आधुनिक नगरीकरण की समस्याएं
معضلات المدنية الحديثة
शैलियों
على هذا نستند إذا نحن مضينا في هذا البحث لنقرر بأن الإنسان لم يرتق منذ العصر اليوناني الأول حتى اليوم في الكفاءات العقلية، فالإنسان في مدى خمسة وعشرين قرنا من الزمان لا يزال يتطلع إلى أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط كأكبر العقول التي أنبتتها الإنسانية في كل عصور تاريخها، وفي ذلك بلاغ بين نستند إليه في ما نريد أن نذهب إليه في بحثنا هذا.
وعلى هذا الرأي ذاته يمكنك أن تعكف إذا أنت أردت أن تنظر في رقي الإنسان الأخلاقي، فإن الأمثال التي ضربها لنا بضعة أفراد أنجبهم الشعب اليوناني القديم لا تزال الأمثال المحتذاة حتى اليوم في آداب السلوك. والسبب في هذا أننا لسنا بأقل منهم معرفة بما يجب علينا من الآداب والأخلاق، بل لأننا نعرف ولكنهم كانوا يعتقدون، كانوا ذوي يقين ثابت في أن الواجب يحتم عليهم اتباع سبيل الفضيلة عملا لا قولا، فهم الذين نفذوا تعريف الأستاذ هكسلي في الدين قبل أن يأتي هكسلي إلى عالم الوجود بخمسة وعشرين قرنا من الزمان، هم الذين عرفوا أن «الدين هو إجلال المثل الأعلى من الأخلاق ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة» كما يقول هكسلي أستاذ القرن التاسع عشر. وهم الذين قال لهم شيخ فلاسفتهم الأخلاقيين أرسطوطاليس: «في الشئون العملية ليس الغرض الحقيقي هو العلم نظريا بالقواعد، بل هو تطبيقها، ففيما يتعلق بالفضيلة لا يكفي أن يعلم ما هي، بل يلزم زيادة على ذلك رياضة النفس على حيازتها واستعمالها. ولو كانت الخطب والكتب قادرة وحدها على أن تجعلنا أخيارا لاستحقت، كما كان يقول تيوغنييس، أن يطلبها كل الناس وأن تشترى بأغلى الأثمان، ولكن لسوء الحظ كل ما تستطيعه المبادئ في هذا الصدد هو أن تشد عزم بعض فتيان كرام على الثبات في الخير، وتجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة وفيا بعهدها.»
1
ومنذ أن أفلت شمس إغريقية في آسيا وشرقي أوروبا حتى اليوم لا تجد من مثال تحتذيه إلا مثال ذلك الشعب المجيد الذي أورث الإنسانية تراثا من العلم والأدب والفنون لا يفخر به شعب دون شعب، ولا قبيل دون قبيل، بل هو مما يفخر به الإنسان على أنه إنسان ضرب للكون الخالد مثلا أن مستطاعه أن يبلغ من رقي النفس ومن إنكار الذات حد الآداب السقراطية الوضاحة في عصور المدنية اليونانية.
فإذا تركت البحث في الأسباب الخفية الكامنة التي بز بها الشعب اليوناني القديم شعوب الأرض قاطبة ، لما استطعت أن تقع على شيء ينقع غلتك إلا أن تلجأ إلى ما يقول به علماء الوراثة من النشوئيين في هذا الزمان من أن السبب في هذا يرجع إلى صفات توورثت في هذا الشعب ثم نضب معينها شيئا فشيئا حتى تلاشت كوحدة خص بها الشعب اليوناني، وتوزعت على بقية الشعوب التي تخالط دمها بدم اليونانيين القدماء، أو كوراثة تظهر بوادرها من حين إلى حين في بضعة أفراد ما يزالون حتى اليوم أينما ظهروا وحيثما كانوا موضع إجلال الإنسانية وهداتها في ظلمات هذا الوجود. ولكنك إذا لجأت إلى البحث في الأسباب الظاهرة التي ميزت الشعب اليوناني القديم عن كل الشعوب بلا استثناء، وعرجت في بحثك على علم الاجتماع الحديث أمكنك أن تقع على سبب واضح جلي يوقفك على سر ما تريد أن تعرف من أسباب إزاء هذه المسألة التي تظل في نظرك لغزا وعرا ومعضلة معقدة ما دمت بعيدا عن النظر في أسبابها من ناحية اجتماعية صرفة. على أننا لا نريد أن نلف بالقارئ حول الموضوع ضاربين له الأمثال مبينين له الأسباب لنخلص به إلى النتيجة، بل نذهب في بحثنا إلى ضد هذه الطريقة لنقول له: إن الفرق ينحصر في أن الفردية الاستقلالية كانت في العصر اليوناني أقوى منها في كل عصور المدنية، كما أن الاشتراكية الاجتماعية هي طابع هذا العصر الحديث، وهي فوق ذلك نتيجة محتومة للطريقة التي تمشت فيها الجماعات في الأعصر الحديثة.
