبيعية فهي التي عرفناها من التلغراف الوارد على المجلس من جماعة من رجالات السودان وذوي الرأي فيه ينادون بأنهم ألفوا وفدا بقصد الحضور لمصر لإظهار ولائهم لمصر ولمليك البلاد فمنعتهم القوة من اجتياز بلادهم ومنعتهم عن أداء هذه المهمة الوطنية.
أما الحركة المصطنعة فتدبرها السلطة الإنجليزية؛ فقد أوعزت إلى صنائعها وبعض موظفي السودان بعقد اجتماع صوري يتظاهرون فيه بالولاء للحكم الإنجليزي، فهذه حركة لا يمكن السكوت عليها لأن الحوادث التي تقع في السودان الآن إنما يقصد بها الاعتداء على حقوق مصر والسودان وعلى حقوق السيادة المصرية، وإذا قلت السيادة المصرية فلا أرمي إلى الاستعمار والتحكم، وإنما أقصد بالسيادة حقوق الولاية العامة التي يشترك فيها المصريون والسودانيون على السواء.
فإزاء هذه الحركة يجب أن نحتج ونعلن للعالم أجمع رأينا صراحة بأن الحركة التي يدبرها الإنكليز مصطنعة وأن الحركة الطبيعية هي التي ظهرت في التلغراف الوارد علينا.
سادتي: يجب أن نعلن العالم أننا أول من يهمه عمران السودان وتقدمه، وإن التاريخ شاهد على أننا كنا على الدوام عونا للعمران في السودان، وما تدعيه السياسة الإنجليزية من أن بقاء سيادتها هو لمصلحة العمران في تلك البلاد قول مكذوب؛ لأن المصريين هم الذين مدوا السكك الحديدية وشيدوا القصور والبنايات وفتحوا المدارس وشقوا الترع وأقاموا السدود والجسور على النيل وثبتوا كل دعائم العمران في السودان وضحوا في سبيل ذلك بحياتهم وأموالهم.» إلى أن قلت: «فأضم صوتي إلى الصوفاني بك وأطلب من حضراتكم أن تحتجوا على هذا العمل كما احتجت الأمة المصرية في أبريل سنة 1922 عندما أقام الإنكليز حركة مصطنعة شبيهة بهذه الحركة كان من جرائها محاكمة الضابط السوداني علي عبد اللطيف؛ لأنه لما رأى أن الإنجليز ساعون للقيام بهذه الحركة تظاهر مع جماعة من إخوانه وأعلنوا عن عواطفهم وأظهروا تمسكهم بمصر وبالولاء لعرش مصر، وأظهروا علنا أن كل هذه الحركات التي يقوم بها الإنجليز حركات مصطنعة. ومما يشجعنا على طلب الاحتجاج وعلى رجاء الحكومة بأن تقوم بواجب الاحتجاج وأن تضع حدا لهذه المسائل، أن معالي مرقس حنا باشا (وزير الأشغال وقتئذ) وقت أن كان نقيبا للمحامين تطوع للدفاع عن علي أفندي عبد اللطيف وعزم على السفر للخرطوم ولم يمنعه إلا أنه فوجئ بتلغراف ينبئه بصدور الحكم على الضابط السوداني. وأظن أن هذا الاحتجاج نشترك فيه جميعا؛ إذ لا يوجد أي خلاف بيننا، ونحن نصرح علنا بأننا نؤيد الوزارة كل التأييد في الدفاع عن حقوق مصر والسودان ونؤيدها في ذلك بكل إخلاص.»
وقد عقب سعد على أقوال خطباء هذه الجلسة بكلمة قال فيها: «تحركت مسألة السودان اليوم ولم تكن الحكومة مستعدة لأن تقول رأيها فيها، ولكني مع ذلك يمكنني أن أصرح لحضراتكم بأن الحكومة تشارككم كل المشاركة في شعوركم بالنسبة للسودان، بل تنظر بعين المقت لكل عمل من شأنه أن يفصل السودان عن مصر.
والإجراءات التي تتم الآن في السودان كما قال حضرة العضو المحترم عبد الرحمن الرافعي بك على نوعين؛ الأول: وثائق تكتب واجتماعات تعقد لإظهار الولاء للحكومة الإنجليزية والرغبة عن الحكومة المصرية، والثاني: منع الذين يريدون أن يقدموا ولاءهم للحكومة بالحضور إلى مصر. فأما القسم الأول وهو عقد الاجتماعات أو اختلاس الثقة لأجل إعلان الامتنان من الحكومة الإنجليزية؛ فإنا نصرح هنا وفي كل مكان بأنه باطل ولا يعتبر حجة علينا.
إذا قدمت هذه الأوراق أمام أي محكمة أو أي هيئة وحصل التمسك بها، فلسان مصر يقول إنها أوراق باطلة لأنها لم تؤخذ بالحرية المطلقة وأنه يجب قبل التمسك بها أن يكون السودان خاليا من كل حكومة أجنبية.
أنا في تصريحي هذا منضم إليكم فيما أعلنتم من أن هذه الوثائق وهذه الأوراق وهذه الاجتماعات لا قيمة لها مطلقا، وهذا كاف (أصوات: بدون شك).
وأما فيما يتعلق بالقسم الثاني ألا وهو منع السودانيين المخلصين، وكلهم فيما أظن مخلصون لنا، راضون عن حكمنا، راغبون في بقائنا بالسودان كإخوان لهم، معتقدون أن بلادهم جزء لا يتجزأ من مصر، أقول إن هذه الإجراءات مستنكرة، ونعلن لجهات الاختصاص بصفتنا حكومة وبصفتنا مجلس نواب استنكارنا لما يكون صحيحا منها واحتجاجنا عليها، وإني لمغتبط بأن لكم في هذه الوزارة ثقة تامة وأن تتخذ ما في وسعها لحفظ حقوق مصر في السودان.»
وانتهت المناقشة بتقديم اقتراحين، أحدهما مني، وهذا نصه: «على أثر التلغراف الذي ورد إلى مجلس النواب من الوفد السوداني الذي عزم على الحضور إلى مصر للإعراب عن ولاء السودانيين لمصر وتمسكهم بالارتباط بها، وعلى أثر الأنباء الواردة من السودان عن المناورات المصطنعة التي يقصد منها الاعتداء على حقوق مصر والسودان، يعلن المجلس عطفه على السودانيين جميعا لتمسكهم بارتباطهم الوثيق بمصر ويعلن استنكاره للمناورات المصطنعة التي يقوم بها دعاة الاستعمار في السودان، ويعلن تمسك الأمة المصرية بمبدئها الخالد وهو أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر.»
والثاني من حسين بك هلال، وهذا نصه: «بعد سماع التصريحات الحكيمة التي أبداها حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بخصوص الإجراءات غير الشرعية القائمة الآن في السودان للسعي في فصل السودان عن مصر، يكرر المجلس ثقته التامة بالوزارة ويطلب الانتقال لجدول الأعمال.»
فوافق المجلس بالإجماع على الاقتراحين معا.
وأصدر مجلس الشيوخ احتجاجا بهذا المعنى بجلسة 25 يونيو سنة 1924. (2) تصريح الحكومة البريطانية عن السودان في مجلس اللوردات
وعلى أثر تصريحات سعد باشا في مجلس النواب بجلسة 23 يونيو قامت مناقشة بمجلس اللوردات عن السودان يوم 25 يونيو، وصرح اللورد بارمور نائب الحكومة في هذا المجلس قائلا: «إن الحكومة البريطانية لا تترك السودان بحال، وهي تقدر التعهدات الواجب تحملها والتي لا يمكن تركها من غير أن تصاب سمعة إنجلترا بخسارة عظمى، وأستطيع أن أقول من غير تردد إن نظام السودان لن يسمح بتغييره ولا أن ينفذ ذلك التغيير من غير موافقة البرلمان.»
فظهر من هذا التصريح أن وزارة العمال لا تختلف عن غيرها في سياستها الاستعمارية في السودان. وقد رد سعد على هذا التصريح في مجلس النواب (بجلسة 28 يونيو سنة 1924) ضمن خطبة قال فيها: «إني بالنيابة عن الشعب المصري جميعه وفي حضرتكم الموقرة أصرح بأن الأمة المصرية لا تتنازل عن السودان ما حييت وما عاشت (استحسان وتصفيق طويل)؛ فهي تسعى للتمسك بحقها ضد كل غاصب، ضد كل معتد. تتمسك بهذا الحق في كل فرصة وفي كل زمن. تسعى بكل طريق مشروع سلكه كل مهضوم الحق لأجل أن تحفظ هذا الحق وتصل إلى التمتع به، وإن كنا في حياتنا لا نصل إلى أن نتمتع بحقنا فإننا نوصي أبناءنا وذريتنا أن يتمسكوا به ولا يفرطوا فيه قيد شعرة، وهكذا يوصون هم أبناءهم وأبناء أبنائهم، ولا بد أن يأتي يوم يفوز فيه حقنا على باطل غيرنا. إن حقوق الأمم لا تضيع ولا تتأثر بمجرد أن يقول الغاصب إني أريد أن أتمتع بها دون أصحابها، كلا، ليست هذه طبيعة الوجود، بل كل حق يبقى حيا ولا يموت ما دام وراءه مطالب، ونحن ما دمنا مطالبين بهذا الحق، وما دمنا نوصي أبناءنا بالتمسك به، وما دام أبناؤنا يقتفون خطواتنا فلا بد أن نتمتع به نحن أو هم إن شاء الله تعالى (تصفيق).»
إلى أن قال: «أما فيما يتعلق بالمفاوضات؛ فقد جاء في هذه التصريحات: إنها ستكون على أساس تصريح 28 فبراير سنة 1922.» وقد صرحت غير مرة بأنني أستنكر هذا التصريح، استنكرته خارج الحكومة، استنكرته في البيان الوزاري، استنكرته في كل مناسبة، ولا أزال أستنكره إلى الآن، وأقول إنهم وإن قالوا إننا نتفاوض على قاعدة تصريح 28 فبراير سنة 1922، فوزارتنا لا تقبل بحال من الأحوال أن تتفاوض على أساس هذا التصريح. ولقد سبق أن قلت لكم إني إذا لم أجد طريقة للمفاوضة على غير هذا الأساس فإني لا أدخل في المفاوضات أصلا، وأنا عند قولي، وقلت لكم أيضا إني إذا لم أصل إلى هذا فإني أتخلى عن الحكم، وأنا مستعد لهذا التخلي (أصوات: أبدا، حاشا) هذا ما عزمت عليه والرأي لكم (تصفيق متواصل).»
وقد عقبت على خطبة سعد بخطبة قلت فيها: «أرى واجبا علي أن أبدأ كلمتي بتوجيه جزيل الشكر والثناء إلى دولة الرئيس الجليل على تصريحاته التي فاه بها اليوم؛ لأنه عبر بهذه التصريحات عن شعور الأمة، عبر تعبيرا صحيحا عن تمسكها كل التمسك بحقوقها كاملة. سادتي: نحن في صراع مع السياسة الإنجليزية، ولسنا منخدعين في تلك السياسة ولا معتقدين البتة أن هذا الصراع ينتهي في ساعة أو في يوم، وهذا الصراع سيطول وقد يطول طويلا، ولكننا ما دمنا متمسكين بالحق فإن هذا الصراع لا بد أن ينتهي بفوز الحق وخذلان الباطل (تصفيق). وما التصريحات السياسية التي تلقى في مجالس النواب إلا سهام يتراشق بها المتخاصمون كما يترامى المتقاتلون بالقنابل في ساحة القتال؛ فهذه التصريحات التي فاه بها الساسة الإنجليز أخيرا في مجلس اللوردات إنما هي سهام يقصد منها أن تثبط من عزائمنا، ولا غرض لرجال السياسة الإنجليزية سوى ذلك، ولقد لجئوا إلى هذه الطريقة في كل مناسبة قويت فيها الحركة الوطنية؛ فإنكم تذكرون أنه عندما قامت حركتنا في سنة 1919 سمعنا في مجلس العموم ومجلس اللوردات تصريحات خطيرة أشد من التصريحات الأخيرة، ومع ذلك لم تكن تلك التصريحات القديمة لتفل من عزمنا بل تخطيناها وسرنا إلى الأمام بعزيمة صادقة ولم نكترث لها ولم نعبأ بها.» إلى أن قلت: «والآن أقول لكم إنه إذا كان الإنجليز يعتقدون أننا ضعفاء أمامهم فإن لنا قوة معنوية لا تنكر، وإننا إذا كنا ضعفاء ماديا فنحن أقوياء معنويا، ولقد برهن التاريخ على أن القوة المعنوية للشعوب تستطيع أن تهدم كل قوة مادية تعترضها. ولنذكر جميعا أن المصري هو مادة العمران في السودان، فلا يمكن بقاء العمران هناك إذا انقبضت الأيدي المصرية عن العمل؛ فقد قال لي خبير في شئون السودان عاد منه أخيرا: إن الإنجليز لا يستطيعون أن يقيموا مشروعات الري في السودان إذا لم يستخدموا العمال المصريين والأيدي المصرية، وقد جربوا مرارا أن يستخدموا عمالا صوماليين أو هنودا أو يمانيين أو جنودا فلم يستطيعوا أن يقيموا هذه المشروعات ولا أن يستمروا في العمل، والتجئوا أخيرا إلى عمال مصر وجنود مصر. ففي يدنا قوة معنوية؛ في يدنا أن نعمل عملا سلبيا وهو ألا نساعدهم على أن يعملوا ضد مصلحتنا وضد مصلحة السودانيين في تلك البلاد، وفي هذه الحالة لا أظن الإنجليز يتجاهلون قوة مصر المعنوية. أنا لا أقول إننا نلجأ إلى طرق العنف والثورة، ولكن في يدنا قوة سلبية أمضى سلاحا من طرق العنف، وقد تكون هذه القوة هي السر في تلك الحقيقة التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون وهي: «إن وادي النيل مقبرة الفاتحين من قديم الزمان» (تصفيق)، وإن هذه القوة هي مصداق الحديث الشريف: «مصر كنانة الله في أرضه فمن أرادها بسوء قصمه الله» (تصفيق).» (3) تلاحق الحوادث
على أثر إخفاق محادثات سعد-مكدونالد (سبتمبر-أكتوبر سنة 1924)، ثم استقالة سعد في 15 نوفمبر سنة 1924، فاسترداد استقالته، ثم مقتل السردار السير لي ستاك باشا في 19 نوفمبر؛ فالإنذارات البريطانية، فاستقالة سعد نهائيا، اجتمع مجلسا النواب والشيوخ في مساء 24 نوفمبر سنة 1924 في جو مضطرب مكفهر، وأعلن سعد في كلا المجلسين استقالة الوزارة واستعداده لتأييد كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد. وقرر مجلس النواب في تلك الجلسة الاحتجاج على تصرفات الحكومة البريطانية، وعهد بوضع صيغة الاحتجاج إلى لجنة ألفها المجلس من أربعة أعضاء وهم: الوكيلان حمد باشا الباسل وأحمد محمد خشبة بك «باشا»، والأستاذ مكرم عبيد «باشا»، وأنا، فوضعنا صيغة الاحتجاج، وأقره المجلس بالإجماع، وهذا نصه: «إزاء الاعتداءات الأخيرة التي وقعت من الحكومة البريطانية ضد حقوق الأمة المصرية وسيادتها ودستورها يعلن مجلس النواب: «أولا»: تمسكه بالاستقلال التام لمصر والسودان اللذين يكونان وطنا واحدا لا يقبل التجزئة. «ثانيا»: أنه بالرغم من استنكار الأمة ومليكها وحكومتها وبرلمانها للجرم الفظيع الذي ارتكب ضد المأسوف عليه السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام، وبالرغم مما قدمته الحكومة من الترضية وما اتخذته من الوسائل الفعالة لتعقب الجناة وتقديمهم إلى العدالة؛ فإنه لمما يؤسف له كل الأسف أن الحكومة البريطانية رأت أن تستغل هذا الحادث المحزن لقضاء مطامعها الاستعمارية والاعتماد على قوتها المادية للانتقام من أمة بريئة تعتمد على قوة حقها وعدالة قضيتها، فلم تقتصر على مطالبها البالغة حد الإرهاق فيما يتعلق بالجريمة نفسها بل تعدت هذه الدائرة وذهبت إلى المطالبة بسحب الجيوش المصرية من السودان، وإلزام الوحدات السودانية من الجيش المصري بحلف يمين الولاء لحاكم السودان، والتصريح بزيادة مساحة الأطيان التي تستغلها الشركات الاستعمارية البريطانية في السودان من 300 ألف فدان إلى ما لا نهاية له، وعدول الحكومة المصرية عن كل معارضة لرغبات الحكومة البريطانية فيما تدعيه من حماية المصالح الأجنبية في مصر، إلى آخر ما جاء في التبليغات الإنجليزية، ثم نفذت فعلا ما توعدت به وزادت عليه احتلال جمارك الإسكندرية معلنة أنه أول التدابير التي تنوي اتخاذها. ولما كانت هذه التصرفات منافية لحقوق البلاد لما فيها من الاعتداء على استقلالها والتدخل في شئونها والعبث بدستورها وتهديد حياة البلاد الزراعية والاقتصادية فضلا عن أن هذه الاعتداءات ليس لها أي علاقة بالجريمة ولا نظير لها في التاريخ.
فلذلك يعلن مجلس النواب المصري على ملأ العالم شديد احتجاجه على هذه التصرفات الجائرة الباطلة، ويشهد الأمم المتمدينة على تلك المطامع الاستعمارية التي لا تتفق مع روح هذا العصر وحقوق الأمم المقدسة، ويبلغ احتجاجاته برلمانات العالم، ويرفع الأمر إلى مجلس عصبة الأمم طالبا إليه التدخل في الأمر لرفع الحيف عن أمة بريئة تتمسك بحقوقها المقدسة في الحياة والحرية ولا تبغي عن استقلالها بديلا.»
وأقر المجلس هذا النص بالإجماع.
وقرر مجلس الشيوخ احتجاجا بهذا المعنى. (4) انتخابات سنة 1925
تألفت وزارة زيور باشا يوم 24 نوفمبر سنة 1924، وفي 24 ديسمبر استصدرت مرسوما بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة، وهكذا عدت إلى مأساة الانتخابات ولم يمض عام على متاعبي في المعركة الأولى. وكنت أتوقع محاربة الوفد لي في الانتخابات الجديدة بسبب مواقفي في المعارضة، فبذلت في هذه المعركة مجهودا مضنيا لا يقل كثيرا عن مجهودي في الانتخابات الأولى وإن كان أقصر منها مدى. وكان مما لجأت إليه هذه المرة أن طبعت كتابا عن «أعمالي في مجلس النواب» أوردت فيه مجموعة أعمالي نقلا عن المضابط الرسمية وأقوال الصحف، ووزعته مجانا في جميع بلاد الدائرة ليكون شفيعا لي في إعادة انتخابي، وألمعت في مقدمته إلى ما سألقاه من المحاربة في الانتخاب. ويطيب لي أن أنشر هنا هذه المقدمة لأنها تمثل صورة من أفكاري وتأثراتي ومتاعبي في الحياة السياسية، قلت:
هذه مجموعة أعمالي في مجلس النواب، أنشرها لمناسبة تقدمي للانتخاب للمرة الثانية في الدائرة التي شرفتني بالنيابة عنها في المرة الأولى: دائرة مركز المنصورة.
إن من حق كل دائرة انتخابية أن تطلب من نائبها أن يقدم لها حسابا عن أعماله، فها أنا ذا أؤدي واجب الأمانة وأقدم حسابا عن أعمالي في دار النيابة.
أتقدم للانتخاب بمشيئة الله تعالى هذه المرة لكي أواصل أعمالي في مجلس النواب وأتم المشروعات التي قدمتها ودافعت عنها وحالت الظروف بكل أسف دون إنفاذها في دور الانتخاب الأول. أتقدم للانتخاب لنفس الغرض الذي تقدمت من أجله في المرة الأولى ، وهو أن أضع مجهوداتي وقواي ومعلوماتي تحت تصرف الغاية التي تقصر دونها كل غاية وهي الاستقلال التام لمصر والسودان، مجددا العهد أن أخدم الوطن بكل إخلاص ونزاهة واستقامة بعيدا عن كل مصلحة شخصية أو غاية حزبية.
من أراد أن يحكم لي أو علي فليقرأ هذه المجموعة، وليمعن النظر في كل سطر من سطورها المنقولة عن المحاضر الرسمية لجلسات مجلس النواب، وليقرأ ما كتبته الصحف الوفدية تعليقا على أقوالي، ثم ليحكم بعد ذلك ضميره وليكن حكم الضمير نافذا لا مرد له. إني ما تقدمت للانتخابات لمصلحة شخصية، ولو كنت أوثر مصلحتي الشخصية لابتعدت عن الحياة النيابية لأني ما جررت منها مغنما، فضلا عن أنها عادت علي بأضرار يعرفها الكثيرون، ولكني احتملت هذه الأضرار وإني مستعد لأن أحتمل مثلها وأضعافها بالصبر والرضا والارتياح لأن في أعناقنا جميعا أمانة الوطن، وليس من صدق الوطنية أن يتردد الإنسان في احتمال هذه الأمانة. أتقدم للانتخابات وأنا عالم بأن قوما قد اعتزموا أن يحاربوني ويلقوا في طريقي ما شاءوا من العقبات، فإلى هؤلاء السادة الأماجد أقول لهم: إني لست حريصا على الانتخابات بمقدار حرصي على الدفاع عن المصلحة الوطنية وعن الحقيقة والتاريخ.
فها أنا ذا أنشر على الملأ صحيفة أعمالي في مجلس النواب، فهي حجتي أمام ناخبي الذين شرفوني بثقتهم، وهي حجتي أمام الناس، أمام خصومي وأصدقائي على السواء، وهي حجتي أمام التاريخ. أنا لا أذكر في هذه المقدمة أعمالي في المجلس، وحسبي أن يقرأها المنصفون مدونة في هذه المجموعة، ولا أزكي نفسي، ولكن أقول فقط كلمة صغيرة للذين عزموا على أن يحاربوني في الانتخابات: أيها السادة، ألم تشتركوا في آخر جلسة من جلسات البرلمان في القرار الإجماعي الذي أصدره المجلس باختياري مع الأستاذ مكرم عبيد بك لوضع احتجاج المجلس على اعتداءات السياسة الإنجليزية بعد حادثة السردار وكان القرار مبنيا على «اختيار اثنين موثوق بهما ثقة تامة بالإجماع.» فإذا كنت أنا الضعيف موضع هذه الثقة في أشد الأوقات حرجا، فكيف أكون الآن، ولم يمض شهر على هذه الشهادة الإجماعية، موضع الطعن والتشهير؟! ألم تكن هذه الشهادة نتيجة أعمالي في المجلس؟ إني أترك لضمائركم تقدير هذا الموقف وإني واثق بأنكم ستجيبون غدا أو بعد غد صوت الحق والضمير.
إني واثق من حكم الضمائر إذا حكمت، وإني مطمئن لأني أديت واجبي، وسيحكم التاريخ، وسيحكم الله وهو خير الحاكمين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
عبد الرحمن الرافعي
المنصورة في 5 يناير سنة 1925
شهداء الانتخابات.
وقد رشح الوفد ضدي هذه المرة الأستاذ السعيد محمد سبع «بك» (وكيل مدير مصلحة الأملاك الآن 1951) وفزت عليه بأصوات قليلة، ولم يكد المجلس الجديد يجتمع يوم 23 مارس سنة 1925 حتى حل في اليوم نفسه فضاعت مجهوداتي في الانتخاب سدى.
وقد عطلت الحياة النيابية بعد هذا الحل نحو ثمانية أشهر، إلى أن عادت على أثر اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة 1925، وأعقب هذا الاجتماع ائتلاف الأحزاب ثم انعقاد المؤتمر الوطني ثم انتخابات سنة 1926.
صدمة سنة 1926
(1) شهداء الانتخابات
أصبت في حياتي بصدمات كثيرة لا أريد أن أشغل القارئ بها. على أن أشد صدمة أصابتني وقعت لي سنة 1926.
كانت هذه السنة في مجموعها فوزا للأمة، وقد تحدثت عن تفاصيل هذا الفوز في الفصل الحادي عشر من كتابي «في أعقاب الثورة» (ج1) تحت عنوان «اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه وعودة الحياة الدستورية».
أما بالنسبة لي شخصيا، فكانت هذه السنة صدمة بل محنة كادت تودي بي لولا أن أعانني الله عليها بالصبر والثبات.
كانت عودة الحياة الدستورية نتيجة لدعوة المرحوم أمين بك الرافعي إلى اجتماع البرلمان المنحل من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة 1925، وقد ساهمت في نجاح هذه الدعوة بصفتي عضوا في مجلس النواب المنحل وشقيقا لصاحب الدعوة، واجتمع البرلمان فعلا في فندق الكونتننتال يوم السبت 21 نوفمبر سنة 1925 برياسة سعد، وكان هذا الاجتماع أول خطوة نحو استئناف الحياة الدستورية وعودة الوحدة إلى الصفوف وائتلاف الأحزاب القائمة وقتئذ وهي الوفد والحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين ، وتم الاتفاق بين الأحزاب الثلاثة على الدخول في المعركة الانتخابية التي أسفر عنها انعقاد المؤتمر الوطني متفاهمة غير متحاربة، متعاونة غير متنازعة. وكان ظني ألا أجد العناء الذي وجدته في انتخابات سنة 1924، أو انتخابات سنة 1925؛ فإنها في الحق قد أضنتني وأرهقتني، وكان من حقي أن أستريح في معركة سنة 1926؛ فإن الائتلاف قد أراح معظم الأعضاء البارزين من الأحزاب حتى فاز أكثرهم بالتزكية. وقبل أن يتم اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه قابلت سعدا في منزله مع حافظ رمضان بك «باشا» والدكتور عبد الحميد سعيد، وعرضنا عليه أن يؤيد الفكرة ويصدر تعليماته إلى نواب الوفد وشيوخه بحضور الاجتماع، فتلقى الفكرة بالارتياح والتحبيذ وأحسن مقابلتنا وتبسط في الحديث والتفكه معنا، وانصرفنا مغتبطين مبتهجين، ولكن بعد اجتماع البرلمان وتصافي الأحزاب وتبادل الاجتماعات بينها، جاء دور توزيع المقاعد، ففوجئت بأن الوفد يعارض في ترك دائرة «مركز المنصورة» لي وأصر على أن تكون من دوائر الوفد أي على انتزاعها مني. (2) الوفد يصر على إقصائي
فحدثت أزمة بين الوفد والحزب الوطني بسبب هذا الموقف نحوي، ورأى الحزب أن في قبول هذا الوضع إذلالا له وخذلانا لعضو بارز من أعضائه انتخب مرتين عن هذه الدائرة وأدى واجبه ورفع صوت مبادئ الحزب في البرلمان. وفاتحني إخواني في أن ننقض الائتلاف ما دامت النيات قد بدت غير سليمة إلى هذا الحد، فلم أوافقهم على اقتراحهم، وأبيت أن تكون مسألتي سببا لنقض الائتلاف ولما يجف المداد الذي كتبت به وثيقته في اجتماع الكونتننتال، ورأيت من الأحرار الدستوريين مسايرة للوفد في إقصائي عن البرلمان، ونصحوا أقطاب الحزب الوطني بالتساهل في مسألتي؛ ولم يكونوا في حاجة إلى هذه النصيحة لأنني أنا نفسي قد نصحتهم بذلك من قبل. على أنه قد آلمني من الأحرار الدستوريين تهوينهم لشأني إلى هذا الحد، وقد كنت أحمل عنهم عبء المعارضة في مجلس النواب الأول، وكانوا يتخذون من مواقفي مادة لحملاتهم على الوفد، ثم بعد أن وفقنا بينهم وبين الوفد خذلوني إرضاء للوفد!
وقد سويت الأزمة تسوية شكلية بأن جعلت دائرة مركز المنصورة من الدوائر التي خصصت للوفد،
1
مع «استثناء» ثلاث دوائر منها؛ فقد اتفق على أنه «يجوز للحزب الوطني منافسة الوفد فيها.» ومن هذه الدوائر الثلاث دائرة مركز المنصورة، وكلمة «يجوز» وعبارة «استثناء» توحيان إلى الذهن أن كلا من هذه الدوائر الثلاث هي أصلا من الدوائر التي خصصت للوفد ولكن «يجوز» للحزب الوطني منافسة الوفد فيها. وقد رأيت أن هذه الصيغة تضعف مركزي في الانتخاب؛ لأن أقل ما أواجه به أن هذه الدائرة قد خصصت للوفد باتفاق الأحزاب وقد أجيز للحزب الوطني منافسته فيها، فهي بذلك من حق الوفد ومن حق مرشح الوفد ولكن من باب المجاملة أجيز لمرشح الحزب الوطني مزاحمة مرشح الوفد فيها.
وفهمت من ملابسات هذه الأزمة أن الوفد رغم الائتلاف لم ينس لي مواقفي في المعارضة في البرلمان، فأصر على إقصائي عن دار النيابة، وتم له ما أراد. وقد درست موقفي في الدائرة مع لفيف من أنصاري فيها، وبحثنا فيما يكون لهذا القرار من أثر في احتمال نجاحي أو سقوطي في الانتخاب، فرجح معظمهم سقوطي، وبخاصة لأن انتخابات هذه السنة (1926) كانت أول انتخابات تجرى على درجة واحدة، أي على نظام الانتخاب المباشر، ومن الصعب إقناع نحو عشرة آلاف ناخب بأني أكفأ وأفضل من مرشح الوفد؛ إذ كان لترشيح الوفد في ذاته أثر كبير في نفوس الجماهير في ذلك الحين، هذا إلى أن قرار الأحزاب المؤتلفة جعل هذه الدائرة من حق مرشح الوفد بصفة أصلية. وقد ظللت زهاء شهر تقريبا حائرا مترددا بين خوض المعركة أو الانسحاب منها، إلى أن جاء موعد إقفال باب الترشيح للانتخاب وكنت على ترددي إلى آخر لحظة.
وأخيرا رجحت عندي كفة الانسحاب عاملا بالمثل المشهور «بيدي لا بيد عمرو»، وكان هذا القرار من أشق الأمور على نفسي لأن معناه إقصائي عن دار النيابة وعن الحياة البرلمانية، وكم كان ألمي شديدا حين تصورت أن هذا الإقصاء هو المكافأة التي جوزيت بها على حسن قيامي بواجبي في البرلمان، بل المكافأة على إخلاصي وخدماتي للبلاد طيلة السنوات التي قضيتها في الجهاد الخالص لله والوطن! وفهمت أن المعارضة مكروهة في بلادنا، وأن تظاهر السياسيين والحكام بأنهم يعتبرونها ضرورية لاستقامة الحياة الدستورية هو كلام في كلام، وأنهم يبغون من البرلمان أن يكون أداة تحبيذ وتأييد لجميع تصرفاتهم سواء أكانت على حق أو على باطل، ومن يعارضهم ولو كان على الحق فالويل له مما يصنعون!
تألمت من هذا الوضع، وزاد في ألمي أني لم أجد من يواسيني في هذه المحنة ولا من يعطف علي إلا قلة من الناس حفظت لهم جميل مواساتهم لي في تلك الأوقات العصيبة، ورأيت - وهذا ما لم أكن أتوقعه - شماتة من بعض الناس، وخاصة من الطبقة الممتازة، وعلى الأخص ممن لم أسئ إلى أحد منهم قط، ولست أدري على وجه التحقيق ما هو سبب هذه الشماتة وما سرها! ولقد عددتها عيبا من عيوب المجتمع، ومن أهم العوائق في سبيل تقدم الأمة ونهوضها. ومن الحق أن أقول إني رأيت من الطبقات غير المتعلمة وغير الممتازة عكس هذا الشعور، رأيت منهم شعور التقدير لي والعطف علي، كنت أسمع هذا في أحاديثهم وأقرؤه في نظراتهم. فعجبت كيف يغلب الوفاء وتتجلى الفضائل في الطبقة غير المتعلمة دون الطبقة المثقفة المهذبة، ومن يومئذ ازددت إيمانا بالطبقات الجاهلة من الشعب؛ إذ رأيت فيها من الخير ما يعوز الطبقات الممتازة وشبه الممتازة.
ورأيت بعض أصدقائي الوفديين لا يقرون ما فعله الوفد معي، وكانوا يظهرون لي شعورهم؛ إذ يذكرون أني وقفت إلى جانبهم في أوقات الشدة أناضل عنهم وأختصم الأقوياء من أجلهم، ثم إذا عادت لهم الدولة جازوني على حسن صنيعي معهم جزاء سنمار، ولكن هكذا الحياة السياسية في بلادنا، وربما في غير بلادنا أيضا، فيها الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحقد والحسد، والغدر والجحود، والدس والالتواء، والكذب والخداع، وما إلى ذلك ...
وقد أعرب لي صديق من الوفديين عن شعوره نحوي، وأخذ يذكرني بما كان ينصحني به منذ سطع نجمي (كذا تعبيره) في البرلمان؛ إذ أشار علي بانتهاز أي فرصة لأنسحب من المعارضة وأنضم إلى صفوف الوفد قائلا لي إن مستقبلا باهرا ينتظرني إذا أنا أقدمت على هذه الخطوة. وعندما كنت أجيبه بأنني في المعارضة لا أهاجم وزارة الوفد ولا أعمل على إحراجها بل إني أسلك في معارضتي سبيل الاعتدال والهوادة كما ترى مني، كان يقول لي إن المعارضة في ذاتها مكروهة في البلاد التي لم تألف بعد الحرية والنظم الديمقراطية. وكانت تنتهي أحاديثنا دائما على غير اتفاق. وعندما ذكرني بهذه الأحاديث في سنة 1926 لم أزد في جوابي له عن الشكر؛ إذ رأيتني أوثر السكوت والصمت في تلك المحنة، وما فائدة الكلام؟ ومع من كنت أتكلم؟ وهكذا انسحبت من الحياة البرلمانية، أو بعبارة أوضح أقصيت عنها مرغما سنة 1926، وظللت مبعدا عنها ثلاث عشرة سنة إلى أن عدت إليها عضوا منتخبا لمجلس الشيوخ سنة 1939، ثم أقصيت عنها مرة أخرى سنة 1951.
أثرت تلك المحنة في صحتي، ولم يكن هذا ضعفا مني ولا يأسا، ولكنه رد فعل للتأثرات النفسية التي لا قبل للإنسان على دفعها؛ فالمرء يستطيع أن يصبر ويستطيع أن يتجلد ولكن هذا لا يمنعه من أن يتألم، وما أحق المجاهد بالألم إذا هو رأى من مواطنيه تنكرا له حيث ينتظر منهم التقدير، وحربا عليه حيث ينتظر التعضيد والتشجيع! وظللت أشهرا عدة أعالج هذه الحالة النفسية وألتمس مخرجا من هذا الضيق، وخاصة عندما تذكرت مصير إخوان لي في الجهاد برح بهم الألم في مثل هذه الظروف فأودى بحياتهم؛ فإني على يقين من أن سقوط عبد اللطيف بك المكباتي في انتخابات سنة 1924، وعبد اللطيف بك الصوفاني في انتخابات سنة 1925، وأحمد بك لطفي في انتخابات سنة 1926، كان من الأسباب التي عجلت بوفاتهم في السنوات التي سقطوا فيها. حقا إن لكل أجل كتابا، ولكن الأسباب مرتبطة بمسبباتها، والنتائج مرهونة بمقدماتها.
وقد أوجد الله لي مخرجا من هذه المحنة، فألهمني أن أشغل نفسي بعمل استغرق معظم تفكيري وجهودي، وصرفني وقتا طويلا عن الحياة البرلمانية، وهو تأريخ الحركة القومية.
كيف أرخت الحركة القومية؟
أحببت التاريخ منذ صباي، وكنت ولا أزال أراه مدرسة لتقويم أخلاق الشعب والنهوض بتربيته السياسية والقومية، وزاد تعلقي به أني رأيت فيه على ضوء التجارب وسيلة ناجعة لتثقيف العقول ورفع مستوى الوطنية والوعي القومي في النفوس؛ فلقد تكشفت لي مع الزمن نقائص كثيرة في مجتمعنا وفي أخلاقنا وثقافتنا. لمحت على تعاقب الحوادث ضعفا في مستوانا الوطني، ونقصا في وعينا القومي، فكرت في الوسائل لعلاج هذا الضعف وتدارك هذا النقص، فوجدت أن التاريخ وسيلة تلجأ إليها أرقى الأمم لتربية الأخلاق وتثقيف العقول وغرس روح الوطنية في النفوس. ومن هنا جاء تعلقي بالتاريخ، أردت أن أجعل منه مدرسة للنهوض بالمجتمع، وجدت أن عقول الشباب والشيوخ لا تتلقى الدعوة الصالحة بحسن القول ولا تتعرف الحقائق إلا إذا تقدم الوعي القومي وعرف المواطنون أحوال بلادهم على حقيقتها وكيف تطورت في مختلف مراحلها، فعلى ضوء التاريخ يكونون أكثر صلاحية لقبول الأفكار السليمة وفهم الحقائق في الشئون العامة. وإذا كان القصص وسيلة من وسائل نشر المبادئ الصالحة والأفكار السامية والعواطف النبيلة، فأجدر بالتاريخ وهو قصة واقعية أن يكون وسيلة للنهوض بالعقول والأفكار، ونضج القرائح، والسمو بأخلاق الجيل، وتوجيه المواطنين إلى المثل العليا في الحياة القومية.
عنيت من التاريخ أكثر ما عنيت بتاريخنا القومي، وأقصد به تاريخ مصر كوطن، وتاريخها كأمة لها أهداف عليا تنشدها، فهو يتناول تاريخها السياسي، وتاريخها الحربي، وتاريخها الاقتصادي، وتاريخها الاجتماعي والثقافي. وأيقنت أن من واجبنا أن نعلم الشعب بمختلف طبقاته تاريخ بلاده في هذه النواحي، وأن نبدأ بتعليم أنفسنا؛ أي بتعليم الطبقة المثقفة والممتازة تاريخنا القومي، لأني أرى مع الأسف أن هذه الطبقة حتى التي بيدها مصاير البلاد لا يعرف كثير من أفرادها من هذا التاريخ إلا قشورا سطحية لا تصل إلى اللباب، وهذا النقص هو من أسباب تبلبل الأفكار وارتجال الآراء وتأخر الوعي القومي عندنا. فعلينا أن نعلم الشعب تاريخ بلاده، وبذلك يقدرها حق قدرها ويزداد تعلقا بها ويفهمها حق الفهم في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ولعمري ليس الحاضر في الغالب إلا استمرارا للماضي ونتيجة مرتبطة بمقدماتها ، وكذلك شان المستقبل فهو وثيق الصلة بالحاضر والماضي. حقا قد يكون الحاضر خروجا على الماضي وإصلاحا له وأحيانا يكون انقلابا عليه، ولكن لا بد من فهم هذا الماضي لكي نتعرف نقائصه فنخرج عليها ونفتتح عهدا جديدا من النهضة والإصلاح، وهذا وذاك لا يكون إلا إذا عرفنا تاريخ بلادنا ومبلغ صلته بحاضرها ومستقبلها. ولا غرو فالشعب كائن حي، يتطور وينمو ويتسلسل في حياة أجياله، والأجيال في حياة الأمم كمراحل العمر في حياة الإنسان، مع هذا الفارق بينهما، وهو أن الإنسان مصيره إلى زوال، أما الأمم الجديرة بهذا الاسم فباقية خالدة لا تزول، تتجدد على الدوام في حياة أجيالها المتعاقبة.
فعلينا نحن الذين أوتينا شيئا من العلم والمعرفة أن نعلم الشعب تاريخه لننشئ فيه وعيا قوميا، ونغرس فيه روح الوطنية؛ لأن الشعب كلما ازداد معرفة بتاريخ بلاده ازداد حبا لها، وإذا أحبها أخلص لها، وإذا أخلص المواطنون لبلادهم بذلوا كل ما في مقدورهم لإسعادها ورفعة شأنها، وهذا هو معنى الوطنية، ومن هنا قالوا إن التاريخ مدرسة للوطنية.
كل هذه الخواطر والمعاني كانت تتردد في نفسي وتحفزني إلى أن أؤرخ لهذا الشعب في عصره الحديث، ولم يكن لدي بادئ الأمر برنامج واسع شامل لهذا التاريخ، بل أردت أن أتخير بعض مراحله فأؤرخها دون أن أتقيد بسلسلة متماسكة الحلقات تضم هذه المراحل.
فكرت منذ عدة سنين سبقت سنة 1926 في أن أضع تاريخا للزعيم مصطفى كامل، باعتبار أنه باعث الحركة الوطنية الحديثة، ولكني رأيت أن تاريخ مصطفى كامل يستتبع الكلام في مبدأ ظهور الحركة القومية والتطورات التي تعاقبت عليها، فأخذت أدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لأقف عند حد يصح اعتباره مبدأ الحركة القومية. رجعت إلى الثورة العرابية، فإذا بها ترجع أسبابها ومقدماتها إلى الحركة الفكرية والسياسية التي ظهرت في عهد إسماعيل، وهذه الحركة الأخيرة لم تظهر فجأة ولم تكن الأولى في تاريخ مصر القومي الحديث، بل هي تطور جديد للروح القومية التي بدأت تظهر في البلاد منذ أواخر القرن الثامن عشر، فإلى هذا العهد يجب أن نرجع بمبدأ الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، وانتهيت إلى أن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر. ومن ثم تطورت الفكرة عندي من تأريخ مصطفى كامل إلى تأريخ أدوار الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، فترامت شقة البحث، وتشعبت مسالك الدرس، واستشعرت ضخامة العمل إذا أردت أن أتمه على الوجه الذي أبتغيه، فأرجأته سنة بعد أخرى.
وفي سنة 1914 بدأت أدون مذكرات عن حوادث مصر المعاصرة تكون مادة لي عندما أؤرخ الحركة القومية، وقد ضبطت هذه المذكرات قبيل اعتقالي في أغسطس سنة 1915، ثم أعيدت إلي بعد الإفراج عني سنة 1916، وشغلتني الحوادث بعد ذلك عن تنفيذ فكرتي، على أني لم أدع التهيؤ لها واستكمال عناصرها ومراجعها وأصولها.
وفي سنة 1922 أخرجت كتاب «الجمعيات الوطنية» كمقدمة لدراسة الحركة القومية، ومرت الأيام والسنون والمشروع لا يزال في حيز التحضير والتفكير، أتهيب تنفيذه خشية عدم إمكاني إخراج حلقاته كلها حلقة بعد أخرى، وأخذت أؤجل وأسوف، إلى أن أبعدت عن الحياة البرلمانية سنة 1926 وانقطعت صلتي بها وأصبحت «عاطلا» من العمل الذي أعددت نفسي له منذ صباي.
فماذا تراني أفعل؟ أأسترسل للهموم وخيبة الأمل؟ أم أغير مسلكي في الحياة وأفهمها على حقيقتها كما يقولون؟ أم أنصرف عن خدمة الشعب ما دام قد خذلني وصارحني بأنه لا يريدني معبرا عن آماله مدافعا عن حقوقه وأهدافه؟
كل هذه التخيلات لم تقبلها نفسي؛ إذ ما ذنب الشعب؟ أليس هو مسوقا بقادته وزعمائه وكبرائه وذوي النفوذ فيه، متأثرا ببعض الحوادث التي تنتابه دون أن تكون له إرادة في وقوعها؟ وكثير منها قد تضل في غمراتها العقول والأفهام؟
كان لا بد لي من عمل يشغلني ويستأثر بذهني فلا يدع لي مجالا للتفكير في سواه، وبذلك تتضاءل في نفسي صور الحوادث التي همتني وآلمتني ولا يبقى في ذهني مجال للبحث في تغيير مسلكي في الحياة ونظراتي إليها. فاعتزمت أن أنقطع إلى جانب عملي في المحاماة لتنفيذ الفكرة التي كانت تعاودني من سنة إلى أخرى، وهي تأريخ الحركة القومية لمصر الحديثة، وقد اقتضى مني هذا العمل أن أتفرغ له تفرغا شاملا لأن تأريخ هذه الحركة - منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم - أمر يكتنفه كثير من الصعوبات وخاصة لمن يريد أن يتفهم الحوادث ويتحرى الحقائق فيما يكتب ويدون.
