312

मिस्र खादीवी इस्माइल

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

शैलियों

كان قد اتفق لملازم أول مصري والجيش معسكر في (قرع)، قبل واقعة 7 مارس، أن عثمان بك أمير آلايه الشركسي ضربه ذات يوم بدون سبب، وبدون ذنب، فرفع الملازم شكواه من ذلك إلى السردار راتب باشا، وبينها بيانا مفصلا، فلم يلتفت السردار إليها، وضرب بها عرض الحائط، فرأى الملازم أن ضربه وهو ملازم لا يتفق مع الكرامة المطلوبة له، والتي تطالبه نفسه بها، ولا مع هيئته في نظر مرءوسيه، فتخلى عن وظيفته، ورجع إلى الصف بصفته جنديا بسيطا، وأظهر في حاله هذه الجديدة من الطاعة والامتثال وحسن السلوك، وأبدى من ضروب الشجاعة ما جعله موضع إشارة البنان، وأعلى منزلته في أعين العسكر على العموم، ولكن أمير آلايه الشركسي عد عمله هذا خارجا عن حدود الأدب العسكري، ومستوجبا عقابا صارما يردع غيره عن الاقتداء به، وشاطره راتب باشا رأيه، فما استقر في حصن ممر (قياخور) إلا وأمر بذلك الرجل الأبي فسيق أمام مجلس حربي، وحوكم محاكمة أصولية على زعمهم، فحكم المجلس عليه بالموت تحت الرصاص، ونفذ الحكم فيه.

32 (2)

كان قد قام من (مصوع) إلى (قرع ) مدد تحت قيادة إسماعيل باشا الشركسي، فوصلها حوالي أواسط مارس؛ أي بعد الواقعة بأيام، ولكنه حدث، لما بلغ المدد (قياخور) أن قائمقام مصريا شعر بتوعك في مزاجه، والتمس من إسماعيل باشا التصريح له بالبقاء في هذا الحصن حتى يشفى، فأبى عليه ذلك زاعما أن مرضه ليس مما يستوجب الإمهال، فألح القائمقام، لا سيما أن الرفض الصادر عن رئيسه زاد فعلا في وطأة الداء على جسمه، فأمر إسماعيل باشا طبيب الفرقة بالكشف عليه، واستعمل في أمره ألفاظا أدرك الطبيب منها أن الباشا يرتاح إلى تقرير لا يكون موافقا للمريض، فكشف عليه، وقرر أن المرض ليس ذا بال، فما كان من الباشا إلا أنه ذهب بنفسه إلى خيمة ذلك القائمقام، وأمر باقتلاعها، وقلبها على رأسه، وحتم أن يسير الرجل مع أورطته مشيا على قدميه، فازداد المرض ثقلا على المسكين، وحال دون تمكنه من الاستمرار على المشي، فتأخر عن أورطته، فأمر إسماعيل باشا الشركسي بتجريده من رتبته وتنزيله إلى الصف نفرا بسيطا! ففعل. ولكن ذلك لم يشف غليله، كأنه كان بينه وبين ذلك القائمقام ثأر قديم، فلما استقر الجيش العائد من (قرع) في (قياخور)، طلب محاكمته أمام مجلس عسكري، فحوكم، وحكم المجلس عليه بالإعدام، فأخذوه وأجلسوه على أرض، موثق الركبتين، مغلول الكوعين وراء كتفيه، وأطلقوا عليه الرصاص، فجرح جروحا عدة، ولكنه لم يمت، فكلف باشجاويش بالإجهاز عليه، فقتله صبرا!

33

وإننا لدى مطالعتنا هذين الحادثين، ووقوفنا على ما أجمع عليه المؤرخون من غربيين ومصريين من أن كبار الضباط الشراكسة كانوا شديدي القسوة والجبروت على الضباط المصريين، لا سيما الصغار منهم، وأنهم كانوا يؤاخذونهم بالعنف والشدة على أصغر الصغائر، لكيلا يفشلوا على زعمهم، ويلقونهم في أضيق السجون عند أقل حادثة، نفهم بجلاء لماذا قام أحمد عرابي بثورته، وندرك بسهولة أنه كان لا بد منها ما دامت روح القيادة العليا هي عينها التي تولت زمام حملة سنة 1876 المشئومة.

