आधुनिक नगरीकरण की समस्याएं
معضلات المدنية الحديثة
शैलियों
وفي يوم الأحد، 10 يوليه سنة 1927، كنت حيث اعتدت أن ألتقي بأستاذي الراحل العظيم الدكتور يعقوب صروف بعد أن وصل إلى سمعي نعيه ببضع دقائق، ولم أكد أقف أمام حجرته حتى رجعت بي الذاكرة إلى حكمة رينان فقلت في نفسي: «لعل الله كان أقرب إلى هذه الحجرة منه إلى أي مكان في الأرض.»
وأي مكان في الأرض يمكن أن يكون الله أقرب إليه، أو هو أقرب إلى الله، من مكان يفيض بالعلم والعرفان والعطف والخلق الرضي والسماحة وحب الأقربين والأبعدين على السواء، كأن منازل العلاقات البشرية قد تساوت فيه، فلا يحس قريب بأنه أكثر دنوا وأوصل رحى من غريب تجمعه بمن حل فيه رابطة علم أو أدب أو أية علاقة من العلاقات الدنيوية التي يشعر بشر فان بأنه إزاءها في حاجة إلى أمل يرجى أو معروف يسري؟
ليت شعري! هل كان الأستاذ الراحل العظيم يحس بدنو الأجل وهو بعد في أظهر مظاهر القوة عقليا وجسمانيا؟ أم كان صفاء نفسه يوحي إليه بأنه قريب لأن يدعى إلى العالم الثاني فيحدثني كلما التقيت به خلال الأشهر الثلاثة التي تقدمت يوم مصرعه في الموت والخلود والفناء وفي الله وفي الأثير؟ كنت وإياه في حجرته قبل أن يختاره الله لجنابه ببضعة أسابيع، وجرى بيننا الكلام في تاريخ الحضارة العربية، ولي فيها رأي كان لا ينفك الأستاذ عن تشجيعي على المضي فيه والتمكين له بكثرة القراءة والبحث، وما زلنا نتنقل من موضوع إلى موضوع حتى عرض لنا الكلام في أثر الثقافة اليونانية في حضارة العرب، وأخذ يكلمني في الدلالات اللغوية التي يمكن أن تكون برهانا على أن العرب ترجموا قواعد علم العروض عن اليونان، ومن ثم طبقوه على البحور العربية، وبعد أن أبدى أسفه لقلة علمه بلغة الإغريق القديمة ليكون أقدر على البحث التفت إلي فجأة بعد صمت قليل كما كانت عادته إذا أراد أن يغير مجرى الحديث، وقال: إذا لم تكن حياة في عالم آخر غير هذا العالم كانت هذه الحياة عبثا في عبث، فقلت: ليس عندنا من برهان علمي يحقق هذه الأحلام، فقال: إذا كانت هذه الحياة مقدمة فلا بد لها من نتيجة، وأية نتيجة يؤيدها القياس المنطقي أكثر من الاعتقاد بحياة أخرى تكمل ما في هذه الحياة من مناحي النقص؟ فأجبته: لعل هذه الحياة لا تكون مقدمة بل تكون نتيجة، إليها المرجع والمنتهى، فأطرق قليلا ثم قال وكأنه يناجي نفسه: الطبيعة سلسلة من السوابق واللواحق، وخط منظوم من المقدمات والنتائج لا تنتهي إلا عند غاية لا نستطيع أن نقف على ماهيتها، فسواء أكانت هذه الحياة مقدمة أم نتيجة فالأمر واحد، لأن المقدمة هي بحكم تسلسل الطبيعة مقدمة ونتيجة تؤدي بدورها إلى مقدمة أخرى، ولا أظن أن نظام الحياة يخرج عن نظام الكون في مجموعه. وكان صمت عميق انسللت بعده إلى ناحية من نواحي المكتبة وأخذت أقلب في كتاب من الكتب العربية القديمة، ولكن فكرتي كانت متجهة بكل ما فيها من قوة الحصر والتذكر إلى هذا الحديث القصير، غير عالم أنه كان مقدمة لنتيجة ظلت حياة الأستاذ الراحل رهنا عليها إلى أجل قريب.
واليوم أكتب هذا الحديث رواية عن الصديق الراحل.
