نفسك فهو مطلع عليه: فإن وقع في قلبك استقلالها فإنَّه يخشى عليك زوالها وافتقارك إليها، وإن وقع في نفسك استعظامها فأبشر بدوامها والازدياد. سمعت الشيخ الإِمام ﵀ يقول: أعطَيْت بعض الناس عطاء فاستقلَّه فعلمت أن اللَّه يسلبه إيّاه ويحوجه إليه. فإن قلت: ما علاج هذا الداء؟ فإنَّ كثيرًا من الناس يعطون ما يرونه قليلًا بالنسبة إليهم؟ قلت: علاجه أن ينظر إلى نفسه ويرى هل يستحق على اللَّه شيئًا! وما أصله؟ وكيف وصل إلى ما وصل؟ فما من أحد يعتبر حاله من أول منشئه إلى إيصال النعمة التي هو فيها مفكِّر ولها مستقلٌّ إلَّا ويجدها نعمة ليست في حسابه وكثيرةً عليه. فهذا دواء من أدوية هذا المرض. ودواء آخر وهو أن تأخذ النعمة من اللَّه تعالى وتعلم أن العظيم إذا أسدى إلى عبده الحقير معروفًا وإن قلَّ فقد ذكره. وما حقرك من ذكرك، وما ذكرك الكريم إلَّا وفي نيّته أن يَجْبرك. فتلقَّ ما يأتي منه بالبشرى، واحذَر الأخرى. وإن كان ما أسداهُ إليكَ قليلًا عليك فهو بالنسبة إلى أنَّه من عطائه كثير عليك، وبالنسبة إلى أنَّه طريق إلى عطاء آخر أكثر منه إذا شكرته كثير أيضًا. وإنَّما يجيئك الاستقلال من نظرك إلى النعمة دون المنعم. ونحن نضرب لك مثلًا فنقول: الملك إذا عزم على السفر وأنعمَ على بعض حاشيته بفرس، ففرحه بالفرس يُفرَض على وجوه: أعلاها أن يفرح بها لأنها طريق إلى خروجه في خدمة الملك ونزوله بقربه، وحلوله منه بالمنزلة الدانية، وصيرورته من الخاصَّة بعد أن كان من العامَّة. فهذا فرحه بالفرس لأنها طريقٌ إلى مشاهدة الملك ومنادمته، لا لأنها فرس. ودون هذا أن يفرح بالفرس لا لكونها فرسًا، ولكن لما يدل عليه من عناية الملك به، وذكره له وشفقته عليه. فهذا يفرح بها لا لكونها فرسًا بل لأمور أخر تترتَّب عليها. وأخسَّها وأحقرها أن يفرح بها لكونها فرسًا يركبها. فهذا إنَّما فرح بالفرس ولم ينظر إلى المعطى، ولا فرق عنده بين أن يكون الملك هو الذي أعطاه، أو أن يجد الفرس في الصحراء. وثمَّ وجه رابع: وهوأن يفرح بها لمجموع هذه الأمور: فيفرح بها لأنها توصّل إلى منادمته الملك، ولأنها تُؤْذن بغيرها، ولأنها تنفعه. فهذا أيضًا لا بأسَ به، ولكنه دون المقام الأوَّل؛ لأن الأول لا غرض له إلَّا الملك وحده، ولكن ذاك مقام عال يترفَّع عن هِمَم أكثرِ أهل الدنيا الذين وضعنا لهم هذا الكتاب فلذلك لا نطنب في شرحه، وإنَّما نقتصر على إفهام الأكثر؛ حتى إذا حصلوا على
1 / 16