وإذ رجعت بالدور الأول من أدوار الحركة القومية إلى المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر، فقد اقتضاني هذا الوضع أن أتعمق في دراسة حالة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل هذه الحملة وفي أثنائها، وأن أجعل الكتاب شاملا لتاريخ مصر القومي الحديث منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم، مبحوثا ومعروضا على ضوء الحركة القومية؛ لأن عقيدتي أن التاريخ الحقيقي للأمم هو تاريخ نهضاتها القومية فهي أساس وجودها ومبعث تطورها. وازددت اعتقادا مع الأيام والأعوام بالتلازم التام بين تاريخ الأمة وتاريخ نهضتها، ومن هذا التلازم يتألف التاريخ القومي، والنهضة القومية هي معالم لهذا التاريخ وينبوعه الفياض، وما التاريخ القومي إلا كالمرآة تنطبع عليها صور النهضة وأطوارها، وحوادثها وأبطالها، وتقدمها وتراجعها، وأفراحها وأحزانها، وآمالها وآلامها.
وقد تشعبت أمامي المراجع التي تبلغ مئات الكتب والمؤلفات والتقارير والمذكرات وما إلى ذلك في كل مرحلة، بل في كل موضع من مواضع البحث، وكان لا بد لي أن أدرسها كلها، وهذا يقتضي فوق الجهد والعناء صبرا وجلدا، على أني أحمد الله على أن وفقني إلى كليهما. (1) ظهور الجزء الأول (1929)
ظهر الجزء الأول من هذا التاريخ في أول يناير سنة 1929؛ أي إنني سلخت نحو ثلاث سنوات في إخراجه منذ شرعت في تنفيذ الفكرة، وعدة سنوات سابقة منذ خالجتني كأمل أبتغي تحقيقه.
بدأت في طبع هذا الجزء يوم 10 يونيو سنة 1928 في مطبعة النهضة لصاحبها المرحوم محمود أفندي حمادة بشارع عبد العزيز، وكان رجلا أمينا مستقيما، وكنت أعرفه منذ كان رئيسا لمطبعة جريدة «الأخبار» في عهد أخي المرحوم أمين بك، وأنجز طبعه وتغليفه (تجليده) في أواخر ديسمبر سنة 1928.
يشتمل هذا الجزء على دراسة نظام الحكم في عهد المماليك، والحالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد قبل مجيء الحملة الفرنسية، ثم أسباب هذه الحملة ومقدماتها ووقائعها وأحداثها الأولى، ووقائع المقاومة الأهلية التي اعترضتها في مختلف أنحاء البلاد من الإسكندرية إلى أسوان، ونظم الحكم التي أسسها نابليون وأثرها في تطور الحوادث، وتاريخ مصر القومي في هذا العهد. (2) الجزء الثاني
وفي أواخر ديسمبر سنة 1929 أخرجت الجزء الثاني، مشتملا على تاريخ مصر القومي من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد، ومن جلاء الفرنسيين إلى ارتقاء محمد علي الكبير أريكة مصر يوم 13 مايو سن 1805، وجعلت ولايته الحكم ثمرة من ثمرات الحركة القومية، وأوضحت على ضوء الوقائع أن العامل القومي الذي بدأ يظهر على مسرح الحوادث السياسية خلال الحملة الفرنسية ظل محتفظا بقوته بعد جلاء الفرنسيين، فلم يستطع الترك ولا المماليك ولا الإنجليز أن يهزموه أو يقهروه أو يبعدوه عن الميدان، وكان من نتائجه بعد انتهاء الحملة الفرنسية ثورة الشعب على حكم المماليك، ثم على الوالي التركي، ثم المناداة بمحمد علي واليا مختارا على مصر؛ فمصر هي التي خلقت محمد علي، وفي ذلك قلت عن يوم 13 مايو سنة 1805: «هذا هو اليوم المشهود الذي تولى فيه محمد علي باشا حكم مصر بإرادة الشعب، وهو من الأيام التاريخية المعدودة في تاريخ الحركة القومية؛ ففيه تم انقلاب عظيم في نظام الحكم، فيه وضعت مصر لنفسها أساس حريتها واستقلالها، فيه أعلنت عن حقها في تقرير مصيرها، فيه تجلت سلطة الأمة ممثلة في أشخاص زعمائها وذوي الرأي فيها، تجلت سلطة الأمة في خلع الوالي الذي لم ترتض حكمه وإسناد ولاية الأمر إلى من انتخبه زعماء الشعب ووكلاؤه. وتلك أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل الوالي ويختار بدله بقوة الشعب وإرادته؛ فقد كان الولاة يعزلون بقوة الجند وإرادة رؤسائهم من المماليك، لكن هذه المرة كان الانقلاب شعبيا فوقع بإرادة الشعب وبقوة الشعب، ثم انتخاب محمد علي للولاية على الرغم من صدور الفرمان السلطاني بإسناد ولاية «جدة» إليه . وكان معروفا أن الحكومة التركية تؤيد خورشد باشا وتناصره في موقفه، فخلع خورشد وانتخاب محمد علي واليا على مصر فيه معنى الاستقلال عن الحكومة التركية ومقاومة تدخلها في حكم مصر. ويمتاز هذا الانقلاب بأنه لم يكن مقصورا على مجرد انتخاب وكلاء الشعب لولي الأمر، بل كان مقرونا باشتراطهم أن يرجع إليهم في شئون الدولة، فوضعوا بذلك قاعدة الحكم الدستوري في البلاد. وثمة ميزة أخرى أكسبت ذلك الانقلاب بهاء وجلالا، ذلك أنه تم في دار المحكمة، في ساحة القضاء، فاتخذ معنى الاحتكام إلى العدالة والتمسك بالحق، وهي فكرة جليلة امتازت بها الثورة المصرية، ولا نظن ثورة أخرى غربية أو شرقية تسامت إلى هذا المعنى البديع. فالثورة إذا كان قوامها المطالبة بالحق والاحتكام إلى العدل، كان أساسها الحق ومن ورائه قوة الشعب تسنده وتؤيده، وما أحوج الثورات والحركات القومية إلى أن تحافظ في كل أدوارها على معاني الحق والعدل والنزاهة؛ فإنها بذلك تسلم من الانحدار في مهاوي الرذيلة والفساد والفوضى والطغيان.» (3) عصر محمد علي
أصدرت هذا الكتاب في ديسمبر سنة 1930، وهو الحلقة الثالثة من هذه المجموعة، وقد اقتضى مني جهدا أكبر من الجهد الذي بذلته في إخراج الجزأين الأول والثاني من تاريخ الحركة القومية، لأهمية العصر الذي تولى فيه محمد علي الكبير حكم مصر، وطول مدته، وعظم وقائعه ومنشآته، ونتائجه وآثاره الضخمة في حياة مصر السياسية والقومية. وكانت المراجع فيه أوسع مدى وأكثر عددا من مراجع الحملة الفرنسية، يضاف إليها الدوريات والوثائق التي لا بد من الرجوع إليها. وقد جعلت عصر محمد علي دورا من أدوار الحركة القومية؛ إذ إن الحركة القومية كما عنيتها وجعلتها أساس البحث والتدوين هي «الجهود التي بذلتها الأمة في سبيل تحرير مصر من النير الأجنبي وفك قيود الاستبداد عنها وتقرير حقوق الشعب السياسية، هي التضحيات التي قدمتها والآلام التي احتملتها في سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة.» وقلت تعقيبا على هذه الحقيقة في مقدمة الكتاب: «على هذا الاعتبار يجب أن نعد عصر محمد علي صحيفة مجيدة من صحائف الحركة القومية، ففيه نشأت الدولة المصرية الحديثة، وفيه تحقق الاستقلال القومي وشيدت الدعائم الكفيلة بالقيام به، فيه تأسس الجيش المصري والأسطول المصري والثقافة المصرية، وفيه وضعت أسس النهضة العلمية والاقتصادية في البلاد؛ فهو عصر استقلال وحضارة وعمران.»
وقد أبرزت فضل الشعب وفضل محمد علي معا في تحقيق استقلال مصر ونهوضها في مختلف النواحي، وعنيت بتمجيد روح البذل والتضحية في الجيل الذي عاش في عصره، وقلت في هذا الصدد: «إن استقلال مصر كان ثمرة الحروب التي خاضت غمارها في عصر محمد علي، تلك الحروب التي بذلت فيها الأمة أرواح عشرات الآلاف من زهرة أبنائها، من أولئك الأبطال المجهولين الذين جاهدوا واستشهدوا في ميادين القتال وسقوا أديم الأرض بدمائهم في ربوع مصر والسودان، وفي صحاري جزيرة العرب، وجبال كريت والمورة، وبطاح سورية والأناضول، وفي قاع اليم بمياه اليونان، أو على سواحل مصر والشام. فلا جرم أن كان الجيل الذي عاش في عصر محمد علي هو أكثر الأجيال عملا وتضحية في سبيل تكوين مصر المستقلة؛ فعلى أكتافه وبجهوده وضحاياه قام صرح الاستقلال عالي الذرى، وهو الذي نهض بالأعمال الأولى لحضارة مصر وعمرانها، فشق الترع، وأقام القناطر والجسور، وشاد المدارس والمعاهد، وبنى العمائر والدواوين والقصور، وأنشأ الموانئ ودور الصناعة (الترسانات)، واستحدث المعامل، وشيد القلاع والاستحكامات، وبذل في سبيل تلك المنشآت راحته وحياته. ويكفيه فضلا في ميدان التضحية أنه أنشأها وبناها عاملا على السخرة دون أن ينال على جهوده أجرا ولا جزاء ولا شكورا، وأن عشرات الآلاف من بنيه قد ماتوا تحت أعباء المجهودات المضنية التي احتملوها في سبيل إتمام تلك الأعمال المجيدة. فإذا قارنت بين جهود ذلك الجيل وتضحياته وما بذلته الأجيال المتعاقبة من بعده إلى اليوم، حكمت من غير تردد أنه أكثر الأجيال بذلا ومساهمة في أعباء الجهاد القومي وأكثرها تضحية بالنفس والروح والمال في سبيل استقلال مصر وعمرانها، فهو جدير بأن تنحني الأجيال المصرية احتراما لذكراه، وتقديرا لفضله؛ لأنه عمل لها جميعا، وبذل راحته ودمه وحياته، واحتمل ما احتمل من جهد وحرمان ليعبد لها الطريق كي تجني ثمار جهوده وتضحياته وآلامه. والحقيقة البارزة التي تخلص لك من إنعام النظر في تاريخه أن عبقرية محمد علي يرجع إليها الفضل الكبير في تنظيم ذلك الجهاد واستثماره وتوجيهه إلى خير مصر وعظمتها، كما أن مواهب الأمة المصرية وحسن استعدادها للتقدم وماضيها في الحياة القومية، كل أولئك كان مادة الاستجابة لدعوة محمد علي، ومن جميعها تكون الفلك النوراني لتلك النهضة التي سطعت شمسها في عصره. فلو أنه تولى الحكم في بلد آخر من بلدان السلطنة العثمانية وقتئذ لدفنت فيه عبقريته، ولما استطاع أن يشيد ذلك الملك الضخم، ولا أن ينهض بتلك المشروعات والأعمال الجليلة، ولكانت نهايته لا تختلف كثيرا عن خاتمة الباشوات الذين شقوا عصا الطاعة على السلطنة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر وخلال التاسع عشر. ولكن تأييد الشعب له ومناصرته إياه عند اشتداد الأزمات، كان لها الفضل الأكبر في ثبات ملكه وتغلبه على الدسائس والعقبات التي اعترضته في طريقه. وحسبك تبيانا لهذه الحقيقة أن تلقي نظرة على مباحث هذا الجزء (الكتاب) وأن ترجع إلى الفصول التي أفردناها للكلام عن الجيش والأسطول وأعمال العمران، تجد أن على سواعد المصريين قد قام ذلك الملك العريض وتمت تلك المنشآت العظيمة، وأن محمد علي لم يستطع إنشاء الجيش النظامي من العناصر غير المصرية التي كانت تتألف منها القوة الحربية في أوائل حكمه لما فطرت عليه من التمرد والفوضى، ولم يوفق إلى تأسيس ذلك الجيش الذي تفخر به مصر في تاريخها الحديث إلا بعد أن ألفه من صميم المصريين.» (4) عصر إسماعيل
في ديسمبر سنة 1932 أخرجت كتاب «عصر إسماعيل» ويشتمل على تاريخ مصر القومي في عهد خلفاء محمد علي، وهو في جزأين، يحتوي الأول على عهد عباس وسعيد وأوائل عهد إسماعيل، ويتضمن الثاني ختام الكلام عن عهد إسماعيل، وقد أسميت الكتاب «عصر إسماعيل» تغليبا للجزء الأهم في هذه الفترة من تاريخ مصر الحديث.
بدأت بهذا الكتاب أدخل في العصر الذي يشعر فيه من كان في موقفي بشيء من الحرج في الكتابة عنه؛ فقد وضعته وأخرجته في الوقت الذي كان المغفور له الملك فؤاد نجل إسماعيل في أوج مجده وسلطانه، وكنت أعلم مبلغ اهتمامه بتمجيد تاريخ والده والتعظيم من شأنه. وبتوجيهه ومساعداته السخية صدرت عدة مؤلفات ترمي كلها إلى إبراز الجوانب الحسنة من شخصية الخديو إسماعيل، وأنا أعرف هذه الجوانب الحسنة، وقد ذكرتها بإسهاب في كتابي عنه، ولكني أيضا أعرف أن لإسماعيل جوانب سيئة كان لها أثرها الضار في حياة مصر السياسية والاقتصادية، ولا بد من تدوينها. وبعد أن فكرت في ذلك مليا وجدتني مدفوعا من تلقاء نفسي إلى أن واجبي كمؤرخ للحركة القومية يقتضي مني أن أدون الحقائق كلها عن الخديو إسماعيل وأذكر ما له وما عليه، وهذا في الواقع هو منهجي في التراجم والشخصيات، وأنا بطبعي ميال إلى الاعتدال، ولا أحب التشنيع في ذكر السيئات، ولكن لا يصح أن أغفلها أو أتجاوز عنها، لأني أنشد الحق والإنصاف فيما أقول وأكتب، وأود ألا أظلم أحدا، ولا أرضى لنفسي أيضا أن أحابي أحدا بغير الحق. وقد وضعت لنفسي هذه القاعدة في سلسلة هذه المجموعة، واتبعتها قدر ما استطعت في كل حلقة من حلقاتها، وعلى هذا الأساس وضعت كتاب عصر إسماعيل. (5) الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي
أخرجت كتاب «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» في فبراير سنة 1937، وقد أخذ مني جهدا كبيرا في تأليفه؛ إذ لم يكن قد صدر من قبل كتاب مجتمع عن هذه الثورة، والحديث عنها مبعثر في شتى المراجع والمجاميع والمذكرات، والآراء عنها متباينة متضاربة، وأشرت إلى هذا التضارب في مقدمة الكتاب. وقد قضيت نحو أربع سنوات في تأليفه، واقتضاني التحري عن حقائقه أن أرجع إلى المذكرات المخطوطة لعرابي باشا وكانت محفوظة في دار الكتب، وإلى كل ما كتبه أو قاله زملاؤه ومعاصروه ممن اشتركوا في الثورة أو ساهموا فيها أو أدركوا عصرها، كمحمود باشا فهمي في كتابه «البحر الزاخر»، ومذكرات الشيخ محمد عبده، وما كتبه المستر بلنت، ورجعت أيضا إلى مضابط مجلس النواب في الوقائع الرسمية وفي أصولها المحفوظة في مكتبة البرلمان، وإلى جميع الصحف والمجلات التي كانت تصدر في ذلك الحين، ومحاضر التحقيق، ومحاضر محاكمة العرابيين وفيها كثير من أقوالهم التي تلقي ضوءا على حوادث ذلك العصر، هذا عدا المراجع الفرنسية والإنجليزية من مؤلفات وصحف ومجلات مصورة وغير مصورة، مما كان يصدر في عهد الثورة. وجملة القول أني عانيت من الجهد في إخراج هذا الكتاب أكثر مما عانيت في الجزأين الأول والثاني من تاريخ الحركة القومية وعصر محمد علي؛ إذ كان الموضوع في كل منها متشعبا، والطريق فيها غير سهل ولا معبد. (6) مصر والسودان
في يونيو سنة 1942 في إبان الحرب العالمية الأخيرة نشرت كتاب «مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال»، أرخت فيه العشر السنوات الأولى للاحتلال، وهي الفترة التي رسخت فيها أقدام الإنجليز في البلاد وخيم اليأس على نفوس الأمة بعد هزيمة الثورة العرابية، وقد أسميتها فترة الانحلال الوطني الذي أعقب الاحتلال، وكان لا بد أن أؤرخ هذه الفترة قبل فترة البعث التي جاءت على يد مصطفى كامل.
وهذا الكتاب وإن كان يسبق من جهة التحديد الزمني كتاب «مصطفى كامل» وكتاب «محمد فريد» لكني أخرجته بعد هذين الكتابين؛ إذ رأيتني قد أبطأت في إخراجهما لاشتغالي بالحلقات الأولى من تاريخ الحركة القومية، فآثرت أن أؤجل إصدار كتاب مصر والسودان حتى أنتهي من إخراجهما. (7) مصطفى كامل
ظهر هذا الكتاب في يناير سنة 1939، وهو إلى جانب تاريخ الزعيم يشتمل على تاريخ مصر القومي من سنة 1892 إلى سنة 1908. وقد حرصت على أن يكون حلقة من سلسلة التاريخ القومي فلم أكتبه كما يكتب التلميذ عن أستاذه فحسب، بل سلكت في وضعه المنهج العلمي في كتابة التاريخ، وهو المنهج الذي اتبعته في حلقات هذه المجموعة، وخصصت فيه عدة فصول عن حوادث مصر السياسية في تلك الحقبة من الزمن، بحيث يرجع إليه كل من يريد أن يقف على تاريخها بصرف النظر عن ميوله السياسية. وأحسبني قد أصبت في اتباع هذا المنهج في كتبي؛ فإني لم أجعل منها دعاية سياسية أو حزبية، بل قصدت أن تكون مرجعا لمن يريد أن يعرف تاريخ مصر المعاصر. على أن الروح الوطنية، لا الروح الحزبية، تتمشى في فصول الكتاب وفي غيره من الحلقات، وهذه الروح قد استلهمتها من دراسة التاريخ، وأعتقد أن هذا هو واجب المؤرخ في كل أمة؛ فالتاريخ ليس مجرد سرد للوقائع وتدوين لحوادث السنين سنة فسنة، ولو هو اقتصر على ذلك لكان علما جامدا لا أثر له في توسيع الأفق الذهني وارتقاء المدارك واستنارة البصائر، بل التاريخ هو إبراز وتصوير لتطور ذلك الكائن الحي ألا وهو الشعب واطراد نموه وتقدمه على تعاقب السنين والأجيال؛ فالشعب الذي يريد الحياة يجب أن يعرف ماضيه معرفة تامة لكي يفهم حاضره على ضوء هذا الماضي، ويستنير بعظاته ودروسه، ويعرف أمجاده فيحافظ عليها ويرعاها، ويعرف أيضا أخطاءه وعيوبه وعثراته فيتجنبها ويتلافاها. وقد اغتبطت كثيرا لإظهار كتاب «مصطفى كامل»؛ إذ أتيح لي أن أطالع الجيل بتاريخ حقبة هامة من البعث القومي الذي ظهر كرد فعل للاحتلال الأجنبي.
الزعيم مصطفى كامل:
من كان لي أبا روحيا، وسأبقى له تلميذا وفيا. (8) محمد فريد
وفي يوليو سنة 1941 ظهر كتابي عن «محمد فريد»، ويشتمل على تاريخ الزعيم الشهيد، ثم تاريخ مصر القومي من سنة 1908 إلى سنة 1919، وقد أبرزت النواحي الوطنية والاقتصادية والاجتماعية في حياة الزعيم وتضحياته في سبيل بلاده، مع تاريخ الحوادث والأحداث التي تعاقبت على مصر في عهده. فجاء الكتاب نموذجا للمجاهدين المخلصين الذين تنهض بهم البلاد حقا، وسجلا شاملا لتاريخ مصر في تلك السنين.
إن فريدا لم يعرف فضله حق المعرفة في تاريخ الجهاد القومي، فهو كما قلت في عنوان الكتاب «رمز الإخلاص والتضحية»، ولكن فضله قد غمر في زحمة التقلبات التي طرأت على الحركة القومية، ولعلي بإخراج هذا الكتاب قد أبرزت بعض هذا الفضل حتى لا تضيع الصورة الرائعة الخالدة لجهاد فريد وإخلاصه وتضحياته.
الزعيم محمد فريد:
يتوسط ثلاثة من تلاميذه سنة 1911، وهم من اليمين إلى اليسار: عبد الرحمن الرافعي، الدكتور منصور رفعت، الأستاذ أحمد وفيق. (9) ثورة سنة 1919
وفي أبريل سنة 1946 ظهر كتاب «ثورة سنة 1919» في جزأين، وهو من أهم حلقات هذه المجموعة، وقد قضيت نحو خمس سنوات في تأليفه وإخراجه ، وبذلت في ذلك جهدا كبيرا. وكان ظني أنني، وقد عاصرت الثورة وساهمت فيها، لا أجد من العناء ما بذلته عن العهود التي لم أدركها، ولكني على العكس وجدت نفس الصعوبات التي واجهتها في الحلقات الأخرى.
لقد درست الثورة أولا من ناحية أسبابها ومقدماتها، فرجعت بها إلى عدة سنين سبقت نشوبها، وأرجعتها إلى أسباب وعوامل عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، بعضها قريب وبعضها بعيد، فاقتضاني ذلك أن أدرس من جديد حالة البلاد من هذه النواحي، ودونت نتائج دراستي في الفصلين الأول والثاني من الجزء الأول من تاريخ الثورة.
وبحثت أيضا في توقيت الثورة متى ابتدأت ومتى انتهت، أما بدايتها فمعروفة؛ فقد شبت في مارس سنة 1919 على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه، ولكن متى وفي أي سنة كانت نهايتها؟ هنا بحثت طويلا لكي أضع حدا بين تاريخ الثورة وتاريخ في أعقاب الثورة، فانتهى بي البحث إلى أنها بدأت في مارس سنة 1919 واستمرت حوادثها إلى شهر أغسطس، وتجددت في أكتوبر ونوفمبر من تلك السنة. أما وقائعها السياسية فلم تنقطع واستمرت متتابعة إلى شهر أبريل سنة 1921؛ أي إنها مكثت مشبوبة الأوار نيفا وسنتين، هذا في وجهة نظري هو عمر الثورة، ثم أعقبها انقسام داخلي يختلف وإياها في الحوادث والروح والاتجاهات. وقد ضننت بتاريخ الثورة المجيد أن أدمج فيه هذا الانقسام؛ إذ رأيت من الإنصاف لها أن لا يشمله تاريخها، وجعلته فصلا من كتاب «في أعقاب الثورة المصرية».
درست وقائع الثورة وحوادثها من مارس سنة 1919 إلى أبريل سنة 1921، وبالرغم من أن صورها عالقة في ذهني؛ فإن بعض هذه الحوادث استلزم البحث والتمحيص لمعرفة تاريخ وقوعه على وجه التحقيق. وكانت المراجع قليلة نادرة لأن الصحف التي كانت تظهر في أيام الثورة كانت لا تنشر إلا ما تأذن الرقابة بنشره، وكانت الرقابة تحذف أهم حوادث الثورة، والمذكرات التي كنت أدونها في حينها كانت مقتضبة؛ إذ كان الظن أن تكون عرضة في كل وقت لضبطها ومصادرتها فعلام الجهد في التدوين والإسهاب.
وكان مما عنيت به واقتضى مني عناء كبيرا تسجيل تضحيات الشعب وجهاده، وقد استنفدت الناحية الشعبية معظم صحائف الكتاب، وهي الناحية التي هداني البحث منذ اللحظة الأولى إلى أنها عماد الحركة القومية، وهذا ما حدا بي إلى البحث والتنقيب عن أشخاص شهداء الثورة لكي أسجل أسماءهم، وهم في الغالب شهداء مجهولون، معظمهم من بيئات مجهولة، ومن غير البيئات التي تنازعت فيما بعد مجد الثورة وثمرتها. ومن ثم قضيت زمنا طويلا في البحث عنهم، ولم يكن من الميسور أن أتعرف أسماءهم وتواريخ استشهادهم لأن الصحف لم تكن تنشر أسماءهم، فرجعت إلى ذويهم وأقاربهم وإلى دفاتر الوفيات في مختلف الجهات، ومن حسن الحظ أن نسخا منها كانت محفوظة في دار المحفوظات بالقلعة فرجعت إليها، ومع ذلك فقد وجدت صعوبة كبيرة في إحصائهم؛ إذ لا يذكر في دفاتر الوفيات أن فلانا استشهد في الثورة، ولكن ملابسات الوفاة مضافا إليها معلوماتي الخاصة كانت تعينني على معرفة أسماء أولئك الشهداء.
وثمت صعوبة أخرى، وهي معرفة أسماء المحكوم عليهم في محاكمات الثورة. لقد رأيت ضرورة التحدث عن هذه المحاكمات، وكانت تجرى أمام المحاكم العسكرية البريطانية، ولم تكن الصحف تنشر عنها إلا النزر اليسير، وكنت أعرف معظمها، ولكن لم أكن أعرف أسماء المتهمين والمحكوم عليهم فيها، فأخذت أتقصى أسماءهم من بعض زملائهم أو ذوي قرباهم، وراسلت الكثيرين منهم، فأمدني البعض بما لديهم من المعلومات واعتذر البعض الآخر لقدم عهدها ونسيان أسماء المتهمين فيها، وما أكثر ما تنسى الحوادث وتنسى الأشخاص في بلادنا! وأردت أن ألجأ إلى دفاتر مصلحة السجون؛ فإنها ولا شك تحوي أسماء المحكوم عليهم في كل عام، ونوع الأحكام، والمدة التي قضاها كل محكوم عليه في السجن، وأسماء من نفذت فيهم أحكام الإعدام، وبعد أن رخصت لي المصلحة بالاطلاع على هذه الدفاتر - لأنها موجودة فعلا في محفوظاتها - عادت وتمحلت الأعذار في رفض إطلاعي عليها، وكان مما اعتذرت به أن هذه مسألة قانونية يجب استفتاء أقسام القضايا بما يتبع في شأنها. ولم تصدر أقسام القضايا وقتئذ فتوى بالترخيص لي بالاطلاع على هذه الدفاتر بعد أن علمت غرضي من الاطلاع بحجة أني لا أعد من أصحاب الشأن أو ذوي المصلحة في الاطلاع عليها، فكأن وضع تاريخ قومي للبلاد مهمة غير مرغوب فيها، وقد فهمت أن نكول المصلحة عن اطلاعي على هذه الدفاتر يرجع إلى أنها أرادت مجاملة الإنجليز في عدم تيسير مهمتي في التعرف على أسماء من حكمت عليهم المحاكم العسكرية البريطانية بأحكام معظمها لا يقره عدل ولا إنصاف. وقد عانيت جهدا كبيرا في تقصي هذه الأحكام، وعاونني في ذلك بعض كرام المحامين الذين ترافعوا فيها، وأطلعوني على معلوماتهم عنها وأسماء المحكوم عليهم في معظمها، ودونت المحاكمات والأحكام وأسماء المحكوم عليهم في كافة القضايا العسكرية الهامة. (10) في أعقاب الثورة المصرية
ثم جاء دور «في أعقاب الثورة المصرية»، وقد أخرجت الجزء الأول من هذا الكتاب في يوليو سنة 1947، والثاني في نوفمبر سنة 1949، والثالث في أكتوبر سنة 1951. والأول يشتمل على تاريخ مصر القومي من أبريل سنة 1921؛ أي من نهاية الثورة إلى أغسطس سنة 1927 تاريخ وفاة الزعيم سعد زغلول، ويشتمل الثاني على تسلسل الحوادث من وفاة سعد إلى وفاة الملك فؤاد في أبريل سنة 1936، والثالث من ارتقاء جلالة الملك فاروق عرش مصر إلى سنة 1951.
لم أجد من العناء في استقراء حوادث هذه الحقبة من الزمن ما عانيته في الحلقات السابقة؛ لأن صورها ووقائعها ماثلة أمام عيني، عالقة بذهني، ولم أكن في حاجة إلى مراجع فيها؛ فإن أهم مرجع هو ما وعته ذاكرتي عنها، وكانت وثائقها حاضرة بين يدي؛ إذ كنت أجمعها في حينها. ولكن العناء الذي صادفته في هذا الكتاب كان عناء معنويا؛ فإن الكتابة فيه تمس أشخاصا تربطني ببعضهم صلات الود والصداقة وأكن لهم في نفسي شعور التقدير والرعاية، فكيف يمكنني أن أكتب عنهم غير ما يودون؟ لقد عبرت عن هذا الحرج في مقدمة الجزء الأول ثم الجزء الثاني من هذا الكتاب، وتساءلت: هل علي أن أضحي بهذه الاعتبارات عندما أكتب عن أشياء تمس أولئك الأشخاص؟ وقلت إن هذا ولا ريب هو واجب المؤرخ، ولكن في الدنيا شيء اسمه المجاملة ومراعاة الظروف. لقد تدبرت في هذا الحرج كثيرا، وانتهى بي البحث والتفكير إلى أنه لا يجوز لمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يدخل عنصر المجاملة فيما يكتب، وكل ما يملك إذا أراد أن يجامل أن يدع «الفترة المحرجة» ويرجئ تأريخها إلى حين، ثم تساءلت: إلى أي أجل يرجئها؟ ولماذا يرجئها؟ وإذا كان في مقدوره أن يؤرخها كما أرخ المراحل التي سبقتها، ففيم إذن يتنحى عن تأريخها؟ لقد فكرت في هذا الأمر مليا، ولم أكتم عن نفسي دقة الموقف وما يلابسه من حرج، وانتهيت إلى أنه ليس من حقي أن أقف بالكتابة في تاريخنا القومي عند حد قديم أو حديث، وما دمت قد حملت نفسي مهمة وضع هذا التاريخ فعلي أن أؤدي الرسالة كاملة قدر ما وسعني الجهد، ووصفت المؤرخ بأنه يشبه في طبيعة رسالته أن يكون قاضيا يفصل في القضايا التاريخية التي يعرض لها وعليه أن يقتبس من القاضي روح العدل الذي يستلهمه في قضائه، فكما أن واجب القاضي ألا يجامل في الحق أحدا ولو كان أقرب الناس إليه، ولا يتحامل على أحد، ولو كان أبغضهم إلى نفسه، فعلى من يتصدى لكتابة التاريخ أن يتحرى الحق والإنصاف ويتجنب المجاملة والمحاباة في ما هو بسبيله، هذا ما اتجه إليه قصدي وانعقدت عليه نيتي، و«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.» (11) كيف قوبلت كتبي؟
إني أعترف بأن كتبي لم تقابل في السنين الأولى مقابلة حسنة، ولولا ما وهبني الله من الصبر والاحتمال لوقفت عند الجزء الأول أو الثاني، أو على الأكثر عند كتاب «عصر محمد علي» الذي كان في طبعته الأولى الجزء الثالث من تاريخ الحركة القومية.
فبالرغم من الجهود المضنية التي بذلتها في تأريخ الحركة القومية، وما شهد به أهل الذكر من أن هذه الكتب جمعت بين المنهج العلمي البحت والروح الوطنية، وبالرغم من حرصي الشديد على استقراء الحقائق التاريخية الثابتة مهما كلفني ذلك من عناء حتى صارت هذه المجموعة - والحمد لله - مرجعا معتمدا، بالرغم من كل ذلك فإن هذه الكتب لم تلق الإقبال، ولا أقول الرواج، الذي كنت أنتظره.
إن إقبال المثقفين في بلادنا على القراءة ضعيف جدا، هذه حقيقة يلزمنا أن نعترف بها، وهو أقل من إقبال المثقفين في البلاد الأخرى التي في مستواها الثقافي، بل إني أستطيع القول بأن سكان الجنوب من هذا الوادي - وأقصد إخواننا السودانيين - أكثر منا إقبالا على القراءة والمطالعة إذا تعلموا وأخذوا بنصيب ولو قليل من الثقافة. وقد حدثني غير واحد من الأصدقاء وغير الأصدقاء أن إقبال المثقفين وأنصاف المثقفين في السودان على قراءة كتبي أكثر منه في مصر، واهتمامهم باستيعاب محتوياتها أكثر من استيعاب إخوانهم في مصر، وهم - جزاهم الله خيرا - يتحدثون عن كتبي بأكثر مما يتحدث عنها سكان الشمال، وألمح من أحاديثهم أنهم قرءوها واستوعبوا ما تحتويه، بخلاف ما رأيت من المثقفين المصريين.
وأذكر على سبيل المثال أني سمعت من بعض مثقفينا أسئلة تثير الدهشة حقا، سألني بعضهم: هل أرخت شيئا بعد عصر محمد علي؟ مع أني كنت قد وصلت إلى ثورة سنة 1919، وسألني البعض الآخر: سمعت أنك قد وضعت كتابا في تاريخ مصر، فهل هو جزء واحد أم جزآن؟ مع أني كنت قد أخرجت اثني عشر جزءا منه، وفهمت من سؤاله أنه لم يقرأ جزءا واحدا منها، وكثيرا ما يسألونني من قبيل المجاملة: هل تباع كتبك؟ وأين؟ وما ثمنها؟ وهذا بالطبع سؤال من لم يقرأ شيئا منها أو من يريد أن يقرأها مجانا ...
وسألني بعضهم: هل أرخت عصر إسماعيل؟ وما اسم الكتاب الذي أرخته فيه وأين أجده؟ فأجبته على سؤاله، وبعد عام سألني نفس السؤال فأجبته بنفس الجواب، ثم دفعني حب الاستطلاع أن أسأله بدوري عن سبب اهتمامه بهذا الكتاب بالذات حتى يسألني عنه مرة في كل عام، فأجابني أنه يبحث عن تاريخ والده - أو جده لست أدري - في هذا الكتاب، فدهشت لهذا الجواب؛ إذ كنت أتوقع منه أنه يريد أن يطلع على تاريخ مصر في عصر إسماعيل لا أن يكون قصارى اهتمامه أن يعرف تاريخ والده، وجملة القول أني وجدت عدم اكتراث بالقراءة وتوسيع الأفق الذهني بين أغلبية المثقفين عندنا.
لست أدري ما هو السبب في ذلك كله، ولكن هذه مشاهدات وحقائق لا بد لي من الإفضاء بها لأنها حالة نفسية يحسن بنا أن نجد لها علاجا.
وقد كنت أسائل نفسي أمام الكساد الذي قوبلت به الحلقات الأولى من المجموعة واستمراره سنوات طويلة، كنت أتساءل: ألا تساوي هذه الكتب بعض القصص والروايات التي يقبل عليها الجمهور في بلادنا؟ أوليس التاريخ رواية واقعية مشوقة لمن يريد أن يعرف قصة بلاده ووطنه؟ ألا يستوجب حب هذا الوطن أن يعرف المواطنون قصته ومراحل حياته البعيدة والقريبة؟ إن من يحب إنسانا، سواء كان هذا الحب عائليا أو غراميا، يود أن يتعرف أخباره وأحواله وماضيه وحاضره، فهلا يستحق الوطن مثل هذا الشعور؟
أدع هذا جانبا، وأتحدث عما قوبلت به كتبي في السنوات الأولى من إخراجها.
ظهر الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية في يناير سنة 1929، فاستقبلته الصحف استقبالا طيبا، وكتب عنه بعضها مقالات قيمة، واكتفى بعضها بكتابات عابرة بمثابة «تسديد للخانات». وكان طبعه قد كلفني مبلغا لا يستهان به، أنفقته من إيرادي من المحاماة. وكانت طريقتي في توزيع كتبي الأولى أن أختزن عندي ما أطبع من كل كتاب، وتطلب مني المكاتب الكميات التي تريدها لتبيعها للجمهور وتدفع لي ثمن هذه الكميات مقدما بعد خصم 25٪ من ثمنها، وبعض المكاتب كان لا يدفع الثمن مقدما بل يؤجله حتى يتم توزيع الكتب. وقد لاحظت أن طلبات المكاتب قليلة، والكميات التي تطلبها ضئيلة، والوارد منها من الثمن هزيل، وكان يدفع على مرات متقطعة بحيث لا يحس الإنسان بقيمتها - على تفاهتها.
وقد قالوا لي إن وزارة المعارف تقتني لمكتباتها في المدارس نسخا من كل كتاب مفيد لتثقيف الطلبة وأن علي أن أعرض عليها ما يظهر من كتبي، فعرضت عليها فعلا كل ما كان يصدر منها، فكانت بعض الفحص عن كل كتاب تطلب النزر اليسير منه، وكان العدد الذي طلبته من الأجزاء الأولى لم يتجاوز 240 نسخة من كل كتاب زادتها في الأجزاء اللاحقة إلى 375 نسخة، وكانت تدفع ثمنها مخصوما منه كذا في المائة مما يتم الاتفاق عليه بينها وبين المؤلف؛ وهذه كلها مظاهر لتثبيط العزائم.
ومثل هذا التثبيط لا يمكن أن يشجع على التأليف، بل فيه ما فيه من خذلان للنهضة العلمية، ولكني كما أسلفت كنت أؤدي رسالة حملت نفسي إياها. فعلى الرغم من الكساد الذي صادفه الجزء الأول ثم الذي تلاه، تابعت إخراج الحلقات التالية، وكان لي من إيرادي من المحاماة ما عاونني على سد العجز في النفقات، ومعنى ذلك أنه لولا هذا المورد لانصرفت عن متابعة إخراج هذه المجموعة مع ضرورتها الثقافية والتاريخية والوطنية.
استقبلت الصحافة كل ما أخرجته من الكتب استقبالا حسنا، وإني معترف بفضلها علي في هذه الناحية، وقد نوهت إلى هذا الفضل في مقدمة الجزء الثاني. ومن الحق أن ألاحظ أن الصحف فيما مضى كانت أكثر عناية منها الآن بالمؤلفات عامة؛ فكثيرا ما كانت تنشر الفصول الضافية عن كتبي، وفي أغلب الأحيان كانت تنقل مقدماتها، والمقدمة كما تعلم هي خير إعلان عن الكتاب، أما الآن فالصحف تقتصر على كلمة عابرة تنشرها من قبيل «جبر الخاطر» للمؤلف الذي قد يقضي السنين في وضع كتابه، وما بهذه الطريقة يشجع التأليف وتشجع الحركة الفكرية والعلمية في البلاد.
وبالرغم من أني تابعت إصدار الأجزاء الأولى من هذه المجموعة، بحيث لم يكن ينقضي عام حتى يصدر جزء منها، ومع أن كل جزء كان يجر القطار الواقف خلفه من الأجزاء السابقة، ومع حسن استقبال الصحف لكل جزء منها؛ فإن الركود كان حليفها. لقد قيل لي إني لم أعلن عنها الإعلان الكافي، وأظن أني لو أنفقت ما أنفقت في سبيل الإعلان فإن النتيجة ما كانت تتغير كثيرا. وأعتقد أن أهم سبب لهذا الركود هو ضعف الميل إلى القراءة المجدية بين الطبقة المثقفة في بلادنا، وقلة اكتراثها بتعرف تاريخ بلادها، فربما يعرف بعضهم عن تاريخ الأمم الأخرى أكثر مما يعرفون عن تاريخ أمتهم ...
انقضت السنوات والأجزاء الأولى بطيئة الحركة وإيرادها لا يغطي مصاريفها، على أني لم ألق بالي كثيرا إلى هذه الناحية لأني عددتها «تضحية» يجب أن أتحملها. ألسنا نخرج صحفا قد لا تلقى الرواج والانتشار ومع ذلك نثابر على إخراجها مع ما يكتنفها من الخسائر حتى نعجز عن إصدارها؟ وأنا والحمد لله لم أعجز عن متابعة إصدار هذه المجموعة، فمضيت في سبيل إخراجها حلقة بعد أخرى.
ولما أخذت في تأليف كتابي عن «عصر إسماعيل» نصحني ذلك الصديق المخلص أن أسلك فيه سبيلا جديدا قد يكون أدعى لرواج كتبي، وقال لي يوما: ها أنت قد أخرجت ثلاثة مجلدات في تاريخ مصر الحديث، فأرخت عهد الحملة الفرنسية، وما بعد الحملة، وعصر محمد علي، والآن يجيء دور خلفاء محمد علي، وستصل طبعا إلى عصر إسماعيل، فبأي روح ستكتب عن الخديو إسماعيل بالذات؟ فقلت له: إني سأكتب عنه بنفس الروح التي استلهمتها في كتبي السابقة واللاحقة، وسأذكر ما له وما عليه. وكان يعلم آرائي عنه. فقال لي: لا تكن غبيا، ويلزمك أن تراعي الظروف، ولاحظ أنك ستخرج كتابك عن إسماعيل في وقت يجلس على عرش مصر ابن إسماعيل (المغفور له الملك فؤاد)، أفلا تفهم ذلك؟ إنك تعلم أن الملك يهتم كثيرا بإحياء تاريخ والده، ويوحي بإخراج كتب عنه في تمجيده، وينفق في سبيل ذلك أموالا كثيرة؛ لأن جمع الوثائق ونقلها من مصادرها الأصلية وإخراج الكتب، كل ذلك يحتاج إلى نفقات طائلة، ولقد أخبرتني (وحقا قد أخبرته بذلك) أنه أبدى نحوك شعورا طيبا وثناء على مواقفك في مجلس النواب الأول، ولا شك أن وثائق السراي الملكية من أهم المراجع عن عصر إسماعيل بالذات؛ لأن جلالة الملك عني بجمع هذه الوثائق وأمر بتنسيقها وترتيبها، فأرى أن تتصل بصديقك محمد زكي الإبراشي باشا (ناظر الخاصة الملكية، وكان بيني وبينه ود قديم متصل) لكي تراجع وثائق السراي الخاصة بعصر إسماعيل، ولكي يمدوك بالمعلومات التي تطلبها عن حكمه، ولا شك أنك ستجد من كل ذلك مادة غزيرة لكتابك الذي أراك تضعه الآن (1931) عن هذا العصر.
ومع أن النصيحة صادرة عن صديق أثق في إخلاصه؛ فإني لم أعمل بها؛ لأني وجدت أنني إذا أحكمت الصلة بيني وبين هذه الجهات العليا، وأكثرت من التردد على مكتبة القصر الملكي، فقد لا يكون من الذوق بعد ذلك أن أكتب عن أخطاء إسماعيل - وكان المراد تغطيتها - وقلت لصديقي إني مع تقديري لنصحه فإن دراستي الخاصة والمراجع التي طالعتها عن عصر إسماعيل كافية لأؤرخه تأريخا واضحا صحيحا، أما الوثائق الجديدة فمع أهميتها لا يمكن أن تغير من الخطوط الرئيسية للتاريخ، إنها ولا شك قد تفيد في معرفة بعض التفاصيل والملابسات، ولكن الحوادث في ذاتها والحقائق الجوهرية التي هي عماد التاريخ تبرز من خلال المراجع العديدة التي درستها عن هذا العصر.
وقد وجد صديقي ألا فائدة ترجى من إقناعي بنصيحته، فتركني أمضي في سبيلي. (12) الوزارة وكتاب عصر إسماعيل
ولما ظهر الكتاب تبين لي عدم الرضا عنه من امتناع وزارة المعارف عام 1933 عن أن تقتني منه النزر اليسير الذي كانت تشتريه لمكتباتها من الأجزاء السابقة، وأرسلت لي خطابا بتاريخ 18 أبريل سنة 1933 تنبئني فيه بأن بالكتاب مآخذ تحول دون إيداعه مكتبات مدارس الوزارة، وأرسلت طي خطابها صورة من تقرير ما أسمته «لجنة فحص الكتب التاريخية لمكتبات المدارس» وفيه تعداد لهذه المآخذ المزعومة، وقوامها أني تحاملت على الخديو إسماعيل، وهاك نص الخطاب والتقرير:
خطاب الوزارة «إشارة إلى خطاب عزتكم المؤرخ 29 ديسمبر سنة 1932 الذي قدمتم معه للوزارة كتابكم «عصر إسماعيل» في جزأين للنظر في تقريره أسوة بالأجزاء السابق تقريرها من كتابكم «تاريخ الحركة القومية»، نفيد عزتكم أن الوزارة قد فحصت عن كتاب «عصر إسماعيل» فوجدت به من المآخذ ما يحول دون إيداعه مكتبات مدارس الوزارة.»