تالله ما أبعد اليوم ما بيننا وبينه! وتالله ما كان أقربه بالأمس إلينا! أفي لحظة واحدة يصبح الإنسان مجرد رواية وخبر بعد أن كان حقيقة ملموسة باليد مرئية بالبصر؟ ولكن من يدرينا، لعل هذه الحياة تكون الخبر عند من يلمس الحقيقة العظمى، بعد أن يفارق السر الكامن فيه هذا الهيكل الترابي؟
وبعد، فلست في موطن أستطيع فيه أن أطنب في الإلمام بذكريات سبع من السنين عقدت خلالها بيني وبين الأستاذ الراحل عرى الصداقة الصحيحة التي حلت عروتها بموته، ولكنها ستظل حية بذكراه. ولو أردت اليوم أن أحيط بكل ما تخلل هذه السنوات السبع من الذكريات العلمية والمباحث العميقة التي تناقشنا فيها، لما وسعني كتاب ضخم ألم فيه بنواحيها العديدة، ولكن حسبي اليوم أن أتكلم فيه كصديق، وأكبر ظني أن هذه الناحية هي أظهر نواحيه كرجل، وفيها تنحصر ماهيته الفردية. ولا أظن أنه كعالم إلا معدود من البيولوجيين أولا، فلا المباحث البيولوجية التي تناولها منذ نيف وخمسين سنة ولا الكلمات الاصطلاحية التي أكب على ترجمتها أو نحتها أو تعريبها، كانت في متناول أحد من المشتغلين بالعلوم الحديثة في الشرق حينذاك، اللهم إلا بضعة أفراد من مجموع الأمم الشرقية التي تنطق بالضاد. وحسبنا اليوم أن نرى فكرة النشوء التي قامت من حولها معارك علم البيولوجيا خلال القرن التاسع عشر بأجمعه، قد أصبحت اليوم من المعارف العامة التي لا يستغني عن الوقوف على دقائقها عقل مثقف على النمط الحديث في أنحاء الشرق العربي كله. •••
أعتقد وأظن أن اعتقادي فيه كثير من عناصر القوة والحق أن الدكتور صروف - رحمه الله - قد حاز أكبر عقل إنسكلوبيذي ظهر بين الأمم الشرقية في العصر الحديث، عقل إنسكلوبيذي من تلك العقول النادرة التي شهد القرن الثامن عشر أعظم من امتازوا به، أمثال ديدرو وفولتير وهولباخ ودالمبير وكوندورسيه، وامتاز به هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر، وباكون وديكارت في حدود العصور الوسطى، وبلينيوس وغيره في العصور القديمة. غير أن لأمثال هذه العقول متجها تتجه فيه، وصبغة تصطبغ بها، بل إن شئت فقل إن لها وحيا وإلهاما يجبرها على أن تتبع خطة لا تحيد عنها وتجد من المتعذر أن تتنكب طريقها المرسوم. فإن امتاز عظماء القرن الثامن عشر بصبغتهم الفلسفية، وإن اصطبغ سبنسر بنزعته التركيبية، وإن عرف ديكارت وباكون بخطتهما الأسلوبية؛ فإن أستاذي الراحل قد امتاز بنزعته العلمية الصرفة التي لم يؤمن بغيرها طوال حياته، فلم يحاربها في عقله أسلوب من أساليب الفكر الأغلب ولا نازلها انفعال من انفعالات النفس على كثرتها إلا قهر وكسر.
على أنه كان في أسلوبه العلمي على نقيض الكثيرين من علماء العصر الحديث، وما نظن إلا أنه كان على حق في أن يناقضهم وأن ينبذ العكوف على طريقتهم كما وضعها فلاسفة القرن الثامن عشر، أولئك الذين وضعوها لا ليؤيدوا بها العلم ولا لينشروا بها المعرفة، بل لينصروا بها نزعتهم الفلسفية التي ساقت بهم إلى الإلحاد وإلى إنكار وجود الله. •••
من مفاخر القرن الثامن عشر أنه حدد الأسلوب العلمي تحديدا دقيقا، غير أن هذا التحديد مع الأسف كاد يلغي الطريقة العقلية الصرفة التي يقوم عليها كثير من العلوم الحديثة، فضلا عن أنها الأساس الذي يقوم عليه صرح العلم في مجموعه، حددوا الطريقة العلمية بقولهم: «كل ما لا تحقق وجوده الحواس لا يمكن أن يكون صحيحا.» هذه مفخرة القرن الثامن عشر، أما مفخرة القرن التاسع عشر فاعتراف العلماء فيه بأن من الأشياء التي لا ينكر وجودها العقل ما لا يمكن إثباته بالحواس، وأقاموا على ذلك كثيرا من الدلائل العلمية التي لا تنقض، ومن هذه الأشياء: الأثير والعقل ووجود العالم المادي الخارج عن حيز الإنسان والبعد الرابع في النسبية. وكان أستاذي الراحل من أولئك الذين اتبعوا الطريقة العلمية ولم يلغوا العقل، فدل بذلك على مقدار ما كان في نزعاته من حب الحرية العلمية، وما انطوى عليه عقله الكبير من مطاوعات الشك واللاأدرية الفائضة بضروب المرونة الفكرية.
وما يدلك على متجهه الفكري من شيء مثل كراهيته للنزعات المذهبية في أيما متجه اتجهت، فلا المذهبية الفلسفية وجدت إلى عقله طريقا، ولا المذهبية القومية عرفت إلى نفسه سبيلا، ولا المذهبية الطائفية أثرت في وجدانه يوما، ولا المذهبية الدينية قد أخضعت يقينه برهة واحدة، بل ولا المذهبية العلمية تركت في عقله يوما من الأثر ما يمكن أن يكون حائلا يسد في وجهه طريق التفكير المستقل القائم على وزن الحقائق، ثم الحكم فيها حكما بعيدا عن كل المؤثرات التي تبعث بها في النفس رسيس المعتقدات وثابت المذاهب. (2) صروف كعالم بيولوجي (2-1) تمهيد
अज्ञात पृष्ठ