मिस्र फि थुलथाय कर्ण
مصر في ثلثي قرن
शैलियों
لم يكن مصطفى نبيا أمر الله بطاعته، ولا كان ملكا يستوجب الطاعة على العباد بالجبروت المطلق، ولا كان ذا جاه يرهب الناس بجاهه، ولا مال يستهوي النفوس بماله، ولكن الأمة أطاعته وأحبته، وسمعت منه ووثقت به، على حين أن بينها الأمراء ممن لم يبلغ إمارتهم، وأصحاب النفوذ ممن لم تكن له سطوتهم، وخزنة الأموال ممن لم تكن له أموالهم، ولم يكن مصطفى ساحرا ولا ماكرا، فكيف وجد النصر والتأييد في القرى والمدن؟ وكيف هتف الفلاح وابنه وامرأته باسمه وراء المحراث، وفي طريق القرية وعلى سطح الدار؟ كان ذلك وهو حي بيننا، لأنه نفذ إلى مقر الوطنية في القلوب، ولأنه هتف باسم مصر وهو أحب الأسماء إلينا وأغلاها عندنا، فهتفنا باسمه في كل مكان، أما جنازته يوم مات فقد شيعها في القاهرة آلاف الفلاحين الذين جاءوا من أبعد قرى الريف في شمال القطر وجنوبه، بل كانوا يرون أن حرمته عليهم وحقهم في تشييعه، يقضيان أن يطلبوا بألسنة البرق تأخير الجنازة حتى يدركوها، وأما مأتمه فقد كان مأتم الأمة، فلا مدينة ولا قرية إلا كانت حزينة مكتئبة، ولا دار ولا معبد إلا وجبت فيه التعزية والبكاء، وعقدت مجالس الترحم والدعاء، وقد لبثت القرى والمدن في مأتمه أربعين يوما.
ليس صعبا أن يراجع الناس صحف مصر في عشر سنوات بين عام 1904 و1912؛ فإنهم إذا فعلوا رأوا الفلاح المصري ظاهرا أبدا بين جماهير المحتجين على ما وقع خلال هذه السنوات، وليسأل المنصفون: كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور بالوطنية أيام حادثة «الكاملين» وما تلاها من سوق الوطنيين إلى المحاكم كما يساق القتلة السافكون، وجرمهم هو جرمهم الذي لا يزالون يقترفونه، بل الذي تقترفه الأمة كلها اليوم، هو الألسنة الوطنية والأقلام الوطنية ، ثم ليسألوا كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور وطنية يوم عرضت مسألة «القناة» ووقف نواب الأمة لها موقفهم التاريخي المشهود.
أكان الفلاح خلال هذه الأيام كلها راضيا أم غاضبا؟ نعم كان راضيا، ولكنه رضا المؤمن يقبل القدر ويسأل الله اللطف فيه.
كابد الفلاح المصري من نظام الري ما أصابه بالنكبة في خصوبة الأرض، وجودة الزرع، ولم ينقطع عهد الفلاح بما كان لأرضه من الخصوبة، ولزرعه من الجودة، قبل الزمن الذي جاء فيه هذا النظام، فالفلاح يعلم اليوم أنه أصيب في المقتل من حياته الاقتصادية، بعلم أن بطن الأرض امتلأ ماء ففسد، وأن متوسط محصول الفدان من القطن أصبح ثلاثة قناطير، وقد كان في أيامه الماضية ستة قناطير، ويعلم أن الأرض الواسعة لم تزل بورا في وطنه وهو في حاجة إليها، ويعلم أن الآفات سلطت على زرعه لا نقمة من الله بل أثرا لازما لفساد الطرق التي اتخذت لتوزيع الماء.
يعلم الفلاح أن زينة الظاهر تنبئ بخبر مكذوب، وأن وراء هذا الظاهر باطنا هو الذي يعرفه؛ لأنه هو الذي يشقى به، ويصلى ناره، على أن هذا الفلاح أدرك أن العلم حق مباح له منذ كان المغفور له محمد علي باشا يأخذ ابنه ليعلمه، ثم تلفت حوله فإذا هو محروم من العلم؛ لأن سياسة التعليم قضت أنه ليس أهلا للإنسانية التي يتخذ العلم زينة لها.
هذا بعض ما كابده الفلاح فيما قبل السنوات الخمس الأخيرة، وهذه وطنيته وشعوره، فإن كان بعد ذلك راضيا محبا مغرما، كانت مسألة فيها نظر!
الفصل الثاني
مصر وتركيا
«ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى مما كان مظنونا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك» (المستر أرثر هور)
كلما تحرك المصريون في سبيل آمالهم، استطابت الصحف واستطاب بعض الكتاب والساسة أن يقولوا: إن هذه الحركات ليست إلا حنينا لتركيا، وإن هذا الحنين ليس إلا فورة المنزع الديني! ولكن الكلام عن آمال المصريين في حركاتهم، لم يكن خاصا بصحف إنكلترا وكتابها وساستها، وإنما كان خاصا بهم أن يتجانفوا الحق في وصفها.
अज्ञात पृष्ठ