وأرفقت الوزارة بخطابها صورة التقرير الذي قدمته إليها «لجنة فحص الكتب التاريخية لمكتبات المدارس» عن الكتاب، وهذا نصه:
التقرير «عملا بخطاب الوزارة رقم 952 بتاريخ 21 يناير سنة 1933 اطلعنا على هذا الكتاب بجزأيه، وقد وجدنا به كثيرا من المعلومات والأبحاث النافعة في فترة حكم الخديو إسماعيل، ولكنا نأخذ على المؤلف أنه شوه الأغراض التي من أجلها عقد إسماعيل قروضه بأجمعها تشويها شاملا، ونظر إلى جميع أعماله في هذا الصدد بمنظار أسود، والأدلة على ذلك كثيرة نورد منها ما يأتي: (1)
أنه أقر مؤلف «تاريخ مصر المالي» على أن «إسماعيل سار سيرة بذخ وإسراف»، راجع ص31 جزء ثان. (2)
ذكر أن القروض التي اقترضها الخديو إسماعيل حتى سنة 1866 «ضاعت فيما لا ينفع البلاد؛ لأن تغيير نظام توارث العرش مسألة شخصية لإسماعيل، وكذلك شراء أملاك أخيه وعمه، فكأن إسماعيل اقترض هذه الديون لكي تتسع أملاكه وتحقيقا لأطماع شخصية وإرضاء لحزازات عائلية لا شأن للبلاد فيها»، راجع ص35 جزء ثان. (3)
ذكر المؤلف في عرض الكلام عن إسماعيل المفتش أنه «قلد مولاه في عيشة البذخ والإسراف والاستكثار من القصور والأملاك والجواري والحظايا.» ص37 جزء ثان. (4)
في الكلام عن بعض حفلات الخديو إسماعيل ذكر المؤلف ما يأتي: «فكان الخديو في هذا الموقف شبيها ببعض الذوات والأعيان في الاستدانة للإنفاق على إقامة الحفلات والولائم والظهور بمظهر الفخفخة والبذخ.» ص39 جزء ثان. (5)
قال المؤلف: «إن إسراف إسماعيل هو الباعث الأكبر على مأساة القروض ... إن الجانب السيئ من شخصية إسماعيل هو إسرافه وإنفاقه الأموال من غير حساب أو نظر في العواقب، وهو بلا مراء مضرب الأمثال في هذا الصدد؛ فقد كان متلافا للمال، وظهر هذا العيب في حياته العامة وحياته الخاصة، ظهر في بناء قصوره وتأثيثها وتجميلها، كما ظهر في حياته الخاصة، في حفلاته وأفراحه، ومراقصه ورحلاته وسياحاته، وأهوائه وملذاته.» راجع ص53 جزء ثان.
لهذه الأسباب لا نوافق على إيداع هذا الكتاب بمكتبات مدارس الوزارة.»
وقد انتقد معظم الصحف مسلك الوزارة حيال الكتاب، وكان أكثرها اعتدالا في النقد صحيفة «البلاغ» فقد كتبت بعددها الصادر في 24 مايو سنة 1933 ما يأتي: «والذي نقوله نحن هو أن وزارة المعارف تدل بذلك على رغبتها في أن تتحكم في بحوث المؤرخين بحيث إذا لم يكتبوا التاريخ على هواها أقصتهم من حظيرتها. وكتاب «عصر إسماعيل» لم يشتمل فقط على هذه المآخذ التي أخذها على إسماعيل، بل هو يشتمل على مآثر له يكفي أن يكون منها ما كتبه في فتحه السودان وفي اهتمامه بإرسال البعثات العلمية إليه؛ ليشهد كل منصف أن الأستاذ عبد الرحمن الرافعي كتب كتابه وهو منساق فيه بما يهديه البحث إلى أنه الحقيقة. والغريب في عمل وزارة المعارف هذا أنها تعلم أن في مكتبات مدارسها كتبا تحتوي على أحكام قاسية على عهد إسماعيل - منها كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر - ومع ذلك لم تفكر في إقصائها من مكتباتها.»
وبعد انقضاء ثلاث سنوات على هذا التقرير أعادت الوزارة النظر في كتابي، وألفت لجنة أخرى لفحصه فنقضت تقرير اللجنة السابقة، وطلبت الوزارة مني أن أوافيها بالنزر اليسير منه على غرار الأجزاء السابقة. (13) بدء الإقبال على كتبي (سنة 1943)
في أوائل سنة 1943 طلبت مني مكتبة «النهضة المصرية» بيانا بعدد ما كنت اختزنته من كتبي وقتئذ، فلما أطلعتها على هذا البيان أعربت لي عن رغبتها في شراء هذا المخزون كله دفعة واحدة، وأن تدفع لي الثمن فورا مخصوما منه نسبة أكثر من النسبة التي كنت أحاسب عليها المكاتب، فرأيت العرض مغريا حقا لأن حصيلة الثمن بلغت 1428 جنيها صارت بعد خصم أربعين في المائة «883 جنيها»، فقبلت الصفقة مغتبطا، وأدركت في هذا اليوم أن كتبي قد لاقت شيئا من الإقبال الذي كنت أنتظره منذ أكثر من خمس عشرة سنة.
كان ذلك في خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عزوت هذا الإقبال المفاجئ إلى المكانة التي نالتها كتبي التي أصدرتها إلى ذلك الحين عند ذوي العلم والخبرة؛ فقد كانوا يتحدثون عنها حديثا طيبا، وكان كل كتاب يصدر منها يبعث الحياة في الكتب السابقة، أضف إلى ذلك ثناء أساتذة التاريخ على هذه المجموعة في خلال دروسهم للطلبة فأوجد هذا الثناء دعاية طيبة لها. وهناك عامل هام له أثره في هذا الصدد، وهو تقدم الوعي القومي والثقافي في الجمهور، وكان نشوب الحرب العالمية الثانية قد زاد في تفتح الأذهان لمركز مصر وأهميتها ومصيرها في هذه الحرب الطاحنة، وبعث الروح الوطنية في النفوس، تلك الروح الملهمة لكل تقدم سياسي أو علمي أو أخلاقي، فازداد اهتمام الناس بمعرفة تاريخ بلادهم.
وأخذت من ذلك الحين أعيد طبع كتبي، فظهرت الطبعة الثانية من الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية سنة 1944، والطبعة الثالثة سنة 1948، وظهرت الطبعة الثانية من الجزء الثاني سنة 1948 أيضا، والطبعة الثالثة من «عصر محمد علي» سنة 1947، والطبعة الثالثة سنة 1951، وأعدت طبع كتاب «عصر إسماعيل» و«الثورة العرابية» سنة 1949، و«مصر والسودان» سنة 1948، و«مصطفى كامل» سنة 1945، ثم سنة 1950 «الطبعة الثالثة»، وكتاب «محمد فريد» سنة 1948.
على أنه يلزمني أن أعترف بأن التزامي الجانب القومي في كتبي قد أضر بها فيما يتعلق برواجها، وبخاصة كتاب «ثورة سنة 1919» و«في أعقاب الثورة»؛ فإن الهيئات الحكومية، ومنها وزارة المعارف، وزارة الثقافة والتعليم، قد أعرضت عن تشجيع هذه الكتب. وليس يخفى أن إقبال الهيئات الحكومية، وبخاصة وزارة الثقافة والتعليم، له دخل كبير في رواج الكتب، بحيث أستطيع القول إن كتبي قد لقيت الإقبال ولكن لم تنل حظها من الرواج.
حقا إن الجانب القومي كان يجب أن يفتح أمامها آفاقا من الرواج، ولكن ماذا تراني أقول؟ إن الشعب الذي وضعت من أجله هذه الكتب قد ضن عليها بالرواج، وإن لم يضن عليها بالثناء والإعجاب، وإني شاكر له على كل حال. إن الناس يتحدثون عن كتبي، ويمتدحون الروح الوطنية التي أملت علي هذه المجموعة، ويكتفون في الغالب بهذا التعضيد الأدبي، وما بمثل هذه المعاونة تروج الكتب وتنتشر الأفكار وتعم الثقافة.
ولكن علينا أن نبذر الغرس الصالح في حقل النهضة القومية دون أن نتأثر من بطء النتائج، ويجب أن نظل عاملين على رفع معنويات هذا الشعب، وأن نجعل هذا الهدف منهجنا في كفاحنا وتفكيرنا وأقوالنا وأفعالنا، وإذا لم يصادف نداؤنا لدى الشعب الصدى الذي نرجوه، ولم يينع بعد الزرع الذي نتعهده، فلنصبر ولا نجزع، ولنثابر ولا نتراجع، ولا نسأم من تعداد الأيام والسنين، فما قيمة الأيام والسنين في أعمار الأمم والشعوب؟!
الأمير عمر طوسون
من أبرز أمراء الأسرة العلوية وأنبههم شأنا وأعرقهم وطنية، المغفور له الأمير عمر طوسون. كان رحمه الله كبير النفس عظيم الخلق، عالما واسع الاطلاع محبا للعلم والأدب، مؤرخا محققا، حجة في تاريخ مصر الحديث والقديم، وكان إلى جانب علمه وفضله شديد الوطنية، وتبدو وطنيته من خصومته المستمرة للاحتلال وسياسته، لا يبالي الجهر بها في كل مناسبة، وقد سجلها في مؤلفاته وبحوثه وأحاديثه ومقالاته. وكان الاحتلال وعماله وصنائعه يعرفون عنه هذه الميول، وهو من ناحيته يصارحهم بها ولا يكتم عنهم شيئا منها، وقد استهدف من أجل ذلك لغضبهم غير مرة، وخاصة أثناء الحرب العالمية الأولى؛ إذ كان بأوروبا صيف سنة 1914، فلما أراد العودة إلى مصر بعد إعلان الحرب عارضت السلطة العسكرية البريطانية في عودته، وظل وقتا طويلا تحت الملاحظة في مرسيليا إلى أن توسط له السلطان حسين كامل لدى السلطات البريطانية فأذنت له بالعودة إلى مصر.
اتصلت به منذ عودته أثناء الحرب العالمية الأولى، وكنت ألقى منه تقديرا كبيرا، وحينما كان يزور تفتيشه في «دميرة» القريب من المنصورة كنت أنتهز هذه الفرصة فأذهب صحبة لفيف من إخواني لزيارته في قصره الريفي هناك، فكان يسر كثيرا لهذه الزيارات ويفيض في أحاديثه الوطنية التي زادتني تقديرا له. وكانت زياراتي له في دميرة مما ضاعف صلتي به، وأعرب لي عن رغبته في أن أزوره بالإسكندرية كلما ذهبت إليها، وقد بررت بوعدي فكنت كلما ذهبت إليها أقابله في دائرته وألقى منه احتراما وحسن مقابلة يزيدانني تعلقا به. وقد لاحظ مرة أني ذهبت إلى الإسكندرية دون أن أقابله، فأرسل لي من يعرب لي عن ملاحظته في ذلك، فشكرت له هذه الملاحظة واعتبرتها تقديرا وتكريما لي، واعتذرت بأن الوقت الذي قضيته بالإسكندرية في هذا اليوم لم يسمح لي بهذه المقابلة، ومن يومئذ حرصت على أن أزوره كلما ذهبت إليها.
وكنت أحظى بإهدائه إياي كتبه القيمة كلها، وأقابل كل هدية بما تستحقه من الشكر والتكريم.
وكان رحمه الله دقيقا في تقدير المؤلفات التي كانت تهدى إليه، ولما بدأت في إخراج «تاريخ الحركة القومية» أهديته كل كتاب يصدر منها، وكان يرسل لي خطابات شكر، ولاحظت أن عبارات الخطابات بدأت وجيزة ثم أخذت تتطور وتطول مما يدل على ازدياد تقديره لي مع الزمن.
أهديته الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية، فجاءني منه جواب وجيز مؤرخ في 22 يناير سنة 1929 قال فيه:
حضرة صاحب العزة عبد الرحمن الرافعي بك
نشكر حضرتكم على حضوركم شخصيا لإهدائنا الجزء الأول من كتابكم «تاريخ الحركة القومية». وقد قبلناه بمزيد الامتنان وسنقرؤه بإمعان النظر ونضعه في مكتبتنا تذكارا لكم، وتقبلوا مزيد سلامنا.
عمر طوسون
ثم أهديته الجزء الثاني، فأرسل لي خطابا بحثت عنه كثيرا في محفوظاتي فلم أعثر عليه لكي أنشره هنا، ويظهر لي أنه لم يكن خطابا ذا بال؛ لأنه لو كان كذلك لنشرته في الصحف كما نشرت خطابات الأمير عن الكتب التالية.
وأخذ تقديره يزداد كلما ظهر جزء من المجموعة، فإذا قارنت بين خطابه لي عن الجزء الأول، وخطابه عن «عصر محمد علي» رأيت التدرج واضحا في هذا الصدد، قال في خطابه الأخير:
حضرة الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك
بعد أن أهديتم إلينا الجزء الأول والثاني من كتابكم البارع «تاريخ الحركة القومية» أصبحنا شغوفين ننتظر بفروغ صبر تتمة هذا المبحث الجليل، ونرقب بلهف بزوغ ثالث هذين الكوكبين، فإذا بيدكم البيضاء تخرجه لنا من غير سوء آية أخرى.
وإن الباعث الشريف الذي حدا بكم إلى تجشم هذه المشقة البعيدة الغاية التي صوبتم إليها سهمكم هو إدراك الغرض الذي وضعتموه نصب أعينكم، ولعلكم لا تجدون ثوابا على هذا العمل الصالح أكبر من هذا الذي تجدونه في نفسكم من الارتياح لإتمام هذا الصنيع الخالد الذي خدمتم به تاريخ الحركة القومية لبلد شغفتم به حبا وعرفتم بصدق الإخلاص له والتفاني في خدمته.
وإذا لم يكن للذين أسعدهم الحظ باقتناء مؤلفكم الثمين والانكباب على قراءته والاستفادة منه من وسيلة إلى جزائكم عليه إلا الشكر، فأنا أول الشاكرين. والسلام عليكم ورحمة الله.
عمر طوسون
11 / 1 / 1931
وأهديته كتاب «عصر إسماعيل»، فجاءني منه الجواب الآتي :
حضرة صاحب العزة الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك
تفضلتم فأهديتم إلينا الجزأين الأول والثاني من كتاب «عصر إسماعيل» وهو الحلقة الثالثة من المؤلف الكبير الذي تعالجونه (سلسلة تاريخ الحركة القومية).
ولقد تصفحنا كثيرا من مباحث هذين السفرين الجديدين واستوعبنا بعض فصولهما وأبوابهما استيعابا جعلنا نلم بهما إلماما ونحيط بهما إجمالا فألفيناهما كثلاثة الأجزاء السابقة التي تفضلتم فأهديتموها إلينا من قبل مفرغين في نفس القالب البديع الذي أفرغتموها فيه متصلة حلقاتهما بتلك السلسلة الذهبية التي تصوغونها صياغة تأخذ بالأبصار.
وقد احتوى هذان السفران على خلاصة ما حدث في عصر إسماعيل بعبارة سهلة جزلة مع العزو إلى المصادر والمراجع وذكر الوثائق والأسانيد فجاء بهذا الصنيع مرآة صافية صادقة جلوتموها للناظرين فتجلت فيها صورة هذا العصر الحافل بالحوادث على حقيقتها. ومن يعرف ما كان يغشى حقائق التاريخ في هذه الحقبة من الأطلية والبهرج تارة، والتشويه والمسخ تارة أخرى، يعرف قيمة صنيعكم ولا يسعه إلا أن يقدر عملكم حق قدره ويثني عليكم الثناء المستطاب، فامضوا قدما في عملكم حتى تتموه على هذا النسق الجميل.
والسلام عليكم ورحمة الله.
عمر طوسون
5 /2 / 1933
ويبدو أن تقديره لكتاب «الثورة العرابية» بلغ حدا كبيرا؛ إذ عده «أهم الموضوعات في سلسلة تاريخ الحركة القومية»، وبعث لي بصدده بخطابين متعاقبين:
الخطاب الأول
حضرة الأستاذ الكبير عبد الرحمن بك الرافعي
كان سرورنا عظيما بكتابكم الجديد «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» الذي تفضلتم بإهدائه إلينا، وإننا نعد موضوع هذا الكتاب أهم موضوعات سلسلة تاريخ الحركة القومية؛ ولذلك كان سرورنا بظهوره معادلا لاهتمامنا بموضوعه الخطير، وسيحدونا هذا الاهتمام بالطبع إلى قراءته بشغف عظيم.
ولا شك عندنا أنكم قد تجشمتم في تأليفه ما تجشمتم من التعب والنصب خدمة خالصة منكم للتاريخ والوطن، فجزاكم الله خيرا ووفقكم إلى إتمام سلسلة تاريخ الحركة القومية على ما تبتغون من تحقيق واستقصاء وبحث مستفيض.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمر طوسون
7 / 4 / 1937
الخطاب الثاني
حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك
تفضلتم فأهديتم إلينا الجزء الأخير من كتابكم القيم «الحركة القومية»، وقد كتبنا إليكم شاكرين لكم هذه الهدية النفيسة ووعدناكم في كتابنا إليكم أننا سنقرأ هذا الجزء بشغف عظيم ، والآن بعد أن قرأناه وأنعمنا فيه النظر فاحصين مدققين لا يسعنا إلا توجيه الثناء المستطاب إلى هذه الهمة الكبيرة التي أخرجت هذا الكتاب، فكان من خير الكتب التي أخرجت للناس في موضوعه. فإن الثورة العرابية رغم ما كتب فيها منذ حدوثها إلى الآن لم تزل جوانب منها غامضة ومحتاجة أشد الاحتياج إلى الجلاء، فجئتم وسددتم هذا النقص، وقد رأينا من حسناتكم في هذا الكتاب أنكم أوردتم فيه كثيرا مما يذكره المعاصرون الذين شهدوا هذه الثورة ولم يدونوا مشاهداتهم، وهذا فضل آخر لكم نذكره مغتبطين مبتهجين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمر طوسون
15 / 5 / 1937
وجاءني منه الخطاب الآتي عن كتاب «مصر والسودان»:
حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد شرفتمونا بزيارتكم وتسلمنا من يدكم الكريمة هديتكم النفيسة القيمة «مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال من سنة 1882 إلى سنة 1892»، وهي تقع في جزء لطيف متصل كل الاتصال بتاريخ مصر القومي الذي ألفتموه وأخرجتموه في أجزاء عدة وتفضلتم فأهديتموها إلينا وشفعتموها بعد بإهداء هذا الجزء الذي يبحث تاريخ هذه الحقبة القصيرة الهامة من تاريخ مصر في أوائل عهد الاحتلال مدة حكم المغفور له الخديو محمد توفيق باشا.
ولا شك عندنا - قياسا على الأجزاء السابقة من هذا الكتاب - أنه سيكون محيطا بجزئيات الحوادث التي وقعت في هذه الفترة ملما بها كل الإلمام مشفوعا بما يؤيدها من الأسانيد والوثائق، على غرار ما دونتموه في أسفار الحركة القومية من التحقيق والتمحيص والبحث في الأسباب والنتائج، شأنكم فيما تخرجونه من قلمكم الفياض البارع.
فنشكركم على هذه الهدية أجزل الشكر ونثني على همتكم أطيب الثناء، والأمل أن يفسح الله في عمركم المبارك، وأن يتسع لكم الوقت لإتمام سلسلة هذه الحركة القومية حتى هذا العهد الأخير، فتكونوا بذلك قد أديتم إلى الوطن العزيز ما ينتظره منكم ويأمله فيكم من صادق الجهود وخالد الأعمال، واقبلوا مزيد سلامنا مع أطيب تمنياتنا.
عمر طوسون
28 يونيو سنة 1942
وأهديته كتاب «مصطفى كامل»، فجاءني منه الخطاب الآتي :
حضرة صاحب العزة الأستاذ القدير عبد الرحمن الرافعي بك
تفضلتم فوصلتم هداياكم العلمية إلينا بهدية جديدة قيمة ألا وهي «مصطفى كامل»، ذلك السفر الذي يضم بين دفتيه تاريخ هذا الزعيم الوطني الذي دوى صوته في الوادي حقبة طويلة فأيقظ مصر من سبات طويل كانت تغط فيه غطيطا ولا يدري إلا الله متى تهب من رقدتها الطويلة لولا أن قيض الله لها هذا الزعيم الفتي الجريء.
وبعد؛ فإننا نشكركم على هذه الهدية الجليلة ونثني أطيب الثناء على هذا الجهد المتواصل الذي خدمتم به التاريخ والبلاد خدمة يقدرها لكم حق قدرها العارفون بما ينال كل من نصب نفسه للتأليف من عنت ونصب، فجزاكم الله عن مصر خيرا ونفع بمؤلفاتكم هذه الأمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمر طوسون
24 / 1 / 1939
ثم أهديته كتاب «محمد فريد»، فجاءني منه الخطاب الآتي:
حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير والمؤرخ المحقق عبد الرحمن الرافعي بك
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فقد أهديتم إلينا بشخصكم الكريم كتابكم الجديد الذي أخرجتموه آية للناس عن الزعيم الثاني المغفور له «محمد بك فريد»، فجاء بعد أن أخرجتم كتاب الزعيم الأول «مصطفى كامل باشا» متمما للعقد الفريد، وكان حريا بفريد بك، فهو المثل الأعلى في الثبات على المبدأ والتضحية بالنفس والمال، وخير من أخلص لمصر وجاهد في سبيلها حق الجهاد حتى النفس الأخير، رحمه الله وأكرم منزله في عليين.
ولما لم يتسع لنا الوقت لقراءة هذا الكتاب الضخم فقد تصفحنا بعض صفحاته، ونحن أعرف بفريد وأعمال فريد وتضحية فريد، ولكنا لم نكن نتوقع أن تخرجوا كتابه هذا الإخراج البديع وأن تضمنوه هذا البيان الفذ الرائع وأن يكون تاريخه وهو ملء القلوب والأسماع ملء هذا السفر الكبير الذي جمعتم فيه أطراف حياته من كل نواحيها، وأفرغتموه في هذه السلسلة لتصلوا به سلسلتكم الذهبية في تاريخ الحركة القومية، فما برح الناس منتظرين من قلمكم البارع أن تكملوا هذا العمل النافع وأن يوفقكم الله لخير هذا الوطن ونفع أبنائه؛ إذ ليس شيء أجدى على مصر من تاريخ حياة بنيها وما قدموه من عمل صالح كريم تحسن الأسوة به والقدوة فيه، وآخر شائن ذميم يعافونه وينفرون منه، ليعرفوا أن الحياة ذكرى وأن أعمالهم محصية عليهم.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد .
فنشكركم أجزل الشكر ونثني عليكم ثناء مستطابا أنتم خير أهل له.
واقبلوا مزيد سلامنا واحترامنا.
عمر طوسون
21 / 8 / 1941
ولم يتح لي أن أهدي الأمير الجليل كتابي عن «ثورة سنة 1919» و«في أعقاب الثورة»؛ فلقد وافته المنية يوم 26 يناير سنة 1944، وحزنت عليه حزنا شديدا، وكانت فجيعة البلاد بوفاته جسيمة وخسارتها فيه لا تعوض، أسكنه الله فسيح جناته وأثابه بما أحسن إلى البلاد وأخلص لها إخلاص المجاهدين الصادقين.
سكرتيريتي للحزب الوطني
1932-1946
بعد أن عين محمد زكي علي بك «باشا» مستشارا بمحكمة الاستئناف في أواخر سنة 1932، انتقلت إلى القاهرة وحللت محله في مكتبه الذي أخلاه منذ تولى القضاء. وقد شغر مركز سكرتير الحزب الوطني الذي كان يشغله زكي بك، فانتخبتني اللجنة الإدارية بجلستها المنعقدة يوم الاثنين 26 ديسمبر سنة 1932 سكرتيرا للحزب ولم أكن قد عدت بعد إلى الحياة البرلمانية، إذ لم أنتخب عضوا بمجلس الشيوخ إلا في أكتوبر سنة 1939.
توليت حمل أعباء السكرتيرية بقدر ما وسعني الجهد، فتجدد النشاط في الحزب وبرزت توجيهاته في الشئون العامة، بحيث كنا نتتبع ما يقع من التطورات فنبادر إلى الجهر برأي الحزب فيها وبالسياسة التي تقتضيها مصلحة البلاد.
وكان أول بيان نشرته الصحف بتوقيعي بصفتي سكرتيرا للحزب الوطني في 5 يناير سنة 1933 متضمنا قرارا من اللجنة الإدارية بتوضيح خطة الحزب حيال الموقف السياسي وقتئذ، ولا سيما ما كان خاصا بالمساعي التي كانت تبذلها الوزارة القائمة (وزارة إسماعيل صدقي باشا) لعقد معاهدة مع الحكومة البريطانية، وتضمن قرار اللجنة ما يأتي:
أولا:
المثابرة على العمل لإحباط المفاوضات أو المحادثات التي ترمي إلى عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية قبل الجلاء عن مصر داخل حدودها الطبيعية والتاريخية «أي حدود الوادي» ودعوة الأمة إلى الاستمساك بالاستقلال التام لمصر والسودان.
ثانيا:
دعوة حضرات نواب الحزب الوطني في البرلمان إلى تقديم مشروعات قوانين بإلغاء جميع القوانين الاستثنائية المقيدة للحرية التي وضعتها الوزارة القائمة أو أية وزارة سابقة.
ثالثا:
إعادة النظر في تكوين اللجان الفرعية في القطر المصري التي يتسنى لها بث الدعوة لتحقيق مبادئ الحزب الخاصة بتقرير مصير مصر.
رابعا:
لفت نظر حضرات أعضاء الحزب الوطني إلى وجوب المحافظة على تقاليد الحزب في خطبهم وتصريحاتهم ورسائلهم باعتباره حزب معارضة للحكم القائم ما دام لا يقوم على تحقيق مبادئ الحزب الوطني بل يعمل على نقيضها.
وابتكرت فكرة زيارة قبر مصطفى كامل وقبر محمد فريد جماعة في أيام الأعياد، بعد أن انقطعت سنين طويلة، فكنا نذهب إلى الضريحين ونلقي الكلمات الوطنية المناسبة.
وأذكر أن أول مرة ذهبنا فيها جماعة إلى قبري الزعيمين كانت في يناير سنة 1933، وقد ألقيت الكلمة الآتية أمام قبر مصطفى كامل: «أي مصطفى!
أبناؤك الذين تلقوا عنك مبادئ الوطنية الأولى وحافظوا على عهدك السنين الطوال يجيئون اليوم وفي كل فرصة يؤدون واجب الوفاء لك، ويحيون روحك الكبيرة تحية الأبناء لأبيهم والتلاميذ لأستاذهم وإمامهم. لقد فارقتنا منذ خمس وعشرين سنة، وذكراك تتجدد في نفوسنا كل يوم، منك تعلمنا الوطنية، وفيك عرفنا الإخلاص والثبات والتضحية والجهاد المنزه عن الأهواء.
ضحيت يا مصطفى في سبيل مصر بأعز ما تملك، ضحيت بصحتك وشبابك، فكم كان الأطباء ينصحون لك أن تبقي على صحتك ولا تحملها ما لا طاقة لها به من الجهاد المضني، ولكنك آثرت مصر على صحتك وراحتك، فذوت زهرة حياتك في الرابعة والثلاثين من عمرك. علمتنا يا مصطفى كيف يجب أن نجعل مجد الوطن وعظمته فوق مجد الأفراد وأطماعهم في الحياة.
اليوم نناجيك بأننا على عهدك باقون، وبمبادئك وتعاليمك مستمسكون، إننا خصوم الاحتلال وسياسته، خصوم أعوانه وأنصاره، مستمسكون بمبدأ الجلاء لا نبغي عنه بديلا؛ فالجلاء هو الرمز الصحيح للاستقلال التام.
نحييك يا مصطفى ونحيي صحبك وأنصارك الذين شاركوك في الجهاد واتبعوا مبادئك وترسموا خطاك، نحيي فريدا وعليا وأمينا وعبد العزيز وفؤادا ولطفي ووجدي، وغيرهم وغيرهم، ممن يرقدون حولك أو على مقربة منك. نحيي أمك الحنون التي تسكن إلى جانبها، إن لها على الأمة فضل تربيتك التربية الأولى وتنشئتك النشأة الصالحة التي انبعثت منها شعلة الوطنية. نحيي الأقربين من آل بيتك الذين لحقوا بك في دار البقاء، نحيي المجاهدين من كل حزب وفي كل عهد، ونرسل تحياتنا إلى أرواح سائر الشهداء الذين جادوا بأرواحهم في سبيل مصر، أولئك الذين غيبوا تحت أطباق الثرى هنا وهناك، واجب علينا أن نذكرهم على الدوام وأن نعرف فضلهم ونقدس ذكراهم، فإلى أرواحهم جميعا الفاتحة!»
ثم توجهنا إلى قبر المرحوم محمد بك فريد بالسيدة نفيسة، وهناك اجتمعنا حول الضريح، وألقيت الكلمة الآتية: «هنا رمز الإخلاص، هنا التضحية في سبيل الوطن، هنا مثوى فريد، هنا الأخلاق والمبادئ، هنا الجهاد المحفوف بالحرمان والمتاعب، هنا مغالبة الدهر والصبر على المكاره، هنا رمز الآلام يحتملها القلب العامر بالإيمان، هنا النبل وكرم المحتد، يمتزجان بالوطنية والتضحية، هنا احتمال النفي والحاجة والتشريد بعد العز والثروة والنعيم، هنا الوطنية الحقة مجسمة فيك يا فريد!
سلام عليك من قلوب تذكر فضلك عليها وعلى الوطن، بالأمس ودعنا شريكتك في الحياة، ودعنا زوجتك النبيلة التي قاسمتك السراء والضراء، الآن تلتقي بك في دار الخلد بعد أن باعد الدهر بينكما السنين الطوال، في حياتك وبعد مماتك، فلتؤنسك في وحشتك، بعد أن حرمت لقاءها في منفاك وغربتك، اليوم تلتقيان بعد طول النوى، فعليكما وعلى الشهداء السلام!»
وفي كلمتي أمام قبر محمد فريد إشارة إلى وفاة زوجته البارة الوفية، وقد توفيت إلى رحمة الله يوم 20 يناير سنة 1933، وشيعنا جنازتها يوم 21 منه، وشاركنا في تشييعها أقطاب الوفد لمصاهرة الدكتور حيدر الشيشيني للمرحوم فريد بك.
وأخذت بوصفي سكرتيرا للحزب الوطني أكتب سنويا المقالات عن ذكرى مصطفى كامل وذكرى محمد فريد، وذكريات الحوادث التاريخية الهامة كضرب الإسكندرية، واحتلال العاصمة، واتفاقية السودان ... إلخ.
وأنشأنا ناديا فخما للحزب بشارع قصر العيني في ملتقاه بشارع دار النيابة.
الجبهة الوطنية
1935-1936
جاهدت في ائتلاف سنة 1935، كما جاهدت من قبل في ائتلاف سنة 1925، وقد خرجت من كلا المسعيين بصفقة المغبون ...
كانت البلاد سنة 1935 في حاجة ماسة إلى توحيد الصفوف؛ فالدستور معطل، والإنجليز يتدخلون في شئون البلاد ويحولون دون تحقيق أهدافها، والوزارة (وزارة محمد توفيق نسيم باشا) تقر التدخل البريطاني في أهم الشئون العامة، والأحزاب السياسية متنابذة متخاذلة.
ألغي دستور صدقي باشا في نوفمبر سنة 1934، ولكن لم يعد دستور سنة 1923، وبقيت البلاد من غير دستور زهاء عام، وصرحت الحكومة البريطانية على لسان المستر هور وزير خارجيتها في 9 نوفمبر سنة 1935 بأنها عندما استشيرت من الحكومة المصرية نصحت بألا يعاد دستور سنة 1923 ولا دستور سنة 1930.
كان لهذا التصريح أثر أليم في النفوس، وقامت المظاهرات الدامية احتجاجا عليه، واتجهت الأفكار إلى ضرورة توحيد الصفوف لمواجهة التدخل البريطاني.
كان الحزب الوطني من أول الساعين في توحيد الصفوف وتأليف «الجبهة الوطنية».
وقد فكرت مع حافظ رمضان بك «باشا» رئيس الحزب في أن نخطو خطوة إيجابية لائتلاف الأحزاب، بأن نقابل زعماءها شخصيا وندعوهم إلى أن يجتمعوا معا.
فذهبنا نحن الاثنين معا لمقابلة مصطفى النحاس باشا بداره بمصر الجديدة لنناشده أن يقبل الائتلاف كما قبله سعد سنة 1925.
الجبهة الوطنية سنة 1935:
من اليمين إلى اليسار: حافظ عفيفي باشا، علي الشمسي باشا، حمد الباسل باشا، مكرم عبيد باشا، إسماعيل صدقي باشا، مصطفى النحاس باشا، حلمي عيسى باشا، عبد الرحمن الرافعي بك، أحمد ماهر باشا. (1) النحاس يرفض الائتلاف
ذهبنا إليه وقابلناه في داره في الساعة السادسة من مساء الخميس 21 نوفمبر سنة 1935، وعرضنا عليه فكرة توحيد الجهود وضم الصفوف وائتلاف الأحزاب لدرء الأخطار التي تهدد البلاد. فأجابنا جوابا لا يبعث على الاطمئنان؛ إذ قال إنه من أحرص الناس على الوحدة الوطنية ولكن لا بطريق الائتلاف بين الأحزاب؛ فإن الوفد قد جرب هذا الائتلاف مرتين فنقض، ولا يريد أن يعود إلى هذه التجربة، بل يقبل أن يحصل تعاون بين الأحزاب بأن يعلن كل حزب مبدأه صريحا وهو التمسك بدستور سنة 1923 ثم رد اعتداء الإنجليز عن الدستور وعن الاستقلال. فقلت له إن اجتماع الزعماء قد يسهل إعلان الأحزاب جميعا ميثاقا يتفق عليه. فأجاب بألا لزوم للاجتماع ويكفي أن يعلن كل حزب هذا المبدأ ليفهم الإنجليز أن لا خلاف بيننا. وتكلم طويلا عن نقض الأحرار الدستوريين للائتلاف الذي عقد سنة 1925 ثم سنة 1931، وقال إننا لا نريد أن نعود إلى سياسة الائتلاف، وكان كلامه قاطعا. وعرض عليه حافظ رمضان باشا إرسال وفد إلى عصبة الأمم لعرض القضية المصرية على العصبة والتشهير بالسياسة الإنجليزية، وقال إن هذه وسيلة عملية للضغط على الإنجليز وحملهم على كف عدوانهم. فأجاب بأنه لا يعارض في أن ترسل كل هيئة وفدا عنها، أما إرسال وفد يمثل الأحزاب فلا يوافق عليه، وأضاف أنه لا يثق من نتيجة عرض القضية المصرية على عصبة الأمم لأن إنجلترا لها السيطرة فيها فلا يضمن أن تحكم لصالحنا، وانتهت المقابلة في نحو السابعة والنصف وكانت نتيجتها بالنسبة للائتلاف سلبية.
1
وسألني حافظ باشا بعد المقابلة عن رأيي فيما يحسن أن نعمله بعد ما بدا لنا في مقابلتنا للنحاس باشا من تعذر الائتلاف. فقلت له: يلزمنا ألا نيأس من النجاح. وعرضت عليه أن ننشر نداء للأمة بتوقيعه بصفته رئيسا للحزب الوطني وتوقيعي بصفتي سكرتير الحزب نناشد فيه الهيئات والطوائف في أن تساهم معنا في السعي لائتلاف الأحزاب؛ فلعل هذه الحركة تكون بمثابة ضغط على الزعماء ليقبلوا الائتلاف، فاستحسن حافظ باشا الفكرة ووضعت صيغة النداء فوافق عليها. ونشر في الصحف (الأهرام 28 نوفمبر سنة 1935)، وهذا نصه:
نداء إلى الأمة «سعينا ولا نزال نسعى إلى توحيد الكلمة وضم الصفوف وائتلاف الأحزاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وغايتنا أن تتحد الجبهة القومية وتتغلب الأمة على العدوان المستمر على حقوق مصر. ولئن اعترضتنا في الطريق عقبات فإن ذلك لا يثنينا عن متابعة السعي فيما نحن بسبيله؛ فإن المهمة التي نسعى لها مهمة دقيقة تحتاج إلى مواصلة الجهود في غير ملل ولا هوادة.
ويقيننا أن كل ما يبذل لها من سعي وما تحتاج إليه من وقت ليس عبثا ضائعا؛ فإن اتحاد الجبهة هو الأداة الأولى للكفاح الوطني وبخاصة في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد الآن ، وليس السبيل إلى نجاح هذه المهمة التراشق بالسهام واستثارة الضغائن والأحقاد بل نحن أحوج ما نكون إلى ضبط النفس لكي نستخلص الوحدة القومية من بين الأشواك والعقبات التي تكتنفها؛ من أجل ذلك جئنا نناشد الأحزاب أن تتجاوز عما يستثير غضبها من قوارص الكلم وأن تقابل ذلك بالحلم وسعة الصدر، لا سيما وأن الفوارق بين الأحزاب لا يقام لها وزن بجانب الغاية التي نسعى إليها. ونهيب بالأمة أن تعاوننا في تحقيق هذه المهمة، وأن تشترك عمليا في نجاحها بأن تتضافر طوائفها وجماعاتها ونقاباتها وأفرادها على اختلاف مراكزهم ومشاربهم للإعراب عن إرادتهم في توحيد جبهة الجهاد.
ولا ريب عندنا أنه إذا أجمعت الأمة كلمتها وأظهرت إرادتها واضحة جلية في ضرورة توحيد الصفوف؛ فإن الأحزاب على الرغم من مظاهر الخلاف بينها تقدر روعة هذه الإرادة وتنزل على رغبة الأمة التي تنطق باسمها وتستمد منها سلطانها.
هذا هو واجب كل وطني صادق، وتلك سبيلنا دعونا وندعو إليها.
فليؤد كل منا واجبه، وليوجه جهوده إلى تلك الغاية، والله ولي التوفيق.»
حافظ رمضان
عبد الرحمن الرافعي (2) النحاس يعود فيقبل الائتلاف
استمرت مساعي الطوائف والشخصيات البارزة لتوحيد الصفوف، إلى أن كان يوم 9 ديسمبر فكلمني بالتليفون الأستاذ مكرم عبيد «باشا» سكرتير الوفد المصري وصاحب الكلمة النافذة فيه وقتئذ، كما كلم حافظ رمضان باشا، وقال لي: أبشركم بأن فكرة ائتلاف الأحزاب قد لقيت أخيرا النجاح، وأنتما مدعوان باكر لحضور اجتماع زعماء الأحزاب بدار دولة مصطفى النحاس باشا بمصر الجديدة لتأليف الجبهة الوطنية الممثلة للأحزاب، فاغتبطت لهذه البشرى، وأملت من وراء هذا الاجتماع خيرا كبيرا.
تألفت الجبهة الوطنية في ديسمبر سنة 1935 من الوفد المصري، والحزب الوطني، وحزب الأحرار الدستوريين، وحزب الشعب، وحزب الاتحاد، أي جميع الأحزاب القائمة في ذلك الحين، ومن المستقلين. وقد قوبل تأليفها بابتهاج عظيم من الأمة.
وأخذت توالي اجتماعاتها في شهر ديسمبر ويناير بدار النحاس باشا بمصر الجديدة، وكان ممثلو الأحزاب في هذه الاجتماعات هم: مصطفى النحاس، أحمد ماهر، مكرم عبيد عن الوفد المصري، حافظ رمضان وأنا عن الحزب الوطني، محمد محمود عن حزب الأحرار الدستوريين، إسماعيل صدقي عن حزب الشعب، حلمي عيسى عن حزب الاتحاد، ثم حمد الباسل، علي الشمسي، حافظ عفيفي، عبد الفتاح يحيى عن المستقلين.
ويلاحظ أن الحزب الوطني ميز عن الأحزاب الأخرى «عدا الوفد» فقد كان له ممثلان في الجبهة، في حين أن لكل حزب آخر ممثلا واحدا، وكان هذا التمييز تقديرا لحسن بلائه في سبيل الائتلاف وجهاده الماضي الطويل.
تألفت الجبهة الوطنية على أساس إعادة دستور سنة 1923، ثم على أساس آخر انفصل فيه الحزب الوطني عن الأحزاب الأخرى مع بقائه في الجبهة ركنا من أركان الائتلاف؛ وهو العمل على عقد معاهدة بين مصر وإنجلترا طبقا لنصوص المشروع الذي انتهت إليه مفاوضات النحاس-هندرسن في ربيع سنة 1930.
واختيرت لجنة تحرير لوضع صيغة الكتاب الذي اتفقت الجبهة على رفعه إلى الملك فؤاد بإعادة دستور سنة 1923. وقد اجتمعت هذه اللجنة يوم الأربعاء 11 ديسمبر سنة 1935 بنادي المحامين (بشارع فؤاد وقتئذ). وكانت مؤلفة كما يأتي: مكرم عبيد عن الوفد، وأنا عن الحزب الوطني، ومحمد حسين هيكل عن حزب الأحرار الدستوريين، وأحمد كامل عن حزب الشعب، وحلمي عيسى عن حزب الاتحاد.
ولما فرغت اللجنة من تحرير الكتاب عقدت اجتماعا آخر لوضع صيغة الكتاب المزمع رفعه إلى السير مايلز لامبسون (لورد كيلرن) المندوب السامي البريطاني للمفاوضة في عقد المعاهدة، وقد انفصلت عنها في هذا الاجتماع ولم أشترك فيه تنفيذا لما اتفقنا عليه في الحزب الوطني من عدم الاشتراك في خطاب الجبهة الخاص بالمفاوضة.
وفي يوم 12 ديسمبر وقع رؤساء الأحزاب والمستقلون على كتاب الجبهة إلى الملك ورفع إليه وتسلمه علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ، وفي ذات اليوم صدر المرسوم الملكي بعودة دستور سنة 1923، وجرت الانتخابات العامة لمجلسي النواب والشيوخ في مايو سنة 1936. (3) إقصائي عن الحياة البرلمانية مرة أخرى
أشرت في مقدمة هذه النبذة إلى أني خرجت من مسعاي في ائتلاف سنة 1935 كما خرجت من ائتلاف سنة 1925، بصفقة المغبون، وهاك تفصيل ما حدث لي سنة 1935:
لما جاء توزيع المقاعد البرلمانية، وكانت كثيرة لأنها شملت مجلس النواب ومجلس الشيوخ كله من منتخبين ومعينين، كنت العضو الوحيد في الجبهة الوطنية الذي لم ينل مقعدا لا في مجلس النواب ولا في مجلس الشيوخ! ولم يتركوا لي دائرة أو مقعدا في كليهما، في حين أن الوفد جامل الأحزاب الأخرى المؤيدة للمفاوضة والمعاهدة في التعيينات لمجلس الشيوخ فخص كل حزب منها بأربعة مقاعد من مقاعد الشيوخ المعينين (وكانت كلها شاغرة)، أما الحزب الوطني فإنه لم يتفضل عليه إلا بمقعد واحد ناله طبعا رئيس الحزب، وبذلك أقصيت من الميدان حين جاء توزيع المقاعد، تماما مثل ما حدث لي سنة 1926، والتاريخ يعيد نفسه!
