وعلى أي الحالات هل يجوز للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وهي الهيئة الرسمية العليا للتدقيق والإحصاء، تجاهل ما حدث من تعديلات في حدود المحافظات والتساهل باعتماد الحدود القديمة كأن شيء لم يكن، خاصة وأن نشر البيانات الأولية وغيرها قد تأخر ما يزيد عن عام كامل ليصل إلى القارئ؟! (4-3) هجرة سكان وسط القاهرة
وسط القاهرة تعني القاهرة الفاطمية المملوكية، وقاهرة الخديو إسماعيل ومن خلفه من الملوك إلى الأربعينيات، وهي ما نسميه الآن وسط البلد. وبذلك فهي تشمل الأقسام من باب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر في الشرق إلى بولاق ومصر القديمة في الغرب، شاملة أقسام الموسكي والأزبكية وعابدين والسيدة زينب والخليفة. كان سكان هذه المنطقة من ثلاثة أرباع قرن يشكلون 74٪ من سكان القاهرة، والآن هم يشكلون 13٪ فقط. ففي 1927 كان عددهم 786 ألفا، زادوا إلى مليون و210 ألفا في 1986، ثم انخفض العدد إلى 897 ألفا في 1996 أي عود على بدء في سبعين عاما!
هذه الحقيقة الرقمية توضح أن هذه المنطقة المركزية قد تشبعت سكانا بما فيه الكفاية، وأن الزيادة السكانية وبعض السكان المقيمين يهاجرون إلى خارجها في اتجاه أحياء الشمال والغرب والجنوب والشمال الشرقي من القاهرة الكبرى. ودليل ذلك انخفاض عدد سكان أقسام المنطقة المركزية كما هو واضح من الحالات الآتية في عشر سنوات (86-1996): باب الشعرية من 79 إلى 60 ألفا بانخفاض ربع السكان، الجمالية من 90 إلى 59 ألفا بانخفاض ثلث السكان، الدرب الأحمر من 105 إلى 78 ألفا (−26٪)، السيدة من 199 إلى 155 ألفا (−22٪)، الأزبكية من 45 إلى 30 ألفا (−33٪)، الموسكي من 43 إلى 29 ألفا (−33٪)، عابدين من 63 إلى 49 ألفا (−22٪)، بولاق من 124 إلى 75 ألفا (−40٪)، والزمالك وقصر النيل معا من 40 إلى 29 ألفا (−27٪).
وفي الخمسينيات إلى الثمانينيات كانت هناك هجرة كثيفة إلى كل أقسام منطقة شبرا بحيث بلغ عددهم مليون وثلث المليون، لكن هجرة مضادة حدثت بين 86 و96 وانخفض العدد بمقدار مائتي ألف نفس، وهو الوقت الذي زاد فيه سكان منطقة شبرا الخيمة بمقدار نحو 160 ألفا (714 إلى 871 ألفا = +22٪). وزاد سكان محور القبة-المرج بمقدار نحو 450 ألفا، ومحور البساتين-حلوان بمقدار 400 ألف، وكذلك كانت الزيادة أقل قليلا من 400 ألف في مدينة الجيزة بأقسامها المختلفة. وكانت أكبر زيادة هي محور الشمال الشرقي من مصر الجديدة إلى مدينة نصر وما حولهما من الأقسام، فبلغت نحو ثلاثة أرباع المليون للفترة نفسها.
وفي الحقيقة إن هجرة السكان من المنطقة المركزية كانت قد بدأت في الستينيات، ولكن بقدر محدود لم يزد عن خمسة في المائة فقط في أقسام الموسكي والأزبكية وباب الشعرية وقصر النيل فقط. أما هجرة 86-96 فقد تراوحت بين 22 إلى 28٪ في السيدة زينب والدرب الأحمر وباب الشعرية وقصر النيل، وبين 33 إلى 35٪ الجمالية والموسكي والأزبكية، وبلغت أقصاها في بولاق 40٪.
وتعد الهجرة عامة لأسباب عديدة منها قدم المباني وانهيار بعضها أو تهدد بعضها بالانهيار، وعدم الوفاء بمتطلبات الحياة العصرية من البنية التحتية في الحارات والشوارع الضيقة، وتطلع الأسر الجديدة إلى وحدات سكنية حديثة. ولكن إلى جانب ذلك يجب أن نعرف أن احتياج شركات الأعمال إلى مبان كبيرة وتغير شكل الأسواق والمحال التجارية من الدكاكين إلى «سوبر ماركت» ثم إلى ال «مول»، والبنوك الجديدة والفروع الكثيرة للبنوك الأقدم، كلها تأخذ نصيبا محترما من تحويل المناطق السكنية القديمة إلى مناطق عمل وخاصة في أحياء عابدين وقصر النيل وبولاق.
