ولم تتعود الأمهات في مثل هذه البيئة مقاومة أبنائهن، وإنما تعودن الإذعان لهم والاستجابة إلى ما يريدون. والفتى يقوم مقام أبيه، فهو سيد الأسرة وصاحب الأمر والنهي فيها، لا ينبغي أن يلقى منها مقاومة ولا اعتراضا، فما أيسر ما تذعن حنينة لابنها، وما أسرع ما تحاول أن تحمل صفاء على الإذعان، وصفاء ليست في حاجة إلى أن تحمل على الإذعان، فهي مذعنة بطبعها لما يريد أخوها ولما تحب أمها. ومتى استطاعت الفتيات أن يخالفن عن أمر الإخوة والأمهات!
هي إذن مذعنة الإرادة، ولكنها ثائرة القلب، وقد بذلت حنينة جهدا غير قليل لتغري ابنتها بمثل ما أغراها به ابنها من الرخاء والنعيم، وارتفاع المنزلة، وامتياز الطبقة، وبما سيتاح لها من زينة وترف لم تكن لتظفر بهما لو اقترنت إلى هذا الفتى المتواضع الفقير الذي لا يكسب قوته إلا بالجهد والمشقة وسعي أمه لتعينه على تحصيل ما تحتاج الأسرة إليه. وكانت صفاء تسمع لهذه الأحاديث، فتذعن إرادتها ويثور قلبها، وتحاول أن تظهر الرضا فلا تجد إلى إظهاره سبيلا.
ثم يخرج نبأ هذه الخطبة من دار حنينة إلى دار مرجانة، ثم على غيرها من الدور، ويصبح حديث أهل الشوارع، ثم حديث من يعرف الأسرة من الناس. فأما مرجانة فتسمع ولا تقول شيئا، وأما المعلم يونان فيسمع ويبتسم ولا يزيد على أن يقول: وأين يكون ابننا من هذا الفتى، وابننا كاتب لا يكاد يكسب قوته، وهذا الفتى موظف ممتاز! وأما الناس فأقلهم يغبط صفاء وأكثرهم يحسدها، وأما عبد السيد فيثور ويثور وينذر مرة باقتراف الجريمة، ومرة أخرى بقتل نفسه، ثم يرد إلى هدوء منكر من ورائه شر عظيم.
فهو يغدو ويروح بين أهله وعمله قد انطوى على نفسه، وانطوت نفسه على ما فيها، فهو لا يتحدث إلى أحد في هذه الخطبة المعلنة، وفي هذا الزواج المنتظر، ولا يحب أن يتحدث إليه أحد فيهما، وإذا تحدث الناس إليه في شيء من ذلك أعرض عن الحديث ولم يلق إليه بالا، كأنه غريب عن هذه البيئة التي يعيش فيها، لا يعنيه شيء مما يفعل الناس حوله أو يقولون.
وقد كانت مرجانة تهيئ نفسها لتفيض على ابنها شيئا من عطف، وفضلا من حنان، تريد أن تعزيه عن محنته، وتواسيه في هذه الملمة التي نزلت به فبغضت إليه الحياة، وألقت بينه وبين الأمل حجبا صفاقا، وأستارا كثافا، ولكنها لم تر من ابنها حزنا، ولم تسمع من شكاة، وحاولت أن تنفذ إلى ذات نفسه فلم تبلغ مما حاولت شيئا، وظنت آخر الأمر أنها أكبرت من هذا الأمر صغيرا، وعظمت منه حقيرا، وأسرفت في حسن الظن بابنها، فقدرت أنه كان يحب ويسعد بالحب، وأن هذه الخطبة قد ردته من الكآبة والحزن واليأس إلى ما لا يطاق، ولكنها تنظر فترى ابنها ساهيا لاهيا، لا يحفل بأحد، ولا يحفل بشيء، ولا يظهر عليه ما يدل أنه حزين أو يائس أو كئيب؛ فقد كان الفتى عابثا في حبه إذن، وهو الآن غافل بعد أن تقطعت الأسباب بينه وبين هذا الحب، ينتظر أن تتاح له فرصة أخرى لعبث آخر مع فتاة غير هذه الفتاة.