وكان غرض الوفد من السخاء على الأحزاب الأخرى (على خلاف عادته) بهذه الأربعة المقاعد لكل منها، أن يضمن موافقتها له على إبرام المعاهدة التي كانت المفاوضات جارية بشأنها وعدم معارضتها في البرلمان؛ لأن الحكومة البريطانية كانت تشترط لعقد المعاهدة أن تتفق عليها الأحزاب كلها (ماعدا الحزب الوطني طبعا)، ولعل هذا هو ما جعل الوفد يقصيني عن البرلمان سنة 1936 كما أقصاني عنه سنة 1926.
هذا، ولمناسبة خروجي بصفقة المغبون من مسعاي في ائتلاف سنة 1925 وائتلاف سنة 1935، يحق لي أن أقول إني مغبون في قومي، هذا على الأقل شعوري سنة 1936.
حرمت طيلة حياتي من معاونة الغير لي؛ لم أجد معاونة لي في أعمالي ومشروعاتي ومنهجي في الحياة، لا من المجتمع، ولا من الحكومات، ولا من الهيئات، ولا من الأفراد (إلا قليلا منهم). كل كفاحي أو معظمه كان يسير بلا سند إلا من معونة الله، لم أنل من المجتمع ولا من الحكومات أي علامة تقدير لأعمالي، لا أقول هذا طعنا في المجتمع، بل تقريرا للواقع، وتحدثا بنعمة الله، نعمة الصبر. ويلزمني أن أعترف بأنني، إلى جانب حرماني من التقدير، واجهت عقبات وتنكرا وجحودا من هنا ومن هناك. وعلام كل هذا؟ لا أدري. إذا كنت على حق يتنكر له الناس، أم على باطل يتولى الناس تقويمه. على كل حال إن اعتقادي أنني على حق وأنني كنت مغبونا في قومي. قد أكون مخطئا في اعتقادي، ولكنهم يقولون: لكل مجتهد نصيب، إن أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران.
أستطيع أن أقول إني دائن للناس لا مدين لهم، أنا لا أحاسب المجتمع على ذلك، بل إني لمغتبط أن ينتهي بي المطاف أن أكون دائنا لا مدينا. أليس من قواعد المثالية أن يضحي الإنسان للمجتمع؟ فها أنا ذا أؤدي ضريبة التضحية على أوسع نطاق، فلماذا أغضب ولماذا أحنق؟! وفي الواقع إن الأمم لا تنهض إلا بمن يضحون من أجلها، ولكن لا ريب أيضا أن الأمة التي تبخس المواطنين والمجاهدين أقدارهم تخذل في نفوس الناس روح الإخلاص في خدمتها؛ لأن الناس ليسوا في الغالب ملائكة يحتملون هذه المعاملة، ولعل هذا الخذلان من أهم أسباب تأخر الأمم الشرقية. (4) معارضتي لمعاهدة سنة 1936
أحاط الوفد معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 بدعاية واسعة النطاق، صاخبة الأساليب، فأكثر من رسائل التأييد والتحبيذ لها، وأقام الحفلات والمظاهرات ابتهاجا بها وعدها فتحا مبينا، وقال عنها النحاس قولته المشهورة التي اتخذت حجة على مصر في مجلس الأمن سنة 1947 وهي أنها «وثيقة الشرف والاستقلال»، واستقبل عند عودته من لندن استقبال الغزاة الفاتحين! فكان هذا الاستقبال وسيلة من وسائل التضليل والدعاية للمعاهدة التي أقرت الاحتلال الأجنبي في البلاد وأقرت فصل السودان عمليا عن مصر.
كانت مهمة المعارضة بالنسبة لهذه المعاهدة مهمة شاقة شائكة؛ إذ كيف يسمع للمعارضين صوت في هذا الجو الصاخب المملوء بدعايات المغالطة والتمويه وبمظاهر الطبل والزمر؟
على أنني بعد أن قرأت نصوص المعاهدة ودرستها وفهمتها على وجهها الصحيح، وجدت أنه لا يجوز السكوت على تضليل الأمة إلى هذا الحد، وأن علينا أن نجهر برأينا في حقيقة المعاهدة سواء أسمع أم لم يسمع، ولئن لم يسمع في حينه فلا بد أن يأتي يوم تظهر فيه حقيقته ووجاهته.
فبادرت بوضع بحث مفصل في مساوئ المعاهدة وإظهارها على حقيقتها، وجعلت عنوان البحث «استقلال أم حماية» وعرضته على المرحوم أنطون بك الجميل «باشا» رئيس تحرير الأهرام لينشره في الأهرام، وكتبت له جوابا خاصا بأن من حقنا على الأهرام أن تنشر رأينا كمعارضين إلى جانب رأي المروجين والمحبذين. فلم يتردد رحمه الله في الاستجابة إلى طلبي، ونشر رسالتي كاملة في عدد 26 سبتمبر سنة 1936، وقد استغرقت أكثر من صحيفتين كاملتين من الأهرام، فكانت أول صوت للمعارضة ارتفع بالطعن في المعاهدة بعد توقيعها. وقد بدأتها بقولي: «الآن وقد نشرت نصوص المعاهدة وانقضت فترة كافية لمن أرادوا الابتهاج بها، يجب على الأمة أن تبحثها وتفهمها على حقيقتها؛ لأنها لا ترتبط بحقوق الأفراد وحدهم، بل تتعلق بحقوق الوطن في حاضره ومستقبله، ولا تقتصر نتائجها على الجيل الحاضر فحسب بل تتعدى إلى الأجيال المقبلة. وإذا كانت عقود التصرفات بين الأفراد كالبيع والإيجار والرهن وما إلى ذلك لا يبرمها أصحاب الشأن فيها إلا بعد بحثها وتمحيصها وإنعام النظر في شروطها ومحتوياتها، فأجدر بالعقود التي يرتبط بها مصير أمة أن تكون موضع الدرس والعناية من طبقات الأمة كافة حتى يتبين أي مصير هي قادمة عليه إذا هي قبلت المعاهدة.»
وقد كان لنشر رسالتي في الأهرام صدى بعيد في الرأي العام، وانبرى مروجو المعاهدة ومؤيدوها للرد عليها في الأهرام وغير الأهرام، ولكن لا أظن أنهم استطاعوا أن يزيلوا تأثير ما احتوت عليه من الحجج والأدلة المنطقية القوية، وقد لاقت الرسالة اهتماما كبيرا حتى اضطررت إلى طبعها على حدة بعد نشرها بالأهرام، وأعدت طبعها مرتين؛ أي إني طبعتها ثلاث مرات عدا نشرها في الأهرام، وكنت أوزعها مجانا لمن يطلبها، وقد وقعتها بصفتي سكرتيرا للحزب الوطني، فكانت معبرة عن رأي الحزب في رفض المعاهدة، وأعلن رئيس الحزب وأعضاؤه البارزون بحوثهم وآراءهم وكلها متفقة على رفض المعاهدة. (5) عودتي إلى الحياة البرلمانية (1939-1951)
إن القدر وحده هو الذي أعادني إلى الحياة البرلمانية سنة 1939 بعد أن أقصتني عنها الحزبية الوفدية نيفا وثلاث عشرة سنة.
في سبتمبر من تلك السنة توفي المرحوم محمد محمد الشناوي بك عضو مجلس الشيوخ عن دائرة كفر بدواي بمديرية الدقهلية،
2
وهي تضم بلادا من مركز المنصورة ومركز فارسكور وتمتد إلى شطوط دمياط، وأهل هذه البلاد يعرفونني حق المعرفة ويذكرون مواقفي في مجلس النواب الأول والذي يليه، وكثيرون منهم كانوا يتوقون إلى أن أعود إلى الحياة البرلمانية سواء في مجلس النواب أو في مجلس الشيوخ. وكان الوفد قد قرر عدم الترشيح للمراكز التي تخلو وقتئذ في البرلمان بحجة تدخل الحكومة في انتخابات سنة 1938، وهذا القرار لم يكن له مدى زمني معلوم. على أنني قد أعربت لإخوة الشناوي بك عن رغبتي في ترشيح نفسي لهذه الدائرة وسألتهم هل أحد منهم يرغب في الترشيح لها، فأجابوني بالسلب، فاستخرت الله واعتزمت ترشيح نفسي لهذه الدائرة، وقدمت أوراق ترشيحي بمديرية الدقهلية يوم 14 أكتوبر سنة 1939. ولكن سرعان ما ظهر لي منافس من حزب الأحرار الدستوريين الذين كانوا أصحاب الغالبية في انتخابات سنة 1938، وأعرب عن رغبته في ترشيح نفسه، وأيده حزبه في ذلك. ومن حسن الحظ أن حزبه كان قد ترك الحكم قبيل ذلك؛ إذ استقال محمد محمود باشا أو طلب إليه أن يستقيل في سبتمبر سنة 1939، وتولى الوزارة علي ماهر باشا ولم يشترك فيها حزب الأحرار الدستوريين، على أنهم بوصف كونهم أصحاب الغالبية في مجلس النواب كان لهم صوت مسموع في الحكومة، وقد أرادوا أن يرشحوا واحدا منهم لهذه الدائرة التي خلت ليزيدوا من عدد ممثليهم في مجلس الشيوخ.
ولكن أعيان المنطقة وقفوا بجانبي موقفا مشرفا كان له أثره في نجاحي بالتزكية، ذلك أنهم صارحوا عبد الجليل أبو سمرة باشا بأنهم مع صداقتهم له ولعائلة أبو سعدة «عائلة المرشح الدستوري» وعائلة أبو سمرة فإنهم لا يمكن أن يؤثروا مرشح الأحرار الدستوريين علي ولا بد أنهم سيكونون في صفي إذا حصلت المزاحمة بيننا. فاستجاب عبد الجليل باشا إلى ندائهم، وارتضى أن يقنع قريبه بتنازله عن التقدم للترشيح، ولم يرض هذا الموقف زعماء الحزب في مصر ولاموا عبد الجليل باشا على تسببه في خسارة الدائرة وتضييعها على حزبهم. فاعتذر بأن أقرباءه وأصدقاءه في المنطقة أصروا على خذلان مرشحهم إذا هو تقدم ضدي. فسكتوا على مضض؛ ومن ثم لم يتقدم ضدي أي مرشح آخر وانتهت العشرة الأيام المحددة للترشيح بسلام. وبذلك صرت عضوا في مجلس الشيوخ منذ الساعة الخامسة من مساء يوم الأحد 22 أكتوبر سنة 1939.
ومن الحق في هذا المقام أن أنوه بفضل علي ماهر باشا في نجاحي؛ فإنه رحب بترشيحي ترحيبا حارا، وكان وقتئذ رئيسا للوزارة، فكان لترحيبه صداه في رجال الإدارة، كما كان له أثره في تسهيل انسحاب مزاحمي الدستوري؛ إذ قطع الأمل من مساعدة الإدارة له.
عدت إذن إلى الحياة البرلمانية وانتظمت في صفوف المعارضين، وكان الوفد يومئذ في المعارضة يشغل مقاعدها في مجلس الشيوخ، وكان له عدد وافر فيها، بخلاف مجلس النواب، وقد تضامنت معهم (عن عقيدة) في المعارضة. وفي خطبتي الأولى التي ألقيتها في المجلس بجلسة 11 ديسمبر سنة 1939 لمناسبة الرد على خطاب العرش نوهت إلى أنهم فيما مضى (سنة 1924) كانوا لا ينظرون بعين الارتياح إلى مواقفنا كمعارضين، وها قد دارت الأيام فجمعتنا صفوف المعارضة، وكانت خطبتي تحمل في طياتها معنى عتابهم على محاربتهم لي في الماضي، قلت في هذا الصدد ما يأتي: «زملائي الأعزاء! أرجو أن تسمحوا لي وأنا أقف بينكم لأول مرة أن أرجع قليلا إلى ذكريات الماضي. لقد كنت عضوا في مجلس النواب الأول سنة 1924، ووقفت مثل هذا الموقف مبديا آرائي وملاحظاتي على خطاب العرش، وقد ألقاه وقتئذ المغفور له سعد زغلول باشا، وكانت الحياة البرلمانية في مستهل عهدها، وتقاليدها جديدة علينا، ففكرت مليا مع طائفة عزيزة من النواب في أي خطة نسلكها في البرلمان. فاتفقنا على أن تكون خطتنا هي الدفاع عن المبادئ التي نؤمن بها والتي صارت جزءا من حياتنا السياسية، وأن نؤيد الوزارة في كل ما يتفق وهذه المبادئ وفي كل ما تعمل لصالح البلاد، وأن ننقدها بالرفق واللين فيما نعتقد أنها أخطأت فيه. وقد اصطلح الناس على تسمية هذه الخطة بالمعارضة، فرضينا بهذه التسمية؛ إذ جعلناها خالصة لوجه الله والوطن، ودار الجدل الطويل وقتئذ على المعارضة في ذاتها: هل هي لازمة أم غير لازمة، نافعة أم ضارة؟ ثم جاءت انتخابات سنة 1925 لمجلس النواب الثاني ، فانتخبت فيه ولكن لم يطل عهده كما تعلمون، ثم انقطعت صلتي بالحياة البرلمانية من الناحية الرسمية مع استمرارها من الناحية الروحية والفكرية، إلى أن انتخبت في أكتوبر الماضي عضوا بمجلسكم الموقر. فلما زرت معاهد البرلمان لأرى مدى التغييرات التي طرأت عليها في خلال هذه السنين رأيت الأوضاع هي هي، غير أني لاحظت أن قاعة فخمة قد أعدت للمعارضة في مجلس النواب، وقاعة فخمة أخرى قد أعدت للمعارضة في مجلس الشيوخ، وهذا هو الشيء الجديد. وهكذا بعد أن كانت فكرة المعارضة موضع القيل والقال، والجدل والحوار، صارت نظاما مستقرا معترفا به من الجميع، وقد زادني هذا التطور اعتقادا بأننا كنا على حق سنة 1924 وسنة 1925، وأن المعارضة ما دامت تنشد الحق والمصلحة الوطنية هي ركن من أركان الحياة النيابية، وهي خير معوان للحكومة فيما تضطلع به من الأعباء الجسام.»
ثم حملت على معاهدة سنة 1936 وذكرت إهدارها للجلاء وإقرارها الوضع الباطل في السودان، وقلت فيما قلت: «أنا لست فيما أقول نظريا، بل إني أستلهم آرائي من المشاهدات الدولية التي نراها كل يوم؛ فالذي نشاهده أن معاهدات التحالف أو الصداقة أو مواثيق الضمان بين إنجلترا وغيرنا من الدول التي تربطها بها المصالح المشتركة قائمة على أساس عدم وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في تلك البلاد، فتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن يكون الجلاء هو أساس التحالف والتعاون بيننا وبين بريطانيا. لقد تعاهدت بريطانيا مع تركيا كما تعهدت لليونان ورومانيا وغيرها بمساعدتها في رد أي اعتداء عليها، ومع ذلك لم يكن في أي عهد لها مع هذه الدول وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في أراضيها، وغير خاف أن اليونان ليست أكثر منا قوة ولا أعز نفرا ولا هي أقل استهدافا لخطر الغزو الخارجي، ومع ذلك لم يقل أحد أن درء هذا الخطر يكون بوجود قوات مستديمة لبريطانيا فيها، ولا يمكننا ونحن من المؤمنين بمبدأ الجلاء أن نقر الوضع الحالي للتحالف، وكذلك لا نقر الوضع الحالي للسودان كما هو وارد في المعاهدة. إن الأساس الصحيح للتعاون بين الدول التي تحترم استقلالها هو ما صرح به المستر تشمبرلين في مجلس العموم البريطاني يوم 12 أبريل الماضي (1939) إذ قال إن كل عمل يهدد استقلال اليونان ورومانيا وترى اليونان أو رومانيا أن مصلحتها الحيوية تقضي عليها بمقاومته بقواها الوطنية هو عمل يلزم الحكومة البريطانية بأن تقدم في الحال المساعدة للحكومة اليونانية أو الحكومة الرومانية، هذا الأساس هو الذي نريده ونبغيه.»
ثم تكلمت من الناحية الداخلية على «وجوب تقوية الجيش وربط النهضة الحربية بالنهضة الاقتصادية، وأن من أولى مظاهر هذا الارتباط أن يستوفي الجيش جميع حاجاته من ملبس ومأكل وأسلحة ومدافع ومهمات وذخائر من موارد البلاد، وبذلك يتم للجيش الطابع القومي طابع الاستقلال والكرامة، وتنشأ في البلاد صناعات حربية وغير حربية تتسع بها آفاق النهضة الاقتصادية وتجد الأيدي العاملة والرءوس المدبرة مجالا جديدا للعمل والإنتاج، وبهذه الوسيلة تكون ملايين الجنيهات التي يقتضيها الدفاع الوطني بمثابة رءوس أموال تستثمر في البلاد وتزيد من رخائها وثروتها، ولا تكون نفقات الدفاع وتكاليفه عبئا على الميزانية وعلى البلاد كما يتوهم البعض، بل تكون سببا لتقدمها الصناعي والعمراني، أو بعبارة أخرى يجب أن يتم الانسجام بين الدفاع الوطني والاقتصاد القومي. وإني لأرجو أن تعنى الوزارة بهذه الناحية كل العناية، وإذا كانت مصر في عهد محمد علي قد كفلت بمواردها ومصانعها حاجات الجيش بأكملها فأولى بها وقد خطت في ميادين العلم والتقدم هذه الخطوات الواسعة أن تكفل حاجات جيشها الحديث بنفس هذه الطريقة.»
ثم تحدثت عن التعاون حديثا طويلا ودعوت الوزارة إلى العناية به.
وإذ كان كلامي عن معاهدة سنة 1936 طعنا في مشروعيتها وصحتها؛ فقد انبرى لي أحد الشيوخ الوفديين في الجلسة مدافعا عنها وقال: «إنه لا يصح أن نتجاهل الحقائق، ويكفي (في نظره) أن يعترف الأجنبي في المعاهدة بأن احتلاله انتهى وأنه بعد عشرين سنة نقوي فيها جيشنا ونستطيع بعدها أن نحافظ على قناة السويس التي هي مهمة لنا ومهمة له (كذا) يكفي أن يخرج حينئذ من البلاد بلا رجعة. وإذا قال هذا الأجنبي ساعتئذ (أي سنة 1956) لا، أمكننا أن نحتكم في هذا الأمر إلى عصبة الأمم. وكلام حضرة الزميل المحترم (مشيرا إلي) رجوع إلى الماضي واعتراض على معاهدة نظرتها الأحزاب كلها في جبهة متحدة؛ ومن أجل هذا سميت وثيقة الشرف والاستقلال، ولم يكن في الإمكان الحصول على أفضل مما حصلنا، ومع هذا فيمكن أن نحصل على خير من هذا بفضل جهود المصريين وما يعملونه في تأييد الحليفة وفي العمل المجدي المشترك معها وهو الانتصار للديمقراطية.»
وكان كلام حضرة الزميل الوفدي انتصارا لإنجلترا وإبرازا للتمسك بالمعاهدة دون أي مقتض. (6) معاهدة سنة 1936 ومناداتي ببطلانها في البرلمان
كان حديثي عن معاهدة سنة 1936 في مجلس الشيوخ أول حملة برلمانية على مشروعية المعاهدة بعد إبرامها، حقا إنها كانت موضع الطعن والحملات عليها من المعارضين أثناء عرضها على البرلمان، ولكن بعد أن قرر البرلمان قبولها هدأت الحملة عليها مؤقتا بوصف أنها صارت قانونا من قوانين الدولة.
وقد تابعت الحملة على المعاهدة في مختلف المناسبات.
ففي جلسة 12 يونيو سنة 1940 في عهد وزارة علي باشا ماهر تناقش المجلس في موقف مصر بعد دخول إيطاليا الحرب، واستمع في جلسة سرية إلى بيان رئيس الوزراء ومناقشات الأعضاء، وأصدر بجلسة علنية القرار الآتي: «بعد سماع البيان الذي ألقاه حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء، يقرر المجلس تأييده لهذا البيان كما يؤيد استمرار الحكومة في تقديم أكبر معونة ممكنة للحليفة في دفاعها عن الحق والحرية في حدود معاهدة الصداقة والتحالف.»
فاعترضت على الشطر الأخير من القرار، وأثبت اعتراضي عليه بالجلسة، وأعلنت عدم موافقتي عليه.
ولما استقالت وزارة علي باشا ماهر في يونيو سنة 1940 على أثر التدخل البريطاني وتألفت وزارة حسن صبري باشا نوقش بيانها الوزاري بجلسة 4 يوليو سنة 1940، ووقفت منها موقف المعارضة، وبنيت معارضتي على أنها جاءت في أعقاب تدخل أجنبي اضطر الوزارة السابقة «وزارة علي ماهر» إلى الاستقالة وأنها أعلنت في بيانها أن علاقة مصر ببريطانيا سيكون أساسها تنفيذ معاهدة سنة 1936 بروحها ونصها، وقلت في هذه الجلسة: «إن تأييد الوزارات أو عدم تأييدها يرجع إلى أمرين : أولهما الملابسات والظروف التي تألفت فيها الوزارة، وثانيهما مناهجها ومبادئها.»
وبعد أن شرحت كيف أن استقالة الوزارة السابقة كانت نتيجة تدخل أجنبي، عرجت على الأمر الثاني وقلت: «ومن ناحية أخرى فأنا لا أؤيد الوزارة لأنها تقوم على أساس يخالف مبدئي بصفتي عضوا في الحزب الوطني، ولا شك أن حضراتكم تعلمون رأينا في معاهدة التحالف التي أبرمت سنة 1936، وتعلمون وجهة نظرنا في العلاقات التي يجب أن تكون بين مصر وبريطانيا العظمى؛ فالعلاقة التي يجب أن تكون بين البلدين يجب أن يكون أساسها الجلاء الذي طالما دعونا وما زلنا ندعو إليه وننادي به طوال السنين؛ ولذلك لا يمكن ونحن دعاة هذا المبدأ القويم أن نؤيد وزارة تقوم على غير هذا الأساس.»
وهنا أراد رئيس الجلسة (سليمان باشا السيد سليمان وكيل المجلس) ألا أسترسل في هذا الحديث قائلا: «أرجو حضرة الشيخ المحترم ألا يخرج عن الموضوع وأن يقصر كلامه على بيان الوزارة.»
فقلت: «إني أتكلم في بيان الوزارة الذي جاء فيه أن علاقتنا وبريطانيا العظمى سيكون أساسها تنفيذ معاهدة التحالف والصداقة بروحها ونصها، وهذا الأساس لا نقره بحال.»
وعندئذ تدخل حسن صبري باشا رئيس الوزارة قائلا: «لقد أقسم حضرة الشيخ المحترم على احترام قوانين البلاد، ومعاهدة الصداقة صدر بها قانون يجب احترامه.»
فأجبته: «أنا لا أزال متمسكا برأيي. ولقد كنت دائما ممن عارضوا معاهدة الصداقة والتحالف، والأحزاب والجماعات تطالب الآن (1940) بالجلاء وهو الرأي الذي طالما نادى به الحزب الوطني من قديم وحققت الأيام صحته. فلا يليق بنا في الوقت الذي اتفقت فيه الأحزاب والجماعات على صحة هذا المبدأ وقامت تطالب بالجلاء، أن نتخلى عنه، ولا يتفق مع مبادئ الحزب الوطني أن نؤيد وزارة تقوم على غير هذا الأساس.»
ثم عاد رئيس الوزارة يجابهني باليمين التي أقسمتها قائلا: وماذا يقول حضرة الشيخ المحترم في اليمين التي أقسمها على احترام قوانين البلاد؟
وهنا تدخل المرحوم الأستاذ يوسف الجندي (وكان بيني وبينه ود متبادل) ورد على اعتراض رئيس الوزارة قائلا: «إن القسم على احترام قوانين البلاد لا يمنع أي عضو من انتقاد قانون ما أو طلب تعديله.» وقلت معقبا: «نعم، ولي أن أعترض على أي قانون وأطلب تعديله أو إلغاءه.» ثم قلت مخاطبا الأعضاء: «إخواني الأعزاء! إن المبادئ التي يدين بها الحزب الوطني والتي أثبتت الأيام صحتها هي ذلك التراث الوطني المقدس الذي تلقيناه عن أسلافنا العظام، فلا يجوز لنا أن نتنازل عنها أو نتراخى في التمسك بها.» وانتهت المناقشة عند هذا الحد.
ولما تناقش المجلس بجلسة 31 ديسمبر سنة 1940 في خطاب العرش على عهد وزارة حسين سري باشا لم أقر مشروع لجنة الرد على الخطاب، وقد حصلت المناقشة في جلسة سرية وأبديت وجهة نظري في بطلان المعاهدة، وعندما عرض مشروع اللجنة لأخذ الرأي عنه بالجلسة العلنية لم أوافق عليه، وقلت ما نصه: «للأسباب التي أبديتها في الجلسة السرية لا أوافق على مشروع الرد المقدم من اللجنة.»
وخلاصة هذه الأسباب (وهي مدونة تفصيلا في محضر الجلسة السرية) أن خطاب العرش ومشروع الرد عليه كما وضعته اللجنة يحتويان على إقرار الأساس (أساس المعاهدة) الذي يتنافى مع الاستقلال؛ ومن ثم لا أوافق على الخطاب ولا مشروع الرد عليه، وقلت في تأييد وجهة نظري: «لقد اعترضنا كثيرا على أساس التحالف بين مصر وبريطانيا كما ورد في معاهدة سنة 1936 فكانوا يقولون عنا أننا متطرفون أو متطيرون، وها هي الحوادث تنطق بأننا كنا معتدلين فيما قلناه وتوقعناه، ولا أدري ما هي مصلحة البلاد في كتمان الحقائق عنها أو تصوير الأمور على غير حقيقتها. إن الوضع الصحيح للتحالف أو التعاون هو ما نراه بين بريطانيا واليونان؛ نريد أن يعاملونا كما عاملوا اليونان قديما وحديثا؛ لقد ساعدوها على استرداد استقلالها منذ نيف ومائة عام وتركوها طول هذه المدة مستقلة استقلالا صحيحا، تركوها تعتمد على نفسها وتؤلف جيشها وأسطولها، تركوها تقوى وتنمو وتنهض، وساعدوها على توسيع أملاكها، وكانوا كلما تعرض استقلالها للخطر هبوا لنجدتها وحاربوا من أجلها. ومع ذلك لم يكن من شروط التحالف أو التعاون بينهما قديما أو حديثا أن يكون لإنجلترا في أي جزء من أراضي اليونان قوات حربية مستديمة في حالتي الحرب والسلم كما هو الحال عندنا، ولا أن تقتسم وإياها السيادة وتستأثر بالحكم في أي جزء من بلادها كما هو الحال في السودان؛ فهذا النوع من التحالف أو التعاون، هذا النوع السليم الصحيح، هو الذي أنتج دولة قوية هبت للدفاع عن الذمار ضد الغزو الإيطالي لأنها تعتقد حقا أنها تدافع عن الاستقلال لا عن الاحتلال.
أنا لا أتصور استقلالا بغير الجلاء، ولا أتصور احتلالا مهما كان شكله بغير تبعية، ولا أتصور تحالفا بين دولتين مستقلتين يقوم على غير أساس الجلاء، إلا إذا تنازلت إحداهما عن الجلاء أو عن جوهر الاستقلال، هذه هي الحقائق، هذه هي المسميات، أما الأسماء فما أكثرها
إن هي إلا أسماء سميتموها .»
وعندما نظر المجلس بجلسة 17 فبراير سنة 1941 (في عهد وزارة حسين سري باشا أيضا) استجواب حافظ رمضان باشا في الاعتراض على تصريح المستر تشرشل الذي ألقاه في ديسمبر سنة 1939 وأخذ فيه على إيطاليا أنها هاجمت مصر وهي «تحت الحماية البريطانية»، قلت في هذا الاستجواب: «يهمني أن أبين لحضراتكم وجهة نظر الحزب الوطني في هذا الموضوع، ولا أريد أن أكرر ما قلت في الجلسة السرية التي عقدت في الشهر الماضي، بل أقرر أني اعترضت بكل قواي على تصريح المستر تشرشل، والذي أريد أن أقرره الآن أن اعتراضي على هذا التصريح ينطوي أيضا على اعتراضي على المعاهدة. واسمحوا لي أن أبين أن وجهة نظر الحزب الوطني لا تقر المعاهدة لأنها تتنافى مع الجلاء وهو من المبادئ الأساسية للحزب الوطني، كما تتنافى مع ارتباط السودان بمصر ارتباطا لا يقبل التجزئة؛ لهذا نحن نعترض على التصريح وعلى التفسير الذي لابسه، وقد رفضنا المعاهدة وتنفيذها، وقد كان موقف الحزب الوطني موقف المعارضة من كل الوزارات التي قامت على تنفيذ المعاهدة.»
وبجلسة 3 يونيو سنة 1942 التي نوقش فيها خطاب العرش على عهد وزارة النحاس حدثت مناقشة طويلة بيني وبين رئيس المجلس (علي زكي العرابي باشا) ووزير العدل (صبري أبو علم باشا) في شأن المعاهدة ومشروعيتها.
فقد قلت ردا على خطاب العرش: «إن خطاب العرش قد أغفل، وبعبارة أصح: أهدر، نقطتين جوهريتين فيما يتعلق بالسياسة العامة للدولة؛ الأولى خاصة بالجلاء، والثانية خاصة بالسودان. وإني ألاحظ دائما على خطب العرش ظاهرة تستوقف النظر، هي أن كل خطاب عرش لا يخلو من التنويه بأن الوضع الحالي للبلاد والذي يجب أن تقوم عليه كل حكومة هو معاهدة التحالف والصداقة المبرمة سنة 1936، مع أن لنا مندوحة في أن نتجاوز عن هذه النقطة لأنها ليست نقطة جوهرية في خطاب العرش ولا ضرورة لذكرها. وأول ما أعترض عليه أن خطاب العرش ذكر هذا الوضع وأنا موقن أنه ينقض ركنا جوهريا من أركان الاستقلال والسيادة العامة، وهو الركن الخاص بالجلاء، لا أقول هذا لمجرد الكلام في النظريات بل أذكره على أنه حقائق ثابتة يجب أن توضع موضع الاعتبار. لأننا إذا قارنا بين هذا الوضع الذي في مصر ووضع التحالف القائم بين بريطانيا العظمى وحلفائها مثل أمريكا وتركيا واليونان وغيرهم؛ فإننا لا نجد في أي معاهدة من هذه المعاهدات نصا يبيح لها استدامة بقاء قواتها الحربية في بلاد حليفتها في أيام السلم وأيام الحرب كما هو الحال في مصر.»
وهنا قاطعني رئيس المجلس (علي زكي العرابي باشا) قائلا: «هل يعترض حضرة الزميل المحترم على المعاهدة؟»
فأجبت قائلا: «لي هذا الحق، وأريد أن أنتقد السياسة العامة للحكومة، وإذا قيل لي بأن هذا يتعارض مع كونها أقرت بقانون فإني لا أوافقكم على اعتبارها قانونا، ومع ذلك فإن كل القوانين عرضة للمناقشة فيها في البرلمان تمهيدا لتعديلها أو إلغائها.»
فاعترض علي أيضا صبري أبو علم باشا قائلا: إننا الآن في صدد مناقشة خطاب العرش لا في صدد الكلام عن المعاهدة.
فقلت: «إن موضوع كلامي في خطاب العرش ينصب على الجلاء والسودان، وأرجو أن تتركوني أتكلم لأني تكلمت في عهود سابقة عن هذا الموضوع ولم يعترض علي أحد، فلا يصح أن يضيق صدركم الآن بما لم يضق به صدر تلك العهود.»
واستمرت المناقشة من الجانبين سجالا إلى أن قلت: «إن الركن الثاني هو مسألة السودان، وهذه مسألة ليست بالهينة؛ لأن السودان هو نصف المملكة المصرية، ورضاؤنا عن الوضع الحالي للسودان يعتبر منا إقرارا لسيطرة دولة أخرى على هذا النصف من المملكة وهو كما قلت مكمل لها.»
فقال رئيس المجلس مرة ثانية: «هل حضرة الزميل المحترم يعترض على المعاهدة ويرغب في تعديلها؟»
فقلت: «أظن أن حضراتكم تعلمون رأيي في المعاهدة؛ فأنا لم أقبلها ولم أقرها، فلا تحاجوني بالمعاهدة.»
وقال صبري أبو علم: «إذا كان حضرة الزميل المحترم يريد أن يتكلم عن المعاهدة فالطريق الذي يجب أن يسلكه هو أن يقدم اقتراحا بما يريده، لأننا لو أبحنا المناقشة في المعاهدة في كل مناسبة لما انتهينا من ذلك.»
فانبرى بهي الدين بركات باشا يدفع عني هذه المقاطعات وقال: إن «لكل نائب ولكل شيخ الحق كل الحق عند مناقشة خطاب العرش أن يدلي بما يعن له من الآراء وأن يناقش كل مسألة يريد أن يعرض لها، وأنا وإن كنت لا أوافق حضرة الزميل المحترم على بعض آرائه لكني أرى أن من حقه المطلق أن يعارض أية سياسة سواء أكانت متعلقة بالمعاهدة أم غير متعلقة بها.» إلى أن قال: «أقول إنه لا حرج عليه في ذلك مطلقا، ويجب أن نصغي إليه ولا نقاطعه لأن لكل أقلية حقوقا يجب أن تحترم. إن النظام البرلماني لم يوجد إلا لكي يفسح المجال للأقليات ليكون لها صوت محترم يسمع؛ لأن هذا هو أبرز فارق بين الحكم الدكتاتوري والحكم الديمقراطي. أما القول بتقديس معاهدة أو تقديس رأي سياسي معين أيا كان فهذا ليس من النظم البرلمانية أو الديمقراطية في شيء ويجب أن يستبعد من الأذهان.»
وهنا عاد رئيس المجلس إلى الاعتراض قائلا: «إن المسألة ليست مسألة الكلام عن الأقلية أو الأغلبية، ولكن نحن في صدد مناقشة رأي في ذاته، وقد طلبت من حضرة الزميل المحترم أن يحدد رأيه: هل يريد الاعتراض على المعاهدة أو على تنفيذها، أو هل له رغبة في تعديلها؟ طلبت منه أن يحدد أقواله بالدقة حتى يتيسر لنا متابعة آرائه.»
فقلت: «أنا أعترض على المعاهدة.»
وهنا قال صبري أبو علم: «اعترضت ولا أزال أعترض على أن تدور المناقشة على أساس تجاهل معاهدة عقدناها وأقرها البرلمان لأنها تتضمن سياسة ارتبط بها شرف مصر (تأمل!) أما أن تتخذ من خطاب العرش وسيلة للطعن على معاهدة أقررناها ومتوجة بإمضاء جلالة الملك فهذا الوضع لا يمكن أن تقره الحكومة، أما الاقتراح بالتعديل أو الإلغاء فبابه مفتوح.»
وانتهيت من كلامي إلى أني لا أقر خطاب العرش ولا مشروع الرد عليه.
وكان موقف حكومة الوفد في هذه المناقشة موقف تأييد ودفاع وتدعيم للمعاهدة التي أهدرت الجلاء ووحدة وادي النيل.
وبجلسة 8 ديسمبر سنة 1942 لمناسبة الرد على خطاب العرش أيضا في عهد الوزارة الوفدية، قلت في الرد على هذا الخطاب: «أنتقل الآن إلى القسم الخارجي من خطاب العرش، إن نقطة الارتكاز فيه هي معاهدة سنة 1936، وحضراتكم تعلمون وجهة نظرنا فيها، وهي أننا لم نقبلها ولم نقرها لأنها تتعارض مع الجلاء الذي هو أساس مبادئنا، وتتعارض مع ارتباط السودان بمصر، فتعارضها مع هذين المبدأين الأساسيين جعلنا نقف منها هذا الموقف، والجلاء في نظرنا مرادف للاستقلال، وأرجو ألا يتطرق إلى بعض الأذهان أنني إذ أتكلم في هذه النقطة أنشد الخيال؛ لا يا حضرات الزملاء! أنا أتكلم عن عقيدة وعن حقيقة ثابتة، وأضيف إلى ذلك أنكم أدرى بأن التطورات الدولية التي ستعقب هذه الحرب ستكون فيما أعتقد محققة لهذه المبادئ، كمبدأ الجلاء ووحدة وادي النيل السياسية والتاريخية والجغرافية. ولا أخفي على حضراتكم أن من ضمن أسباب الحروب التي تشكو منها الإنسانية نزعة الاستعمار، نزعة تغلب القوي على الضعيف، وهذه النزعة بدأ يظهر لها خصوم أقوياء في صفوف الديمقراطية، وهم يعتقدون بحق أن سلام العالم وراحته وطمأنينته لا تتحقق إلا بالعدول عن هذه النزعة؛ لأن ما كان يصلح في القرنين السابع عشر والثامن عشر لم يعد يصلح مطلقا لهذا العصر، بل إن هذه النزعة كانت سببا في تقلقل السلام في العالم؛ فما علينا إلا أن نتمسك بمبدأ الجلاء ووحدة وادي النيل، وسيأتي اليوم الذي يتحقق فيه هذا المبدأ.»
وقلت يوم 29 ديسمبر سنة 1943 في جلسة الرد على خطاب العرش أيضا: «لقد استوقف نظري في خطاب العرش ما جاء في ختامه من أن مصر أو الشعب المصري يحرص كل الحرص على أن يتمتع باستقلاله تاما كاملا لا تشوبه أية شائبة. وقد تساءلت عندما سمعت هذه الفقرة وتلوتها مرة أخرى في خطاب العرش: كيف يمكن أن يتحقق الاستقلال تاما لا تشوبه أية شائبة بدون الجلاء؟ إن الاستقلال الصحيح لا يتحقق ولا يكون تاما كاملا لا تشوبه أية شائبة إلا إذا تحقق الجلاء.
يا حضرات الزملاء الأعزاء! لقد دافعت غير مرة عن قضية الجلاء من فوق هذا المنبر، وأراني أشعر كل يوم أنا وزملائي أننا إنما ندافع عن قضية عادلة حقة، قضية هي لب الاستقلال وجوهره، ولا يمكن مطلقا أن بلدا من البلدان يتمتع باستقلاله تاما كاملا لا تشوبه أية شائبة إلا إذا تحقق الجلاء فعلا. ولا تظنوا أيها السادة أن مثل هذه الدعوة والمجاهرة بها تسيء إلى الصداقة بين مصر وبريطانيا؛ فإن الصداقة الحقيقية هي التي تبنى على الاحترام المتبادل للحقوق بين الأمم، وهذا هو الأساس الصحيح للصداقة بين الأمم، هذا هو الأساس الذي يجب أن يبنى عليه نظام العالم الجديد.
وفي الواقع، أيها السادة، إذا لم يكن قد حان وقت الجلاء منذ زمن وإذا لم يحن وقت الجلاء عندما يتقرر مصير الشعوب فمتى يحين؟
إذا رجعنا إلى كتاب المستر جلادستون الذي أرسله إلى المرحوم مصطفى كامل باشا سنة 1896 فإننا نراه يقول فيه إن زمن الجلاء قد حان منذ سنين، فإذا كان هذا التصريح قد صدر سنة 1896 من المستر جلادستون وهو رئيس الوزارة البريطانية الذي وقع في عهده الاحتلال سنة 1882، وشيخ الأحرار في إنجلترا، فقوله هذا له وزنه وله قيمته. أما نحن أيها السادة فنعتبر أن زمن الجلاء قد حان منذ سنة 1882، أي من السنة التي وقع فيها الاحتلال؛ لأنه وقع بغير مبرر وبغير سبب.»
إلى أن قلت: «هناك عنصر آخر يؤيد هذه القضية، وهو أن تطور الأفكار العالمية واتجاه الشعوب إلى المثل العليا في خلال هذه الحرب يعتبر وجود قوات حربية أجنبية بصفة مستمرة في أي بلد من البلاد لا يتفق مع استقلال هذا البلد وكرامته القومية، فهذا الاتجاه الجديد يؤيد قضية الجلاء ويجعلها قضية ناجحة.
ومهما قيل، أيها الزملاء الأعزاء، بالنسبة لمصر من أن وجود القوات البريطانية الحربية إنما يقصد به الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس، فلا أظن مطلقا أن الأوضاع الصحيحة والمنطق السليم يتفقان مع هذا التعليل، كما أعتقد أنه لم يعد يتفق مع التطور العالمي الذي أشرت إليه، والذي لا يسمح مطلقا بأن تكون العلاقة مع الشعوب مبنية على وجود قوات حربية أجنبية في البلد المستقل؛ خصوصا أن بريطانيا العظمى قد ارتضت في معاهدة الآستانة سنة 1888، وفي معاهدة لوزان سنة 1923، الوضع السليم لضمان حرية الملاحة في قنال السويس بما لا يتفق مع وجود قوات أجنبية لضمان هذه الحرية؛ ذلك لأن معاهدة سنة 1888 وهي معاهدة الآستانة التي اشتركت في التوقيع عليها بريطانيا العظمى قررت أن قنال السويس يجب أن يكون على الحياد، وقررت أن الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس يجب أن يوكل أمره إلى مصر وإلى القوات المصرية، وكان لها - كما نص في المعاهدة - أن تستعين عند اللزوم إذا لم تكن قواتها كافية للدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس، كان لها أن تستعين بقوات تركية. فلما جاءت معاهدة لوزان التي أبرمت في يوليو سنة 1923 بين تركيا وبين بريطانيا العظمى وحلفائها، أقرت الأحكام الواردة في معاهدة سنة 1888 مع تنازل تركيا عن كل حق لها في مصر والسودان، نص على هذا صراحة في معاهدة لوزان، ومعنى ذلك انفراد مصر بالدفاع عن حرية الملاحة في القنال. إذن فالوضع الصحيح الذي ارتضته بريطانيا هو أن قنال السويس يجب أن يكون على الحياد، وحياد قنال السويس يقتضي حياد الأرض التي يمر بها، وأن حياد قنال السويس يجب أن يكون في كفالة مصر وحدها؛ لأنه بتنازل تركيا عن كل حق لها بمصر والسودان أصبحت مصر منفردة بمعاهدة دولية بضمان حرية الملاحة في القنال. وهذا هو الوضع السليم الذي يجب أن نطالب به، فإذا ما بقيت جنود أجنبية بحجة الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس فلا يكون الغرض الحقيقي منها هو هذا، وإنما يكون لها غرض آخر لا يتفق مع أبسط قواعد الاستقلال ولا مع كرامة البلاد.
أيها الزملاء الأعزاء! ذكرت ما ربحته قضية الجلاء في خلال الحرب، ويلزمني أن أنوه أيضا بأن مذكرة المعارضة الأخيرة
3
التي تقدمت إلى بعض المراجع السياسية تؤيد أيضا قضية الجلاء؛ لأن أول المطالب التي طلبتها المعارضة في هذه العريضة هو جلاء الجنود البريطانية عن الأراضي المصرية.»
وهنا اعترضني أحد الشيوخ الوفديين قائلا: وهل يمكن المطالبة بالجلاء الآن؟
فأجبته بكل بساطة: «إننا نطالب به منذ سنة 1882!»
ثم قلت: «والآن أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول بهذه المناسبة إن هذا المطلب تقاربت الأحزاب على المناداة به، أما نحن - المعارضين القدماء - فنعتبر الجلاء مبدأ لا مطلبا فحسب، ونعتبره عقيدة لا وسيلة للمعارضة فحسب، هو وسيلة للمعارضة ولكنه إلى جانب ذلك عقيدة، وهو مبدأ؛ ولذلك فإننا لا نقبل المعاهدة بدونه.»
وهنا اعترضني محمد صبري أبو علم باشا (وزير العدل) قائلا: «هذا إذا كانت المعاهدة لا تزال معروضة.»
فقلت: «سواء أكانت معروضة أم غير معروضة فإنا لا نقبل المعاهدة بدونه.»
وبجلسة 23 ديسمبر سنة 1946 أعلنت أن معاهدة سنة 1936 باطلة وكذلك اتفاق سنة 1899.