إن من أكبر الفضائل التي يحسد عليها القدماء - وعلى الأخص الشعب اليوناني القديم - هو بروز الذاتية الفردية واستقلالها فكرا وعملا وبعدها عن التأثر بحياة الجماهير، لهذا تجد أن الفيلسوف منهم ظهر كفيلسوف علم على طريقة من الفلسفة ومضى ثابت اليقين فيما يوحي إليه به عقله وتملي عليه تصوراته ولو ذاق الموت في سبيل مبدئه، ألم يمت سقراط لأنه مضى طوال حياته يحاول أن يفهم الناس أنهم جهلاء وأن الدعوى والغرور أكبر مفاسد النفس وأكبر برهان على الجهل؟ ألم تر كيف جلس ديوجينيس على باب الأكاديمية لأفلاطون مخفيا ديكا عراه عن ريشه حتى إذا ما عرف أفلاطون الإنسان بأنه حيوان أنسل رمى بالديك إلى وسط القاعة قائلا: «هذا إنسان أفلاطون»، وأفلاطون حينئذ ذلك الرجل العظيم الذي كان يبلغ حب تلاميذه له مبلغ حب العباد الصالحين لمعبوداتهم غير المرئية؟ وهل أتاك حديث أرسطوطاليس إذ ناقش أستاذه أفلاطون فأهانه بعض الطلبة، فتركهم حتى إذا انتهز فرصة غيابهم كتب على السبورة هذه الجملة: «نحن نحب أفلاطون ونحب الحق، فإذا اختلفا فأيهما أولى بالمحبة»؟ وهل عرفت حديث ديوجينيس إذ وقف إزاءه الإسكندر المقدوني وهو جالس بجوار برميله الذي كان يعيش فيه وسأله: هل ترهبني؟ فأجابه: هل أنت صالح أم شرير؟ فأجابه: بل صالح. قال: وكيف أرهبك وأنت رجل صالح؟ وسأله: هل تريد مني شيئا؟ فقال: لا، بل تحول قليلا لأنك حلت بيني وبين الشمس. فهم بعض أتباع الإسكندر بإيذائه، فانتهرهم قائلا: «لو لم أكن الإسكندر لتمنيت أن أكون ديوجينيس»؟
تظهرك هذه الأمثال البسيطة على تكوين شخصياتهم الفردية، وعلى ثبات عقائدهم التي ترضي عقولهم غير ناظرين إلى ما يعتقده غيرهم. وإن أنت علمت أن الكلبيين كانوا يعتقدون أنهم أكثر أهل الأرض ثروة وأعظمهم في الحطام جاها، وهم بعد تلك الفئة التي كانت تعيش عيش الفقر المدقع؛ لتولاك شيء من العجب ولأخذتك نوبة من التفكير العميق، ولكنك لا تلبث أن تقف على تعريفهم الذي وضعوه للثروة حتى تقتنع بأنهم أسمى أهل الأرض نفسا وأعلاهم في المكارم كعبا وأسخاهم أكفا وأندى العالمين بطون راح، كما يقول الشاعر العربي، وإن كانوا أشد الناس فقرا وأشدهم عدما وأمعنهم في الخصاصة؛ يقولون بأن ثروة الإنسان تنحصر في عدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش بغير احتياج إليها، وهو تعريف فيه كثير من الحق الثابت. وهذه الفكرة على غرابتها وعلى بعدها عن المألوف في كل المدنيات لم تعش ولم يعتنقها أفراد يتبعون أحكامها فعلا لا قولا إلا في بلاد اليونان القديمة، والسبب في هذا أن الشخصية الفردية لم تبلغ تمام تكوينها إلا في ذلك العصر الذهبي بحق كما يقولون .
