فاسعدي يا مصر وقري عينا وثقي بأن المصريين جميعا مستعدون للموت من أجلك، كل بطريقته: فمنهم من هو مستعد للجود بالمال والممتلكات، ومنهم من يريد بذل النفس والنفيس وتقديم كل ما هو مرتخص وغال في سبيل حياة مصر وبقائها، وآخرون يقدمون على الموت الزؤام فداء لك .. فأنت تستحقين ذلك بجدارة؛ لأنك أهل لكي يضحي بنوك بدمائهم وأرواحهم من أجلك، بل وأنت أهل لأكثر من ذلك ولأضعاف ذلك، أيتها الأرض المباركة من دون سائر بلاد الدنيا والمعمورة.
مصر أرض الأديان
من نعم الله على هذه الأرض التي أنتمي إليها، أن خصها الله القدير - من دون سائر الأراضي - بشرف الرسالات السماوية .. كان أول رسول تكلم الله معه وإليه، هو سيدنا موسى عليه السلام .. كلمه هناك في طور سيناء؛ ليكون إيذانا ببداية عصر الرسل والأنبياء، ومهد الأديان والأخلاق والقيم السماوية الربانية.
وانتشرت اليهودية وشق موسى عليه السلام البحر الأحمر ليهرب من أعدائه .. وجاء ذكر مصر في التوراة بدل المرة مرات ومرات، على أنها أرض السلام والأمان والاطمئنان للرسل ولغيرهم من بني الإنسان.
وقامت المسيحية وانتشرت ديانتها، وتعرض المسيح عليه السلام للخطر، فجاء الأمر الإلهي لأمه بأن تفر به إلى أرض مصر للنجاة من اليهود الذين أزمعوا أن يقتلوه .. فقدمت السيدة العذراء مع ابنها إلى مصر لتحتمي بأرض الكنانة حيث دخلتها راكبة أتانا، فارتاحت هناك في ناحية المطرية تحت النخلة التي باركها الله فأثمرت لتطعم الوليد رطبا جنيا .. وللمرة الثانية يذكر الله سبحانه وتعالى اسم مصر عنوانا للراحة والأمان والسلامة من الشرور والأخطار .. وللمرة الثانية يختار الله أرض مصر؛ لتكون ملاذا لرسله من الأنبياء الصادقين؛ فموسى عليه السلام، أكل من تراب مصر، وشرب من نيل مصر .. وعيسى عليه السلام أكل من رطب مصر، وشرب من ماء النيل العذب .. فحلت عليهما البركة، وتمت لهما النجاة والسلامة لإتمام الرسالة.
وجاء الإسلام، ودخل مصر ليتربع على عرشها، ويستوي في قلبها، فيجعل له منها ركيزة متينة بين خير الأقوام وأكرم خلق الله وأتقاهم وأكثرهم أصالة وعراقة وأشرفهم منبتا ونجارا .. جاء الإسلام ليستظل بأرض مصر، ويجد في واديها السمح ملاذا ومأوى وبيتا ظليلا دافئا .. ومن مصر انطلق الإسلام وانتشر في ربوع العالم العربي كله، وأصبحت مصر للإسلام منارة مشرقة مشرفة ساطعة مبهرة بضياء الإيمان والطهارة .. ولم يعد يذكر الإسلام بدون ذكر مصر كمهد قوي تربى في كنفه وبين ربوعه، ونشأ وترعرع بين أهله، ونما وازدهر وانطلق كالمارد القوي السامي الخلق المزود بالتعاليم الدينية القويمة السمحاء الشماء، التي أكسبت مصر على مر الأعوام مناعة وحصانة وأصالة يتحدث بها الركبان، وتفخر بها البلدان والأوطان .. فإذا بأرض مصر تخرج الأبطال الشجعان والعلماء في الأديان وفي كل مشاكل الإنسان .. وإذا بالأديان الثلاثة تحيا في ربوع مصر بالأحضان، وفي حب ووئام وحنان ...
أيها العالم، إن أرض مصر هي حقيقة أرض الأديان، وهي أقوى من جميع البلدان في جمال الخلقة والكيان، وفي الرفعة وحسن المكان، الكل عندها سواء وسيان .. والعالم محب لها ولهان، مشتاق إلى شمسها المشرقة عطشان، بقدر ما هو إلى نيلها لهثان وظمآن.
مصر أم المصريين أجمعين
لكل فرد منا أم، وما أغلى الأم! فهي عزيزة على كل إنسان .. وأمي أعز ما عندي .. من أمي ولدت، ومن لبنها رضعت، وبفضلها كبرت وترعرعت .. ومن أجل أمي أعيش ما حييت .. ولكل واحد منا أمه .. وأمي غير أمك .. أمك بدينة وأمي نحيلة .. أمك حلوة القسمات، بينما أمي دميمة الخلقة .. هذه حال الدنيا .. أمهاتنا مختلفات متباينات .. ولكن صه يا خال .. لي ولك أم أخرى .. هي أمنا جميعا .. هي أم المصريين بحق .. الأم الكبرى التي أرضعت أمك وأمي قبل أن ترضعانا.
تلك الأم الكبرى هي أم المصريين جميعا .. إنها مصر .. البلد الأم .. أم الجميع .. الأم التي لا تكبر ولا تشيخ .. الأم الفتية القوية، والصالحة النقية السوية، العامرة الخيرة الآمنة ... المخلصة الوفية .. عندها من الوفاء بحور وأنهار، ومن الإخلاص بحار وبحار، والحمد لله أنها أمك وأمي .. تلك الأم التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تتشكل ولا تتنكر، ولا تتدثر إلا بلباس واحد، ولا تنتعل إلا فعلا واحدا .. لباسها أخضر جميل في لون الزروع السندسية الناضرة ... وخدودها حمراء في حمرة الورود المتفتحة .. شعرها فاحم طويل في سواد الليل الطويل الكحيل ... أمي وأمك جميلة فاتنة حسناء، وفتاكة فتانة، رشيقة مياسة، ذات قد خيزراني بديع، ملفوف يتثنى في خفر وحياء، ويتمايل كما تتمايل الأغصان في فصل الربيع إذا ما هب عليها نسيم الريح .. تلك الأغصان الحساسة المياسة، عروقها منتشية مملوءة صحة وعافية.
अज्ञात पृष्ठ