وبالمثل صراع المركزية والمحليات. ذلك أن النجاح المحدود «جدا» - جد جدا للتأكيد - للحكم المحلي والمجالس الشعبية في بعض الأمور المتولدة من داخل الأمور وواقعها، راجع بدرجة كبيرة إلى هذه الهيمنة البيروقراطية التي تمتلئ بثغرات تتسلل منها المصالح الخاصة والمحسوبيات، فتفسدها وتجعلها في مهب الانتقادات كلما أرادت المركزية الحد من استلاب المحليات بعض المخصصات المركزية. ومن هنا تظهر بين الحين والآخر دعوات إلى التخلص من المحليات أو تحجيمها، بحيث تصبح مروضة تماما للسلطات المركزية في تدرجها من المركز إلى المحافظة إلى العاصمة.
والكلام عن المحليات في هذه الأسطر القليلة هو من قبيل الإشارة إلى مفهومها، كجزء من شكل الحكم الدستوري المصري يمكن أن يكون ذا نفع كبير في تسلسل المشاركة العامة في الحكم، وفي التدرب على الممارسة الانتخابية، وفي ظهور قدرات سياسية كامنة لدى أفراد من ذوي الكفاءة وروح المسئولية يفيدون أقاليمهم ويفيدون مصر الدولة في النهاية! أما تفصيلات الموضوع ودقائقه في الممارسة الحالية، فغيري كثيرون أقدر على تشخيص العلل التي تنتاب هذا النوع من الحكم المحلي الملتصق مباشرة بالناس والاقتصاد والأرض في دوائر محدودة لا تدرك دخائلها المركزية الأعلى، ولا تعرف عنها سوى هوامش الهوامش. وذلك بدليل ما نقرؤه في الصحف من شكايات الناس عن مشكلات سكان قرية أو شارع لا تعرفها المركزية الأعلى، أو تتجاهلها، أو تؤجل البت فيها لأسباب قد يكون منها تغيير الأولويات أو نقص الاعتمادات المالية أو تحويلها من بند إلى آخر، لتحسين أماكن هي فعلا محسنة، ولكنها تحتاج ديكورا لعمل براق على السطح.
ولكن من المفيد أن نقول: إن تجربة المحليات - برغم عدم نجاحها المطلوب - هي تجربة جيدة ومشكلاتها المزمنة الحالية لا يجب أن تصبح عوامل يأس منها أو تدعونا إلى إلغائها. وعلى عكس ذلك فالواجب تقويتها بالتفتيش عن معوقاتها. وربما كان مراقبة انتخاباتها - كما هو مخطط حاليا - بنفس الحيدة التي مارستها الدولة في بعض دوائر الانتخابات البرلمانية الأخيرة واحدا من أسباب تدعيم الحكم المحلي - بدلا من إلغائه أو إخلاده للركود - وذلك بإظهار العناصر المحلية النشطة، وبالتالي تقليص دور ذوي المصالح الخاصة، ودوائر النفوذ المركزية والبيروقراطية معا. (1-2) التعليم مسألة المسائل في مصر
مركزية مكاتب التنسيق
وفيما يلي سأتناول نوعا من المركزية أعرفه بحكم عملي التدريسي بالجامعات. فقد درجنا منذ أربعين عاما أو نحوها على أن يبت مكتب للتنسيق في توجيه الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بالدراسات الجامعية إلى كليات ربما لا يرغبونها. وربما كان ذلك ناجم عن زيادة الطلاب عن المقاعد المتاحة في كليات الجامعات المصرية. ولكن مثل هذا التنسيق الآلي يفرض على الكليات ترتيبا تصاعديا، بحيث يصبح التخصص الواحد في القاهرة تخصصا في كلية قمة وفي سوهاج أو طنطا كلية أقل قدرا أو ما يشبه ذلك. ويترتب على ذلك نوع من التفاوت بين كليات التخصص الواحد لا يجب أن يكون؛ فالكليات تتمايز بتركيزها على شكل من أشكال البحث العلمي والتطبيقي، وبالتالي بنوعية خريجيها، وليس بدرجات الطلاب الذين يلحقهم بها مكتب التنسيق. مثلا تهتم كلية بأبحاث الكلى، وأخرى بالطفيليات وبخاصة البلهارسيا اللعينة المتشبثة بمصر، وثالثة بطب المناطق الحارة، أو تهتم كلية بأبحاث هندسة المستشفيات وأخرى بهندسة المعادن، أو تهتم كلية بالتاريخ الوسيط وأخرى بالتاريخ الحديث، أو الجغرافيا الاقتصادية وأخرى بالجغرافيا الطبيعية وتدريس نظم المعلومات الجغرافية، أو كلية بالقوانين الدولية وأخرى بالقوانين التجارية أو النظم المحاسبية أو التأمين والبورصة، وما إلى ذلك من تفريعات مفيدة في التخصيص والتطبيق والتوظف والبحوث.
والغرض من هذا أن كل كلية سواء في القاهرة أو الإسكندرية أو الأقاليم الأخرى تمايزات بواسطة أساتذة يكونون مدرسة مهمة في تخصص معين. فالترتيب الذي يفرضه مكتب التنسيق هو ترتيب آلي ضار بسمعة الجامعات. وفي الخارج قد تتميز جامعة صغيرة بمدرسة فكرية معينة يجعل الطلب عليها كبيرا في هذا التخصص. وباختصار فإن الجامعات تتميز عن بعضها بوجود مدارس لها شهرتها في تخصص أو أكثر، مثل أكسفورد في المجالات الفكرية وإم أي تي
MIT
الأمريكية في التكنولوجيا ... إلخ.
حرية اختيار الطالب لنوع دراسته
لا أعرف لماذا لا تترك الكليات حرة في قبول الطلبة المتقدمين إليها إذا استوفوا الشروط التي تعلنها الكلية مسبقا - ليس فقط في المجموع العام بل أيضا في تقديرات المتقدمين في علوم مرتبطة بالتخصص . لماذا لا يبحث الطلاب عن هويتهم التعليمية بأنفسهم، كما هو الحال في جامعات العالم الآخر، وكما عليه الحال منذ نصف قرن مضى؟ لماذا لا يجتازون أيضا اختبارات المقابلات الشخصية التي تضعها الأقسام العلمية المختلفة؟ وهناك تساؤلات كثيرة كي نضمن للطالب أنه بنفسه اختار تخصصا، وأنه عليه وحده تقع مسئولية نجاحه وتفوقه أو العكس، بدلا من تعليق مسئولية تعثره على اختيارات رقمية تتحدد من خلال مكتب التنسيق.
अज्ञात पृष्ठ