وقلت بجلسة 13 يناير سنة 1947 لمناسبة تصرفات الحاكم العام للسودان (الجنرال هدلستون): «قد يقال إن اتفاقية السودان سنة 1899 قد صححت بمعاهدة سنة 1936، وأنا أقول إنها لم تصحح أبدا وما زال البطلان لاحقا بها، كما أنه لا يزال لاحقا بمعاهدة سنة 1936 لأن هذه المعاهدة تتعارض مع الأوضاع الدولية القديمة والحديثة التي لا تسوغ مطلقا الضغط على شعب من الشعوب لأنه أعزل من السلاح وإكراهه على توقيع اتفاقية أو معاهدة ضده. وهذه الأوضاع التي أشرت إليها ما زالت قائمة، ومن مقتضاها أنه لا يجوز لدولة أن تنتهز وجود جيوشها في أرض دولة أخرى وتنتزع منها معاهدة أو اتفاقية. أتريدون يا حضرات الزملاء دليلا على الإكراه الواقع على مصر عندما أبرمت معاهدة سنة 1936؟ أولا كان الاحتلال قائما في هذه الفترة، وما زال قائما مع الأسف، ولا شك أن الاحتلال يفسد الرضا والتعاقد، وقد أبرز هذا الإكراه بطريقة لبقة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا حينما كان يتفاوض مع السير تشمبرلن وزير خارجية إنجلترا سنة 1927 وكان الحديث سجالا بينهما في أنه يجب أن تقبل مصر مشروع المعاهدة، فماذا قال تشمبرلن للمغفور له ثروت باشا؟ لقد ورد هذا في الكتاب الأخضر الذي نشره ثروت باشا في أعقاب سنة 1927، قال السير أوستن تشمبرلن للمرحوم ثروت باشا ما يأتي: إن لب المسألة في الوقت الحاضر هو ما إذا كان الشعب المصري والحكومة المصرية على استعداد للاعتراف بالظروف الخاصة التي وجدت فيها كل من مصر وإنجلترا تلقاء الأخرى وما إذا كنا نرغب في التعاون الودي مع الحكومة البريطانية لضمان الدفاع عن مصالحنا المشتركة؛ فإن كان الجواب سلبا ظلت العلاقات بين مصر وإنجلترا تحت رحمة أدنى حادث يطرأ وتعرضت تلك العلاقات إلى أزمات قد تضطر بريطانيا العظمى إلى تسويتها بالقوة.
وهذا معناه أنه إذا لم تقبل مصر المعاهدة المعروضة عليها فستكون علاقة إنجلترا معها عرضة لأزمات تضطر إنجلترا إلى أن تتدخل لتسويتها بالقوة، أليس في هذا معنى الإكراه والغصب الذي تواجهنا به إنجلترا لكي تضطر حكومة مصر إلى قبول المعاهدة المفروضة؟ أقول هذا حجة لمن قبل المعاهدة في سنة 1936 للتحلل منها، وقد كنت وما زلت معارضا لها. من الذي يلومنا أو يحتج علينا بهذه المعاهدة ومقدماتها ترجع إلى سنة 1882 وكل الدلائل تدل على أنها أخذت من الحكومة المصرية بطريق الضغط والإكراه؛ فهي إذن باطلة ولا نلزم بها أصلا.»
وقلت بجلسة 12 فبراير سنة 1947: «لقد قال الإنجليز إن كل اتفاق يعقد في ظل الاحتلال باطل، ولقد كان الاحتلال موجودا، والاحتلال هو رمز الإكراه، وقبول مصر هذه المعاهدة في ظل الاحتلال يعتبر إكراها وهو لا يلزم مصر بشيء .»
زملائي في المناداة ببطلان المعاهدة
كنا نحن ممثلي الحزب الوطني في البرلمان لا نفتأ ننادي في مختلف العهود والدورات ببطلان معاهدة سنة 1936؛ إذ هي وليد الغصب والإكراه، نادى بذلك في مجلس الشيوخ حافظ رمضان باشا وأنا، كما نادى به في مجلس النواب محمد محمود جلال بك وفكري أباظة باشا وعبد العزيز الصوفاني بك. كان هذا النداء الذي تكرر منا عاما بعد عام دعوة خالصة للانتقاض على المعاهدة والتحلل منها، والحمد لله أن جعل الأمة مع الزمن تتقبل هذه الدعوة بقبول حسن وتتخذ من هذا البطلان شعارا لها في جهادها لتحقيق أهدافها. (7) التعاون والحركة التعاونية
اعتنقت التعاون منذ سنة 1908، وساهمت في الحركة التعاونية بإرشاد المرحوم عمر بك لطفي مؤسس التعاون في مصر وتوجيه المرحوم محمد بك فريد الذي وجه الحركة الوطنية إلى الإنشاء والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي إلى جانب الجهاد السياسي، ومن يومئذ لم تنقطع جهودي في خدمة النهضة التعاونية.
بدأ التعاون شعبيا سنة 1909.
وفي سنة 1923 أصدرت الحكومة قانونا للتعاون وأنشئ في تلك السنة قسم التعاون بوزارة الزراعة (مصلحة التعاون الآن وتتبع وزارة الشئون الاجتماعية)، ولكن هذا القانون جعل النظام التعاوني حكوميا بحتا، وهو ما لا يتفق والروح التعاونية؛ إذ هي في أصلها روح شعبية، ويجب أن تبقى كذلك، هذا إلى أن هذا القانون كان مقصورا على التعاون الزراعي.
التعاون في مجلس النواب سنة 1924
انتهزت فرصة دخولي مجلس النواب سنة 1924 فأديت تحت قبته ما استطعت من خدمات للتعاون.
لجنة التعاون والشئون الاجتماعية
فاقترحت بجلسة 25 مارس سنة 1924 تأليف لجنة جديدة تضاف إلى اللجان التي انتخبها مجلس النواب، تسمى «لجنة التعاون والشئون الاجتماعية»، وقد أجل المجلس النظر في هذا الاقتراح إلى جلسة 30 مارس وفيها شرحته وقلت ضمن ما قلت: «إن اللجنة المالية لا يمكنها أن تنظر في شئون شركات التعاون لأنها على أنواع مختلفة؛ فمنها شركات التعاون الزراعي وشركات التعاون المنزلي وشركات التعاون المالي والصناعي. والتعاون في الحقيقة هو ركن كبير من أركان الحياة الاقتصادية والاجتماعية في كافة البلدان، وقد دخل بلادنا منذ أكثر من اثني عشر عاما، ولكن حركته بطيئة جدا لأنه لا يوجد تشريع خاص بالتعاون ولا يوجد نظام يضمن مساعدة الحكومة له. فإذا ألفت لجنة خاصة للتعاون يكون الغرض منها أن تبحث في الاقتراحات والمشروعات الخاصة بالتعاون على أنواعه: الزراعي والمنزلي والمالي؛ فإن ذلك يكون داعيا لزيادة الفائدة المرجوة من هذا النظام. إن بلادنا محتاجة كل الحاجة إلى إنشاء التعاون، وقد اهتم كثير من المجالس النيابية في أوروبا بنظام التعاون وأنشأت لجانا خاصة به، وأذكر أن مجلس نواب فرنسا أنشأ سنة 1915 لجنتين، لجنة «التبصر الاجتماعي»
وتختص بكل المسائل الاجتماعية، والثانية واسمها «لجنة العمل» وتختص بالصناع والعمال، وأعتقد أنه يمكن أن يكتفى بلجنة واحدة تبحث في كل ذلك، وإنشاء هذه اللجنة يدل على زيادة عناية الأمة بأعمال التعاون؛ ولذلك أعرض اقتراحي هذا وأطلب أخذ الرأي عليه.»
وبعد مناقشة وجيزة وافقت أغلبية المجلس عليه، وتم تأليف اللجنة بجلسة 7 أبريل سنة 1924.
أخذت لجنة التعاون تؤدي مهمتها في جد ومثابرة، فعقدت إحدى عشرة جلسة في بحث القانون القديم للتعاون (رقم 27 لسنة 1923) الذي أحيل على البرلمان ضمن القوانين التي صدرت قبل انعقاده، وقد قررت اللجنة التعديلات التي رأتها كفيلة بإصلاح هذا القانون وسد ما فيه من النقص، وأتمت وضع مشروع قانون متضمنا هذه التعديلات، وقررت أيضا وجوب تخصيص مبلغ ربع مليون جنيه من ميزانية سنة 1924 لإقراضها بدون فائدة لشركات التعاون الزراعية المؤلفة وفقا لأحكام القانون الجديد. وانتخبتني مقررا لهذا القانون، فأرسلت في 20 مايو سنة 1924 خطابا باسم اللجنة إلى رئيس مجلس النواب (أحمد مظلوم باشا) أرفقت به مشروع القانون، ورجوت منه في الخطاب «أن يعرض المشروع على المجلس في جلسة قريبة حتى يتم في هذا الدور الحالي (دور سنة 1924) تقرير مشروع قانون التعاون الزراعي الذي تنتظره البلاد منذ سنوات عديدة والذي يؤمل أن ينهض بالحالة الاقتصادية وتنال البلاد الفوائد المرجوة منه.»
وذكرت في الخطاب أن اللجنة قررت تخصيص سلفة ربع مليون جنيه من ميزانية سنة 1924 لإقراضها لشركات التعاون الزراعية «ولما كانت الميزانية ستعرض قريبا على المجلس لبحثها وتقريرها فاللجنة تأمل أن تعرضوا معاليكم على هيئة المجلس تقرير هذه السلفة لتخصيصها لشركات التعاون الزراعية التي ألفت أو التي تؤلف طبقا لأحكام هذا القانون، هذا ما قررته اللجنة أرفعه لمعاليكم لعرضه مع مشروع القانون على هيئة المجلس لنظرهما بصفة مستعجلة قبل نظر الميزانية ليقرر ما يراه.»
كتبت «الأهرام» بعددها الصادر في 25 مايو سنة 1924 تحت عنوان: «شركات التعاون الزراعية في مجلس النواب» مقالة لخصت فيها مشروع القانون وقالت: «وينتظر أن يعرض على مجلس النواب في اجتماعه اليوم 25 مايو سنة 1924 ليقرر رأيه فيه.»
ولكن المجلس قبل اقتراح حسين بك هلال أحد النواب الوفديين تأجيل النظر في المشروع حتى تفرغ اللجنة المالية من درس الميزانية، وقد عارضت في هذا التأجيل ولكن ذهبت معارضتي سدى، وأدركت من هذا التأجيل أنه قد يؤدي إلى تعطيل نظر المشروع وتعطيل تقرير السلفة التعاونية إلى دور مقبل. فاقترحت بجلسة 31 مايو سنة 1924 ألا يفض الدور الحالي (دور سنة 1924) قبل النظر في المشروع، فقبل المجلس اقتراحي في تلك الجلسة وأصدر القرار الآتي: «يقرر المجلس نهاية الدور الحالي من انعقاده بمجرد الانتهاء من نظر الميزانية وقانون شركات التعاون الزراعية وما يقرر له المجلس صفة الاستعجال من القوانين الأخرى.»
ولكن المجلس عدل عن هذا القرار بجلسة أول يونيو وقرر «أن يترك أمر فض المجلس لما تقتضيه ظروف العمل وحكمة جلالة الملك.»
وبجلسة 11 يونيو سنة 1924 اقترحت أن يقرر المجلس فتح اعتماد من المال الاحتياطي بربع مليون جنيه لتسليف شركات التعاون الزراعية في خلال السنة المالية الحالية 1924-1925، فعارض وزير المالية (محمد توفيق نسيم باشا) في هذا الاقتراح، وقرر المجلس إرجاء النظر فيه إلى وقت نظر قانون شركات التعاون.
ولما عرض القانون على المجلس بجلسة 8 يونيو سنة 1924 طلب رئيس الوزارة (سعد زغلول باشا) تأجيل النظر فيه إلى دور الانعقاد المقبل بحجة أن الحكومة غير مستعدة للمناقشة فيه في تلك الجلسة لغياب وزير الزراعة (فتح الله بركات باشا) ولأن وكيل الوزارة عزل، فعارضت في التأجيل وقلت: «إن هذا القانون من اختصاص قسم التعاون، ولهذا القسم مدير ومفتش، فيستطيع أحدهما أن يمدنا بما نحتاجه من المعلومات، ومن مصلحة البلاد القصوى تقرير هذا القانون في هذا الدور.» فعقب سعد باشا على معارضتي بقوله: «كنا نود أن ينظر هذا القانون في الدور الحالي ولكن لا يوجد في قسم التعاون الموظف الكبير الذي يعنيه الدستور لأجل أن يمثل الوزارة أمام المجلس؛ لأن الدستور يقضي بألا يمثل الوزارات أمام المجلس إلا كبار الموظفين.» فوافق المجلس على تأجيل النظر في القانون إلى الدور المقبل ...
ومعلوم أن مجلس النواب قد حل في أوائل الدور المقبل (ديسمبر سنة 1924) فلم ينظر القانون ولا تقررت السلفة، ثم حل المجلس الجديد ثانية في مارس سنة 1925 وعطلت الحياة النيابية.
وفي سنة 1927 أقر البرلمان قانون التعاون رقم 22 لتلك السنة، وقد أخذ بمعظم التعديلات التي عرضناها على مجلس النواب سنة 1924، وهو قانون صالح في مجموعه؛ إذ جعل التعاون شعبيا وحكوميا معا؛ ومن ثم أخذت الجهود تتضافر لإقامة صرح التعاون في الريف والحضر.
وبجلسة 21 يونيو سنة 1924، لمناسبة نظر الميزانية اقترحت إرسال بعثة إلى الخارج لدرس نظام التعاون بإيطاليا وبلجيكا وهولاندا وإيرلندا، فوافق نائب وزير الزراعة على هذا الاقتراح وتم تنفيذه.
لجنة سنة 1939
في سبتمبر سنة 1939 على عهد وزارة علي باشا ماهر ألفت وزارة الشئون الاجتماعية لجنة من بعض المعنيين بالحركة التعاونية وهم: الدكتور إبراهيم رشاد بك «باشا» مدير مصلحة التعاون، وأنا، ومحمد ذو الفقار بك، والدكتور أحمد حسين بك «باشا» وكيل مصلحة التعاون وقتئذ، والدكتور يحيى أحمد الدرديري، لبحث كافة الوسائل التي تؤدي إلى النهوض بالحركة التعاونية.
فبحثنا مليا على ضوء التجارب الماضية في خير الوسائل العملية لتحقيق هذا الغرض، ورأينا أنه يجب علاج هذه الحالة من نواح ثلاث: (1) تمويل الجمعيات التعاونية. (2) الإشراف عليها. (3) تعديل قانون التعاون.
والحلول التي عرضناها من جهة التمويل هي إما إنشاء بنك تعاوني مستقل أو تحويل بنك التسليف الزراعي إلى بنك تعاوني.
أما الإشراف على الجمعيات فقد رأينا أنه أساس ضروري لنهضتها وانتظام أعمالها وإرشاد أعضائها إلى حسن إدارتها، وهذا الإشراف تتولاه مصلحة التعاون، ولكن ليس لديها الموظفون الكافون للقيام بهذه المهمة؛ فإن عدد الجمعيات التعاونية كان يبلغ سنة 1939 نحو 800 جمعية، ورأينا أنه يلزمنا أن نصل بها إلى أربعة آلاف جمعية،
4
ولم يكن يتسنى لمصلحة التعاون بنطاقها وقتئذ أن تقوم بمهمة الإرشاد والإشراف بالنسبة لهذا العدد الكبير. وأوضحنا في التقرير أنه من الضروري إنشاء تفتيش للتعاون في كل مديرية قوامه مفتش ومراجع لحسابات الجمعيات أو مراجعان بحسب اتساع المديرية، ومنظم لكل ثلاثين جمعية. ونظرا لصعوبة زيادة عدد الموظفين اقترحنا نقل العدد الكافي من حملة دبلوم التجارة العليا بمختلف الوزارات إلى مصلحة التعاون ليقوموا بمهمة مراجعي حسابات الجمعيات، وأن ينقل إليها بالتدريج العدد الكافي من مهندسي الزراعة ومعاونيها من حملة دبلوم الزراعة العليا من موظفي التفاتيش الزراعية للعمل كمنظمين للجمعيات، على أن يتولى هؤلاء المنظمون مهمة الإرشاد الزراعي ونشر التعاليم الحديثة لوزارة الزراعة والإشراف على عملية مقاومة دودة القطن في مناطق الجمعيات.
قدمنا تقرير اللجنة بهذه المقترحات إلى الوزارة في أكتوبر سنة 1939، وقد نوهت إلى هذا التقرير ومقترحاته في كلمتي بمجلس الشيوخ بجلسة 11 ديسمبر سنة 1939 وأهبت بالحكومة أن تعمل بمحتوياته، وأظن أن هذا التقرير صار مع الزمن موضع التنفيذ تدريجا، مما كان له أثره في اطراد النهضة التعاونية.
وبجلسة 20 مايو سنة 1941 بمجلس الشيوخ لمناسبة المناقشة في ميزانية الدولة تحدثت عن نصيب التعاون في الميزانية المعروضة على المجلس والميزانية السابقة، وأخذت على وزارة الشئون الاجتماعية عدم عنايتها بالتعاون خلال عامين تقريبا منذ إنشائها، وقلت إن كل ما عملته أنها ألفت في سبتمبر سنة 1939 تلك اللجنة التي كنت عضوا فيها وطلبت تنفيذ مقترحاتها.
وقد قابل المجلس هذه الملاحظات بتصفيق الاستحسان واغتبط لها التعاونيون، وإني أستسمح القارئ أن أورد هنا ما قاله الدكتور إبراهيم رشاد بك مدير مصلحة التعاون وقتئذ في «مجلة التعاون» التي كانت تصدرها المصلحة - عدد يوليو سنة 1941 - تحت عنوان: «الحركة التعاونية في مجلس الشيوخ»، قال: «إذا ذكرنا عمر لطفي بك بأنه «رائد التعاون» في مصر الذي كان أول من دعا إليه وأسس جمعياته، والسلطان حسين كامل بأنه «أبو التشريع التعاوني» في مصر؛ إذ قدم باسم الجمعية الزراعية في سنة 1913 أول مشروع قانون للتعاون، وفتح الله بركات باشا بأنه «الوزير التعاوني» الذي بعث الحركة التعاونية من مرقدها وأمدها بالقوة والنشاط، إذا ذكرنا هؤلاء الأعلام التعاونيين في تاريخ حركتنا المباركة، فإننا لا ننسى صديقنا الفاضل الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك وهو أول من وضع التعاون في مصر وضعا عمليا وأطلع الأمة على دقائق هذا المذهب الاقتصادي الاجتماعي الحديث. على أنه وهو تلميذ عمر لطفي لم يقف جهده في خدمة التعاون عند تأليف أول كتاب عربي فيه،
5
بل ساير الحركة التعاونية في مصر منذ سنة 1908 حتى اليوم، وشاركها نعيمها وبأساءها، ولا يزال يرفع صوته عاليا في الدفاع عن حقوقها ومصالحها، وأقرب ما كان ذلك في جلسة مجلس الشيوخ مساء يوم 20 مايو سنة 1941؛ إذ تكلم في التعاون كلام خبير به عليم بحالته، مطلع على مزاياه وفوائده، واقف على العقبات التي تعترض سبيل تقدمه وانتشاره في هذه البلاد.
هكذا ظل هذا الوطني الكبير والمحامي الشهير والشيخ المحترم، زهاء ثلاثة وثلاثين عاما وهو ملازم للحركة التعاونية المصرية، متصل بها أوثق اتصال، مجاهد في سبيلها جهاد الأبطال، أفلا يدل ذلك على إيمان ثابت بالتعاون ونفعه لمصر بل ضرورته لها؟ لقد ظهرت في خلال تلك الحقبة من الزمن نظريات اجتماعية شتى في نواحي العالم، وجربت مشروعات ووسائل لا عداد لها لإصلاح أحوال الطبقات، واطلع الأستاذ الرافعي على ذلك كله وهو العالم المؤرخ ولكنه مع هذا لا يزال على إيمانه بفضل التعاون على كل نظام إصلاحي آخر.
وإذا كان في هذا الثبات شهادة للتعاون؛ فإن فيه أيضا شهادة لذلك الرجل الثابت على مبدئه التعاوني ودلالة على متانة خلقه وشدة وفائه، وقد يتعدد الأصدقاء ويتفاوتون مودة وإخلاصا، ولكن أفضلهم وأبقاهم هو الصديق القديم، فهنيئا للتعاون هذا الصديق.» ثم أوردت المجلة نص كلمتي بالمجلس، وعلقت عليها بقولها : «هذا ما قاله الأستاذ الكبير الرافعي بك في التعاون وضرورة العناية به، وإنا لنرجو أن يكون لكلامه صدى تردده الأرجاء حتى تحظى الحركة التعاونية بالرعاية الواجبة لها والتي لا يمكنها من دونها أن تنهض وتؤتي ثمارها اليانعة، وقليل بعد ذلك أن نوجه عبارات الشكر إلى صديقنا بل صديق التعاون الوفي، ولكنه شكر تاريخ الحركة التعاونية في هذه البلاد الذي سوف يسجل له بأحرف من نور.»
ولمناسبة الرد على خطاب العرش سنة 1942 عرجت في كلمتي التي ألقيتها بجلسة 9 ديسمبر من تلك السنة على التعاون وقلت: «أظن أن حضراتكم سمعتم مني غير مرة كلاما عن مسألة التعاون ربما إلى درجة الإملال، لقد تكلمت عن التعاون وتأييد النهضة التعاونية، وكلامي المتكرر في هذا الموضوع لم يكن بدون مقتض؛ فالظروف أثبتت أن التعاون من أهم الأسلحة لمكافحة الغلاء وسهولة التوزيع؛ ولذلك رأينا، والحمد لله، نهضة طيبة في إنشاء الجمعيات التعاونية، ونهضة من الوزارة بمعاضدة هذه الجمعيات. ولكن الذي أرجوه بإلحاح من الحكومة أن تعنى عناية خاصة بالرقابة على هذه الجمعيات على أحسن وجه؛ فإن إهمال الرقابة يؤدي إلى تدهور الجمعيات بمرور الزمن، والرقابة تكون بزيادة عدد الموظفين المراجعين لحساباتها والمفتشين على أعمالها، يجب أن تقوى «مصلحة التعاون» التي تقوم بهذه الرقابة، ويجب على وزارة التموين أن تمد الجمعيات التعاونية بطلباتها في كل شيء لأن إمداد هذه الجمعيات بكل طلباتها من جميع المواد يساعدها على نمو أعمالها ويزيد الجمهور إقبالا عليها، لأني أخشى إذا ما تراجعنا في إمدادها وتراخينا في إجابة طلباتها أن يحدث رد فعل سيئ الأثر ويؤدي إلى تعثر الحركة التعاونية لا سمح الله.»
أول مؤتمر للتعاون (5 يونيو سنة 1943)
في سنة 1943 أعدت مصلحة التعاون مؤتمرا عاما للتعاون، واختارت لإقامته مدينة المنصورة باعتبارها عاصمة الدقهلية التي تعد من أولى المديريات في الإقبال على الحركة التعاونية، وقد ساهمت في هذا المؤتمر لأنه من الوسائل العملية الفعالة في النهوض بالتعاون والدعاية له وترغيب الناس فيه.
رأس المؤتمر فؤاد سراج الدين وزير الشئون الاجتماعية وقتئذ ودعاني إلى حضور المؤتمر فلبيت الدعوة لأنها قامت على أساس النهوض بنظام ساهمت فيه منذ الساعة الأولى، وحضر المؤتمر أيضا وزير آخر من وزراء الوفد وهو المرحوم الدكتور عبد الواحد الوكيل بك وزير الصحة.
أقيم المؤتمر في سينما «ركس» بالمنصورة بالسكة الجديدة، وكان المكان غاصا بالمدعوين من كبار الأعيان والموظفين والمثقفين من مختلف الطوائف. وكان من خطبائه مدير الدقهلية وقتئذ محمود حسيب بك، وقد أشار في خطبته إلى من خدموا التعاون في مصر، وذكرني منهم، فما إن سمع الجمهور اسمي حتى ضج المكان بالتصفيق الحاد المتكرر حتى اضطررت أن أقف وأشكرهم مبتسما، فزاد التصفيق حدة وتكرارا، فاغتبطت في خاصة نفسي لهذه الظاهرة المفاجئة، وعلمت أن منزلتي في النفوس أكبر مما ظننت، وأنه لا يجوز للمجاهد أن ييأس من أن هذه الأمة تقدر يوما عمله وجهاده.
قانون التعاون سنة 1944
وقد أدت بحوث مختلف اللجان إلى وضع قانون جديد للتعاون وهو القانون رقم 58 لسنة 1944، وكنت مقررا لهذا القانون عند نظره في مجلس الشيوخ، وقد دعا إلى وضعه ما ظهر من التجربة من وجوب إدخال تعديلات جوهرية على قانون سنة 1927 تمشيا مع التطور الحديث وتيسيرا للجمعيات التعاونية وتنظيما لأعمالها وتعضيدا لها في القيام بمهمتها، وأدمجت هذه التعديلات في نصوص هذا القانون بحيث صار قانون سنة 1944 هو القانون الشامل لأحكام التعاون. (8) اعتذاري عن الاستشارة (نوفمبر سنة 1932)
في سنة 1932 عندما عين مصطفى الشوربجي بك ومحمد زكي علي بك «باشا» مستشارين بمحكمة الاستئناف، أفضى إلي المرحوم فؤاد بك حمدي بأن علي ماهر باشا وزير العدل وقتئذ يسره أن يعينني مستشارا، وقال لي: إذا كنت تقبل هذا المنصب فإني مبلغ جوابك إلى ماهر باشا، فأعربت له عن رغبتي في بقائي محاميا ورجوته أن يبلغ ماهر باشا شكري وتقديري لثقته في. وكان فؤاد بك يميل في خاصة نفسه إلى أن أبقى كما كنت لأنه لم يكن يريد لي أن أتخلى عن مهمتي في الكفاح الوطني، ولكنه أبلغني هذه الرغبة إبراء لذمته ولكي يستشف من جوابي إذا كنت قد تعبت أو سئمت من الكفاح فأستريح في ظل هذا المنصب القضائي، فقلت له إني على الرغم مما لقيته وألاقيه لم أتعب بعد ولم أسأم بعد. فقال لي: ولكن ألم تشهد خذلان الأمة لنا في كفاحنا على طول الخط؟ قلت: نعم، إني عالم بهذا الخذلان، وقد عانيت منه أكثر من سواي، وأنا لا ألوم من يقبل أي منصب في هذه الظروف، ولكني شخصيا أود الاستمرار في الكفاح. وطلب مني زكي بك بحضور فؤاد بك حمدي إذا كنت أشعر يوما ما بحاجتي إلى الراحة من عناء هذا الكفاح أن أبلغهما رغبتي في هذا الصدد لكي يهيئا لي السبيل لتعييني مستشارا دون أن يكلفاني أي إجراء يقتضيه هذا التعيين، فشكرتهما ووعدتهما بذلك وحفظت لهما هذا الجميل، على أني رغبت في خاصة نفسي ألا تلجئني الظروف إلى طلب الراحة من هذا العناء. وكان مما قوى في نفسي فكرة الاعتذار عن عدم قبولي هذا المنصب القضائي الممتاز أنني كنت بسبيل تأليف الحلقات الباقية من «تاريخ الحركة القومية» ولم يكن صدر منها حتى ذلك الحين سوى الأجزاء الثلاثة الأولى، وكنت ولم أزل أرى أن القاضي يجب أن يكون بعيدا عن السياسة عملا وتأليفا؛ فكيف أتولى منصب القضاء وأخرج من آن لآخر مؤلفا في التاريخ القومي لا بد أن يتناول حالة مصر السياسية من شتى نواحيها؟! لقد شعرت بالتعارض بين العملين؛ حقا إن للقاضي أن يجمع بين القضاء والتأليف، ولكن في المسائل القانونية، وإذا أراد أن يتجاوزها فليكن ذلك في المسائل العلمية أو الاجتماعية، أما السياسة فلا أرى أن يخوض القاضي غمارها بأي شكل إيجابي لأن القضاء يجب أن يكون بمنأى عن السياسة وعواطفها وخلافاتها، ولا يمكن لمن يكتب في السياسة ألا تكون له ميول سياسية واضحة يحسن بالقاضي أن يكون بعيدا عنها؛ فاشتغالي بتأريخ الحركة القومية كان من أهم الأسباب التي صرفتني عن قبول مناصب القضاء. ومن جهة أخرى فقد كنت في ذلك العام أقوم بطبع كتابي «عصر إسماعيل»، وقد ظهر فعلا في أواخر ديسمبر سنة 1932، وكنت أتوقع أثناء طبعه ألا ينال رضاء المغفور له الملك فؤاد، فرأيت حرجا في أن يصدر المرسوم الملكي بتعييني مستشارا وبعد شهر أو شهرين أخرج كتابا فيه هذه المآخذ على والد الملك الذي يصدر هذا التعيين، لم أرتض لنفسي هذا الموقف؛ إذ لم أجد فيه شيئا من اللياقة. (9) اعتذاري عن الوزارة (نوفمبر سنة 1940)
ألف حسين سري باشا وزارته الأولى في 15 نوفمبر سنة 1940 عقب وفاة المرحوم حسن صبري باشا رئيس الوزارة السابقة، وقد ألفها من المستقلين والأحرار الدستوريين ووزير اتحادي، وعرض علي أثناء تأليفها أن أشترك فيها كوطني، فاعتذرت وعرضت الأمر على اللجنة الإدارية للحزب الوطني فأقرتني على اعتذاري.
استدعاني حسين سري باشا أثناء اشتغاله بتأليف الوزارة إلى دار رئاسة مجلس الوزراء، وكان معه المرحوم الدكتور علي إبراهيم باشا (وزير الصحة في هذه الوزارة) فعرض علي أمر اشتراكي في هذه الوزارة، فشكرته شكرا عميقا على تقديره لي، وقلت له إني لا أستطيع أن أبدي رأيي النهائي إلا بعد الرجوع إلى اللجنة الإدارية للحزب. قال: ولكن الأمر مستعجل وستؤلف الوزارة الليلة. فقلت له: إن في الإمكان استدعاء أعضاء اللجنة على عجل لتجتمع اليوم وتقرر ما تراه. قال: إذن أرجو بعد صدور قرارها أن تبلغني بفحواه تليفونيا اليوم قبل الساعة السادسة مساء. وأعطاني رقم تليفونه الخاص لأتصل به مباشرة في دار الرئاسة، قال: وأرجو حين تعرض المسألة على اللجنة أن تعرضها بروح الاعتدال والموافقة. فوعدته وكررت له شكري. ثم اتصلت بإخواني واجتمعنا واتفقنا رأيا على الاعتذار. ومع تقديري لحسن ظن حسين سري باشا بشخصي فإني وإخواني رأينا أنه لم يكن بد والحرب قائمة من أن يكون برنامج الوزارة هو تنفيذ معاهدة سنة 1936 بروح الود والإخلاص، وقد رأينا في هذا البرنامج ما يتعارض مع سياسة الحزب الوطني؛ وعلى ذلك لم يكن بد من الاعتذار. وقد حافظت على موعدي مع سري باشا في إبلاغه ما استقر عليه رأي اللجنة، وإذ كان الوقت قد أزف فقد اضطررت إلى أن أتصل به من مكتب أنطون بك الجميل «باشا» رئيس تحرير الأهرام، وكنت على موعد معه، وطلبت الرقم الخاص الذي أعطاه لي سري باشا فرد علي شخصيا، وقال لي: خير ! فقلت له: أنا آسف يا دولة الرئيس أن أعتذر؛ فقد اجتمعت باللجنة واللجنة قررت الاعتذار، وإني على كل حال شاكر لدولتك حسن ثقتكم بي، وأرجو لدولتك كمال التوفيق. فقال لي: إني كنت أود أن تكون معنا لنتعاون على خدمة البلاد. فكررت له اعتذاري وشكري، وانتهت المكالمة على ذلك. وكان أنطون بك الجميل على مكتبه يتتبع عباراتها، فلما انتهت قال لي: لقد علمت قبل حضورك أنك دعيت للاشتراك في الوزارة، وكنت أود أن أهنئك بها، ولكني الآن أهنئك باعتذارك عن عدم قبولها. ثم سكت قليلا وقال: رأيتك تعتذر ببساطة عن اشتراكك في الوزارة كما يعتذر الإنسان عن حضور حفلة شاي! وبعد أن سكت هنيهة قال مبتسما: وهل تظن يا عبد الرحمن بك أن الأمة تقدر مثل هذه المواقف؟ فأجبته على الفور: إني أشك في ذلك، ولكن هكذا أنا مرتاح ومطمئن. ثم عاد وقال: أظن أنه سينعم قريبا على الوزراء الجدد برتبة الباشوية (وقد حصل) أفلم تكن الفرصة سانحة لتنال هذه الرتبة التي تستحقها ونناديك يا عبد الرحمن باشا؟ قال ذلك متفكها، فقلت له: ما دمت قد اعتذرت عن الوزارة فإني أعتقد أن الوزارة أهم من الباشوية ... (10) إسقاطي من وكالة نقابة المحامين (ديسمبر سنة 1940)
في ديسمبر سنة 1939 على عهد وزارة علي ماهر باشا، صدر مرسوم بتعيين أعضاء مجلس نقابة المحامين، ومنهم الرئيس والوكيل، وكان صدور هذا المرسوم باتفاق جمهرة المحامين على اختلاف أحزابهم، وحسم خلافا كان قائما بين المحامين بعضهم وبعض، وفي هذا المرسوم عين المرحوم الأستاذ محمود بسيوني نقيبا، وعينت أنا وكيلا للنقابة، والأستاذ محمد توفيق خليل بك أمينا للصندوق، والأستاذ عبد الحميد عبد الحق «باشا» سكرتيرا، وكامل صدقي بك «باشا» وغبريال سعد بك وإدوار قصيري بك ومحمد عبد الملك حمزة بك والأساتذة محمد صبري أبو علم «باشا» وراغب إسكندر وعلي أيوب ويوسف الجندي ومحمود سليمان غنام ومحمود صبري وعبد الحميد لطفي أعضاء.
ولوحظ في هذا المرسوم أن تكون الأحزاب كلها ممثلة في مجلس نقابة المحامين، وكنت بصفتي وكيلا للنقابة أمثل المحامين الوطنيين، وصادف هذا التعيين ارتياح المحامين لأنه كان نموذجا للائتلاف بين الأحزاب وتوحيد الكلمة في محيط المحاماة، وكان يمكن أن يكون مثلا لتوحيد الصفوف وائتلاف الأحزاب في المسائل القومية عامة.
وقد عمل هذا المجلس سنة كاملة في روح من الود والتضامن وصفاء النفوس بين أعضائه ولم تفرق بينهم الحزبية في أي أمر من الأمور.
فلما جاء موعد الانتخابات السنوية للنقابة اجتمعت الجمعية العمومية يوم الجمعة 27 ديسمبر سنة 1940 بدار النقابة بشارع الملكة، وجلس أعضاء المجلس على منضدة في صدر المكان، وجلست أنا إلى يمين الأستاذ محمود بسيوني. وكان الاتفاق كما أبلغني أقطاب الوفد في مجلس النقابة أن يعيدوا انتخاب الأستاذ محمود بسيوني نقيبا ويعيدوا انتخابي وكيلا للنقابة كما كان الوضع السابق، وذهبت مطمئنا إلى مكان الاجتماع، وجلست مطمئنا أيضا طيلة المدة التي اجتمعت فيها الجمعية العمومية، وكان المحامون الوفديون يهنئونني مقدما بإعادة انتخابي وكيلا فازددت اطمئنانا إلى وعودهم. فلما تم انتخاب النقيب وفاز الأستاذ محمود بسيوني جاء دور انتخاب الوكيل، وكنت أيضا إلى اللحظة التي أعطيت أوراق الانتخابات مطوية إلى سكرتير النقابة مطمئنا إلى إعادة انتخابي للوكالة، ولكن في أثناء فرز الأوراق لاحظت أن أصواتا كثيرة أعطيت للأستاذ محمد صبري أبو علم، وكان عضوا بالمجلس، وأخذت أصواته في الازدياد حتى زادت على الأصوات التي أعطيت لي، وعلمت بعد ظهور النتيجة أن الوفديين نقضوا عهدهم معي واتفقوا سرا في آخر لحظة على أن يجعلوا النقابة وفدية لحما ودما، فرشحوا فيما بينهم الأستاذ صبري أبو علم للوكالة، وكانت كلمة السر تتنقل بينهم من جماعة إلى جماعة بحيث لم يشعر بها أحد سواهم، ولم أشعر أنا طبعا بالمؤامرة إلا بعد نفاذها؛ وعلى ذلك سقطت في الانتخاب لوكالة النقابة!
كان لهذا الحادث وما انطوى عليه من نقض العهد والحزبية الجامحة ضجة استياء في الأوساط المثقفة، واستاء لها على الأخص الأستاذ يوسف الجندي الذي كانت تجمعني وإياه صفوف المعارضة في مجلس الشيوخ، واستنكر فعلة المحامين الوفديين معي - وكان بعيدا عن المؤامرة - فأبدى لي أسفه الشديد على هذه الفعلة ورجا مني ألا يكون لها أثر في نفسي يغير من موقفي في المجلس بصفتي معارضا، فقلت له إن معارضتي ليس أساسها ارتباطي بالوفديين - وكانوا وقتئذ في المعارضة - بل أساسها إيماني بالمعارضة، فليطمئن من هذه الناحية.
وهكذا تعددت دلائل نقض العهد معي من الوفديين، فلم أستغرب ما فعلوه هذه المرة، ولكن الأمر الذي حز في نفسي أن يساير المحامون وهم الصفوة المختارة من الطبقة المتعلمة هذه السياسة الملتوية ويعاملوني هذه المعاملة الخالية من روح الاستقامة والتقدير والإنصاف، فهل تطغى الحزبية على هذه المعاني السامية إلى هذا الحد؟! (11) الخلاف في الحزب الوطني
كان اشتراك حافظ رمضان باشا في وزارة حسن صبري باشا سببا لخلاف كبير بين أعضاء الحزب الوطني، وقد بدأ هذا الخلاف في دائرة ضيقة باشتراكه في وزارة محمد محمود باشا سنة 1937؛ إذ كان اشتراكه بغير قرار من اللجنة الإدارية للحزب، فلما فوتح في ذلك اعتذر بأن الوقت لم يكن يتسع لعقد اللجنة قبل تأليف الوزارة فإنها ألفت على عجل، وسكتت اللجنة حتى استقالت وزارة محمد محمود وألف وزارته الثالثة دون أن يشترك فيها حافظ رمضان باشا. فلما وقعت أزمة يونيو سنة 1940 واستقالت وزارة علي ماهر باشا اجتمعت اللجنة الإدارية للحزب يوم 24 يونيو وبحثت في الموقف وهل يشترك الحزب في الوزارة الجديدة إذا دعي لذلك أم لا يشترك، فقررت اللجنة عدم الاشتراك فيها. ثم ألفت وزارة حسن صبري باشا وفيها حافظ رمضان باشا، فوقع الانقسام في اللجنة الإدارية بين معارض لموقف حافظ باشا لمخالفته قرار اللجنة ومؤيد له في موقفه، وبقي هذا الخلاف قائما وشعبتا اللجنة على خلاف بينهما إلى أن تم الصلح بين الفريقين وعادت الوحدة إلى اللجنة في نوفمبر سنة 1946. (12) الصلح بين فريقي الحزب الوطني (نوفمبر سنة 1946)
ما فتئت المساعي تبذل من وسطاء الخير في إزالة أسباب الخلاف والانقسام في الحزب الوطني، وكنت من ناحيتي أرحب بكل مسعى لهذا الغرض، بل كنت أسعى بنفسي لذلك، لأني لم أكن مرتاحا مطلقا لوجود لجنتين إداريتين للحزب كل منهما تعارض الأخرى. وإذ كان الاشتراك في الحكم هو سبب الانقسام فإني كنت أسعى لصيغة للاتفاق تكون مقبولة من الطرفين، وقد اتفق الرأي على ألا يشترك الحزب في وزارة إذا كان برنامجها يتعارض مع مبادئه، وأن يكون هذا هو أساس الاتفاق؛ لأن الأصل في تأليف الوزارات وقيامها وتغييرها أن تقوم على تحقيق مبادئ وغايات معينة تؤمن بها الجماعات والأشخاص الذين يشتركون فيها. وقد تجدد هذا السعي في سنة 1943، ولكنه أخفق، ثم استمر إلى سنة 1946. وكان من أبرز وسطاء الخير في هذا الصدد محمد زكي علي باشا وفكري أباظة باشا؛ فإنهما - والحق يقال - كان لهما فضل كبير في إزالة أسباب الانقسام، وقد تم الصلح في نوفمبر سنة 1946 واتفقنا على صيغة عامة أبلغناها إلى الصحف وهي: «في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد وحيال الأحداث التي تهددها في كيانها ووحدتها واستقلالها، رأى رجال الحزب الوطني أن يزيلوا ما بينهم من خلاف لكي يعيدوا الوحدة إلى صفوفهم ولتكون دعوتهم إلى وحدة صفوف الأمة أقوى وأدعى إلى الاستجابة؛ ولذلك اجتمعوا وتم الاتفاق بينهم وعادوا إخوانا متضامنين في العمل والجهاد.»
ونشرت «الأهرام» هذه الصيغة بعدد 7 / 11 / 1946 مع تعديل عبارة: «في العمل والجهاد» وجعلها: «في خدمة البلاد»، وكانت الرقابة على الصحف لا تزال قائمة، ولعلها أشارت بهذا التعديل الذي لا يغير من جوهر البيان شيئا.
ولم ندخل في البيان شيئا عن الاشتراك في الحكم، على أنه في صدد أحاديث الصلح كان الاتفاق على ألا يدخل الحزب الوطني الحكم منفردا أو مشتركا إلا إذا كان برنامج الوزارة لا يتعارض مع مبادئه، وأن الأمر في هذا الصدد يكون موكولا للجنة الإدارية، واتفقنا على أن تكون اللجنة الإدارية مؤلفة من فريقي اللجنة ومن انضموا إلى كل منهما أثناء الخلاف.
وقد حدث مع الأسف صدع جديد في الحزب سنة 1950 أرجو أن يتلافاه وسطاء الخير ويعيدوا إلى الحزب وحدته. (13) إذاعاتي بالراديو (1940-1951)
كانت أول إذاعة لي بالراديو في الساعة الثامنة من مساء يوم السبت 10 فبراير سنة 1940، وكان حديثي عن ذكرى مصطفى كامل لمناسبة مرور اثنين وثلاثين عاما على وفاته. وقد فكرت في أن أجعل كلمتي عن ذكرى الزعيم عن طريق الراديو بدلا من الصحف أو الخطب في المحافل، ورأيت في ذلك تنويعا في أساليب الحديث عن الذكرى، وقد رأيت في هذه الوسيلة تعميما للحديث؛ فإن الذين يحبون أن يستمعوا إلى الراديو أكثر ممن يحبون القراءة في الصحف أو المجلات، وهم من باب أولى أكثر عددا ممن يسمعون الخطيب في اجتماع مهما كان كبيرا (إلا إذا أذيع بالراديو).
