وهنا كان قد ضاق ذرعي به، ونفد كل ما معي من الصبر. فأخذت الكتاب بعنف وأخذت أتلو السطور والصفحات، وكأن صاحبنا قد شعر بأن مركز الثقل النوعي قد كان كامنا فيه، فتحرك وتحفز وأخذ ينظر، ولما رأى أنه لم يقسم عليه أحد ليطيل الجلوس نهض واقفا ثم ودع وانصرف.
ولما خرج شعرت كأن ثقلا قد أزيح عن عاتقي، وأخذت أتنفس بملء رئتي من ذلك الهواء الذي كان ينفحنا به الشباك المفتوح، رغم أنف صاحبنا الثقيل. ثم قلت: الحمد لله على رحمته بعد نقمته، ونعمته بعد عذابه.
وأما المساء فقد قضيته بين التنقل من بيت إلى بيت، ومن الوقوف مع هذا الطالب الذي يخاصم العامل ويتهمه بأنه غشه ولم يخلص في عمله، ويهدده بأنه سيأتي بأمين يقدر ما في عمله من نقص وغش، إلى الوقوف أمام صاحبنا الثقيل والاستماع إلى حكمه الثمينة الغالية، وقصصه الجميلة الفكهة التي تغشى على النفس وتكاد تقضي عليها، إلى دراسة قانونية مع رفاقي من طلبة الحقوق. وهكذا تصرم العشي وانقضى.
ولما تفرق جمع العملة وانقضى العمل، وذهب كل في سبيله وانتهى عملنا القانوني، جلست إلى المنضدة وأخذت أتلهى بتنظيم الكتب والعبث بالأوراق. وما هي إلا ساعة حتى أقبل صديق أديب وبيده السياسة الأسبوعية، فتناولتها منه وأخذت أقرأ بعض فصول فيها، فوقع نظري فيها على فصل موجه إلى الدكتور هيكل أذكرني بفكرة انتقادية وجهتها علي مقدمة هيكل التي كتبها لكتابه «تراجم مصرية وغربية» التي اختصر فيها تاريخ مصر وذكر فيها آراء غريبة وطرقا شاذة في التاريخ ودراسته، فصارحت صديقي بفكرتي، فألح علي في أن أكتبها وأنشرها على صفحات «العالم» فوعدته، ولكنني لم أكتبها لحد الآن، ولا أدري هل أنا كاتبها أم لا؟ إن فكرة المقال جاهزة مهيأة لا تحتاج إلا لإجراء القلم، فإذا المقال حاضر، ولكنني أشعر بتثاقل عن كتابة الفكرة لا أعلم مأتاه.
الخميس 9 جانفي 1930
عرفته أديبا له حظ موفور من بعد النظر ورجاحة التفكير وجمال الأسلوب. وعرفته شاعرا له روح حساسة شاعرة، وأحلام غريبة رائعة، وخيال قوي وثاب.
وكنت إذا جلست إلى الناس واستمعت أحاديثهم شعرت بالحاجة إلى ما يثير عواطفي، ويحرك وجداني، ويؤجج في داخلي نيران الحياة؛ لأنني أرى الخمول يدب في مشاعري ويستحوذ على نفسي كأنها انقلبت قبضة من رماد خابية. أما بجواره فإنني أحس بعواطفي وإحساساتي تتقد وتتوهج وتندفع وتجيش كعاصفة من نار، وأشعر بأنني شعلة حية نامية تضطرم في موقد هذا الوجود؛ لأنه كان يحمل بين جنبيه عاصفة نارية مشبوبة تدوي بتيارات الحياة، ولم يكن يحمل بركة آسنة تعكس على صفحاتها النائمة أشباح الجبال وظلال الغيوم. ولأنني كنت أجد في صدره تلك النفس الحساسة الطموح الجياشة بشتى المعاني والصور، وذلك القلب الشاعر الملتهب الذي يطبع كل ما يلامسه بطابع من نار.
نعم عرفته، ولكنني في الحقيقة لم أعرفه، فإنني لم أكتشف مناجم قلبه الذهبية، ولم أطلع على ما في روحه الشجية من كنوز غربية قبل اليوم.
كان الوقت أصيلا والشمس تلقي على أشجار البلفيدير حلة ذهبية ساحرة، وفي السماء غيوم ملونة زاهية، وأنا ورفيق لي جالسان إلى مقعد من مقاعد البلفيدير، وأمامنا سرب من عذارى الإفرنج يلعبن لعبة «التنس» في رشاقة وخفة كالعصافير، وفي يميني كتاب «رافائيل» الذي رسم فيه لامارتين صورا من شبابه الزاخر بالعواطف والأحلام، ورفيقي يطالع «تاييس»، وأنا أجيل بصري مرة في جمال السماء التي توشحها الغيوم، وأخرى في رقة الشمس الذائبة على ذوائب الأشجار، وطورا في فن الحياة الماثل في هؤلاء الغواني اللواتي ترنح أعطافهن حميا الشباب.
وأقبل صاحبنا الشاعر، وأنا أطالع صفحة من «رافائيل» ورفيقي غارق في «تاييس» إلى أذنيه. فقال بعد التحية يخاطبني وهو يجلس بيننا على المقعد: «عجبت ألا يصرفك جمال الوجود وفتنة هؤلاء العذارى اللاعبات عن أوراق الكتب؟! وقد عهدتك من عباد الطبيعة والجمال. أولا توافقني على أن الكتب رغم ما فيها أحيانا من غذاء شهي للفكر والعاطفة، كثيرا ما ظللت الناس وأركبتهم متن الشطط في أحكامهم؟ وإن خيرا لهم لو أخذوا دروسهم رأسا عن هذا الكون العجيب.
अज्ञात पृष्ठ