وليس من شك في أن مرجانة لم تنعم بما لاحظت من سهو ابنها ولهوه وغفلته، وإنما آذاها ذلك في نفسها، وأضاف إلى حزنها القديم حزنا جديدا، وإلى ما ألفت من خيبة الأمل في فتاها الذي لم يكن يحسن العمل كما كان يحسنه أبوه، ويكسب من المال كما كان يكسب أبوه، خيبة أمل جديد في فتاها الذي لا يحسن أن يحب، ولا يحسن أن يأسى حين تنقطع به أسباب الحب، ويحال بينه وبين من يهوى، وهي ترد عطفها وحنانها ورحمتها وإشفاقها إلى نفسها البائسة الكئيبة، التي كانت تريد أن تجد شيئا من الروح في إظهار ما تكنه نفوس الأمهات من العطف والحنان والرحمة والإشفاق.
ولست أدري بأي الأمرين كانت مرجانة أشد تأذيا: بخيبة أملها المجددة في ابنها الوحيد، أم بما اضطرت إليه من كبت عواطفهما ورد نفسها إلى الإجداب بعد أن كادت تخصب، وإلى الفقر بعد أن كادت تغنى، وإلى الموت بعد أن همت بالحياة . وليس شيء أدفع لنفوس الأمهات إلى اليأس القاتل من هذا الحرمان الذي ترد إليه ردا وتكره عليه إكراها، فما نفس الأم إذا لم تجد العطف على ابنها، والرحمة له حين يألم أو يتعرض للألم؟ وما نفس الأم إذا لم تجد الرضا والغبطة والإعجاب حين يأتي ابنها بما يدعو إلى الرضا والغبطة والإعجاب؟ وهذه مرجانة قد حيل بينها وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به منذ وقت طويل، وهي ترى جارتها حنينة ترضى على ابنها نصيف كل الرضا وتعجب به كل الإعجاب، ويزيد رضاها وإعجابها أن الناس من حولها يكبرون الفتى ويقدرونه ويثنون عليه، ولا يدعونها باسمها كما كانوا يفعلون في بعض ما مضى من الوقت، ولا يدعونها بأم نصيف كما كانوا يفعلون بعد أن ولد ابنها، وحين كان صبيا أو شابا يختلف إلى المدارس، وحين كان موظفا غائبا لا تراه العيون ولا تحقق النفوس ما يمتاز به من الرشاقة والأناقة وجمال الزي وروعة المنظر، وإنما يدعونها أم الأفندي. يلغون الهمزة، ويلقون فتحها على اللام فيقولون «أم لفندي».
حيل بين مرجانة وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به منذ تبينت أنه خامل خامد، لا يغني غناء أبيه، ويحال بينها الآن وبين ما بقي لها من أن تشمل ابنها بالعطف والرحمة والحنان حين يلم به الخطب، أو يلح عليه الهم، أو ينزل به المكروه؛ فابنها لا يحس خطبا ولا هما ولا مكروها، ولا يجد حاجة إلى عطف أو رحمة أو حنان، ولو قد شملته أمه بشيء من ذلك لما أحسه ولا ذاقه ولا التفت إليه. هي إذن شقية بخيبة الأمل، شقية بكبت العاطفة، وهي تحاول أن تتحدث إلى زوجها الشيخ في بعض ذلك، فلا تسمع منه إلا هذا الجواب يرده عليها في ابتسامة حزينة ساخرة: وأين يقع ابننا الخامل الخامد البائس اليائس، من هذا الفتى الجميل الوسيم الذي تبتسم له الحياة!