ومما أذكره عن أول إذاعة لي أني قبل موعدها بشهر تقريبا كتبت إلى وزارة الشئون الاجتماعية (التي كانت تتبعها الإذاعة) خطابا بإبداء رغبتي في إلقاء حديث عن «مصطفى كامل» لمناسبة ذكرى وفاته، فرحبت الوزارة بطلبي، واتفقت مع دار الإذاعة (وكانت لا تزال شركة بريطانية) على تحديد الموعد الذي طلبته لإذاعة حديثي، وقبل الموعد بأسبوع جاءني خطاب من مراقب عام الإذاعة يدعوني فيه إلى الحضور إلى دار الإذاعة في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الجمعة 9 فبراير «للتمرن على الميكروفون»، فاستغربت من هذا الخطاب، وابتسمت وأنا أقرؤه وقلت: يا عجبا! هل يكون الكلام في الميكروفون أصعب من المرافعات أمام المحاكم أو الخطب في المحافل؟ وعلى كل حال فقد لبيت الطلب، وذهبت إلى دار الإذاعة في الموعد المحدد «للتمرين»، وقابلت سعيد بك لطفي «باشا» وهو صديقي وزميل لي، وقلت له مبتسما: ها أنا ذا قد حضرت لأداء الامتحان، فضحك وقال: لا تعجب لذلك؛ فإن الكلام في الراديو غير الكلام في المحافل أو المحاكم؛ إننا نريد أن يكون حديثك ناجحا، خصوصا وهذا أول حديث لك في الراديو، فلا بد أن تعرف طريقة الكلام في الراديو ودرجة علو الصوت أثناء إلقاء الحديث، والمسافة التي يحسن أن تكون بينك وبين الميكروفون، وما إلى ذلك من الملاحظات الفنية، فقلت: حسن، وأنا مرتاح لأداء الامتحان. فدخلت مع الموظف المختص إلى غرفة الميكروفون، وهي غرفة ضيقة مقفلة الأبواب والنوافذ، وأشار علي بأن يكون صوتي هادئا لا عاليا ولا متهدجا، وأبدى لي بعض الملاحظات الفنية، وكان الحديث مكتوبا ووافقت عليه الإذاعة من قبل، فجلست أمام الميكروفون في الموضع الذي عينه لي المذيع، وأخذت في إلقاء الحديث، وأخذ هو يسمعه وحده من سماعة وضعها على أذنيه، فبدا لي وهو يسمعه أنه مرتاح لطريقة إلقائي، وبعد أن ألقيت ربعه أو ثلثه قال لي: كفى يا بك، إنك تلقي حديثك بأبدع ما يمكن، فقلت: الحمد لله، لقد نجحت في الامتحان ...
وفي اليوم المحدد لإلقائه ألقيته على الطريقة التي أديتها يوم الامتحان، واستمع له الناس في مختلف المدن والمقاهي والمنازل، وسمعت إعجابا به من كل ناحية، وقال لي بعض أصدقائي الفنيين إنك في الميكروفون أخطب منك في المحافل، وقال لي بهذه المناسبة إنه قد يكون الإنسان من أعظم الخطباء ولكن صوته في الراديو لا يكون مرغوبا فيه، والعكس بالعكس، وإن صوتك وطريقة إلقائك منسجمان تماما مع الراديو. وقد لاحظت أن الإذاعة بالراديو أعم من الكتابة في الصحف ومن الخطابة في المحافل (إلا إذا أذيعت الخطابة بالراديو)؛ وهذا ما دعاني إلى أن أتابع أحاديثي في الراديو، فأخذت منذ ذلك العام أذيع كل سنة حديثين: الأول في 10 فبراير عن ذكرى وفاة مصطفى كامل، والثاني في 15 نوفمبر عن ذكرى محمد فريد، عدا ما تطلبه الإذاعة من أحاديث في مواضيع أخرى.
ومن أهم الأحاديث التي طلبتها مني وأذعتها عدة أحاديث عن السودان سنة 1947، وقد أذعت حديثي الأول في هذا الموضوع يوم 8 مارس سنة 1947 عن «وحدة وادي النيل: تكييفها وما هو الغرض منها»، والثاني يوم 15 منه عن «الدعوة الانفصالية في السودان فكرة استعمارية»، والثالث يوم 22 منه عن «الاستفتاء وتقرير مصير السودان»، والرابع يوم 29 منه عن «خدعة الحكم الذاتي في السودان»، والخامس يوم 5 أبريل عن «النظام الحاضر في السودان»، وقد نشرت هذه الأحاديث في مجلة الإذاعة المصرية عقب إذاعتها. (14) مباراة مصطفى كامل الأدبية (1941)
في سنة 1940 فكرنا في عمل تقترن فيه الدعوة الوطنية بالنهضة الثقافية لاعتقادنا أن الوعي القومي يساعد على الإيمان بهذه الدعوة، وهي فكرة سار عليها الحزب الوطني منذ تكوينه، وكان من آثارها نشره الصحف والمؤلفات والمجلات وإنشاؤه مدارس الشعب وما إلى ذلك.
مباراة مصطفى كامل الأدبية سنة 1941:
من اليمين إلى اليسار: عبد الرحمن عزام باشا، الدكتور يحيى أحمد الدرديري، عبد الرحمن فهمي بك، عبد القوي أحمد باشا، علي ماهر باشا، عبد الرحمن الرافعي بك، صالح حرب باشا، وفي مواجهتهم: أنطون الجميل باشا، الأستاذ حسين محمود سعيد، مصطفى الشوربجي بك، محمود توفيق حفناوي باشا، فكري أباظة باشا.
فلما أزيح الستار عن تمثال مصطفى كامل في مايو سنة 1940، اجتمعت مع إخواني أعضاء اللجنة الإدارية للحزب وقررنا فيما قررنا الدعوة إلى مسابقة تسمى «مباراة مصطفى كامل الأدبية»، يشترك فيها شباب الجيل، وموضوعها كتابة بحث عن «جهود مصطفى كامل في نواحي النشاط الإنشائي القومي وبخاصة في التعليم والاقتصاد والاجتماع وعلاقة ذلك بدعوته الوطنية»، وتبرع صديقي وزميلي محمد محمود جلال بك بمبلغ خمسين جنيها تعطى مكافأة لمن يحوزون قصب السبق في هذه المباراة. وكانت شروط المباراة: (1) أن يكون المشترك فيها شابا مصريا لا تزيد سنه عن ثلاثين سنة. (2) ألا تزيد الكتابة في موضوع المباراة عن عشر صحائف من القطع الكبير. (3) أن تقدم المواضيع إلى لجنة المباراة التي ألفت من: أنطون الجميل بك «باشا»، عبد الرحمن الرافعي بك، فكري أباظة بك «باشا»، الأستاذ محمود العمري، في مدة ثلاثة أشهر من تاريخ الإعلان عن المباراة.
وقد لبى الدعوة كثير من الشباب بلغت عدتهم عشرين متباريا، وقدم كل منهم بحثه، وكانت بحوثا قيمة دلت حقا على تقدم كبير في أفكار الشباب. وقد قرأت اللجنة كل هذه البحوث وراجعتها ووازنت بينها، ووجدت أن أربعة منها جديرة بالجائزة، فوزعناها بينهم بالتساوي، وأقمنا لهذه المناسبة حفلة شاي فخمة في صالة علي الدلة يوم 9 فبراير سنة 1941 لمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لوفاة الزعيم، وفاز في المباراة كل من: الأستاذ نجيب تاوفيلس الموظف بمصلحة السكك الحديدية، وعلي منصور الطالب بكلية الحقوق، والأستاذ لبيب السعيد الموظف بتفتيش مراقبة القطن بالدقهلية ، والأديب محمد الخالد توفيق ببني مزار.
وألقيت في هذه الحفلة كلمة نوهت فيها بفكرة المباراة وختمتها بقولي: «سادتي الأعزاء! إننا نحن الذين نؤمن برسالة مصطفى كامل نشعر بالغبطة والسرور إذ نرى الشباب يشترك معنا في حمل هذه الرسالة، وما رسالة مصطفى كامل إلا رسالة البعث والحياة، رسالة الحق والحرية، رسالة الوطنية المنزهة عن الهوى، الخالصة لوجه الله والوطن، رسالة الاستقلال والجلاء، رسالة وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه؛ فهي رسالة مجيدة جديرة بأن يشترك الشعب بجميع طبقاته في حملها، هي المثل الأعلى في حياة الأمة في حاضرها ومستقبلها، والأمم لا تنهض ولا تسير قدما إلى الأمام إلا إذا كانت لها مثل عليا تنشدها وتعمل على تحقيقها. ويسرنا ويثلج صدورنا أن نرى الشباب يقدر هذه الرسالة ويدركها بفهمه وبحثه، ويؤمن بها بقلبه وفؤاده، ويخدمها بقلمه ولسانه، ولا غرو؛ فالحقائق الكبرى والمبادئ الإنسانية السامية مكتوب لها البقاء والخلود، والله نصير العاملين.» (15) ضريح مصطفى وفريد
أقيم ضريح مصطفى كامل القديم في المدفن الذي شيده الزعيم لوالدته بشارع المغافر بمدافن الإمام الشافعي، وقد شيعها إلى مرقدها الأخير سنة 1907، ودفن إلى جوارها سنة 1908، ومن يومئذ لم تعمل يد في إصلاح هذا المدفن أو تجديده حتى أخذ التصدع يظهر في سقفه وجدرانه سنة 1939، وصار يخشى على الضريح الطاهر أن يستهدف للأمطار والأعراض الجوية في شتاء ذلك العام. ففكرت مع لفيف من إخواني في تدارك هذا التصدع، وألفنا في أواخر سنة 1939 لجنة لإصلاح الضريح، وتم لها جمع مبلغ يسير اكتتب به تلاميذ الفقيد وأنصاره والمعجبون به، فرممنا ضريحه ترميما جزئيا، ولم يعد مع ذلك في حالة تليق بمكانة الزعيم، فاقترحت في مجلس الشيوخ بجلسة 10 مايو سنة 1944 لمناسبة نظر ميزانية وزارة الأشغال اعتماد مبلغ خمسين ألف جنيه لتشييد مدفن جديد يضم رفات الزعيم، ووعدت الحكومة في هذه الجلسة بتنفيذ هذا الاقتراح، ووضعت تصميم المدفن الجديد، وأقيم في ميدان صلاح الدين بجوار القلعة، وتم تشييده في أواخر سنة 1949.
أما ضريح محمد فريد القديم فهو في مدفن العائلة بجوار مقام السيدة نفيسة رضي الله عنها، وقد أقيم القبر على عجل، وبقي طوال السنين عرضة للعراء والأمطار في حالة لا تتفق ومنزلة الزعيم الشهيد الذي ضحى في سبيل مصر بماله وصحته ونفسه وحياته. وقد اقترحت عندما كنت وزيرا في وزارة حسين سري باشا الائتلافية أن ينقل إلى جوار مصطفى كامل، فقرر مجلس الوزراء في 18 سبتمبر سنة 1949 نقل رفات المرحوم محمد فريد إلى جوار مصطفى كامل بالمدفن الجديد، وهكذا يتاح للزعيمين العظيمين والصديقين الوفيين أن يلتقيا بعد طول النوى ويضمهما قبر واحد بعد أن فرق الزمن بينهما نيفا وأربعين سنة، وأصبح الضريح الجديد «ضريح مصطفى وفريد».
استجوابي عن المعتقلين السياسيين
1941-1942
في إبان الحرب العالمية الأخيرة اعتقلت الحكومة بعض الشبان استنادا إلى نظام الأحكام العرفية.
فتقدمت في 24 نوفمبر سنة 1941 بسؤال عن الأسباب التي سوغت اعتقالهم، وهل كان بأمر النيابة العمومية أم ماذا؟ وهل هناك تهم معينة موجهة إلى أولئك المعتقلين، وهل حصل تحقيق في هذه التهم أم لا؟ وكان غرضي من السؤال وصيغته اعتبار الاعتقال باطلا ما لم يكن بأمر من النيابة.
أجابت الحكومة على هذا السؤال بجلسة 9 ديسمبر سنة 1941 «في عهد وزارة حسين سري باشا». وقد ذكرت في بياني بالجلسة أسماء بعض هؤلاء المعتقلين، وهم: المرحوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام لجمعية الإخوان المسلمين، والأستاذ أحمد السكري وكيلها، والأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتيرها، ومن المحامين الأساتذة أحمد حسين وإبراهيم الزيادي وإبراهيم طلعت، ومن الصحفيين الأستاذ محمد صبيح، ومن المهندسين الأستاذ فتحي أبو الوفا.
كان جواب الحكومة على السؤال أنها أفرجت عن الأساتذة حسن البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين «لزوال الأسباب التي بني عليها أمر اعتقالهم»، فطلبت من الوزارة إعادة البحث في التهم المنسوبة إلى المعتقلين الآخرين، فوعدت بذلك.
ثم تقدم استجواب من المرحوم الأستاذ يوسف الجندي عن المعتقلين السياسيين، وبعد وفاته تمسكت بهذا الاستجواب، وبدأ المجلس بنظره بجلسة 20 يناير سنة 1942 في أواخر عهد وزارة سري باشا، وأخذت في شرحه. ثم استقالت الوزارة وخلفتها الوزارة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس باشا في فبراير سنة 1942، واستمر اعتقال المعتقلين، وزاد عليهم معتقلون آخرون.
وفي 7 أبريل سنة 1942 جددت الاستجواب بتوجيهه إلى رئيس الوزارة الوفدية ونظر بجلسة 20 مايو سنة 1942.
وقد استغرق شرحي للاستجواب خمس صحائف كاملة من مضابط المجلس المطبوعة، وأخذت على حكومة الوفد إبقاءها المعتقلين السياسيين، وزدت عليهم من اعتقلتهم هي، وفي مقدمتهم علي ماهر باشا، وقلت إن الاعتقال السياسي في عهد حكومة الوفد قد حصلت له مضاعفات شديدة تدعو للأسف.
وكان المجلس قبل أن أشرح هذا الاستجواب قد نظر بجلسة سابقة استجواب الأستاذ مصطفى الشوربجي بك عن اعتقال علي باشا ماهر، وقرر المجلس بعد مناقشته «الانتقال إلى جدول الأعمال»، ولاحظ لي بعض الأعضاء من أنصار الحكومة قبل انعقاد الجلسة أن هذا القرار له حجته في استجوابي. فناشدت أعضاء المجلس أن ينظروا في استجوابي غير متأثرين بقرارهم السابق، وقلت في هذا الصدد ما يأتي: «إني أرجو من حضراتكم ألا تعتبروا القرار الذي صدر فيما يتعلق بالحصانة له أثره في استجوابي؛ لأن القرار الذي صدر من المجلس في شأن رفعة علي ماهر باشا إنما هو قرار بالانتقال إلى جدول الأعمال، فليس قرارا موضوعيا ولا مسببا، وإنما هو قرار سلبي بالانتقال من المسألة الفلانية إلى المسألة الفلانية، وهذا لا يمكن أن يؤثر في رأي حضراتكم فيما لو عرضت عليكم مسألة تشبه هذه المسألة عن قرب أو عن بعد.
ومع ذلك، يا حضرات الزملاء، فإن المبادئ السامية التي قررت حقوق الإنسان، ومنها الحرية الشخصية، ووضعت بذلك الحجر الأساسي للحضارة البشرية وللمجتمع الإنساني، لم تتقرر دفعة واحدة في المجالس التشريعية في مختلف العصور والبلدان، بل احتاجت إلى أخذ ورد طويلين، وشد وجذب، ومد وجزر، حتى استقرت آخر الأمر على أساس مكين، وإن مضابط هذه المجالس التشريعية لتفيض بشتى القرارات والبحوث، بعضها غامض مبهم، وبعضها صريح فصيح. وكانت هذه المبادئ في حاجة إلى هذا التطور حتى وضعت في نصابها، فلا يضيرنا أبدا أن تعرض هذه المسائل مرة بعد مرة لأن هذه المبادئ التي استنفدت قرائح العلماء والفلاسفة والمشرعين، والسياسيين والمجاهدين ، استنفدت قرائحهم وجهودهم على توالي السنين، جديرة بأن يعاد فيها النظر المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة، حتى تبرز في حقيقتها الرائعة، وفي حلتها الساطعة، مقررة حقوق الإنسان.
فهذه المبادئ، يا حضرات الزملاء، جديرة بأن تعيدوا النظر فيها حينا بعد حين، وآنا بعد آن، وفي كل ظرف، وفي كل مناسبة، ولا يحول دون ذلك قرار سابق أو لاحق، هذه المبادئ جديرة بأن تحبوها بتأييدكم وعنايتكم، حتى يمكن أن تبرز جلية واضحة وأن توضع في نصابها الصحيح، وحتى يتقرر فيها حقا أن حرية الفرد مكفولة بحكم الدستور وحكم المبادئ السامية.
هذه المبادئ جديرة بأن تحبوها بتأييدكم وعنايتكم، وأنتم جديرون بذلك؛ ومن أجدر منكم بذلك يا شيوخ الأمة، يا حماة الحق، وحماة الدستور، وحماة الحرية؟!
فلا يؤثر إذن في موضوع الاستجواب القرار الذي صدر منكم، وهو قرار محترم، ولكنه ليس قرارا صادرا في الموضع، ولا في الموضوع الذي صدر فيه، ولا يؤثر في الموضوع المعروض الليلة عليكم، ومع ذلك فإن ميزة هذه القاعة الكبرى أنها تنشد الحقيقة في كل مسألة تعرض عليها وتنشد المثل العليا، فإذا ما عرضت عليها مسألة وجب أن ينظر فيها كأنها مسألة جديدة جديرة بأن ينظر فيها بعين العدل والإنصاف والدستور. فاسمحوا لي إذن، يا حضرات الزملاء، أن أعرض على حضراتكم وجهة نظري في أن الأحكام العرفية لا تؤثر مطلقا في حقوق الأفراد التي قررها الدستور، وأن السلطة العسكرية لا تملك القبض على الأشخاص إلا في الحدود الواردة في قانون تحقيق الجنايات.»
ثم شرحت للمجلس وجهة نظري في مدى سلطة الحكومة في الاعتقال، وخلاصتها أن الدستور؛ إذ أجاز تعطيل حكم من أحكامه في أثناء قيام الأحكام العرفية قد اشترط أن يكون ذلك على الوجه المبين في القانون وهو قانون الأحكام العرفية الذي صدر في 26 يونيو سنة 1923؛ أي في أعقاب الدستور. وهذا القانون حدد الأحكام العرفية التي يصح فيها تعطيل حكم من أحكام الدستور، وهي التي تعلن كلما تعرض الأمن أو النظام العام في مصر أو في أي جهة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب إغارة قوات العدو المسلحة أو بسبب وقوع اضطرابات داخلية. أما الأحكام العرفية التي أعلنت في سبتمبر سنة 1939 فقد كان إعلانها بناء على طلب الحكومة البريطانية تنفيذا لمعاهدة سنة 1936 كما هو ثابت من الوثائق الرسمية. فليست هذه هي الحالة التي عناها الشارع في قانون الأحكام العرفية؛ ومن ثم تظل حصانة الأفراد في ظلها قائمة ولا يجوز المساس بها إلا في حدود قانون تحقيق الجنايات.
وهنا قال صبري أبو علم باشا (وزير العدل وقتئذ) إن المعاهدة قد أبرمت بقانون، فأجبت بأن لي رأيا آخر وهو أن المعاهدة شيء والقانون شيء آخر، والمعاهدة ليست قانونا. وتابعت شرح وجهة نظري في أن الأحكام العرفية التي أعلنت في سبتمبر سنة 1939 بناء على طلب الحليفة ليست من النوع الذي يجوز فيه إهدار حصانة الأفراد؛ لأن هناك نوعين من الأحكام العرفية: نوع يقصده الدستور في المادة «155» وهو الموضح في قانون سنة 1923، ونوع آخر تولد عن التزام في معاهدة سنة 1936، فما كان الدستور وهو يوضع في سنة 1923 يتنبأ بأحكام عرفية ستعلن طبقا لمعاهدة أبرمت في سنة 1936؛ أي بعد ثلاث عشرة سنة من صدور الدستور.
وقد رد صبري أبو علم على وجهة نظري ردا ارتكن فيه على المعاهدة، واشترك بعض الأعضاء في المناقشة، ثم قدمت اقتراحا هذا نصه: «أقترح أن يقرر المجلس أن يطلب من الوزارة الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين لم يثبت التحقيق اتهامهم بأي تهمة قانونية وأن يحيل إلى المحاكمة من أثبت التحقيق إدانتهم قانونا.»
فرد صبري أبو علم على هذا الاقتراح بأنه غير دستوري، بحجة أنه تكليف من المجلس للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراء معين، وأن هذا يحل أحد المجلسين محل الحكومة في مباشرة سلطتها التنفيذية وهذا إخلال بمبدأ فصل السلطات.
فأجبت بأن المجلس سار على قاعدة مطردة منذ سنة 1924 إلى الآن وهي أن يقبل الاقتراحات برغبات.
واقترح بعض الشيوخ الوفديين إقفال باب المناقشة والانتقال إلى جدول الأعمال. وتقدم اقتراح ثالث من الشيخ حسن عبد القادر بإحالة الاستجواب إلى لجنة الشئون الدستورية لإبداء رأيها فيه وبحثه من الوجهة الدستورية وتقديم تقريرها للمجلس في ظرف أسبوعين، وقد أجل أخذ الرأي في الاقتراحات الثلاثة إلى جلسة تالية. وبهذه الجلسة (9 يونيو سنة 1942) وافقت الأغلبية على «الانتقال إلى جدول الأعمال ...» (1) استجوابي عن الخبير الاقتصادي البريطاني (يونيو-يوليو سنة 1943)
عينت وزارة الوفد في مايو سنة 1943 المستر جيمس باكستر الاقتصادي البريطاني خبيرا ماليا للحكومة المصرية في المسائل المالية والاقتصادية بعقد لمدة ثلاث سنوات، وكان أمين عثمان باشا وزيرا للمالية في ذلك العهد.
فتقدمت في 5 يونيو سنة 1943 إلى رئيس الوزارة باستجواب عن مسوغات هذا التعيين وأسبابه وظروفه وملابساته، ومبلغ الحاجة إليه، وعن راتبه ومدى سلطته الرسمية وغير الرسمية وأثره في سياسة مصر الاقتصادية والمالية الحالية والمستقبلة.
نظر هذا الاستجواب بجلسة 15 يوليو سنة 1943، وكانت آخر جلسة للدورة البرلمانية. فلما شرعت في شرح استجوابي طلب مني بعض الأعضاء الوفديين أن أنتظر حتى أسمع رد رئيس الوزارة (النحاس باشا) ثم أتكلم بعده، فقلت لهم إن الوضع السليم أن أتكلم أولا ثم يرد رئيس الوزارة، وتمسكت بحقي في الكلام أولا مستندا إلى اللائحة الداخلية، فأجاب المجلس طلبي على مضض، وأخذت في شرح الاستجواب، وموجز أقوالي أن تعيين هذا الموظف المالي الكبير البريطاني قوبل بالدهشة وأن ما يوحي به هذا التعيين أن ليس لدينا خبير أو خبراء ممتازون فنيون في المسائل الاقتصادية والمالية، مع أننا خطونا في الثلاثين سنة الماضية خطوات واسعة في هذا الميدان وتكونت في البلاد فئة ممتازة من الخبراء الاقتصاديين والماليين، أفلا يوجد رجل واحد في هذه الفئة يمكن للحكومة أن تسترشد بخبرته الاقتصادية والمالية في المشاكل التي نشأت عن الحرب والتي ستنشأ بعد انتهائها؟ واستطردت إلى أن المسائل المالية والاقتصادية ليست مسائل فنية فحسب، وإنما هي أولا وقبل كل شيء مسائل قومية قبل أن تكون فنية، وأن الفن فيها يجب أن يكون في خدمة الأغراض القومية، وهي مرتبطة بما يسمى الاستقلال الاقتصادي للبلاد، وكلها ترجع إلى هذا الأساس لأنه لا يصح مطلقا أن تعتبر مصر سوقا دولية. وبعد أن شرحت هذه الفكرة انتقلت إلى فكرة أخرى وهي أن هذا التعين بالذات هو نوع من أنواع الغزو السلمي
pénétration pacifique
قد تكون له نتائج أخطر من الغزو المسلح؛ لأن الغزو السلمي يسير في شيء من الهوادة والاطمئنان وعدم المعارضة وربما يؤدي إلى تدخل دولة أجنبية في شئون الدولة.
وقد أثارت هذه الملاحظة اعتراضات بعض الشيوخ الوفديين، وصاح أحدهم (محمد المغازي عبد ربه باشا ...) قائلا في حدة: «لقد استنار المجلس وكفى!»
فقلت: «يجب أن تتركوني أتمم كلمتي وتستمعوا لها.» وطلب الرئيس (علي زكي العرابي باشا) من الأعضاء أن يدعوني أتمم كلمتي.
فتابعت الكلام وضربت مثلا بالبعثة العسكرية البريطانية والنص في المعاهدة على أن الغرض منها أن تستعين الحكومة المصرية بخبراء حربيين أجانب.
فقال الرئيس: «إن الخبير الاقتصادي لم يأت ذكره في المعاهدة المصرية البريطانية.»
وقال النحاس باشا: «هل نحن نتناقش الآن في المعاهدة المصرية البريطانية أم في تعيين الخبير الاقتصادي؟ إننا نعرف رأيك في المعاهدة ولا داعي لأن تدخل شيئا في شيء.»
فأجبت بأن البعثة العسكرية نص عليها في المعاهدة، أما الخبير الاقتصادي وهو أشد خطورة منها فلم ينص عليه في المعاهدة، وبالتالي نحن غير ملزمين بأن يكون هذا الخبير إنجليزيا.
وألمعت في حديثي إلى ما كان من تعيين مستشار مالي بريطاني سنة 1883 ثم أخذ نفوذه يستفحل حتى صارت له السيطرة الفعلية في الحكومة، وختمت كلمتي بأنه لا توجد مسوغات لتعيين خبير اقتصادي أجنبي للحكومة المصرية، فضلا عن أن هذا التعيين يتعارض مع الاقتصاد القومي.
ورد النحاس باشا على استجوابي ردا طويلا، خلاصته أن المشاكل الاقتصادية والمالية التي واجهتها مصر خلال الحرب وستواجهها بعد انتهائها استدعت تعيين هذا الخبير، ثم قال ما يأتي عن اختياره من الماليين الإنجليز: «وكان من الطبيعي أن يختار الخبير من رجال دولة بيننا وبينها صلات مودة وصداقة وتحالف، وأن يكون معروفا لمصر وعارفا بظروفها المالية، ولم يكن ممكنا اختيار خبير أوروبي من أية دولة أخرى ولا أمريكي لصعوبات مادية ظاهرة، ولأن النظام الإنجليزي المالي أقرب إلى الأنظمة المصرية .»
وبعد أن انتهى النحاس باشا من رده قرر المجلس الانتقال إلى جدول الأعمال ... (2) الأرصدة الإسترلينية (بمجلس الشيوخ أبريل سنة 1944)
أخذت الأرصدة الإسترلينية تتزايد خلال الحرب العالمية بسبب إهمال الحكومة ومجاملتها لبريطانيا، واشتد التضخم في عهد وزارة الوفد، وقد نبهت إلى هذا الخطر في مجلس الشيوخ بجلسة 18 أبريل سنة 1944 لمناسبة المناقشة في السياسة المالية العامة للدولة، وكان ذلك أيضا في عهد وزارة الوفد وكان أمين عثمان باشا وزيرا للمالية، وألقيت كلمة في منشأ الأرصدة وتكييفها وطالبت بوضع حد لها.
1
وأيد بهي الدين بركات باشا وجهة نظري، وزادها وضوحا وتفصيلا في كلمته التي ألقاها في هذا الموضوع بجلسة 20 أبريل سنة 1944 وقال ضمن ما قال: «إن اللجنة المالية أرادت أن تقول أن ليس عندنا تضخم واكتفت بأن تثبت نتائج التضخم - وهي كلها موجودة عندنا - ولكنها لم ترد أن تقول بأن في مصر تضخما. فما هي الحقيقة إذن؟ وبماذا نكيف هذه الحالة وما سببها؟ السبب ما قالته اللجنة وهو وجود الجيوش الأجنبية المتحالفة في مصر، كيف هذا؟ إن الجيوش تصرف وتدفع لنا مقابل ما تصرفه؛ إذن هي تدفع نقدا في مقابل البضائع. والمطبعة المصرية تشتغل؛ إذن كيف يمكن أن يكون في مصر تضخم؟! منذ يومين عالج زميلي حضرة الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك موضوع النقد في مصر وعالج هذه الحالة معالجة دقيقة بعد دراسة مسببة وعرض الحالة على حقيقتها فلا حاجة بي إلى أن أرجع إلى تكرار شيء مما قاله عن المبادئ الاقتصادية ولا عن تاريخ العملة في مصر لأني أوافقه على كل ما قاله.» ثم أفاض بهي الدين باشا في ضرر الأرصدة الإسترلينية واقترح عدة حلول لاستخلاصها.
وبجلسة 25 أبريل سنة 1945 رد أمين عثمان باشا وزير المالية على أقوالي وأقوال بهي الدين بركات باشا، فلم يزد عن عبارات عامة دعا فيها إلى الثقة في تعهدات «حليفتنا الكبرى»، قال: «وأود بهذه المناسبة أن أشير إلى ما أبداه بعض حضراتكم من التشكك في إمكان استردادنا بعد الحرب لما نداين به بريطانيا. ولعلي لست بحاجة إلى أن أذكر أنه لا محل مطلقا لهذا التشكك بل لمجرد التفكير فيه، بعد أن علقنا مصيرنا بمصير الديموقراطيات ووقفنا إلى جانبها في دفاعها عن الحرية والعدالة والمدنية. وبالنظر إلى ما هو معروف عن حليفتنا الكبرى من سلامة ماليتها وشدة محافظتها على تعهداتها ودقة وفائها بديونها مما يجعل ضمان هذه الديون في مرقى عن كل شك ...» كذا.
ولعمري ليس بمثل هذه الأقوال ولا بمثل هذه الروح تصان حقوق البلاد السياسية والمالية، وقد برهنت الحوادث على أن ديون مصر على بريطانيا من الأرصدة الإسترلينية بقيت طوال الحرب وبعد انتهائها قائمة لم توف منها إلا النزر اليسير.
استجوابي عن الأهداف القومية
يونيو-أغسطس سنة 1945
انتهت الحرب العالمية في أوروبا في مايو سنة 1945 حين استسلمت ألمانيا للحلفاء، وكانت وزارة المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا الأولى تتولى الحكم، وكنت أرى واجبا عليها أن تبادر إلى المطالبة رسميا بأهداف مصر القومية، ولكنها تباطأت في هذه المسألة الهامة، فقدمت استجوابا في هذا الصدد إلى رئيس الوزارة.
كان هذا الاستجواب من أهم الاستجوابات التي نظرت في البرلمان، وقد اهتمت به الصحف واهتم به الرأي العام اهتماما كبيرا يتناسب مع خطورة موضوعه، ولأنه أول استجواب قدم في البرلمان عن هذه الأهداف بعد انتهاء الحرب العالمية مباشرة.
قدمت طلب الاستجواب إلى رئيس مجلس الشيوخ يوم 9 يونيو سنة 1945، وهذا نصه:
حضرة صاحب السعادة رئيس مجلس الشيوخ
تحية وسلاما. وبعد، فإني أرغب في استجواب حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء عن الأسباب التي دعت الوزارة إلى عدم المبادرة بالمطالبة بأهداف مصر الأساسية وفي مقدمتها الجلاء وتحقيق وحدة وادي النيل، ومتى يحين الوقت لتطالب بهذه الأهداف، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
عبد الرحمن الرافعي
9 يونيو سنة 1945
كتبت هذا الخطاب بعد تفكير طويل، لأني أردت أن أحدد فيه الأهداف القومية في أعقاب الحرب العالمية، تحديدا يكون موضع اتفاق الجميع شعبا وحكومة ويكون شعارا للجهاد في هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر القومي، هل نطالب بالجلاء فقط ويكون مفهوما منه أنه الجلاء عن مصر والسودان معا ؟ ولكن أين الوحدة بينهما في هذا الطلب؟ هل نطالب بالجلاء والسودان؟ لقد ترددت في أن نطالب بالسودان؛ لأن النداء بهذا الطلب قد يجرح شعور إخواننا المجاهدين من أبناء الجنوب؛ لأنهم يأبون فيما أعتقد أن نعبر عن السودان كقطعة من مصر، ويريدون تعبيرا آخر يتفق مع تقدم الوعي القومي في جنوب الوادي ويوائم روح الاعتزاز بالكرامة في نفوس المجاهدين السودانيين. وإذا قلنا الجلاء عن مصر والسودان، ففي هذا التعبير ما قد يوحي بأن مصر قطر والسودان قطر آخر، وهذا ما لا نرضاه كدعاة للوحدة. ثم إن الجلاء عن مصر وعن السودان قد لا يتعارض مع الدعوة الانفصالية التي خلقها الاستعمار في السودان؛ فالجلاء عن كليهما لا يمنع الانفصال التام بينهما، ولا بد من تعبير آخر يكون وجيزا ويشمل الجلاء عن مصر والسودان مع ربط شطري الوادي برباط من الوحدة لا انفصام لها، تلك الوحدة التي هي ضرورة طبيعية وتاريخية وجغرافية لكلا الجزأين. فرأيت أن أوجز تعبير للأهداف القومية هو «الجلاء ووحدة وادي النيل»، وقد لا يعرف إلا القليلون أن هذا التعبير قد ورد لأول مرة على لساني بجلسة 8 ديسمبر سنة 1942 (ص99) وفي هذا الاستجواب، وصار شعار الجهاد في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة.
أخذ هذا الاستجواب يؤجل من جلسة إلى أخرى إلى أن نظر بجلستي 6 و7 أغسطس سنة 1945 وفي كل مرة يزداد اهتمام الرأي العام به.
قالت الأهرام بعدد 22 يونيو سنة 1945: «وأما مصر فسيفتح ملف قضيتها وشيكا؛ فقد طلب الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك استجواب الحكومة عن «عدم المبادرة بالمطالبة بأهداف مصر الأساسية وفي مقدمتها الجلاء ووحدة وادي النيل.» وقد نمى إلينا أن دولة رئيس الوزارة ينتظر عودة مندوبي مصر من مؤتمر سان فرانسيسكو ليقف على ما لديهم من بيانات ومعلومات عن قرارات المؤتمرين النهائية وعن الاتجاهات الدولية فيجمع اللجنة السياسية التي جمعها قبل السفر إلى المؤتمر ولعله بعد ذلك يدلي بتصريح في البرلمان خلال مناقشة الاستجواب الذي تقدمت الإشارة إليه أو قبل ذلك.»
وقالت أيضا بالعدد الصادر في 2 أغسطس سنة 1945: «عقد مجلس الوزراء ظهر أمس برياسة حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا، وظل منعقدا إلى منتصف الساعة الثالثة. وقد عرض على المجلس في هذا الاجتماع البيان الذي سيلقيه دولة النقراشي باشا في مجلس الشيوخ يوم الاثنين المقبل لمناسبة الاستجواب المقدم من الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك في موضوع مطالب مصر القومية وموقف الحكومة منها.»
وقالت بالعدد الصادر في 6 أغسطس سنة 1945: «يجتمع مجلس الوزراء ظهر اليوم برياسة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا للنظر في البيان الذي يلقيه دولته مساء اليوم في مجلس الشيوخ ردا على الاستجواب المقدم من الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك في موضوع مطالب مصر القومية.»
شرحت استجوابي بجلسة 6 أغسطس شرحا وافيا استغرق خمس صفحات من المضابط، وخلاصة حديثي في تلك الجلسة أنه كان يجب على الحكومة أن تبادر إلى المطالبة بأهداف مصر القومية منذ الساعة الأولى، منذ أن وضعت الحرب الأوروبية أوزارها، بل منذ عقد مؤتمر القرم في فبراير سنة 1945، وكانت كل دولة تطالب علنا بأهدافها وحقوقها، وحذرت من قبول الاحتلال الأجنبي تحت أي وضع سواء كان انفراديا أو ثنائيا أو دوليا، وختمت حديثي بقولي: «لا يجوز لنا أن نقبل أن تكون مصر سوقا دولية أو محطة استعمارية؛ لأن مصر ليست سوقا، بل هي وطن، وهي وطن لأمة من أعرق الأمم في الحضارة والمدنية.»
وقد رد المرحوم النقراشي باشا على استجوابي ردا وافق فيه على الجلاء ووحدة وادي النيل، قال رحمه الله في هذا الصدد: «إذا كان ما قصد إليه حضرة المستجوب هو السؤال عما إذا كانت الحكومة تعتزم السعي إلى تحقيق تلك الأهداف، فليس الجواب إلا أن هذا واجب وطني لا يسع الحكومة أن تتخلى عنه أو أن تتردد في أدائه أو أن تفوت فرصة القيام به.»
إلى أن قال: «ثم إن مصر أقامت الدليل تلو الدليل على حفظها العهد وقد ناصرت حليفتها وأبلت في ذلك خير بلاء، وأبدت صادق العزيمة في مقاومة المعتدين وبذلت من المعونة لقضية الديموقراطية ما اعترفت الأمم المتحدة بجليل قدره وببالغ أثره في انتصار الحلفاء، وليس فوق ذلك كله سبب أكثر تبريرا وأقوى سندا لإنهاء القيود التي أحاطت استقلال البلاد ولتحقيق مطلبها من جلاء الجنود الأجنبية عنها. أما وحدة وادي النيل بمصره وسودانه فإن المبادئ التي أطلعها على العالم هذا العهد الجديد جديرة بتحقيقها لا سيما وأن هذه الوحدة تتفق مع صميم رغبات أبناء الوادي جميعا، ولا تتوقع الحكومة أي صعوبة في مفاوضة بريطانيا العظمى لأنها تلمس ما تكنه بريطانيا نحو مصر من حسن النوايا وخالص الصداقة، ولا شك في أنها تشاطر مصر الشعور بملاءمة الظروف وتدرك حق الإدراك أن هذه الحكومة تترجم عن مطالب الأمة جمعاء لا مطالب فريق دون آخر.»
واكتفى المجلس بالمناقشات التي دارت في الاستجواب ولم يصدر في شأنه قرارا معينا. (1) قرارات الحكومة في هذا الصدد (سبتمبر سنة 1945)
في 22 سبتمبر سنة 1945 اجتمعت الهيئة السياسية الاستشارية التي ألفتها الحكومة وأصدرت القرار الآتي: «ترى الهيئة السياسية بإجماع الآراء أن حقوق مصر الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة وأعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية وتحقيق مشيئة أهل وادي النيل في وحدة مصر والسودان، كما ترى الهيئة أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للعمل على تحقيق أهداف البلاد القومية واتخاذ الوسائل لمفاوضة الحليفة للاتفاق على هذه الأسس، وترى الهيئة السياسية أن قيام التحالف على هذه الأسس يزيد ما بين البلدين من علاقات الصداقة والتعاون توثقا ومتانة.»
ووافق مجلس الوزراء في اليوم التالي على هذا القرار.
تعليقي على هذا القرار
إن قرار مجلس الوزراء جاء إعلانا صريحا بأن حقوق البلاد الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة وأعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية وتحقيق وحدة وادي النيل، وكان هذا القرار مكسبا للقضية الوطنية.
ولكن فيه ناحية نقص في الوسيلة، ذلك أنه جعل الوسيلة إلى تحقيق الأهداف القومية مفاوضة بريطانيا للاتفاق على هذه الأسس وجعلها أساسا للتحالف بينهما.
وقد قدم المرحوم صبري أبو علم باشا في أكتوبر سنة 1945 استجوابا آخر عن الأهداف القومية نظر بجلسة 16 أكتوبر سنة 1945، ولاحظت في هذه الجلسة على قرار الهيئة السياسية هذا النقص في الوسيلة وقلت في هذا الصدد ضمن ما قلت: «أعود فأقول هل طالبت الحكومة المصرية الحكومة الإنجليزية بالجلاء عن وادي النيل؟ كلا لم يحصل، وكل ما تقدمت به الحكومة هو مذكرة رفعت إلى مؤتمر الدول الخمس فيما يتعلق بتصفية المستعمرات الإيطالية؛ لذلك أستسمح حضراتكم أن أبين لكم ملاحظاتي على هذه المذكرة، وأول ما ألاحظه أن الحكومة المصرية قد اهتمت بالفرع دون الأصل، والأصل هو الجلاء عن وادي النيل، وأنا أستسمح حضرات أعضاء الهيئة السياسية أن ألاحظ على قرارها أنها توصي باتخاذ الوسائل لمفاوضة «الحليفة» للاتفاق على هذا الأساس، وأنا لا أريد أن أعرض بالهيئة السياسة وإنما أوثر طريقة المطالبة على طريقة المفاوضة.»
وبعد انتهاء المناقشة في هذا الاستجواب عرض على المجلس اقتراحات ثلاثة:
أحدها:
مشروع قرار مقدم من محمد علي علوبة باشا هذا نصه: «يؤيد المجلس المطالب الوطنية التي أعلنتها الحكومة، ويطلب إليها المبادرة بالعمل على تحقيقها.»
والثاني:
مقدم مني ونصه: «أقترح أن تبادر الحكومة إلى مطالبة إنجلترا رسميا بالجلاء الكامل العاجل عن وادي النيل.»
والثالث:
مقدم من محمد صبري أبو علم باشا وبعض زملائه الوفديين ونصه: «يعلن المجلس أنه بعد انتهاء الحرب وتغير الظروف وبعد إبرام مصر لميثاق سان فرانسيسكو، أصبح من المتعين إعادة النظر فورا في معاهدة التحالف والصداقة مع بريطانيا وما توجبه من التزامات على مصر، حتى تصبح المعاهدة متفقة مع الأحوال الدولية الجديدة ومع ما يوجبه ميثاق سان فرانسيسكو.»
وقد أخذت الآراء في هذه الجلسة فوافقت أغلبية المجلس على اقتراح علوبة باشا. (2) تكييف القضية الوطنية أمام الهيئات الدولية: مطالبة لا احتكام
كنت ولا أزال أرى في المفاوضات قبل الجلاء صرفا للبلاد عن هدفها الأكبر وهو الجلاء.
فلما أعلنت وزارة المرحوم النقراشي باشا في أواخر يناير سنة 1947 عرض قضية البلاد على مجلس الأمن اعتبرت ذلك مكسبا للقضية؛ على أني مع ذلك لم أكن أثق بأن مجلس الأمن سينصفنا، فنظرت إلى عرض القضية عليه كوسيلة من وسائل الكفاح، وحذرت من ضرر الاحتكام إلى الهيئات الدولية.
عرض هذا الموضوع على مجلس الشيوخ بجلسة 12 فبراير سنة 1947، فأدليت بوجهة نظري وقلت في مستهل كلمتي: «لا شك أن إعلان الحكومة قطع المفاوضات وعزمها على رفع القضية المصرية إلى مجلس الأمن هو قرار يقابل في ذاته بالغبطة؛ لأن إعلان الحكومة أن المفاوضات قد أصبحت غير مجدية - وقد كانت غير مجدية من قديم - يعد كسبا للقضية المصرية لأنها مع الأسف الشديد قد خسرت كثيرا بالالتجاء إلى طريق المفاوضات.»
ثم تكلمت عن طريقة تكييف القضية أمام مجلس الأمن، وقلت: «إن القضية الوطنية تنحصر في أمر واحد، هو جلاء الإنجليز عن مصر والسودان، هذا هو التكييف الصحيح الذي يجب أن تعرض به قضيتنا على أية هيئة دولية. وهذا التكييف يستتبع اعتبار الاحتلال منذ 1882 عملا غير مشروع، وأن كل ما أبرم أو عقد في ظل الاحتلال نتيجة لوجوده هو عمل باطل ابتداء من سنة 1882 واستمر إلى اليوم، وهذا يستتبع أن اتفاقية سنة 1899 الخاصة بالسودان هي اتفاقية باطلة، وأن معاهدة سنة 1936 هي كذلك باطلة.»
لا احتكام في الجلاء
ثم عرجت بمسألة الاحتكام وحذرت منه، وقلت في هذا الصدد: «لا يصح لنا صيانة لقضيتنا أن نعرضها كمحتكمين، ولا يصح لنا أن نلجأ إلى طريقة الاحتكام؛ لأن جوهر ما نطالب به هو الاستقلال في ذاته؛ لأن الجلاء هو الاستقلال، ولا يصح أن يكون الاستقلال موضع تحكيم، ولا توجد أمة تقبل أن يكون استقلالها موضع تحكيم. إنما يكون التحكيم في مسائل فرعية أو خلافات محلية بينها وبين بلد آخر، فتعرض الأمر على الهيئات الدولية محتكمة إليها لتفصل بينها وبين الدولة الأخرى التي يكون بينها وبينها خلاف. لقد قال الكثيرون بالاحتكام إلى محكمة العدل الدولية، ومعنى الاحتكام إليها أن نقبل قرارها، وفي هذا من الضرر ما فيه؛ ولذلك قلت إنه لا يصح الاحتكام، بل يجب أن يكون موقفنا أمام الهيئات الدولية موقف مطالبة لا موقف احتكام، يجب أن نطالب بالجلاء لأن هذا الجلاء هو حق طبيعي لنا، ولأن هناك سببا من شأنه أن يضم إلينا مجموعة الأمم وهو أن الجلاء أمر لازم للسلام العام.»
