ثم أتحول إلى غرفة والدتي الكبيرة، فأراها مستلقية على سريرها وبيدها المصحف ترتل آيات القرآن الحكيم، أو تذاكر الدرس اليومي الذي فرضته على نفسها حبا في تعلم اللغة العربية وتعلقا بها. وأراها مرة أخرى جالسة في فراشها ومن خلفها خادمتها الصغيرة تدلك ظهرها بيديها الصغيرتين، فإذا رأيتها على هذه الحال، دنوت منها ورجوتها أن تسمح لي أيضا بتخفيف آلامها، فتضحك وتصرف الفتاة وتقول لي: قومي بدورك، فأصعد إلى السرير، وأتفنن في تدليكها بكل ما عندي من قوة.
وأتجول في أنحاء البيت، فأرى الجواري كالنحل يصعدن في الصباح الباكر إلى الدور العلوي، وتتوجه كل واحدة منهن إلى موقعها لتقوم بأداء ما هو مطلوب منها، بعد أن يشتركن جميعا في تنظيف البهو الفسيح.
وكانت غرفة المائدة لا تتميز عن باقي الغرف إلا بوجود دولابين في الحائط لحفظ الأطباق الفضية والأكواب، وحمالة الطست والإبريق التي كانت تشغل ركنا بجانب الباب، وكرسي مرتفع مستدير في وسط الغرفة توضع عليه صينية كبيرة وقت تناول الطعام، ثم ترفع بعد ذلك وتسند إلى الحائط.
أما غرفة الاستقبال فكانت فسيحة، وعلى جانبيها مرآتان كبيرتان، أمام كل واحدة منهما «كونسول» مذهب عليه قطعة من الرخام، وفي الوسط منضدة من الطراز نفسه، والمقاعد والكتب مذهبة ومكسوة بالحرير، وأمام كل كنبة منضدة صغيرة.
وكان يزيد من بهجة هذه الغرفة أبسطة ثمينة ونجفة جميلة من الكريستال والبرونز المذهب مدلاة من السقف، وعلى جانبي المرآتين مجموعة من المصابيح، وقد بقي كل ذلك مجللا بالسواد منذ وفاة والدي حتى قرب زواجي.
أما غرف نومنا فكانت بسيطة للغاية، تضم الأسرة والدواليب والمقاعد وبعض الأبسطة والثريات. وكانت مربياتنا يدخلن غرفتنا في الصباح لإيقاظنا، وتتولى «سياح» مساعدة أخي في غسل وجهه وارتداء ملابسه بينما تتولى «دادة زهرة» مساعدتي في ارتداء ملابسي وتمشيط شعري.
وكان بيتنا يسوده النظام ويشمله الهدوء وترفرف عليه الطمأنينة نتيجة الوفاق بين الخدم وحسن التفاهم والتعاضد بين من فيه، وظل حال بيتنا هكذا مدة طويلة، ولكن يبدو أن لكل فردوس شيطانا، وكان لا بد لفردوسنا من شيطان يعكر صفوه وينفث فيه سموم الفتن. وكان هذا الشيطان في شخص امرأة بدينة، قصيرة القامة، مستديرة الوجه، خضراء العينين حادة النظرات، رقيقة الشفتين، ذات أنف مدبب كمنقار الببغاء، وهي من أصل جركسي وتدعي «فطنات» وكانت معتوقة لأحد الباشوات وتزوجت في المنيا من رجل يمت بصلة إلى بعض محاسبينا، وكان يعمل كاتبا في إحدى المحاكم.
وقد جاءت فطنات ومعها طفلة في مثل سني تقريبا هي ابنة أخت زوجها اليتيمة التي تكفل بها خالها، وقامت هي بتربيتها، وكانت غاضبة؛ لأن زوجها تزوج من أخرى، فقابلتها والدتي كعادتها بالترحيب والإكرام، وقالت لها: اعتبري نفسك في بيتك إلى أن نعمل ما فيه راحتك. وأرسلت والدتي إلى زوجها تؤنبه فأتى بعد مدة طويلة يطلب الصلح، ولكنها أقسمت ألا تعود إليه، وطلبت منه الطلاق، فما كان منه أمام إصرارها إلا أن طلقها، وما كاد يحدث ذلك حتى شاهدنا منظرا لم نر مثله في حياتنا، إذ قامت «فطنات»، ثائرة تفتح صناديقها وتخرج منها ملابسه وتقذف بها إليه من النافذة إلى فناء البيت، ثم كادت تلقي إليه أيضا بابنة أخته؛ لأنه طلبها، وطوال ذلك الوقت كانت تتناهى إلى أسماعنا أنواع من السباب والشتائم لم نسمع بها من قبل، ولما كانت الطفلة قد مكثت عندنا مدة من الزمن ولعبت معنا وتعودنا عليها، فقد عز علينا فراقها وتمسكنا بها لدرجة أننا بكينا ونزلنا إلى خالها نرجوه أن يبقيها معنا، وبعد إلحاح وافق على أن تبقى في رعاية والدتي، بشرط أن نحميها، من شر «فطنات».
أما ليالينا فقد كنا نمضي معظم السهرات جالسات على «الشلت» حول فانوس كبير؛ لأن الكهرباء لم تكن قد انتشرت بمصر بعد. وكانت مربياتنا يقصصن علينا كيف أسرن، وكيف كانت بلادهن وعادات أهلها، حتى يغلبنا النعاس، فنأوي إلى فراشنا. وكانت تلك السهرات تطول وتكتسب كثيرا من الأهمية والبهجة عندما كانت تحضر لزيارتنا سيدة كانت تستخرج ماء الزهر ونسميها «الست الزهارة». كانت طويلة القامة، ضخمة الجسم، مستديرة الوجه، عليها سيماء الهيبة والوقار، ترتدي دائما الملابس البيضاء وعلى رأسها طرحة بيضاء. وكنا نحبها كثيرا وننتظر زيارتها بشوق ولهفة لنسمع منها القصص المسلية. ولشدة حبنا لها كنا نخفي إزارها لنضطرها للبقاء عندنا مدة طويلة، وكنا نترقب المساء لتتصدر المجلس وتقص علينا بصوتها الجهوري حكاياتها الممتعة، فنجلس حولها وكلنا عيون شاخصة وآذن مصغية. وكانت تخرج من قصة إلى أخرى إذعانا لإرادتنا وإلحاحنا. وكانت الغرفة في مثل تلك الليالي تكتظ بجميع أهل المنزل الذين يجيئون تباعا ويجلسون حتى تتسع الدائرة وتبلغ باب الغرفة، وما كان النعاس في تلك السهرات يتسرب إلى أجفاننا حتى نرغم على القيام للنوم، فكنا نتوسد الفراش ونتخيل ما كانت تقصه علينا، ونسبح في عالم الخيال. وأظن أنه كان لهذه السيدة الفضل الأكبر في اتساع دائرة خيالنا.
وقد استمرت هذه السيدة تتردد علينا طوال حياتها كما كانت تتردد على كل البيوت الكبيرة لتبيع ما تستخرجه من ماء الزهر وماء الورد وغير ذلك من المياه العطرية.
अज्ञात पृष्ठ