وهمت مرجانة أن تتحدث ذات يوم إلى ابنها في بعض ذلك، فقال لها متضاحكا: «ما نحن وذاك! إن المال أقوى قوة، وأعظم بأسا ، وأوسع سلطانا، وأشد إغراء في الحب، وما ينبغي للفقراء أن يحبوا.» وهمت أن تمضي في حديثها فكفها عن ذلك بإغراقه في ضحك طويل، وبانتقاله إلى أحاديث الحقل والعاملين فيه، وإلى أحاديث الدائرة وموظفيها، حتى قال أبوه الشيخ: «دعي هذا الفتى، فإنه لم يخلق لفرح ولا لحزن، كما لم يخلق لجد ولا لعمل.» وسمع الفتى مقالة أبيه، فازداد إغراقا في الضحك، ثم انصرف عن الدار كأنه مجنون. وكان من وراء هذا الجنون مع ذلك خاطر قد طوى عليه نفسه طيا، وهو أن المال أقوى من الحب، ولكن الطريق بينه وبين الحب قريبة كل القرب، ممهدة كل التمهيد؛ فليس بينه وبين صفاء إلا جدار واحد يفصل بينهما، فإذا ارتقى إلى سقف الدار، فليس بينه وبين صفاء جدار ولا ستار ولا حائل رقيق أو صفيق، فالأسوار بينه وبين الخطبة، والأسوار بينه وبين الزواج، كثيفة منيعة لا سبيل إلى اقتحامها ولا إلى النفوذ منها، ومتى استطاع الفقير المعدم أن ينفذ من أسوار المال والثراء! ولكن الأسوار بينه وبين الحب لا وجود لها، وإنما هي حيلة واسعة أولا، وجراءة جريئة ثانيا، وصبر للنفس على ما تكره بعد ذلك. وقد جعل هذا الخاطر يتردد في ضمير الفتى يقظان، ويتردد في أحلامه نائما، والفتى يملك أمره ويضبط نفسه ويمسك لسانه، فلا يظهر شيئا ولا يقول شيئا ولا يخلي بين الناس وبين ما أخفى في ضميره من هذا السر المكتوم. ولم تكن حال صفاء خيرا من حاله، ولكنها كانت أدنى منه إلى الصراحة، وأسرع منه إلى الإذعان. لم تكن نفسها عسيرة ولا مقعدة، ولم يكن لها حظ من مهارة أو مكر، وإنما كانت ساذجة غافلة لا تحسن حقدا ولا كيدا ولا استخفاء، وهي من أجل ذلك لم تنطو على نفسها ولم تستخف بما في ضميرها، وإنما أذعنت خاضعة الإرادة ثائرة القلب كما قلت، فلما اشتد عليها الإلحاح، وكثر حولها الإغراء، وجعلت ألوان الطرف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار، رضيت بنصف نفسها وسخطت بنصفها الآخر، فكانت تمنح الخطبة والزواج ابتساما ظاهرا ورضا يكاد يشرق له وجهها أحيانا، وكانت تمنح الحب حزنا دخيلا، وأملا دفينا، ودموعا لعلها أن تنهل حين تخلو إلى نفسها في ساعة من ساعات النهار، أو في ساعة من ساعات الليل، وهي بعد لم تر خطبها ولم تسمع له، وإنما رأت آثاره وسمعت ما كان يروى عنه من الأحاديث، فكان خطبها ظلا يرسل الطرف والهدايا والزينة، ويتحدث الناس عنه بما يشاءون، وكان حبها شخصا رأته من قرب، واستمعت له وتحدثت إليه، وتمثلته في نفسها، واستحضرته في ضميرها، وقد جعلت منذ حين لا تراه إلا مخالسة، ولكنها تراه على كل حال، وهي تستطيع إن شاءت أن تبتغي الوسائل للقائه، ولو فعلت لأتيح لها هذا اللقاء، ولو فعلت لاستأنفت التحدث إليه والاستماع له، ولمتعته من حديثها ونظراتها بما كانت تمتعه من قبل، ولاستمتعت من حديثه ونظراته بما كانت تستمتع به من قبل.
خواطر تتردد في نفس الفتاة، وهي مشبهة شبها قويا أو ضعيفا لخواطر تتردد في نفس الفتى، وربما خطر لصفاء أن لو كان جارها ميسر الحال موفور الكسب لما استطاع أحد أن يصدها عنه أو يردها عن حبه، ولكنه خامل خامد لا يكسب ما يقيم أوده وأود أبويه، فما اجتماع الفقر إلى الفقر، وما اقتران البؤس إلى البؤس، وما التباس الإعدام بالإعدام! أحق إذن أن الحب لم يخلق للفقراء، وأن الفقراء لم يخلقوا ليحبوا، وإنما خلقوا ليكدوا ويجدوا ويعملوا ويكسبوا القوت، فإن بلغوا من ذلك ما يريدون فهو خير لهم، وإن لم يبلغوه فإن في الشقاء لهم سعة، وفي الموت لهم راحة وروحا؟
अज्ञात पृष्ठ