وقلت في جلسة 13 يناير سنة 1948: «إن الوقت المناسب لعرض قضية مصر على مجلس الأمن كان فبراير ومارس سنة 1946 حيث عرضت على هذا المجلس قضايا سوريا ولبنان وإيران، ولعلكم تذكرون حضراتكم أنه في هذا الوقت قد عرضت هذه القضايا على مجلس الأمن وكسبت هذه الدول قضاياها؛ إذ تقرر فيها وجوب جلاء القوات الأجنبية عنها. فاسمحوا لي أن أقول إننا تأخرنا في عرض قضيتنا على مجلس الأمن عاما ونصف عام، لقد تعطل عرض القضية لأن الحكومة لجأت إلى طريق المفاوضة.»
منع تملك الأجانب الأراضي الزراعية والعقارات
في 8 ديسمبر سنة 1948 قدمت إلى مجلس الشيوخ مشروع قانون بمنع تملك الأجانب للأراضي الزراعية والعقارات المبنية أو المعدة للبناء في المملكة المصرية. وكان غرضي من هذا المشروع صيانة الأملاك المصرية من أن تنتقل إلى الأجانب وحفظها للمصريين، وأرفقت بالمشروع مذكرة إيضاحية توضح الغرض منه وترسم خطوطه الرئيسية قلت فيها: «تحرص الأمم على حفظ كيان أملاكها الثابتة وجعل ملكيتها مقصورة على المواطنين؛ لأنها بوصف كونها ثابتة لا منقولة تعتبر ملتصقة بأرض الوطن بل هي جزء منه؛ ومن ثم تمنع الحكومات تملك الأجناب لها حفظا لكيان الوطن ذاته. ولقد سارت مصر على هذه القاعدة إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ إذ كانت قوانينها المقتبسة من قوانين تركيا وقتئذ لا تجيز التصرف للأجانب في الأراضي والعقارات، وكانت هذه حجة الخديو إسماعيل في معارضة شروط الامتياز التي نالتها شركة قناة السويس في عهد سعيد باشا وحصلت بمقتضاها على ملكية رقعة واسعة من الأراضي المصرية، ولكن مصر تحللت من هذه القيود وجعلت حق الملكية العقارية عاما للمواطنين والأجانب على السواء، فانتقلت على تعاقب السنين ملكية جزء كبير من الأراضي إلى الأجانب أفرادا وشركات. فبحسب إحصاء سنة 1946 يتبين أن مجموع الأراضي الزراعية في المملكة المصرية تبلغ 5903143 فدانا منها 357192 فدانا يملكها الأجانب عدا ما لهم من حقوق عقارية على جزء كبير من الأراضي المملوكة للمواطنين. ومما يستوقف النظر في هذا الإحصاء أن الملكية الزراعية التي يزيد نصابها على ألفي فدان يبلغ عدد ملاكها 35 مالكا «عدا الوقف» منهم ثمانية عشر من المصريين ومجموع ما يملكونه 54882 فدانا، وسبعة عشر من الأجانب ومجموع ما يملكونه 114607 فدانا؛ أي إن كبار ملاك الأجانب يملكون أكثر من ضعف ما يملكه كبار الملاك المصريين؛ ولهذا الوضع من الدلالة ما لا يخفى.
وفضلا عن أن في انتقال ذلك الجزء الكبير من الأملاك الثابتة إلى أيدي الأجانب خطرا على الكيان القومي، فليس معروفا إلى أي مدى يستفحل هذا الخطر في المستقبل إذا ترك انتقال الملكية العقارية إلى الأجانب مطلقا من كل قيد.
فالتطورات الاقتصادية والمالية، والوسائل الاستغلالية، قد تتنوع وتغري الملاك المصريين بمختلف الأساليب بالتصرف في أملاكهم للأجانب إذا لمحوا بريقا من الكسب الوقتي، ولو كان بريقا خداعا لا يلبث أن يكون سرابا. فعلى الدولة أن تحتاط لكيان الملكية العقارية وتضع من القوانين ما يمنع تسربها إلى أيدي الأجانب أفرادا أو شركات. وليست هذه القوانين بدعا في التشريع؛ فإن معظم الدول حتى العظمى التي لا يخشى على كيانها الاقتصادي تسير على هذا الوضع، إما بمقتضى قوانينها أو بموجب الأمر الواقع بحيث لا ترخص للأجانب بامتلاك أملاك ثابتة في بلادها، ويكفي لمن يريد أن يتثبت من هذه الحقيقة أن يجرب طلب شراء أرض زراعية أو عقارات مبنية في أي بلد من هذه البلدان فإنه يصطدم حتما بقوانين تحظر تملك الأجنبي لشيء منها أو يرفض طلبه بحكم الأمر الواقع المعمول به في هذه البلاد.
فهذه الحماية للملكية العقارية في الدول المتحضرة هي التي يستوحي منها المشروع المعروض على هيئة المجلس أحكامه ونصوصه.
وليس في هذا المشروع مساس بالحقوق المكتسبة للأجانب؛ فإنه لا يسري على ما يملكونه قبل أن يصير قانونا بل يبقى ملكا لهم، ولا يسري كذلك على ما يئول إليهم بعد صدوره بطريق الإرث، وبذلك تصان الحقوق المكتسبة للأجانب من كل وجه.
هذا إلى أنه قد قصر الحظر بالنسبة لأراضي البناء والعقارات المبنية على المخصصة منها للسكن، فأباح بذلك تملك الأجانب لهذا النوع من الأملاك الثابتة إذا كان الغرض منها إقامة المصانع أو المتاجر. وقد روعي في هذا التمييز ألا يضيق التشريع مجال النشاط الاقتصادي الصناعي والتجاري والمالي في البلاد إذا ساهمت فيه رءوس أموال أجنبية؛ ففي هذه الحالة لا يسري الحظر الوارد في المشروع لأن الأصل فيه أن يقتصر على الأملاك الثابتة دون المنقولة. ولما كانت المنشآت الصناعية والتجارية لا تعد من الأملاك الثابتة فلا تدخل ملحقاتها العقارية في مدلول الأملاك المقصودة بالحماية التشريعية؛ لأن هدف المشروع إنما هو حماية الملكية الملتصقة أصلا وحكما بأرض الوطن والتي تعد جزءا لا يجوز أن ينفصل عنه.
ولقد سبق للمشرع المصري أن أخذ بهذه الحماية ولكن في دائرة ضيقة؛ إذ حظر في المرسوم بقانون رقم 111 لسنة 1945 على كل شخص طبيعي أو معنوي أجنبي الجنسية أن يمتلك بأي طريق كان غير الإرث عقارا كائنا بأحد المناطق التي تقوم على إدارتها مصلحة الحدود، ويسري الحظر في هذا المرسوم على كل وقف على أجنبي وتقرير حقوق عينية له.
فإذا كانت هذه الحماية قد رآها المشرع واجبة في حدود الوطن وأطرافه، فأولى بها أن تعم أرجاء البلاد جميعها.»
8 ديسمبر سنة 1948 (1) خطوات المشروع
مشى المشروع وئيدا في مجلس الشيوخ، ومع أنه لقي من الرأي العام تأييدا كبيرا ولم يلق من محيط الأعضاء معارضة ما، لكن يبدو أن تيارات خفية كانت تعمل على عرقلته.
عرض لأول مرة على المجلس بجلسة 13 ديسمبر سنة 1948، فقرر قبل نظره موضوعا إحالته إلى لجنة الشئون الدستورية لبحثه من الوجهة الدستورية ومن جهة انطباقه أو عدم انطباقه على معاهدة مونترو.
وقد بحثته اللجنة من هذه الناحية وانتهت إلى أن المشروع مقبول دستوريا ولا يخالف أحكام معاهدة مونترو، ووافقت الحكومة على ذلك بلسان مندوبها الذي حضر جلسات اللجنة وقدمت تقريرا مستفيضا في هذا الصدد.
عرض هذا التقرير على المجلس بجلسة 24 يناير سنة 1949، فوافق عليه بالإجماع، وقرر إحالة المشروع إلى لجنة الموضوع وهي لجنة العدل، وقد بحثته هذه اللجنة بحثا مستفيضا ووافقت عليه بعد إدخال تعديلات عليه أهمها قصر حظر عدم تملك الأجانب على الأراضي الزراعية دون العقارات المبنية أو المعدة للبناء. وحضر جلسات اللجنة مصطفى مرعي بك وزير الدولة في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا، وأعلن باسم الحكومة موافقته على المشروع بعد التعديلات سالفة الذكر ودافع عنه دفاعا حارا شكرته عليه، وقال إن مجلس الوزراء بحث المشروع وانتهى إلى قبوله والموافقة عليه. وقد بذل مصطفى مرعي بك جهودا موفقة لدى سفارات بريطانيا وفرنسا واليونان لإقناعها بأن المشروع لا ينطوي على روح عدائية للأجانب بل يهدف إلى صيانة الثروة الزراعية وأنه مشروع اجتماعي له نظائره في التشريعات الأوروبية والأمريكية، وقد اقتنعت السفارات بدفاعه.
قدمت لجنة العدل تقريرها عن المشروع بعد التعديلات التي اتفقت عليها مع الحكومة، وعرض التقرير على المجلس بجلسة 10 مايو سنة 1949، فوافق على المشروع من حيث المبدأ، ولكن عند تلاوة المواد ثارت اعتراضات على بعض أحكامه ترتب عليها أن قرر المجلس إحالته إلى لجنتي المالية والعدل مجتمعتين لبحثه من الوجهة الاقتصادية والمالية.
وقد تعطل المشروع أمام اللجنتين طويلا إلى أن نظرتاه مجتمعتين في 24 مايو سنة 1950 وأقرتاه من جديد بعد تعديلات يسيرة، وعرض تقرير اللجنتين على المجلس ونظره بجلسة 12 يونيو سنة 1950، وفيها أثيرت مناقشات جديدة أخرى وأبديت اقتراحات عديدة، فرأى المجلس إعادة المشروع إلى لجنة العدل لبحث الاقتراحات التي قدمت في تلك الجلسة، وانفضت الدورة البرلمانية بعد ذلك فلم يتسع الوقت لانعقاد اللجنة. ولما حلت الدورة الجديدة اجتمعت اللجنة يوم 12 ديسمبر سنة 1950 ودرست الاقتراحات والمناقشات التي أثيرت حول نصوصه فقبلت بعضها ورفضت البعض الآخر وقدمت تقريرا جديدا بالنصوص التي انتهت إليها، وهي لا تختلف عن جوهر المشروع إلا في قصر الحظر على الأراضي الزراعية دون العقارات والمباني، وعممت الحظر بالنسبة للأراضي الزراعية فأضافت إليها الأراضي القابلة للزراعة والأراضي الصحراوية باعتبار أن مآل هذه الأراضي أن تكون أراضي زراعية من طريق استصلاحها، وأدخلت تعديلات يسيرة في المواد الأخرى، وعرض تقرير اللجنة على المجلس مرفقا به نصوص المواد كما عدلتها اللجنة فأقرها بجلسة 18 ديسمبر سنة 1950.
وبعد إقرار المشروع في مجلس الشيوخ أحيل إلى مجلس النواب فأقره أيضا وصدر به القانون رقم 37 لسنة 1951 في 10 مارس من تلك السنة، ونشر في «الوقائع المصرية» عدد 17 مارس سنة 1951، وقد حمدت الله على صيرورته قانونا نافذا من قوانين الدولة مع رجائي تعديله في المستقبل بجعل الحظر شاملا المباني المعدة للسكن وأراضي البناء. (2) عندما تتشابه الأسماء
يشترك معي في اسم «عبد الرحمن الرافعي» بعض الأفراد الممتازين من أقاربي، فمنهم عبد الرحمن أمين الرافعي بك وكيل محكمة استئناف مصر الآن (1951)، والدكتور عبد الرحمن الرافعي مراقب الصحة المدرسية بوزارة المعارف.
عندما تتشابه الأسماء.
وقد سبب هذا التشابه في أسمائنا سلسلة من الحوادث الطريفة؛ فكثيرا ما يحدث اللبس بيننا في المكالمات التليفونية وفي الخطابات الخاصة والعامة؛ ففي التليفون يسألني الكثيرون على اعتبار أني عبد الرحمن بك الرافعي وكيل محكمة الاستئناف «والأفوكاتو العمومي ورئيس النيابة من قبل»، أو على اعتبار أني الدكتور عبد الرحمن الرافعي، فأجيبهم بلطف أن «النمرة غلط» وأني لست المقصود بالكلام وأرشدهم عن مقصدهم، والخطابات قد ترد لنا خطأ فيعيدها كل منا إلى المقصود بالخطاب. وقد حدث في سنة لا أذكرها أن قرأ صاحب قضية هامة في الصحف نبأ تعيين «عبد الرحمن الرافعي بك» رئيسا لنيابة مصر، فانزعج لهذا الخبر، وكنت وكيله في هذه القضية، وكانت في آخر مراحلها، وظن أنه سيتعذر علي أن أترافع فيها في اليوم الموعود بعد تعييني رئيسا للنيابة، وراح يبدي دهشته ويقول: كيف يقبل الرافعي أن يكون رئيسا للنيابة وهو الذي اعتذر عن منصب الوزارة؟! وهرول إلى مكتبي يسأل عن الخبر ليطمئن على قضيته، فرآني على مكتبي، واطمأن بعد أن فهم أن رئيس النيابة هو ابن عمي.
وكثيرا ما ألبي نداء التليفون، فإذا بالمتكلم يستنجد بي لإسعاف مريض أو لإنقاذ سيدة مشرفة على الوضع، فأفهمه أني لست الدكتور بل المحامي، وأرشده إلى رقم تليفون الدكتور عبد الرحمن الرافعي.
وأذكر ذات مرة أن الدكتور احتفل بزواج كريمته ونشر نبأ الزواج في الصحف، وإذا بي أتلقى رسائل وبرقيات التهاني، وعلى الرغم من أن اسمه ذكر مسبوقا بكلمة «دكتور» إلا أن الذين هنئوني لم يترددوا في الأمر؛ إذ ظنوا أني أنا المقصود وأني لا بد أن أكون دكتورا في القانون! وكان في مقدمة الرسائل خطاب من المغفور له الأمير عمر طوسون، وقد رأيت أنه ليس من اللائق أن أكتفي بإحالة خطابه إلى الدكتور الرافعي، فكتبت لسموه خطابا رقيقا شكرته فيه بالنيابة عن قريبي الدكتور، وأرسل إليه الدكتور من ناحيته خطاب شكر آخر على تهنئته.
عندما دخلت الوزارة
سنة 1949
كنت أصطاف في الإسكندرية سنة 1949 حينما استقالت وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا يوم 25 يوليو، وقد عهد جلالة الملك إلى حسين سري باشا تأليف الوزارة الجديدة، وهي وزارة ائتلافية تمثل الوفد والسعديين والأحرار الدستوريين والحزب الوطني والمستقلين. ودعاني سري باشا إلى الاشتراك في هذه الوزارة، وإذ كان لا يعرف المنزل الذي أصطاف فيه (رقم 143 بشارع الأميرة فوزية بسيدي بشر) فقد عهد إلى أحد ضباط حرس الوزارة أن يستقل سيارة حكومية ليبلغني رغبته في مقابلته بدار الوزارة ببولكلي، فجاء الضابط إلى المنزل حوالي الظهر يوم 26 يوليو وسأل عني، فقيل له إني أتريض على الكورنيش وإني أعود بعد ساعة. فقال إن الأمر مستعجل فأرجو أن تعرفوني في أي جهة من الكورنيش يتريض «وليحضر معي خادم ليعرفني به.» فاصطحبه أحد الخدم في السيارة وذهب معه إلى الكورنيش، وما هي إلا بضع دقائق حتى رأياني عائدا إلى المنزل، فوقفت السيارة ونزل الضابط والخادم. وحياني الضابط وأبلغني رغبة سري باشا في أن أقابله الآن، وبعد أن عدت إلى المنزل ذهبت معه إلى دار الوزارة، ووجدت هناك جمعا من الصحفيين فقابلوني متهللين وقالوا لي: مبروك! فقلت: على إيه؟ فقالوا: مبروك الوزارة! وكنا في آخر أيام رمضان (وقفة العيد)، فقلت لهم: غدا العيد فمبروك العيد! ثم دلفت إلى مكتب رئيس الوزارة وقابلت سري باشا، وبعد تبادل التحية قال لي: هل تكون ثقيلا هذه المرة أيضا؟ فقلت: أنا لست ثقيلا ولم أكن ثقيلا في المرة الماضية، إشارة إلى اعتذاري عن دخولي وزارته الأولى سنة 1940. واستوضحته برنامج الوزارة فأفهمني أنها وزارة قومية تعمل على توحيد الصفوف وائتلاف الأحزاب وإجراء انتخابات حرة، ألا توافق على ذلك؟ قلت: بل أغتبط به وأؤيده، ولكن ما هو موقف الوزارة تجاه معاهدة سنة 1936؟ فقال: إني أعتبرها غير قائمة لأن البلاد أعلنت ذلك، وإن وزارتي مع أنها وزارة انتقال فإنها متمسكة بالجلاء ووحدة وادي النيل. فقلت: على بركة الله أقبل، وسألته في تلطف: وكم يكون للحزب الوطني من مقاعد في الوزارة؟ قال: مقعدان، وهذا تمييز مني للحزب الوطني فقد كان له في الوزارة السابقة وزيران في حين كان للأحرار الدستوريين ستة وزراء، وكذلك للسعديين، والآن سيكون له وزيران في حين أن لكل من الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين أربعة وزراء؛ أي إن نسبة الحزب قد ارتفعت في وزارتي. فشكرته على حديثه وعلى ثقته بشخصي ورجوت له التوفيق في مهمته، واستغرقت المقابلة نحو عشرين دقيقة، وانصرفت. فتلقاني الصحفيون بالأسئلة والاستيضاحات وعبارات «مبروك»، فتخلصت من زحمة الأسئلة بقولي: إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مشاورة. فقالوا: نريد أن نقول مبروك يا معالي الوزير، فأعدت عليهم قولي: مبروك على العيد لأن غدا يوم العيد. فقالوا: بل نقصد الوزارة.
عدت إلى منزلي وأخبرت زوجتي بما حدث. فقالت: وهل قبلت الوزارة؟ قلت: نعم. قالت: ولكنك رفضتها فيما مضى. قلت: إن الظروف تغيرت؛ لأن برنامج الوزارة الجديدة لا يتعارض مع مبادئنا، ومع ذلك فإن الأمر لا يزال في دور المشاورة، فماذا ترين؟ قالت: إني أرى ما تراه فلتقبل على بركة الله. فارتاحت نفسي لهذا الجواب، ولم أخبر أحدا بالأمر. ومن حسن الحظ لم يكن بالمنزل الذي أصطاف فيه تليفون فتخلصت بذلك من الأسئلة والأجوبة، إلى أن كانت الساعة العاشرة مساء وإذا بطرق شديد على الباب، ففتحنا ووجدنا ضابطا آخر غير الذي جاء ظهرا يصحبه أحد أقربائي، وكان الضابط قد ظل يبحث عن منزلي ليلا أكثر من ساعة وهو لا يهتدي إليه، إلى أن دله الناس على رافعي آخر هو الأستاذ جلال الرافعي، فطلب إليه في لهفة أن يصحبه إلى منزلي، فجاء معه وهنأني الاثنان بالوزارة، ورجاني الضابط أن أسرع في ارتداء ملابسي لحلف اليمين أمام جلالة الملك، فقلت له: ولكن ليس عندي هنا ردنجوت. فأجابني: لا لزوم لها، والتعليمات أن يحضر أصحاب المعالي الوزراء بأي ملابس رسمية أو غير رسمية لأداء اليمين الليلة، فذهبت مع الضابط في سيارة الحكومة إلى دار الوزارة متأخرين ووجدنا أن الوزراء قد سبقونا إلى سراي رأس التين فلحقنا بهم وهناك أقسمنا اليمين بين يدي جلالة الملك.
توليت وزارة التموين، وبدأت في فترة العيد أصرف بعض شئون الوزارة المستعجلة.
وقد قوبل دخولي الوزارة بارتياح عام، على أن صديقي محمد محمود جلال بك والأستاذ محمود العمري لم يوافقاني على الاشتراك في الوزارة، وأرسل لي جلال بك خطابا رقيقا من جنيف يطلب مني فيه الاستقالة من الوزارة، وطلب مني ذلك أيضا الأستاذ محمود العمري، ونظريتهما أن الاشتراك في الوزارة أيا كان برنامجها يتعارض مع سياسة الحزب الوطني، ولم يقنعاني برأيهما ولا أقنعتهما برأيي. أما نظريتي فهي أن الأمر مرجعه إلى برنامج الوزارة وسياستها، ورأيت في نظريتهما تشددا لم أقره، وأنا بطبعي أميل إلى الاعتدال وأراه أقرب إلى نشر الدعوة الوطنية واجتذاب الأنصار إليها، ومع اختلافي وإياهما في الرأي فقد حفظت لهما خالص الود والتقدير. ويطيب لي في هذه المناسبة أن أنوه بفضل الأستاذ محمود العمري؛ فهو من الوطنيين الملهمين المغمورين في زحمة البلبلة والهرجلة التي يعيش فيها المجتمع، وقد اعتدت أن أشاوره في المسائل الهامة التي تحدثت فيها بمجلس الشيوخ وأفيد من أفكاره وآرائه ونظراته فيها، كبطلان المعاهدة، والتضخم النقدي، والأرصدة الإسترلينية، والمعاهدات ومواثيق الضمان، والميزانية، والمسائل الاجتماعية، وما إلى ذلك. (1) مشاهداتي في الوزارة
تعلمت من الوزارة أشياء وحقائق كثيرة كنت في حاجة إلى تعرفها، حقا إني كنت أشعر ببعضها من قبل، ولكن الوزارة زادتني معرفة بها وعرفتني بغيرها.
لاحظت بعد دخولي الوزارة أن احترام الناس حتى أقاربي قد زاد على ما كان عليه أضعافا مضاعفة. ولم ترضني هذه الظاهرة؛ فإنها دلتني على قلة تقدير الناس للجهاد البعيد عن مظاهر الحكم بالنسبة إلى تقديرهم للجاه والمناصب، وقلة التقدير للخدمات التي تؤدى للبلاد ما لم يكن صاحبها ذا مركز حكومي كبير، ومعنى هذه الظاهرة أيضا أني لم أكن محترما الاحترام الكافي قبل دخولي الوزارة، وهذا ما لم أرضه لنفسي ولا للناس.
ويدخل في هذا السياق أني لم أهنأ في حياتي على عمل بقدر ما هنئت على دخولي الوزارة، مع أن دخول الوزارة في ذاته ليس عملا بل هو ابتداء لعمل. فإذا كانت التهنئة مقصودا منها الشكر على عمل نافع فلينتظر المهنئون حتى يعمل الوزير عملا نافعا للبلاد فيهنئونه عليه. ولكن الحال هنا على عكس ذلك؛ إن التهنئة هي على الوزارة في ذاتها؛ أي على تقلد المنصب، أو بعبارة أخرى على كرسي الوزارة. وإني لواثق أنه إذا عمل الوزير عملا يستحق التهنئة فقلما يهنأ عليه التهنئة الكافية، وأغلب الظن أن يمر ولا يلتفت إليه أحد.
تلقيت بعد أن دخلت الوزارة نحو ستمائة تهنئة برقية وبريدية، عدا التهاني الشخصية وهي تعد بالمئات؛ أي إني تلقيت نيفا وألف تهنئة. وقد كنت أتساءل في خاصة نفسي: ليت شعري ألم يسبق لي عمل في حياتي الوطنية يستحق مثل هذه التهاني أو نصفها أو ربعها أو واحدا في المائة منها؟ إني مع شكري العميق لمن هنئوني وتقديري لشعورهم النبيل كان لي أن أسأل نفسي هذا السؤال فلا أجد جوابا عليه. (2) عملي في الوزارة
توليت بدخولي الوزارة أول منصب حكومي في حياتي. وكان بعض الناس يظنون أني لعدم خبرتي بالروتين الحكومي سأرتبك أو أعجز عن الاضطلاع بأعباء وزارة هي في ذاتها من أعقد الوزارات ومن أكثرها مسئوليات (وزارة التموين). ولكني والحمد لله وجدت في الأسبوع الأول من توليتي شئونها أني أفهمها وأديرها إدارة خبرة ودراية، وأن الاستقامة في إدارة شئون أي وزارة مع الكفاءة حتى المتوسطة هي الكفيلة بإصلاح الأداة الحكومية وجعلها أقرب إلى تحقيق مرافق البلاد ومصالح الجمهور.
أيقنت في الأشهر التي قضيتها بالوزارة أن استقامة الوزراء هي أساس الإصلاح؛ فالوزير المستقيم يشيع روح الاستقامة في نفوس موظفيه كبارا وصغارا، ومن السهل على الوزير المستقيم حتى إذا لم يكن فنيا أن يستعين بآراء الفنيين في الوزارة. وإني أعتقد أن المستوى الفني لموظفي الوزارات عندنا هو مستوى حسن وممتاز ويمكن الاعتماد عليهم في النهوض بمرافق البلاد. ولكن على الوزير أن يكون، إلى جانب استقامته، غيورا على العمل رقيبا على الموظفين، يكافئ المحسن الأمين ويجازي المسيء والمقصر منهم، وأن يكون دءوبا على الدرس والبحث وعلى جانب من الذكاء ويكفي أن يكون متوسط الفهم، وبذلك كله يفهم شئون وزارته ويديرها بنجاح وتوفيق.
بعد أن توليت الوزارة بعدة أيام ولمناسبة ذهابي إلى دار الوزارة بالقاهرة جمعت رؤساء المراقبات والإدارات وبعض كبار موظفي الوزارة وألقيت فيهم كلمة كانت وحي اللحظة. قلت لهم فيما قلت: «لقد دخلت الوزارة لأول مرة وأنا لا أملك إلا سمعتي وماضي الطويل، وقد جعلت سمعتي وتاريخي وديعة في أيديكم، فأنتظر منكم أن تحافظوا على هذه الوديعة.» فكان لهذه الكلمة العابرة أثر عميق في نفوسهم ولاحظت هذا الأثر باديا على وجوههم.
ومن الحق أن أقول إني، في الفترة التي توليت فيها هذه الوزارة، وجدت كبار موظفيها ومتوسطيهم وصغارهم قد عاونوني بصدق وإخلاص، وحافظوا فعلا على الوديعة التي ائتمنتهم عليها. وكانوا يرون مني أني في عملي لا أريد إلا الحق ورعاية مصالح الجمهور، ولا أريد لنفسي مغنما، لا في الحاضر ولا في المستقبل. وكنت ألمح من طريقة عرضهم لشئون الوزارة وطريقة إبداء آرائهم في المسائل التي تستدعيها هذه الشئون أنهم يتوخون تلبية رغبتي في الوصول إلى الحق. وكانوا يرون من مناقشتي لهم أني أدرس مذكراتهم وآراءهم بروح الفحص والتدقيق، وأني رغم ميلي إلى الطيبة لا أتساهل في كل ما له علاقة بالصالح العام. فكان هذا حافزا لهم إلى توخي هذا الصالح. ومن الحق أن أقول أيضا إن أحدا منهم لم يحاول أن يدخل الغفلة علي.
لم أدخل الحزبية ولا الميول الشخصية في أعمالي ولا في معاملتي للموظفين، بل كنت أنظر إليهم جميعا بعين العدل والمساواة؛ فمن كان له حق يناله، ومن لم يكن له حق لا أعطيه ما ليس له حق فيه. قد أكون أخطأت في التقدير، كالقاضي الذي يجوز عليه الخطأ في بعض أحكامه. ولكن ما دام الحق هو رائد الإنسان فإن هذا يكفي لاستقامة الأمور التي يضطلع بها. وبهذه الروح كنت أنظر إلى ذوي المصالح وطلاب الحاجات، كنت أنظر في طلباتهم كما لو كنت قاضيا يقضي في دعاوى الناس ويعطي كل ذي حق حقه. وكثيرا ما كان يحضر لي أشخاص لهم طلبات في الوزارة ويصطحبون صديقا أو قريبا لي أو يحضرون توصيات منهم، فكنت لا أعير هذه التوصيات التفاتا ولا أعطي شخصا إلا ما أعتقد أنه حقه.
لم أعين أحدا من أقاربي أو أصهاري في الوزارة ولم أعط أحدا منهم درجة استثنائية.
لم أغير أو أبدل في موظفي مكتب الوزير بل أبقيتهم كما كانوا في عهد الوزير السابق ولم أزد عليهم أحدا. وخوطبت في إجراء ما أشاء من التغيير والتبديل أو الزيادة والنقص، فكنت أقول: ليبق كل موظف في مكانه، إني أعتبر نفسي أبا ورئيسا لجميع الموظفين، وهم في نظري سواء، فلا داعي للتغيير والتبديل.
وأحسبني لم أغير من طباعي بعد أن توليت الوزارة، لم أتعاظم على الناس، وبقيت محتفظا بديمقراطيتي وشعبيتي. حقا أن منصب الوزير محاط عندنا بمظاهر كثيرة من التفخيم والتعظيم. ولكن هذه المظاهر لم تؤثر في نفسي ولم ألق إليها بالي، بل كنت أعرض عنها أحيانا. دعك من التحيات والتعظيمات التي يلقاها الوزير في ذهابه إلى الوزارة أو خروجه منها، فهذه مسائل مألوفة ولا بد من قبولها. ولكني لم أستطع أن أهضم الطريقة التي يقابل بها الوزير في محطة العاصمة أو الإسكندرية عند انتقاله من إحداهما إلى الأخرى؛ فقد كان يحيط بي ضابط أو ضابطان وثلة من الجنود يتقدمهم جندي ممتاز (لعله شاويش) يفسح الطريق لي على رصيف المحطة. لم أقبل هذا الوضع بالذات وطلبت من الضابط أن يأمر الجندي بالتنحي عن السير أمامي، فنفذ ما طلبت، وكان الطلب وإجابته يتكرران كل مرة. ولم أكن أحجز ديوانا خاصا لسفري بل كنت أكتفي بمقعد في عربة تكييف الهواء. وعندما كنت بالإسكندرية لم أغير عادتي من التريض سيرا على قدمي في طريق الكورنيش بعد غروب الشمس إلا في الأيام التي كنت أضطر إلى العودة للوزارة مساء. وكان الجندي المرافق لي من حرس الوزارة يطلب مني بإلحاح أن يرافقني في نزهتي ولو بعيدا عني؛ لأن التعليمات تقضي عليه بذلك، فكنت آمره بألا يرافقني لا من قرب ولا من بعد. وفي بعض الأحيان - ترويحا للنفس وتحررا من مظاهر الفخفخة الوزارية - كنت أركب ترام الرمل في بعض تنقلاتي وأصرف سيارة الوزارة، وكان يلمحني بعض معارفي وأصدقائي راكبا الترام فيدهشون لهذا المنظر: منظر وزير يركب الترام! وشاهدني مرة في هذه الحالة أحد مراسلي «الكتلة» فاعتقد أن في الجو أزمة وزارية وأن الوزارة وشيكة السقوط وأبرق إلى صحيفته بذلك لأنه لم يتصور أن وزيرا يركب الترام، إلا إذا كان على أهبة الاستقالة.
وكان جيراني في المصيف يلاحظون أني أعود إلى منزلي بعد رياضتي سيرا على قدمي، ويلاحظون على وجه العموم أني لم أتغير عما كنت عليه قبل دخولي الوزارة، بالرغم من مظاهر العناية والرعاية الحكومية التي أحاطت منزلي، كالكشك وحرس الوزارة وما إلى ذلك. وقد أقامت بلدية الإسكندرية عمودا من النور أضاء الرحبة التي أمام المنزل وكانت من قبل مظلمة، وأصلح عمالها الرحبة نفسها وسووا أرضها وأزالوا منها أكوام الطوب والحجارة التي كانت منتثرة فيها، فحمد الجيران هذه الصدفة التي جعلت جارهم وزيرا، وبدا منهم نحوي شعور من الانعطاف والتقدير إذ رأوني لم أفارق تواضعي.
كنت أهتم بشكاوى الجمهور وأتولى فحصها وتحقيقها بواسطة الموظفين المختصين، ولا أكتفي بإحالتها على المراقبات المختصة بل أؤشر عليها بنفسي بوجوب تحقيقها وعرض نتيجة التحقيق علي لأبدي فيها القرار الأخير. وكانت إشاراتي المكتوبة كلها بخطي تشعر الموظفين المختصين بأني رقيب عليهم، وكنت أسأل فعلا بين حين وآخر عن نتيجة تأشيراتي على هذه الشكاوى. وساعدني على ذلك أني كنت أدون في مذكرة خاصة (أجندة) أهم الشكاوى وأنتظر الوقت المناسب فأسأل عما تم فيها، وإذا تأخر تحقيقها كنت آمر بكتابة استعجال عنها، فأدرك الموظفون أن عين الوزير ساهرة ترقبهم، وهذا وحده يساعد على استقامة الأمور.
وكنت آخذ معي يوميا عند انصرافي من الوزارة محفظة تحوي المذكرات والتقارير المهمة التي يطلب فيها قرار من الوزير وأدرسها بمنزلي ليلا أو في الصباح الباكر وأكون فيها الرأي الصحيح وأستدعي في الوزارة الموظفين المختصين وأناقشهم في تفصيلات هذه المذكرات فيعرفون أني درستها دراسة دقيقة، ثم أصدر القرار الذي أعتقد أنه يطابق العدل والصالح العام بحضورهم دون إرجاء أو تسويف أو وضع للملفات في الأرشيف، وكنت أميل إلى سرعة البت في الأمور التي يستدعيها عمل الوزارة، فأتولى دراستها بنفسي بعد أخذ رأي اللجان أو الموظفين المختصين، وكثيرا ما كنت أستعجل دراستها لكيلا يتأخر البت فيها.
إن وزارة التموين موضع احتكاك وتضارب في المصالح والاتجاهات بين المنتجين والمستهلكين، وخاصة بين الجمهور وطبقة التجار والشركات والرأسماليين، فكنت أيضا أفصل في خلافاتهم بروح العدل والإنصاف.
وكانت نزعتي - وستبقى دائما - شعبية لا رأسمالية، فكنت أميل إلى إنصاف الطبقات الشعبية وأقف في صفهم ضد بعض الرأسماليين، ومن هنا صادفتني متاعب وعقبات تغلبت على كثير منها ولم يعمل برأيي في بعضها.
وقد نسبت إلي بعض الصحف - بإيعاز من بعض كبار الرأسماليين - أني تنقصني الكفاءة الفنية في شئون التموين، وأن بعض الوزراء شكا إلى رئيس الوزارة هذا النقص. وقد ابتسمت حينما قرأت هذه النبذة؛ فأي كفاءة يقصدها هؤلاء السادة؟ إني في المحاماة أستطيع أن أناقش آراء الفنيين في الطب والهندسة والصناعة والملاحة والشئون المالية وما إليها، وأن أوازن بين تقاريرهم وآرائهم التي يدلون بها أمام المحاكم، وأن أتعرف وجه الحق والصواب فيما يقررون، فهل أعجز عن فهم الآراء الفنية في شئون التموين وهي أسهل بكثير من الأمور المعقدة التي تعرض في ساحات القضاء؟!
وقد اشتد الخلاف على الأخص بيني وبين شركة السكر؛ إذ كنت أراها تعمل على إنقاص مقررات السكر للعائلات والأفراد والمصانع وتتباطأ في شحن هذه المقررات في الوقت المناسب مما أدى إلى ارتفاع سعر السكر في السوق السوداء، وجاءتني شكاوى كثيرة في هذا المعنى من مختلف البلاد، فأصدرت التعليمات للشركة بأن تفي بالتزاماتها، ولكني رأيت منها تلكؤا متعمدا في تنفيذها، فأصدرت قرارا وزاريا (رقم 144 لسنة 1949) بتاريخ 29 سبتمبر سنة 1949 ألزمتها فيه بشحن مقررات السكر الشهرية إلى جميع مناطق الاستهلاك طبقا لما تحدده وزارة التموين وأن يتم شحن هذه المقررات في ميعاد لا يتجاوز الخامس والعشرين من الشهر السابق للشهر المخصصة له، وحظرت عليها التصرف في أي نوع من السكر الخام أو المكرر بغير ترخيص من الوزارة. وألزمتها بإرسال بيان إلى الوزارة بالمركز الإحصائي للسكر الذي في مخازنها، وأن ترسل في الأسبوع الأول من كل شهر بيانا برصيد السكر المكرر الموجود في اليوم الأول من الشهر السابق بمصنع التكرير بالحوامدية وبمخازن الشركة كل على حدة، وفرضت في القرار عقوبات على عضو مجلس الإدارة المنتدب ومديري الشركة في حالة مخالفتهم لأحكام هذا القرار.
وقد نشر القرار في الجريدة الرسمية في عدد غير اعتيادي صدر في اليوم نفسه، فصار قانونا نافذا، ولاحظت أن توزيع السكر قد انتظم بعد صدور هذا القرار وارتاح الجمهور من هذه الناحية. على أن عضو مجلس الإدارة المنتدب قد ثار وشكاني إلى رئيس الوزارة، وكان يظن أن صداقته لسري باشا تجعله فوق القانون، وفي الحق أن سري باشا قد وقف من هذا الخلاف موقفا قويما وتركني أتصرف في حدود سلطتي، ولم يتدخل في اختصاصي ولا وجه إلي أي اعتراض فيما اتخذت من إجراءات. وقد أكبرت منه هذا المسلك الذي يدل على روح محمودة من الاستقامة والنزاهة.
وفي ظني أني تغلبت على أزمة السكر بوقوفي هذا الموقف تجاه شركة السكر ثم بمبادرتي باستيراد كميات كبيرة من السكر من الخارج لكفاية الاستهلاك المحلي. وقد وافقتني لجنة التموين العليا على ما عرضته عليها من استيراد خمسين ألف طن من السكر ورد بعضها أثناء وجودي بالوزارة وورد البعض بعد خروجي منها.
وقامت في عهدي مشكلة أخرى وهي أسعار الأقمشة التي تنتجها شركات الغزل والنسيج المصرية؛ فقد كانت تشكو من مزاحمة الوارد من الأقمشة الأجنبية وتطلب زيادة الرسوم الجمركية على هذه الواردات حماية للإنتاج المحلي . وقد وافقت ضمن من وافقوا من الوزراء على هذه الحماية بزيادة التعريفة الجمركية على الأقمشة الواردة من الخارج، ولكني اشترطت أن تتعهد الشركات بألا تزيد في المستقبل من أسعار الأقمشة الشعبية التي تنتجها. وقد تعهدت بذلك، وأشير إلى هذا التعهد في المذكرة التي أقرها مجلس الوزراء في 4 سبتمبر سنة 1949. على أن مندوبي هذه الشركات قد قابلوني في أواخر أكتوبر وطلبوا مني الموافقة على زيادة هذه الأسعار زيادة تتناسب مع ارتفاع أسعار القطن، فرفضت ذلك وذكرتهم بتعهدهم السابق، وبقيت الأسعار كما هي. وأظن أن هذه الشركات وغيرها قد اغتبطت لخروجي من الوزارة في 3 نوفمبر سنة 1949 حيث استقالت الوزارة الائتلافية؛ فقد قرأت بعد أسبوعين في صحيفة «المقطم» بالعدد الصادر يوم 19 نوفمبر خبرا تحت عنوان: «ارتفاع أسعار الأقمشة الشعبية بدون مبرر» جاء فيه أن شركات الغزل والنسيج رفعت أسعار منتجاتها في الأسبوع الماضي. وبعد أن ذكرت الصحيفة مقدار الزيادة في كل صنف من هذه المنتجات، أضافت إلى ذلك قولها: وقد علمنا بعد كتابة ما تقدم أن هذه المصانع قد أعلنت صباح أمس (18 نوفمبر سنة 1949) أسعارا جديدة تزيد على الأسعار التي أشرنا إليها بمقدار 5٪.
وتساءلت الصحيفة: «هل عند الحكومة أو المسئولين فيها علم بذلك، وهل وافقت أو وافقوا على هذه الأسعار الجديدة التي سيتحملها المستهلك فوق ما يتحمل من أعباء جسام؟ وهل هذا يتفق وتصريحات المسئولين كل صباح ومساء عن مكافحة الغلاء وخفض الأسعار؟»
وفي يقيني أني لم أكن متجنيا على الشركات الصناعية عامة في منعها من زيادة أسعار منتجاتها؛ لأن هذه الزيادة لم يكن منشؤها الموازنة بين التكاليف والأسعار كما تدعي بل الرغبة الملحة في زيادة أرباحها. وقد أشرت إلى هذه الحقيقة في مناقشة سياسة حكومة الوفد نحو الغلاء بمجلس الشيوخ؛ إذ قلت بجلسة 8 مايو سنة 1950 إن شركات الغزل والنسيج لم تحترم تعهدها في سبتمبر سنة 1949 وإنها رفعت أسعار منتجاتها من الأقمشة أكثر من 30 «ثلاثين» في المائة عما كانت عليه في ذلك التاريخ. وقارنت بين أرباح هذه الشركات من واقع تقاريرها عن سنة 1949 وبين أرباح شركات الغزل والنسيج في إنجلترا، فوجدت أن متوسط أرباح هذه الشركات في تلك السنة بلغت 15٪ من رأس مالها في حين أن أرباح شركات الغزل والنسيج في مصر في نفس هذه السنة بلغت 37٪. وقلت إن من واجب الحكومة أن تحد من هذه الأرباح لتكون في مستوى أرباح الشركات في بريطانيا، وأن القانون رقم 95 لسنة 1949 الخاص بشئون التموين يخول الوزارة هذا الحق، ولكن وزير التجارة والصناعة غنام باشا عارضني في هذا الرأي. (3) روح الائتلاف
لم أجد في الوزارة الائتلافية ما كنت أنشده وأنتظره من إشاعة روح الائتلاف بين أعضائها، بل رأيت تنافرا شديدا بين مختلف الكتل الممثلة فيها. وقد أسفت لهذه الحالة وعددتها من نقائص حياتنا السياسية. وطالما أفضيت لبعض زملائي في الوزارة أن يكبحوا جماح الحزبية العنيفة وأن يبذلوا جهودهم في تدعيم الائتلاف لأنه تجربة تشهدها البلاد بعد سنوات طويلة من التناحر والشقاق. وقلت لهم إن الأمة قد اغتبطت بهذا الائتلاف اغتباطا كبيرا وأملت من ورائه خيرا كثيرا وأنها ترقب في لهفة نجاح هذه التجربة، فإذا فشلت فإن الأمة ستكون معذورة إذا تزعزعت ثقتها في الأحزاب وفي كفاءتها وقدرتها بل وإخلاصها. وبالرغم من أني كنت أسمع تحبيذا لآرائي من زملائي فإن تيارات الشقاق كانت تفعل فعلها في هدم الائتلاف، وساعد على ذلك لهجة بعض الصحف؛ إذ كانت تعمل على خلق الأسباب والذرائع لفضه. وكان الخلاف على أشده في تقسيم الدوائر الانتخابية وتوزيعها. ويبدو لي مما كنت أشاهده أن الوزراء السعديين لم يعملوا على نقض الائتلاف بل كانوا يسيرون في فلكه، وكذلك الوطنيون، وكذلك أيضا شأن الوفديين في بداية عهد الوزارة. ورأيت الثورة على الائتلاف تبدأ من معسكر الأحرار الدستوريين، والعجيب في هذا الصدد أن أغلبية وزرائهم كانوا ميالين إلى بقاء الائتلاف ولكن الأقلية الصاخبة قد تغلبت على الأغلبية الهادئة.