وحبذا لو كانت استمارة التعداد قد أكدت على تسجيل محل مولد الأفراد من أقسام القاهرة وليس المحافظات فقط. حينئذ يمكن دراسة عدد المهاجرين مثلا من عابدين أو الجمالية ويسكنون وقت التعداد في حلوان أو العجوزة أو مدينة نصر. وبمثل هذه الصورة نتتبع موجات الناس وحركتهم السكنية داخل محافظات القاهرة الكبرى. وينطبق هذا أيضا على كل أشكال الهجرة في الجمهورية؛ لأنها الشغل الشاغل لمشاكل مصر المعاصرة بدون جدال. وبتتبع بعض استبيانات استمارة التعداد يمكن فعلا التعرف على أسباب الحركة السكانية: هل هي بسبب تغير مكان العمل، أو ارتفاع الدخل؟ مما يتطلب السكن في حي أحدث، أو تقوض السكن الأصلي لقدم الأبنية ... إلخ، ولو كانت الاستمارة تحتوي على هذه البيانات فالحاجة ملحة لنشرها في كراسات منفصلة تفيد المخططين والاجتماعيين والديموجرافيين والجغرافيين، وتساعد على تبين حقيقة الدوافع للهجرة واتجاهاتها، ومن ثم العمل التخطيطي الموازي لها بحيث يقبل عليه الناس؛ لأنه يلبي احتياجاتاهم، وذلك تماما عكس الجاري حاليا من إنشاء أحياء في أماكن متباعدة باسم إسكان الشباب أو الزلزال أو إيواء العشوائيين، لكن نسبة إشغالها تظل منخفضة؛ لأنها، وإن كانت تلبي احتياج السكن، إلا أنها لا تلبي احتياج السكان من الخدمات الأساسية والاجتماعية فضلا عن بعدها المكاني عن أماكن العمل المتاحة، مما يستقطع قدرا كبيرا من موارد الأسر المالية في الإنفاق على الانتقال والحركة اليومية.
هل نستفيد من مقولة أنه «إذا ترك الناس لحالهم فإنهم سوف يضبطون أحوالهم.» التخطيط هو أن نعرف اتجاهات الناس ونحاول حثهم على التوجه إليها لتجنب تجارب الخطأ والصواب، وليس إجبارهم على مخطط مرسوم أصلا في مكتب سواء كان المخطط وحدة سكنية أو حي جديد في لا مكان!
إن الإخلاء الاختياري لسكان المنطقة المركزية يعطي الفرصة الذهبية للمخططين لتحديثها بإعادة تخطيط واستخدام الأرض في هذه المنطقة الحيوية، بديل بقدر كبير عن الاتجاه إلى إنشاء مدن وأحياء جديدة في أطراف القاهرة، كالقاهرة الجديدة وبدر والشروق ... إلخ، قيمة الأرض في القاهرة المركزية عالية جدا وسوف تزداد ارتفاعا إذا ما نفذ مخطط رئيسي لإعادة تأهيل المنطقة بكافة أشكال البنى التحتية ذات الطاقات المستقبلية، بما فيها شق وتوسيع الطرق التي كانت كافية للحركة منذ نصف قرن، والآن هي مكتظة لدرجة الانفجار الحقيقي. (5) بين المحافظة والتجميل والوجه الحضاري
المتصور في مثل هذه الأعمال التحديثية الحفاظ المتشدد على مجموعات الأبنية الأثرية التراثية في القاهرة الفاطمية المملوكية، سواء كان ذلك مساجد وأضرحة وخانقاوات وأسبلة، أو بيوت وأرباع وخانات ووكالات وأسواق وطرق وحارات مسقوفة، وبقايا أسوار المدينة ومشاغل الحرف التقليدية. وفي مقابل ذلك إزالة الأبنية الحديثة التي تمثل نشازا معماريا يؤذي العيون المتأملة المستغرقة في صفحات التاريخ التي ترسمها هذه الأبنية التراثية. ويمكن أن تحل محلها أبنية حديثة يشترط أن تأخذ الطابع المعماري التراثي في واجهتها على الأقل، كما حدث مؤخرا في ميدان الأزهر-الحسين. أو تحل محلها حدائق ونافورات تعيد ما كانت عليه هذه المدينة التاريخية من بهاء ورفعة.
अज्ञात पृष्ठ