وكان السردار منذ قيامه من (قرع) قد كلف أورطة بالسير أمام الجيش لتمهد له الطريق وتجهزها فيما بعد (قياخور)، وتهيئ له أسباب الراحة والاطمئنان، فانطلقت تلك الأورطة، وقامت بمهمتها، حتى بلغت حصن (أمباتقان) المقام في وسط المسافة بين (قياخور) و(ينجس)، وكان المنظور أن الذين ابتنوه، وقضوا عدة أسابيع يشتغلون في حفر آبار بجواره، قد أوجدوا منها العدد الكافي، واعتنوا بحرص تام بحفظ الماء فيها، ولكن قلة الصيانة - وهي النقص الأكبر في أخلاقنا الفردية والقومية على العموم - أدت إلى إهمال شأن تلك الآبار حتى طمرها التراب وعفى آثارها، فلما لم تجد الأورطة المتقدمة أثرا للماء فيها اجتازتها إلى (ينجس) بدلا من تنظيف الآبار وتطهيرها لإعادة الماء إليها، أو حفر غيرها لتفي بحاجة الجيش القادم.

فنجمت عن ذلك نكبة أخرى أصيب الجيش بها؛ لأنه إذ لم يجد ماء بعد سير حثيث متعب فل وتبعثر وتشتت أيدي سبا، ولما أنهك الرجال النصب في تلك الفلوات المجهولة، شرعوا يركبون خمسة وستة على البهيم الواحد، فأدى ذلك إلى إبهاظ حيوانات النقل إبهاظا أودى بحياة معظمها، وبات الذاهب من (قرع) - وما كاد المصريون يخلون حصنها إلا واحتله الأحباش ودمروه - إلى مصوع يرى الطريق مغطاة بجثث الرجال والبهائم، وقد اجتمعت عليها الطيور الكاسرة والوحوش الضارية متبارية في نهشها، كأنها دعيت إلى وليمة لم تكن في الحسبان!

على تلك الحالة الرديئة وصلت بقية الحملة إلى مصوع، حيث أقامت أياما في انتظار ورود الأوامر إليها بالعودة إلى مصر، فلما جاء المرسوم بذلك نزل السردار بمن معه في إحدى السفن الخديوية، وأنزلوا ما بقي من المدافع والأسلحة والمهمات في ثلاث سفن كبيرة أخرى، وأقلعوا قاصدين السويس، وكأن النحس أبى إلا مرافقة ألوية راتب إلى النهاية، فحمل سفينة منها تدعى «دنقلة» على الارتطام بصخر في الماء، فغرقت بما عليها، ولم ينج منها غير الرجال، ولما وصل العساكر إلى السويس سيروا على الأثر إلى رأس الوادي، حيث أقاموا أياما، ثم سرحوا، فعادوا إلى أوطانهم يحملون أنباء البؤس والشقاء اللذين حلا بهم، والنكبات التي احتملوها.

هكذا انتهت الحروب مع الحبشة، بعد أن كلفت الخزينة المصرية نيفا ومليونين من الجنيهات، ولولا أن سوء طالع البلاد حال دون رغبة الخديو في تسليم قيادتها إلى الأكفاء من موظفيه، بضرب الصفح عن كونهم غربيين أو شرقيين، وأن العنصر الشركسي المتغلب في المراجع العليا على دوائر المشورة أبى إلا مقاطعة الغربيين واحتقار كفاءتهم، اعتدادا منه بكفاءته المعدومة، لما آلت جهود (إسماعيل) إلى تلك النتيجة الوخيمة، ولما باتت نكبة الحبشة من أقوى عوامل ضياع الثقة الغربية بمصر ومقدرتها.

لذلك قلنا بحق إن تحديد التخوم بين الأملاك المصرية والحبشية أصبح من أهم المشاغل والأمور؛ لأن النجاشي بعد الفوز الأدبي الذي أوتيه بانسحاب الجيش المصري بخفي حنين أصبح شديد المراس في طلباته، بعيدا عن حدود التسامح والتساهل في التسليم بالمطالب الخديوية، فقضى جوردون مدة ولايته كلها على السودان مشتغلا في تسوية الخلاف، عاملا على إعادة المياه إلى مجاريها بين الدولتين. وكان أول أمر باشره عند توليه الحكمدارية أنه ذهب إلى مصوع لعقد وفاق مع النجاشي بشأن الحدود، لكنه وجد (ولدا ميخائيل) شاهرا العصيان على يوحنا، ووجد أن يوحنا يلقي تبعة عصيانه على تحريضات سرية تأتيه من مصر، فأجل النظر في الأمر إلى فرصة أخرى، وذهب إلى دارفور للنظر في إخماد ثورة الأمير هارون الرشيد كما مر، ثم عاد إلى (سنهيت) فوجد (ولدا ميخائيل) لا يزال على عصيانه، فلكي يبرهن للنجاشي على أن مصر لا يد لها في تمرده، طلب إليه أن يتحد معه على سحقه، فلم يجبه يوحنا إلى طلبه، فعاد إلى الخرطوم ومصر، ثم رجع بطريق البحر الأحمر إلى هرر، فوصلها في أبريل سنة 1878، فوجد رءوف باشا مشغولا عن الرعية بشئون تجارته، وقد كثر ظلمه، فعزله.

अज्ञात पृष्ठ