وكان يمكن لرئيس الوزارة أن يتغلب مع ذلك على تيارات الشقاق ويعيد إلى الائتلاف كيانه؛ لأن عقبات جوهرية قد تخطتها الوزارة واجتازتها بسلام، ولم يكن بقي سوى عدد قليل من الدوائر الانتخابية اشتد عليها الخلاف بين الوزراء الوفديين والأحرار الدستوريين. وقد وافقت اللجنة الوزارية الموكول إليها تقسيم الدوائر على تحكيم رئيس الوزراء في أمر هذه الدوائر، ولكن لسبب لا أعرفه تنحى رئيس الوزارة عن قبول هذا التحكيم، ولو أنه قبله لانتهى الخلاف على الدوائر المعدودة التي كانت مثار الخلاف. ويبدو لي أن عاملا جديدا ظهر في محيط الوزارة وعجل بسقوطها قبل أن تتم مهمتها، وهو أن الوزراء الوفديين أخذوا يتنكرون للائتلاف ويعملون على إسقاط الوزارة لتحل محلها وزارة محايدة، وتلك كانت أمنيتهم بل أنشودتهم القديمة.
ولعمري ليست التشكيلات الوزارية هي جوهر الموضوع، وإنما أدعو الله من كل قلبي أن تصفو نفوس المواطنين وتخف حدة ما بينهم من خلاف وشقاق؛ لأن أمام البلاد من الأعباء ما يستدعي أن نواجهها بجبهة متحدة، وأن وحدة الكلمة هي من أقوى الأسلحة في تحقيق أهدافنا القومية.
إخراجي من مجلس الشيوخ
أبريل سنة 1951
في سنة 1950 وسنة 1951 وقفت من حكومة الوفد في مجلس الشيوخ موقفي من كل وزارة، وهو تأييدها فيما تحسن ومعارضتها فيما تسيء، وهذه هي الخطة التي رسمتها لنفسي في الحياة البرلمانية. ولكن هذا الموقف لم يرض وزارة الوفد لأن الوفد لا يريد إلا الخضوع والإذعان. وقد نبهني إلى ذلك بعض أصدقائي، ولفتوا نظري إلى أن مدة عضويتي بالمجلس تنتهي في مايو سنة 1951 وسأدخل الانتخاب في التجديد النصفي للمجلس؛ فمن الحكمة أن أكف عما أسميه «المعارضة النزيهة»؛ لأن هذه المعارضة ستجلب لي المتاعب التي لقيتها منذ سنة 1924 وربما أقصتني عن الحياة البرلمانية. ومع أن النصيحة كانت من الوجهة العملية معقولة، لكني لا أدري لماذا لم أقتنع بها، وكل ما تملكني أن النيابة في نظري رسالة لا حرفة، يجب أن يؤديها عضو البرلمان بكل إخلاص ونزاهة؛ ألم نقسم اليمين المرة تلو المرة علنا في البرلمان أن نؤدي أعمالنا بالذمة والصدق؟
وإذ كانت مساوئ وزارة الوفد في سنة 1950 و1951 قد فاقت كل مساوئ له في أي عهد مضى، فلم يكن في استطاعتي أن أسكت عن معارضة سياسة الوفد في الحكم،
1
ومع ذلك فإن معارضتي كانت غاية في الاعتدال وضبط النفس، لكن هذا المسلك قد أثار علي غضب الوفد وزعامة الوفد، تماما كما حدث لي سنة 1925 و1926 و1936، فلما حل موعد التجديد النصفي رشح الوفد ضدي في دائرة الشيوخ محمد عبد الرحيم سماحة، وكان عضوا بمجلس النواب.
وقد فهمت من ملابسات هذا الترشيح أن المقصود منه إقصائي عن المجلس؛ لأنه إذا كان الغرض منه هو الاستفادة من مواهب منافسي؛ فإن في مجلس النواب متسعا لها، ومع هذه الملابسات فقد خضت معركة الانتخاب، وكان ذلك في أبريل سنة 1951. ولو تركت حكومة الوفد الانتخاب حرا لما كان هناك شك - فيما أعتقد - في نجاحي؛ لأن الوعي القومي قد تنبه بحيث يمكن للناخبين لو تركوا أحرارا أن يختاروا الأصلح لعضوية المجلس. وكان الواجب على الوفد وقد ظفر بالأغلبية في مجلسي البرلمان أن يحترم حرية الانتخاب في الدوائر التي خلت في عهده. ولكن الحكم المطلق - وهو شعار الوفد - يولد في النفوس نزعة التمادي في الاستبداد والطغيان ومحاربة الحرية أينما وجدت. وبرغم أن الأحزاب المعارضة، توقعا لهذه النتيجة، قد أضربت عن دخول انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ سنة 1951، ولم يبق إلا ثلاث عشرة دائرة جرت فيها الانتخابات - ومنها دائرتي - فإن وزارة الوفد قد أتت فيها من صنوف الضغط وضروب الإرهاب والتزييف ما لم يحدث مثله في عهد أي وزارة أخرى. وتولى فؤاد سراج الدين وزير الداخلية وقتئذ الإشراف على هذه العملية الإجرامية، ففاز مرشحو الحكومة في جميع هذه الدوائر ولم ينجح أحد من المعارضين أو المستقلين فيها. وتبين من المقارنة بين الماضي والحاضر أن إسماعيل صدقي كان أرحم من فؤاد سراج الدين في التدخل في الانتخابات وأخف وطأة؛ فقد أجرى صدقي باشا انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ سنة 1946، فترك حوالي نصف الدوائر حرة لم تتدخل فيها الحكومة بأي وجه، وتدخل تدخلا هينا في نصف الدوائر الأخرى. أما فؤاد سراج الدين فقد أبى إلا أن يعصف بحرية الانتخابات في كل الدوائر، وسخر قوات الشر والإجرام لإنجاح مرشحي الحكومة فيها جميعا.
ولم أتأثر كثيرا هذه المرة مما فعله الوفد معي في الانتخاب، ويظهر لي أن هذا يرجع إلى اعتيادي محاربة الوفد لي سنة 1924 و1925 و1926 و1936، وإلى أني لم أخسر المعركة بمقدار ما خسرها الوفد معنويا ووطنيا. ولم أشأ أن أكتب شيئا عن أساليب وزارة الوفد معي في الانتخاب، ولكني رأيت جريدة «البلاغ» وهي من صحف الوفد تأخذ من سكوتي دليلا على ما زعمته من حرية الانتخابات، فلم أر بدا من أن أذكر بعض الحقائق الوجيزة وبعثت بها إلى صحيفة البلاغ فنشرتها في العدد الصادر بتاريخ 9 مايو سنة 1951. ويطيب لي أن أنشر هذا المقال فإن فيه صورة مصغرة لما جرى في عهد الوزارة التي أسمت نفسها وزارة الشعب. قلت:
حضرة الأستاذ المحترم رئيس تحرير «البلاغ» الأغر
أقحمتم اسمي مرتين فيما كتبتموه عن انتخابات الشيوخ الأخيرة، وذلك في عددي 5 و6 مايو، وفي العدد الأخير بالذات جعلتم عنوان المقال: «نحن نقدم الشواهد على حرية الانتخابات»، وذكرتم عني أني قدمت شكوى حققت بمعرفة مفتش الداخلية وأني قلت في محضر التحقيق أني مطمئن إلى حياد رجال الإدارة.
ولولا أن إقحام اسمي في هذا السياق قد يفهم منه أني موافق على أن هذه الانتخابات جرت في حياد وحرية لآثرت السكوت عن الخوض في شأنها؛ لأني أستنكف أن أقف موقف الشاكي من أي ضيم وقع بي. أما وفي مقالكم تعريض بي فلا يسعني إلا أن أعقب عليه بأن ما جرى في دائرة فارسكور هو التدخل الإداري السافر المبني على الضغط والإرهاب وكل صنوف التزييف.
لقد شكوت إلى معالي وزير الداخلية قبل موعد الانتخاب بنحو شهر تدخل مأمور المركز وجمعه العمد والتنبيه عليهم بمساعدة مرشح الحكومة وتهديدهم بما حدث لزملاء لهم من العمد من الفصل والإيقاف عقب انتخابات يناير سنة 1950. فأكد لي معالي الوزير بأن الانتخابات هذه المرة ستجرى في حياد وحرية تامين، وكلم مأمور مركز فارسكور بالتليفون بحضوري منبها عليه بالتزام الحياد. ولم ينكر المأمور الواقعة التي شكوت منها، وانتدب الوزير مفتش الداخلية بالدقهلية لتحقيق هذه الشكوى. وكان المراد من التحقيق أن أذكر أسماء من أبلغوني ذلك التهديد، ولكني وجدت من الحكمة ألا أذكر أسماءهم حتى لا يتعرضوا هم أيضا للأذى والتنكيل واكتفيت بما تضمنته برقيتي التي أرسلتها إلى الوزير، وقلت في محضر التحقيق بأني لا أتردد عن الشكوى كلما حدث تدخل من الإدارة.
ولا أذيع سرا إذا قلت لكم إني شكوت لسعادة مدير الدقهلية «فؤاد عثمان» مشافهة وبالتليفون في كل يوم تدخل الإدارة عشرات المرات، وكان يعدني كل مرة بأنه سيوقف هذا التدخل دون أن أجد نتيجة لهذه الوعود. وأما إعطاؤه إجازة لمأمور مركز المنصورة «قريب مرشح الحكومة» عقب شكواي من تدخله؛ فقد تبين لي أن المقصود من هذه الإجازة هو إفساح المجال لحضرته ليمر باستمرار ليلا ونهارا مع قريبه في معظم بلاد الدائرة والتنبيه على العمد والمشايخ بأن الحكومة يهمها نجاح مرشحها. ومما فعله هذا المأمور أنه في اليوم السابق للانتخاب حصل من المديرية على أسماء المندوبين الذين اخترتهم عني في جميع لجان الانتخاب، رغم سرية هذه البيانات، وتسنى له ولرجال الإدارة بهذه الوسيلة معرفة أسمائهم جميعا وتهديدهم شخصيا وتشريدهم لكيلا يحضروا عملية الانتخاب. وقد وصلوا فعلا إلى هذا الغرض؛ ومن الأمثلة على ذلك أنه في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة الانتخاب دق جرس التليفون في منزل صهري بالمنصورة، وإذا بالمتكلم أحد مندوبي في لجنة كفر العرب من بلاد مركز فارسكور يحدثني من دمياط ويخبرني في لهجة من الهلع والفزع أن عمدة كفر العرب وخفراءها نبهوا عليه وعلى الوكيل الذي اخترته في هذه اللجنة بأن الإدارة تأمرهما بمغادرة البلدة وتهددهما بالحبس إذا لم يغادراها واضطرهما العمدة والخفراء تحت تأثير هذا التهديد إلى مغادرة البلدة ليلا إلى دمياط. وتبين لي في الصباح أن معظم مندوبي في اللجان منعوا بهذه الطريقة من حضور عملية الانتخاب، وخلت معظم اللجان من وجود ممثلين لي؛ مما سهل مأمورية رجال الإدارة في تسويد تذاكر الانتخاب.
ومن أمثلة التدخل أن الإدارة في ليلة الانتخاب حققت مع بعض العمد بدعوى مساعدتي في الدعاية الانتخابية في الوقت الذي أوحت إلى معظم العمد بإقامة حفلات في بلادهم لتأييد مرشح الحكومة.
وأن مندوب مرشح الحكومة أمر ضابط البوليس في صبيحة يوم الانتخاب بالقبض على محام من أنصاري فنفذ الضابط الأمر، واستمر المحامي محبوسا من الساعة التاسعة صباحا حتى الرابعة والنصف مساء؛ أي طيلة يوم الانتخاب تقريبا؛ مما ترتب عليه تشتيت أنصاري من الناخبين وإلقاء الفزع في نفوسهم.
وفي يوم الانتخاب لم تكن تمر عشر دقائق إلا وتبلغني أنباء التهديد الواقع على الناخبين في جميع اللجان واحتشاد جنود البوليس والخفراء والضباط والعمد وتهديدهم الناخبين لانتخاب مرشح الحكومة. وكنت أبلغ المدير هذه الشكاوى تليفونيا، وكان الجواب في كل مرة أنه سيتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع التدخل، وأخيرا رأيت من العبث أن أبلغه الشكاوى لكثرتها ولعلمي أن لا جدوى ولا فائدة منها.
وإنني أذكر سعادة المدير في هذا السياق بما قاله لي شخصيا قبل الانتخاب بأسبوعين من أنه قد أبلغ وزارة الداخلية بما عرفه من تحرياته في بلاد الدائرة، وهو أنه إذا استمرت الحالة طبيعية والإدارة على الحياد فإن أمل مرشح الوفد في النجاح مفقود.
فإذا كان هذا هو رأي المدير في نتيجة الانتخاب قبل موعده بأسبوعين، فبماذا يمكن أن نفسر النتيجة التي ظهرت سوى أنها الأثر المباشر للتدخل الإداري السافر؟
وقد فاتني أن أذكر في هذا المقال تعاون رجال خفر السواحل مع رجال الإدارة في إسقاطي؛ فإن بعض بلاد الدائرة كعزبة البرج وغيط النصارى تقع في مناطق خفر السواحل فتبارى رجالها الرسميون من ضباط وجنود مع رجال الإدارة في الضغط على الناخبين، ونالوا بغيتهم وثناء رؤسائهم!
مذهبي السياسي
ليس الجلاء ووحدة وادي النيل هو وحده مذهبي السياسي، بل أراه لا يكفي إلا إذا كان له سند من مذهب جوهري آخر، هو الأساس لكل المذاهب الصالحة، وهو الاستقامة السياسية؛ فهي في نظري الأصل والمذاهب الصالحة متفرعة عنها.
إن من طبيعة المجتمعات الحرة المتقدمة أن تتعدد فيها المذاهب والبرامج السياسية، فلا يمكن لمجتمع حر أن يتألف منه حزب واحد إلا إذا سادته روح الدكتاتورية التي لا تحتمل حرية الرأي في السياسة والاجتماع.
ولست أرى في اختلاف المذاهب السياسية غضاضة على المشتغلين بشئون البلاد العامة، ولا أرى ضررا من تعدد الأحزاب وتعدد المذاهب في السياسة. ولكن هناك مبدأ يجب أن يكون أساس قيام الأحزاب وتعدد مناهجها وبرامجها ودعامة كفاحنا السياسي، وهو الاستقامة السياسية؛ فالاستقامة السياسية هي خير مذاهب السياسة، وهي الوسيلة الفعلية لإفادة البلاد من المشتغلين بالسياسة أحزابا وجماعات وأفرادا.
الاستقامة السياسية هي التزام المشتغل بالسياسة جادة الصدق والنزاهة والخلق القويم في حياته العامة وفي حياته الخاصة أيضا، لا أقول هذا مبالغة مني في هذا المذهب السياسي، بل لأني أرى الاستقامة السياسية غالبا ما تكون نتيجة للاستقامة الاجتماعية والشخصية.
كثيرون من الناس يظنون أن الحياة السياسية لا تتفق والاستقامة، ويرون أن الذي ينشد الاستقامة يحسن به أن يبتعد عن السياسة؛ لأن السياسة في نظرهم كذب وخداع ونفاق ورياء وتسابق على اقتناص المنافع الشخصية، وهذا وهم سرى إلينا من التواء السياسة عندنا؛ فعلينا أن نحارب هذا الوهم لأنه ولا شك من أسباب تأخر الحياة السياسية وتأخر المجتمع تبعا لذلك.
الاستقامة هي أساس السياسة الناجحة، وأقصد بالسياسة هنا السياسة الداخلية؛ أي علاقات الناس بعضهم ببعض في الشئون العامة.
أما السياسة الخارجية فالاستقامة فيها موضع نظر وخلاف. قد تكون الاستقامة السياسية غير مرغوب فيها في السياسة الخارجية؛ أي في علاقات الدول بعضها ببعض؛ فالكذب، والخداع، والغصب، والعدوان، ونقض العهود والمواثيق، لا تزال مع الأسف من وسائل النجاح في السياسة الخارجية. ومع ذلك فإن محبي السلام والإنسانية في العالم يدعون إلى الاستقامة في السياسة الدولية؛ أي في علاقات الدول والأمم بعضها ببعض، ويدعون إلى المساواة بينها، واحترام حقوق كل دولة في الحرية والاستقلال، ويستنكرون سياسة الغش والغصب والإكراه ويرون فيها مصدر الكوارث التي تصيب الإنسانية. حقا إن هذه الدعوة لم تستجب إلى الآن ولا يزال أمام الإنسانية زمن طويل حتى تستجاب وتعم الدول جميعا.
وعلى أي حال فإذا كانت الاستقامة مشكوكا في صلاحيتها في السياسة الخارجية، فهذا القول ليس صحيحا قطعا في الحياة السياسية الداخلية، بل يجب لكي تنهض البلاد وتتخلص من نقائصها أن يتذرع الساسة والقوامون على شئونها العامة بالاستقامة والنزاهة؛ فالحياة السياسية، والحياة الحزبية، والحياة البرلمانية، والحياة الصحفية، يجب أن تسودها روح الاستقامة لكي تكون حياة ناجحة منتجة خيرا للمجتمع.
ولا يظنن أحد أن البلاد تفيد من حياة عامة تتنكب سبيل الاستقامة؛ قد يتقدم المرء في المجتمع بغير الاستقامة، ولكن هذا التقدم يكون على حساب مصالح الوطن العليا، وليس هذا هو السبيل لتقدم المجتمع.
فعلينا أن نتذرع بالاستقامة في حياتنا السياسية، وأن نقيم بناءها على هذا الأساس؛ فإنه الكفيل بتحقيق أهداف البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع. يجب أن يكون قوام الأحزاب والجماعات إيمان أعضائها بمبادئ معينة يقتنعون بها ويعتقدون صلاحيتها للنهوض بالبلاد، ويسيرون عليها ويخدمونها، وينفذونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. أما قيام الحياة السياسية على أساس العبارات الجوفاء والكلمات البراقة المطاطة، والروابط الشخصية، والسعي وراء المصالح الذاتية؛ فإن هذا يؤدي لا محالة إلى تراجع الحياة العامة ويعرقل تقدم الأمة وإصلاح شئونها.
وعلى من يشتغل بالسياسة سواء تحت لواء الأحزاب أو مستقلا - على أن يكون هذا الاستقلال استقلالا حقيقيا - أن تكون له مبادئ عامة يعتنقها ويعمل على تحقيقها ويصدر عنها في أعماله وتصرفاته، لا أن يكون هدفه الوحيد أن ينال لنفسه مركزا ممتازا في المجتمع فحسب.
إن من أسباب تأخر الحياة السياسية اتخاذ المشتغلين بها انضمامهم إلى الأحزاب وسيلة لإدراك المراكز الممتازة فحسب؛ فإن هذا الهدف يصرفهم عن السعي للنهوض بالبلاد عامة. ولعل هذا يفسر لنا تلك الظاهرة التي تبدو أحيانا عندنا، وهي سرعة تنقل بعض المشتغلين بالسياسة من حزب إلى آخر؛ فكثرة هذا التنقل لا تدل على إيمان عميق بالمبادئ السياسية، ولا على تقدير للاستقامة، بل تدل على الرغبة في الوجاهة؛ أي أن يكون المرء وجيها في المجتمع، وليس هذا هو الهدف القويم للحياة السياسية المستقيمة.
إذا عمت روح الاستقامة والنزاهة محيطنا السياسي أفادت كثيرا في تقدم البلاد وارتقاء الروح العامة للمواطنين، وعلى الأحزاب أن تحرص على سلامة هذه الروح فإنها عدة الأمة وعتادها في نهوضها مواجهتها للحوادث والأحداث، وعلى الأحزاب أيضا أن تكون لها مذاهب وبرامج معينة واضحة المعالم تعمل على تنفيذها سواء كانت في الحكم أو في المعارضة، عليها أن تحترم برامجها وتحترم وعودها للناخبين لكي تكتمل ثقة الأمة بأحزابها وجماعاتها والقائمين على شئونها؛ فالثقة المتبادلة بين الأحزاب والأمة، وبين الحكام والمحكومين، هي من العوامل الفعالة في تقوية جبهة البلاد ومقاومة عوامل الضعف والفساد.
إن الاستقامة والنزاهة هي المذهب السياسي الأول لمن يريدون أن يخدموا البلاد عن طريق الاشتغال بالسياسة، وهي السبيل إلى إصلاح ما فسد من شئون الحكم وإلى جعل الأداة الحكومية أداة إنتاج وتقدم ومناعة وذود عن حقوق البلاد وكيانها. الاستقامة هي أساس كل صلاح وفلاح، وقد جمع فيها رسول الله أطراف الإسلام كافة؛ إذ سأله سفيان بن عبد الله الثقفي أن يقول له في الإسلام قولا لا يسأل عنه أحدا غيره، فأجابه رسول الله صلوات الله عليه بهذا الجواب الجامع المانع الحكيم: «قل آمنت بالله ثم استقم.»
اعترافاتي1
إن «الاعترافات» بمعناها اللغوي ومعناها القانوني تنصرف إلى المآخذ والنقائص، فاعتراف الإنسان لغة هو إقراره بالشيء على نفسه، والاعتراف قانونا هو الإقرار بالدين أو بالتهمة، وفي القرآن الكريم:
وآخرون اعترفوا بذنوبهم ؛ فالذي يكتب عن اعترافاته إنما يتكلم عن نقائصه وعيوبه، وعليه أن يحصي على نفسه السيئات، دون الحسنات، وبغير ذلك لا يكون موضوع حديثه «اعترافات».
بهذا المعنى أكتب عن «اعترافاتي»، وليس الحديث عنها عسيرا؛ فما أكثر ما في حياة المرء من نقائص وعيوب وأخطاء ومآخذ! وحسب الإنسان أن تربى حسناته على سيئاته، وأن ترجح في الميزان مزاياه على نقائصه.
إني أعترف بأن بي نقائص كثيرة، سعيت جهدي ولا أزال أسعى في أن أتحرر منها وأخفف من وطأتها. (1) الحياء ضعف
وأول ما أعترف به على نفسي أني شديد الحياء، لازمني هذا النقص منذ صباي ولم يفارقني في أدوار حياتي.
إني أعتقد أن الحياء ضعف في الإنسان، ومهما قيل في مدحه فإني أراه على العكس مجلبة للضرر، ووسيلة إلى الزلل، وقد شعرت بأنه أضرني فعلا وضيع علي حقوقا ومصالح ومزايا كثيرة، وسعيت جادا في أن أتحرر منه، ولكن ذهب مسعاي سدى.
لست أدري مصدر هذا الضعف ولا كيف تمكن مني، ولعله من العناصر الأصلية في تكويني، ومع شعوري بأني لست ضعيف الإرادة فقد ضعفت إرادتي عن علاج هذا النقص.
أنا لا أحب الحياء ولا أريده، ولكن ما حيلتي وقد ركب هذا النقص في طبعي؟ وكل ما سعيت إليه ألا يتحول الحياء عندي جبنا، ولعلي قد نجحت في هذا المجال؛ فإني والحمد لله لست جبانا، بل عندي قسط لا بأس به من الشجاعة، ولا أريد أن أقول كيف نجحت في هذا المسعى وإلى أي مدى نجحت؛ لأني إذا استطردت إلى هذا الحديث خرجت من دائرة «الاعترافات» ... (2) الحياء والحب
وما دمت في صدد «اعترافاتي» فإني أقر على نفسي بأني تورطت مرة في الحب عن طريق الحياء، كان ذلك في باكورة الشباب، وأنا بطبعي مرهف الحس، وهذا باب ينفذ منه الحب في يسر وسهولة، ولقد أحببت حبا عاطفيا روحانيا، ولكني أدركت مع الأيام أن الحب أمر متعب لا لزوم له ولا فائدة منه، فتخلصت منه، وكان للحياء دخل في نهايته، كما كان له أثره في بدايته. وتعلمت من هذه التجربة أن من الخير للإنسان أن ينشد الحب العائلي؛ أي الحب بين الزوجين، الحب الهادئ المعتدل المتصل؛ فإنه من أركان السعادة في هذه الحياة. (3) المرونة والعناد
إني لا أملك المرونة الكافية التي يقتضيها الانسجام في المجتمع، أنا مهذب ومؤدب في أحاديثي مع الناس وفي معاملتي لهم كبارا وصغارا، والناس - فيما أظن - يشهدون لي بذلك. ولكني أعترف بأني لست مرنا كما ينبغي، والمرونة في نظري واجبة، وعندي جانب منها، ولكني أعتقد أنه ضئيل، وقد سعيت في أن أستزيد منه فلم أبلغ ما أريد، ولعل السبب في ذلك أن بي عيبا آخر لا يتفق مع المرونة، وهو العناد، ولا أعرف من أين جاءني هذا العيب.
أرى الناس أحيانا يكونون في الشرق وأنا أكون في الغرب، أليس هذا عنادا؟ وعبثا حاولت أن أعالجه فلم أستطع، وتساءلت لكي أقنع نفسي بالإقلاع عنه: كيف يتفق الحياء مع العناد؟ فلم أجد جوابا مقنعا، إلا أن كليهما عيب، ولكن لا سبيل إلى التخلص منهما.
على أن العناد لم يبلغ بي مبلغ التنطع والسخف، بل إني لأعذر نفسي أحيانا في عنادي لأني إنما أعاند فيما أعتقد اعتقادا راسخا بعد دراسة عميقة بأني على حق فيه؛ فكيف أكذب نفسي وأصدق الناس؟! ثم إني كثيرا ما أراهم يسيرون في بعض الشئون وراء أكاذيب ضخمة اصطلحوا عليها دون بحث أو دراسة، فكيف أوافقهم على ذلك؟ وأراهم يرجعون أحيانا عن آرائهم واتجاهاتهم؛ فما رأوه بالأمس أبيض يرونه غدا أو بعد غد أسود، وما رأوه حراما يرونه اليوم حلالا، فهل أدور معهم كل يوم أينما داروا؟ إن هذا ما لا أحتمله ولا أطيقه، فليكن مسلكي عنادا، وليكن العناد عيبا، ولكنه عيب له «ظروفه المخففة» كتعبير رجال القانون. (4) الحفلات والمآدب
الحفلات والمآدب من الوسائل العملية ليكون الإنسان «اجتماعيا»، ويتعرف إلى أكبر عدد من الناس، وتعلو بذلك منزلته الاجتماعية والسياسية. ولكني أعترف بأني لا أميل كثيرا إلى حضور الحفلات والمآدب، وأعتذر عن أكثرها، ولا أحضر إلا القليل منها، وهذا عيب كبير.
إني بطبعي أميل إلى الاجتماعات، أما الحفلات والمآدب فيصدني عنها أن الرسميات لها المقام الأول فيها؛ فأصحاب الرفعة والدولة يقدمون على أصحاب المعالي، وأصحاب المعالي يقدمون على أصحاب السعادة، والوزراء يقدمون على غير الوزراء، والباشوات يقدمون على البكوات، والبكوات على الأفندية، وهلم جرا، وأصحاب الدعوات يلاحظون هذا الترتيب بكل دقة ولهم عيون ورقباء يقومون على تنفيذه. والصحافة أيضا تسير على هذا الغرار في وصف الحفلات وأسماء من يحضرونها. وأنا شخصيا لا أقر هذه الأوضاع ولا أهضم توزيع مظاهر الاحترام والحفاوة بهذا الميزان ؛ ومن هنا أميل إلى الاعتذار عن معظم هذه الحفلات والولائم، وهذا ولا شك نقص كبير سأعالجه مع الزمن ... (5) حسن ظني بالناس
إني حسن الظن بالناس أكثر مما يجب، ويلزمني أن أتعلم المثل القائل: «إن سوء الظن من أقوى الفطن»، لقد قرأته كثيرا ولكني لم أعمل به ولم أتبعه.
أحسنت ظني بأناس كثيرين وخاب ظني فيهم. ومن الغريب حقا أني لا أفيد من التجارب، فكان يجب علي أن أسيء الظن بالناس بعد ما رأيت المرة بعد المرة من خيبة ظني في كثير منهم، ولكني مع ذلك أعود فأحسن ظني بهم؛ أي أعود إلى ما كنت فيه ... فمتى - ليت شعري - أتعلم؟ (6) وبالحوادث ...
ومن عيوبي أني حسن الظن بالحوادث، وأني متفائل أكثر مما ينبغي، وكثيرا ما تأتي النتائج على غير ما كنت أتوقع، ومع ذلك لا أتعلم ولا أغير من نظري إلى الناس والحوادث.
أنا لا أتهم نفسي بالغباوة؛ فإني لست غبيا ولا بليد الذهن، فلا أظلم نفسي وأدعي الغباوة، ولكن لماذا إذن لا أتعظ ولا أتعلم إساءة الظن بالناس والحوادث؟! لعل لي عذرا في هذا العيب؛ فإني لو رضت نفسي على أن أعرف العالم على حقيقته وأسأت ظني بالناس، لما ترك لي اليأس مجالا للعمل، ولسد علي منافذ الأمل، أو لعل الأيام والحوادث سواسية فيما تأتي به من خير أو شر، فلنقبلها على علاتها، ولننظر إليها كما يقول فيها أبو تمام:
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
وليكن الإنسان متغابيا أو متجاهلا، لكي يستطيع أن يبقى مكافحا ومناضلا؛ فالحياة مرادفة للكفاح والنضال. (7) الحقيقة والخيال
وأظهر عيوبي أني لست رجلا عمليا ولا واقعيا، وأني أقرب أن أكون نظريا أو خياليا، وأني لا أريد أن أفهم الحياة على حقيقتها.
أنا أعلم حق العلم أن الحقائق شيء والخيالات شيء آخر، وأشعر أنني أعيش غالبا في جو من الخيال، ومع اعترافي بهذا؛ فإني أوثر الخيال على الحقيقة أحيانا. قد يكون هذا مكابرة، أو غفلة، أو ما إلى ذلك، لكني أود أن أبقى متعلقا بالخيال؛ فقد يكون الخيال خيرا من الحقيقة، وقد يصبح حقيقة بعد حين، وقد تفيد الأمم من الخيال أكثر مما تفيد من الأمر الواقع!
نصائحي للشباب
وما عليهم من واجبات
إن آمالنا معقودة بقيام شباب الجيل بواجباتهم نحو أنفسهم ونحو بلادهم؛ فالشباب عدة الوطن وذخيرته، ومن حقنا أن ننتظر منهم أن يؤدوا واجباتهم على أكمل وجه. ولست أريد شططا فيما أذكره من واجبات الشباب، ولا أبتغي إرهاقا لهم، بل إني أستملي في هذه الكلمة روح الاعتدال والرفق بالشباب.
إن أول واجبات الشباب - فتيان وفتيات - هو واجب كل شاب نحو نفسه، وإني لأبدأ بهذا الواجب عن عقيدة واقتناع، ولا يدهشن أحد؛ إذ أقدم هذا الواجب على واجب الشباب نحو وطنه؛ فإن خير النصح ما كان مطابقا لحقائق الأمور، والوطنية حقيقة واقعية لا خيال كما يدعون.
أنا لا أتملق الشباب إذا قلت إن أول واجب عليهم نحو المجتمع هو تكوين أنفسهم ليكونوا مواطنين صالحين في المجتمع، فكلما كان الشاب ذا مركز محترم وذا مكانة مستقلة، ولا يعيش عالة على غيره، استطاع أن يخدم بلاده بأكثر مما لو كان يعتمد على غير نفسه في الحياة.
فنصيحتي إلى الشباب أن يكونوا لأنفسهم مراكز محترمة في المجتمع، وأن يعتبروا واجبهم نحو أنفسهم هو الحجر الأساسي لما تطلبه البلاد منهم، وأنهم بتكوينهم هذه المراكز يمهدون لأنفسهم سبيل العمل المنتج والجهاد المثمر في سبيل إحياء البلاد ورقيها وعظمتها.
وواجب الشباب نحو أنفسهم يتضمن واجبهم نحو أسرهم وذويهم، ذلك لأنهم ينتظرون منهم أن يكونوا عونا لهم في هذه الحياة؛ فالآباء عندما يبذلون جهودهم لتربية أبنائهم يحق لهم أن ينتظروا منهم أن يكونوا عونا لهم في مستقبل حياتهم، وأن هذا العون لمما يشرف الشاب ويرفع شأنه بين الناس.
ثم تأتي في المرحلة الثانية واجبات الشباب نحو وطنه، ولا أقول إن هذه الواجبات تأتي في الصف الثاني من الأهمية، بل على العكس فإن واجب الشباب نحو وطنهم أعظم وأوسع مدى من واجبهم نحو أنفسهم. ذلك لأن البلاد ما هي إلا عائلة كبيرة تتألف من مجموع عائلات المواطنين، فعندما يؤدي الإنسان واجبه نحو نفسه عليه أن يؤدي واجباته نحو عائلته الكبرى وهي الوطن.
وواجبات الشباب نحو وطنهم تتفرع إلى ثلاثة أقسام: واجبات سياسية، وواجبات اقتصادية، وأخرى اجتماعية. (1) الواجبات السياسية
والواجب السياسي هو أن يساهم الشاب بجهوده وبعلمه وبكفاءته وبإخلاصه في النهوض بالبلاد من الناحية السياسية، وأول ما يجب على الشباب هو أن تكون له عقيدة سياسية، أو بعبارة أوضح عقيدة وطنية؛ لأن الذي يعمل بغير عقيدة قلما تفيد البلاد منه فائدة ما.
قد يقال إن هذا الكلام نظري، وإن البيئة والوسط والظروف وحالة البلاد تدعو إلى عدم تقيد الإنسان بعقيدة سياسية، ولكني على العكس أقول إنه يجب على الشباب ألا يعيش على هامش الحوادث والأحزاب، بل يجب أن يكون له رأي وتكون له عقيدة يدافع عنها ويصدر عنها في أعماله واتجاهاته.
على الشباب إذن أن يختار لنفسه الهيئة السياسية التي تتفق مع عقيدته ولا يتحول عن هذه العقيدة.
إني أدعو الشباب أن يحيوا بالعقيدة الوطنية لأنها أساس التقدم والكفاح، كما أنها الملاذ الأخير للإنسان إذا ما صادفته في حياته عقبات أو صدمات أو نكران للجميل، والرجل الذي يخلو من العقيدة لا يلبث أن يتخاذل ويتراجع وينتهي في آخر الأمر إلى اطراح الجهاد.
إني أدعوهم إلى تنمية روح العقيدة الوطنية في نفوسهم وألا يتعجلوا تقدير الناس لجهودهم، فأنا أعلم الناس بأن المواطن الذي يعلق عمله على تقدير الناس لجهوده لا يلبث أن يصاب من المجتمع بخيبة أمل قد تؤدي به إلى أن ينقلب على عقبيه، كما أن الوطنية الحقة أساسها أن يؤدي الإنسان واجبه دون أن ينتظر من الناس جزاء ولا شكورا.
إن الشباب وإن كان يجب عليهم أن يتمسكوا بعقيدتهم فليس من الخير أن يسخطوا على الناس إذا كانوا لا يشاركونهم في عقائدهم، ولا أن يحاسبوهم حسابا عسيرا إذا خالفوهم فيما يعتقدون. إن لهم أن يتشددوا في عقائدهم، ولكن عليهم أن يكونوا أشداء على أنفسهم، رحماء على الناس، فلعل ذلك أدعى لخدمة عقائدهم واجتذاب القلوب إليها، وأقرب إلى اعتناق الناس مع الزمن لمبادئهم.
إننا في خلال أربعين عاما عندما كنا ننادي بالجلاء والملحقات لم يكن نداؤنا يقابل في الجملة إلا بالتهكم والسخرية، لا من الأشخاص العاديين فحسب، بل من الأشخاص ذوي المراكز الكبيرة والأسماء الضخمة، ولقد كنت أرى دائما ألا نناصب من يخالفوننا في عقائدنا العداء، بل كنت أدعو إلى التسامح معهم لعلهم يرجعون آخر الأمر إلى مبادئنا، وأظنني كنت محقا في أن هذه الخطة أقرب إلى تعميم هذه المبادئ، وأنها كسبت مع الزمن الأنصار والمؤيدين من طبقات الشعب كافة، حتى أولئك الذين كانوا يجرحون مبادئنا ويعتبرونها خيالا في خيال.
وأود أن أضيف نصيحة أخرى، وهي أن يعمل الشباب دائما على تأليف القلوب لا على تفريقها؛ لأن تأليف القلوب وتوحيد الصفوف من أمضى الأسلحة التي نعتمد عليها في كفاحنا.
فليكن الشباب رسل وئام ومحبة وسلام، لا دعاة فرقة وكراهية وانقسام.
إن الشباب هم طليعة جيش الوطن، فعليهم أن يكونوا قدوته في التماسك والتكتل، وبدون ذلك لا يستطيع الشباب أن يؤدوا رسالتهم.
إن الإنسان مهما ضحى في سبيل الوحدة؛ فإن تضحيته لها قيمتها، وهي جديرة بأن يشكر صاحبها عليها. (2) الواجبات الاقتصادية
من الناس من يظن أن الحياة الوطنية هي السياسة، وهذا خطأ أربأ بالشباب أن ينحدروا إليه؛ لأن الحياة القومية يجب أن تشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي. فلا يمكن لأمة أن تحقق أهدافها إذا لم تهتم بالناحية الاقتصادية فيها؛ فالنهضة الاقتصادية هي من الأسلحة التي تتميز بها الأمم القوية عن الأمم الضعيفة، والأمة الغنية أقوى في ميدان الكفاح السياسي من الأمة الفقيرة.
لقد لاحظنا كيف كان لعامل المال الأثر الفعال في نتائج الحرب العالمية الأولى والثانية؛ فقد كتب النصر للأمم التي تفوقت على أعدائها في ميدان المال؛ ولذلك قالوا إن النصر يكون لأقوى الأمم وأكثرها مالا.
ولعل من الخير أن نلاحظ أن الحركة الوطنية قد اقترنت بالنهضة الاقتصادية؛ فقد كان مصطفى كامل يعمل في الناحية السياسية، بينما كان طلعت حرب وعمر لطفي يعملان في الناحية الاقتصادية، فكلتا النهضتين إذن ضرورية للأخرى بل مكملة لها؛ ومن ثم كان من الواجب علينا أن نتعاون على تشجيع كل ما هو مصري من الإنتاج؛ فالأمم الأوروبية تؤثر إنتاجها الوطني على أي إنتاج آخر.
إني لا أقصد أن أدعو الشباب إلى التعصب، وإنما أقصد دعوتهم إلى تشجيع الإنتاج المصري؛ لأن هذا من العوامل الكفيلة بالنهوض الاقتصادي للبلاد.
كما أنني أدعوهم إلى المساهمة في المنظمات الاقتصادية التي تنهض بالثروة القومية، وأدعوهم على الأخص إلى تشجيع المنظمات التعاونية بحيث لا تخلو جمعية تعاونية من مساهمتهم فيها. ولا يصح أن يحتج أحدهم بعدم وجود جمعية تعاونية ينضم إليها في بلده أو في بيئته، بل يجب عليه في هذه الحالة أن يتعاون مع إخوانه على إنشاء جمعيات تعاونية لا جمعية واحدة؛ ولذلك فإني أوجه اللوم إلى الشباب المثقف الذي يعيش في القرى أو المدن ولا يعمل على إنشاء الجمعيات التعاونية فيها. (3) الواجبات الاجتماعية
لا شك أن المجتمع الراقي السليم أقوى على مواجهة الأزمات السياسية العالمية من المجتمع المتأخر وأقدر منه على احتمال أعباء الدفاع الوطني. ومما تجدر ملاحظته أن الجمعيات الرياضية في أوروبا تساعد على تكوين المواطنين الصالحين والجنود المكافحين؛ فعلى الشباب إذن أن يساهموا في نهضة البلاد الرياضية والصحية والتعاونية والاجتماعية والخيرية. إن الجمعيات الرياضية الواسعة المدى في أوروبا قد وضعت نصب عينيها تطبيق المثل القائل: «العقل السليم في الجسم السليم»؛ ومن ثم كونت جيلا قويا رياضيا، هذا بينما نحن في مصر نجد أن 80٪ من شباب الجامعة لا يصلحون للجندية لضعف بنيتهم واعتلال صحتهم.
وعلى الشباب أن ينتظموا جماعات للعمل على الرقي الاجتماعي، وأن يؤسسوا هذه المنظمات إن لم تكن موجودة. عليهم أن يكونوا دائما دعاة للخير، عاملين على تخفيف آلام الإنسانية، مساهمين في الخدمات الاجتماعية، ساعين في التخفيف عن الفقراء والمرضى والمعوزين وأن يساهموا في نشر الثقافة بين مواطنيهم. فإذا اتجهوا إلى هذه الناحية نمت في نفوسهم الروح الاجتماعية التي تجعل من الإنسان مواطنا صالحا يحس بآلام مواطنيه فيعمل على التخفيف منها، ويشعر بشعورهم فيعمل على إسعادهم، وفي هذا معنى التسامي في الوطنية.
وأرجو أن يكون الشباب رسل تطور، وألا يتخذوا العنف وسيلة لهم في الكفاح.
وأود من الشباب ما داموا لا يزالون في معاهد التعليم على اختلاف درجاتها ألا يساهموا في السياسة الحزبية؛ إذ ليس من مصلحتهم ولا من مصلحة البلاد أن يساهموا في هذه السياسة. وعليهم إذا كانت لهم ميول نحو هذا الحزب أو ذاك أن يرجئوا الجهر بهذه الميول وتحقيقها حتى يتخرجوا من معاهد العلم؛ لأن هذه المعاهد يجب أن تصان عن أن تكون مسرحا لخلافات الأحزاب وتطاحنها.
إن السياسة الوطنية هي وحدها السياسة التي لا يلام عليها الشباب من الطلبة. ومن السهل على الشباب المثقف أن يفرقوا بين السياسة الوطنية والسياسة الحزبية، وإن وحي الوطنية في نفوسهم لكفيل بأن يلهمهم الفوارق بين السياستين. فعلى الطلبة أن يتعهدوا في نفوسهم روح الوطنية، لا روح الحزبية، وأن ينموا هذه الروح ويحافظوا عليها، حتى إذا تخرجوا من معاهدهم أمكنهم أن يستلهموا روح الوطنية في حياتهم الشخصية وحياتهم العامة. لأننا إذا أمعنا النظر في نقائص المجتمع في بلادنا وتعمقنا في دراسة علل هذه النقائص وأسبابها نجد أن أول سبب لها هو ضعف الروح الوطنية في نفوسنا. فإن هذا الضعف يميل بالمرء إلى أن يحيا حياة شخصية، لا حياة قومية، وهذه الحالة النفسية لا تجعل منه مواطنا صالحا يؤدي لبلاده ما يجب عليه من التزامات وواجبات، وأول هذه الالتزامات أن يؤثر مصالحها العامة على أطماعه الشخصية. والروح الوطنية هي كالأخلاق، لا تكتسب بعد تخرج الشباب من معاهدهم، بل يجب أن تنشأ وتتكون في البيت، وفي المدرسة الابتدائية؛ فالثانوية، ثم في الجامعة، وإذا لم تتكون في هذه المراحل فمتى - ليت شعري - تتكون؟
وصفوة القول أن على طلبة العلم أن يتعهدوا في نفوسهم روح الوطنية وينموها ويقدسوها ويحرصوا عليها، ولكن ليس لهم أن يشتغلوا بالسياسة العملية إلا بعد تخرجهم من معاهدهم، وعليهم أن يحترموا النظام والقانون وأن يتخلقوا بالأخلاق القويمة. (4) الأخلاق
الأخلاق ! الأخلاق! هي أساس الوطنية وركنها الركين، هي سياجها وحصنها الحصين، هي قوامها وغذاؤها الدائم. وإن أمة بلا أخلاق لا تستطيع أن تحمل أعباء الوطنية أو تسير خطوة إلى الأمام.
فلنتعهد الأخلاق، وليبدأ كل منا بنفسه، كبارا وصغارا، شيبا وشبانا. فإن الأخلاق والفضائل الوطنية لا تنمو ولا تقوى إلا إذا كان أساس الدعوة إليها القدوة الصالحة. فليتعهد كل منا أخلاقه، ويقوم المعوج منها، ويحصن السليم منها؛ فإنه بذلك يؤدي أعظم خدمة للمجتمع، ويضع لبنة في صرح الاستقلال والإصلاح والنهضة القومية.
अज्ञात पृष्ठ