فأثنيت على هذه الفكرة، ثم سمحت لنفسي أن أقترح على الأميرة تأسيس مدرسة لتعليم البنت ما يلزمها من واجبات الأمومة مثل العناية بصحة الطفل وتربيته وترتيب المنزل؛ لأن الداء لا بد أن يعالج من أصله، والمستوصفات وإن كانت تأتي بفائدة عظيمة إلا أنها فائدة وقتية، وما دامت الأم جاهلة، فلا يرجى من العلاج الوقتي شيء يذكر، بل يجب استئصال الداء من أساسه ... ووعدت الأميرة باشتراكي معها قلبيا وعلميا في تحقيق هذا الغرض، إذا وعدتني بأنها ستفكر في إنشاء مدرسة كهذه لتربية أمهات المستقبل حتى يمكننا تحقيق الغاية المنشودة من «المبرة»، فوعدتني بذلك.
ولما كان هذا المشروع يحتاج إلى مصروفات طائلة واستعدادات هائلة، فقد قالت: إنه لا مانع من أن نقوم من الآن بتحقيق هذا المشروع، ثم أضافت قائلة: إن لي غاية أبعد من ذلك، وهي تنمية روح التعاون والتعاضد بين الأميرات والسيدات المصريات، وأن يكون هذا العمل مبنيا على أساس العاطفة الإنسانية القومية.
وبعد أسبوع، دعيت للاجتماع الأول في الدار التي كانت تسكنها بشارع الدواوين، فوجدت عددا كبيرا من الأميرات وكرائم السيدات المصريات. وبعد أن تناولنا الشاي وتعارفنا تشكلت لجنة من الأميرة نازلي حليم رئيسة، والأميرة عين الحياة أحمد أمينة للصندوق، ومدام فوكيه وإحدى الأميرات سكرتيرتين، وبعض الأعضاء من باقي السيدات، واكتتبت كل واحدة منا بمبلغ لا يقل عن خمسين جنيها. وأخبرتنا الأميرة أن سمو الأميرة والدة الخديوي ستتبرع بمبلغ كبير وبمئة وعشرين جنيها سنويا، وأن الخديوي عباس حلمي الثاني وقريتنه سيشتركان في هذه المبرة. ثم وزعت علينا طوابع عليها رسم امرأة تضم إليها طفلة فقيرة من فئة القرش صاغ لنبيعها ونضيف حصيلتها على التبرعات لتكون رأس مال الجمعية، كما قررت توزيع بعض هذه الطوابع على المديريات والمحافظات والمراكز والوزارات للمساعدة في رأس مال الجمعية، وتم توريد الحصيلة للأميرة عين الحياة.
ثم حدث أن سافرت الأميرة بعد ذلك في فصل الصيف للاستشفاء في أوروبا، وكان قد اعتراها المرض الذي قضى على حياتها الغالية ولم تكن قد جاوزت إذ ذاك الخمسين من عمرها، فكان لوفاتها حزن عميق في نفسي؛ لأني كنت أحبها وأقدرها لفرط ذكائها ورقة حاشيتها وطيبة قلبها ووداعة نفسها.
وفي ذات ليلة رأيتها في منامي وقد دخلت علي وأنا في غرفة دراستي مدة طفولتي في بيت والدي مرتدية ثيابا سوداء وخلفها كريمتها الأميرة كاظمة تحمل على يديها وسادة صغيرة فوقها كتاب مقفل، فتقدمت لتحيتها، وبعد أن ردت علي التحية، التفتت إلى كريمتها وأخذت منها الوسادة وما عليها وسلمتها إلي صامتة.
ولما كنت أعتقد في الأحلام، فقد فسرت هذا بأنها تعهد إلي بتحقيق مشروعها وتأتمنني عليه ... فقررت في نفسي أن أبذل كل جهدي من أجل تنفيذ رغبتها وفاء لها، وكانت الأميرات بعد وفاتها قد أظهرن فتورا نحو تحقيق هذا المشروع، وبخاصة عندما طلبن من نجلها الأمير كمال الدين حسين المبالغ التي كانت لديها من حصيلة التبرعات وبيع الطوابع، فطلب منهن إثبات ذلك، ولما لم يكن لديهن أي مستند، فقد داخلهن اليأس ... ولكني قلت لهن: إنه لا بد من استرداد هذه المبالغ، وإنني لا أشك في أنها قد أثبتتها في الأوراق التي تركتها، وكان هذا يتطلب وجود مندوبة تتردد على الدائرة وتبحث مع الكتاب والموظفين في الدفاتر، وقد اخترت لذلك صديقة فرنسية لها دراية بإمساك الدفاتر ومعروفة بالأمانة والصدق، وقبلت القيام بهذه المأمورية بلا مقابل إكراما لخاطري، واستطاعت أن تثبت لنا الحق في ثلاثة آلاف من الجنيهات، دفعها لنا الأمير دون تردد. وأمكننا بذلك إنجاز المشروع باستئجار منزل صغير في شارع البراموني، مجهز بكل اللوازم التي يتطلبها المستوصف. ولا يزال المستوصف موجودا إلى الآن يقوم بأجل الخدمات الإنسانية، وهو المعروف باسم «مبرة محمد علي».
وقد أقمنا فيما بعد عدة حفلات بهدف جمع مبالغ جديدة لدعم المبرة، وقد ساعد دخل هذه الليالي الشرقية على نمو رأس مال الجمعية، فأبديت للجنة اقتراحي بشأن إنشاء مدرسة لتربية أمهات المستقبل. وقصصت عليهن ما دار بيني وبين المرحومة الأميرة عين الحياة عند قيامها بتنفيذ مشروع المبرة. فأيدت وجهة نظري معظم الأميرات والسيدات، واعتمدت اللجنة مبلغا لشراء منزل لهذا الغرض. ووفقت إلى منزل كبير بشبرا مساحة فدان ... وهو مبني على طراز القصور القديمة ويفي بالغرض ولا يتطلب إلا بعض التعديلات والترميمات. وقد اشتريناه بمبلغ 2200 جنيه، وكلفنا المرحوم المهندس محمود باشا فهمي بترميمه، وقمنا من جانبنا بإعداد ما يلزمه لاستكمال أثاثات المدرسة.
ولا يسعني إلا أن أذكر الهمة العظيمة التي كانت تبذلها الأميرات والسيدات المصريات أعضاء هذه الجمعية للقيام بواجبهن الإنساني، وكان لي شرف رئاسة اللجنة العاملة فيها، وكانت الأعضاء يحضرن كل جلسة تعقد أسبوعيا ويعتنين بصحة البؤساء من أولاد الفقراء وأمهاتهم، جاعلات نصب أعينهن العناية بأولاد الشعب. كذلك فقد تطوع بعض الأطباء المصريين والأجانب لهذه الخدمة الإنسانية بالمجان. وكانت الخدمات الطبية تجري تحت إشراف الأميرات والسيدات أعضاء اللجنة اللاتي كن يحضرن بالتناوب في أيام محددة.
الفصل الحادي عشر
في صيف عام 1909، سافرت إلى أوروبا لأول مرة وقد قصدنا إلى فرنسا نزولا على مشورة الأطباء للاستشفاء. وكان معنا في هذه الرحلة أخي وزوجته وأولاده ووالدتي.
अज्ञात पृष्ठ