صيّرت قلوبهم كالأرض الترابية التي لم تروَ بالماء فإذا أتاها ماء رويت: سواء أكان ذلك الماء صافيًا أم كدرًا زُلالًا باردًا أم كدِرًا حارًّا. ثم إذا رويت، وجاء ماء آخر صافٍ حسن لم تشربه، وصار مائعًا عليها. فهذه هي القلوب الغافلة عن الحقّ نسأل اللَّه السلامة. فعليك شكر نعمة الولاية بما ذكرناه وأن تعرف أنك أنت والرعيّة سواء لم تتميز عنهم بنفسك، بل بفعل اللَّه تعالى الذي لو شاءَ لأعطاهم ومنعك فإذا كان قد أعطاك الولاية عليهم ومنعهم فما ينبغي أن تتمرّد وتستعين بنعمته على معصيته وأذاهم، بل لا أقلّ من أن تتجنب أذاهم وتكفّ عنهم شرّك وتجانب الهوى والميل والغرض بنعمة الولاية لا تطلب منك غير ذلك. ولو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضًا وجلست في دارك تصلّي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئًا على ربك. فملِكك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر وإنَّما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالًا أخر صالحة كان ذلك نورًا على نور، وإلَّا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم. ولعلَّك تقول: فإن قمت بحقوق الرعية مع التقصير في حق اللَّه تعالى هل أنا محمود؟ فاعلم أنك محمود من تلك الجهة، مذموم من هذه الجهة، وتيقَّظ لأمر عظيم نُنبهك عليه. وهو أن مَن هذا شأنه يخشى عليه إن هو زاد من التقصير في جانب اللَّه تعالى أن يُظلم قلبُه ظلامًا يورث الطَبْعَ (١) على قلبه، وينشأ عنه التقصير في تلك الجهة الأخرى، فيصير مذمومًا في الجهتين. فلا يخطر لك أنَّه يمكن اجتماع التقصير في حق اللَّه تعالى من كل وجه، والقيام بحق العباد من كل وجه، بل هذا مستحيل عادة؛ فقد جرت عادة اللَّه ﷾ بأن من أهمل جانبه من كل وجه سُلِّط عليه الشيطان فاستولاه واستزلَّه وصيَّره يضيع جانب العباد أيضًا. ومن رشيق عبارات الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه؛ وقد ذكر أنَّ الرشد صلاح الدين والمال معًا: من ضيَّع حق اللَّه تعالى فهو لما سواه أضْيَع. فعليك أن تتعهد نفسك بالعبادة ومراقبة الحق. وليس مقصدنا الآن البحث عن هذا؛ إنَّما الذي عقدنا له
_________
(١) الطبع على الشيء: الختم عليه حتى لا ينفذ شيء إلى باطنه، وطبع اللَّه على القلب مجاز عن ألَّا يصل إلى القلب شيء من الهدى ونور الإِيمان. ويصح أن يقرأ: الطبع بالتحريك وهو الصدأ أو الدنس.
1 / 19