تمثل لك بعض الأسباب الخفية التي كونت شخصيتهم الفردية في معتقد ثابت كانوا يمضون عليه عاكفين، كانوا يعتقدون بأنهم أبناء آلهة تولاهم نزر من الفساد وانتابهم نصيب من الانحطاط، أما نحن في القرن العشرين فنعتقد بأننا أبناء قردة آخذين في أسباب النشوء والارتقاء. وبمقدار ما تجد من الفرق بين نزعاتنا ونزعاتهم، وبين المعتقدين، تجد التباين بين نظاماتنا التي فنيت فيها الشخصيات الفردية في جوف الجماهير وبين نظاماتهم التي فنيت فيها الجماهير في قوة الاستقلال الفردي. وعلى هذا نستطيع وبكثير من الحق أن نقول إن مدنيتنا الحديثة هي مدنية الجماهير.
قلب نظرك في مختلف جهات المدنية الحديثة، وأجل فكرك في نواحيها المشعبة ونظاماتها الكثيرة، ففي أيها تقع على أثر الفرد المستقل بذاته وعقله بعيدا عن تأثير الجماهير؟ بل امض في بحث مستفيض تقضيه في التأمل من تاريخ النظامات الاجتماعية أهلية وقضائية وحربية وغير ذلك، وقل بعد أن تنظر فيها نظرة تأمل عميقة: أي منها لم تنقلب آيته من العمل على حماية الفرد إلى آلة تستعمل لقضاء مآرب الجماهير وإشباع شهواتها الكثيرة؟
غريزة القتال من الغرائز الثابتة في الخلق الإنساني، وهي كغيرها من الغرائز لها بداياتها في عالم الحيوان، فهي من الصفات الموروثة عن آبائنا الأولين، غير أن هذه الغريزة تكيفت في عدة وجوه انتقالية، حتى إذا تكونت الأمم في الأعصر القديمة على أن تكون أمما تسكن المدن وتجمع بين أفرادها مصالح واحدة ونزعات ومشاعر واحدة، نشأت مع ذلك فكرة تكوين جزء من سكان المدنية ليردوا عنها غارات أعدائها ويقومون حراسا على نظامها وعلى كيانها أن تنتابه يد التخريب بمطامع الفاتحين، الذين لم يكونوا ليفتحوا أو يدوخوا بلاد غيرهم من الناس إلا إرضاء لنزوات غريزة القتال الموروثة فيهم كلما حركتها عواملها الخفية. ولما أن ضرب الإنسان بقدمه الثابتة في مدارج المدنية، واتحدت الفصائل الصغيرة فكونت جماعات كبرى، همس وهي الغريزة في ضمير كل فرد من أفراد تلك الجماعات بأنه ملزم بأن يمد يد الحب والعطف وبكل ما أوتي من غرائز الاجتماعية إلى كل أعضاء الأمة التي هو تابع لها ولو لم يكن على صلة بهم، كما يقول العلامة داروين. ولما تكونت مصالح البشر على أن يعيشوا جماعات داخل مدائن العصور الأولى، همس وحي الغريزة فيهم تارة أخرى أن يقاوموا غريزة القتال والفتح بغريزة الاحتفاظ بالذات، فتكونت الجيوش على أن تكون أداة لحماية الأفراد، ولم تقم من حرب هجومية إلا وكان أساسها تخيل الخطر واقعا من ناحية ما، كما حصل في كثير من عصور التاريخ. وعلى الضد من هذا تجد أن أكثر ما تتكون الجيوش في العصور الحديثة، وأكثر ما تلمع حرابها في الأفق أو تبرق سيوفها في ظلام المدنية؛ إنما هو خدمة الجماهير ومصالحها الموهومة، والاعتداء على حرية الشعوب الأخرى اعتداء لا سبب له إلا فتح أسواق جديدة لمتاجر ومصنوعات تزيد على حاجة الجماهير التي تنتجها. وأشد ما تكون اقتناعا بهذا الرأي إذا أنت علمت أن المنتج في العصر الحديث إنما هي الجماهير التي تعيش متطفلة على رءوس الأموال، لا الأفراد الذين استقلوا بعملهم استقلالا يعود به كل الربح الذي ينتج من عمل يدهم عليهم دون غيرهم.
अज्ञात पृष्ठ