[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ]
قَالَ الشَّيْخُ ﵀:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ للَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تَكُونُ لِلنَّجَاةِ وَسِيلَةً، وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَفِيلَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي بَعَثَهُ وَطُرُقُ (وَحَالُ) الْإِيمَانِ قَدْ عَفَتْ آثَارُهَا، وَخَبَتْ أَنْوَارُهَا، وَوَهَنَتْ أَرْكَانُهَا، وَجُهِلَ مَكَانُهَا، فَشَيَّدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ مَعَالِمِهَا مَا عَفَا، وَشَفَى مِنَ الْعَلِيلِ فِي تَأْيِيدِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَنْ كَانَ عَلَى شَفًا، وَأَوْضَحَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَهَا، وَأَظْهَرَ كُنُوزَ السَّعَادَةِ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَدْيهِ لَا يَسْتَتِبُّ إِلَّا بِالِاقْتِفَاءِ لِمَا صَدَرَ مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِبَيَانِ كَشْفِهِ، وَكَانَ (كِتَابُ الْمَصَابِيحِ)، الَّذِي صَنَّفَهُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ، قَامِعُ الْبِدْعَةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرَّاءِ الْبَغَوِيُّ، رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ أَجْمَعَ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي بَابِهِ، وَأَضْبَطَ لِشَوَارِدِ الْأَحَادِيثِ، وَأَوَابِدِهَا، وَلَمَّا سَلَكَ ﵁ الِاخْتِصَارَ، وَحَذَفَ الْأَسَانِيدَ ; تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النُّقَّادِ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ - وَإِنَّهُ مِنَ الثِّقَاتِ - كَالْإِسْنَادِ، لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ كَالْأَغْفَالِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاسْتَوْفَقْتُ مِنْهُ فَأَوْدَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهُ فِي مَقَرِّهِ فَأَعْلَمْتُ مَا أَغْفَلَهُ، كَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْمُتْقِنُونَ، وَالثِّقَاتُ الرَّاسِخُونَ مِثْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرَيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْأَصْبَحِيِّ. وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيِّ، وَأَبِي عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ ابْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ رَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَلِيلٌ مَا هُوَ.
وَإِنِّي إِذَا نَسَبْتُ الْحَدِيثَ إِلَيْهِمْ كَأَنِّي أَسْنَدْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا مِنْهُ، وَأَغْنَوْنَا عَنْهُ.
وَسَرَدْتُ الْكُتُبَ، وَالْأَبْوَابَ كَمَا سَرَدَهَا، وَاقْتَفَيْتُ أَثَرَهُ فِيهَا، وَقَسَّمْتُ كُلَّ بَابٍ غَالِبًا عَلَى فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَاكْتَفَيْتُ بِهِمَا، وَإِنِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْغَيْرُ ; لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ.
وَثَانِيهَا: مَا أَوْرَدَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ. وَثَالِثُهَا: مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى الْبَابِ مِنْ مُلْحَقَاتٍ مُنَاسِبَةٍ مَعَ مُحَافَظَةٍ عَلَى الشَّرِيطَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْثُورًا عَنِ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ. ثُمَّ إِنَّكَ إِنْ فَقَدْتَ حَدِيثًا فِي بَابٍ، فَذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرٍ أُسْقِطُهُ. وَإِنْ وَجَدْتَ آخَرَ بَعْضَهُ مَتْرُوكًا عَلَى اخْتِصَارِهِ، أَوْ مَضْمُومًا إِلَيْهِ تَمَامُهُ فَعَنْ دَاعِي اهْتِمَامٍ أَتْرُكُهُ، وَأُلْحِقُهُ. وَإِنْ عَثَرْتَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْفَصْلَيْنِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْأَوَّلِ، وَذِكْرِهِمَا فِي الثَّانِي فَاعْلَمْ أَنِّي بَعْدَ تَتَبُّعِي كِتَابَيْ: (الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ) لِلْحُمَيْدِيِّ، وَ(جَامِعَ الْأُصُولِ) اعْتَمَدْتُ عَلَى صَحِيحَيِ الشَّيْخَيْنِ، وَمَتْنَيْهِمَا.
وَإِنْ رَأَيْتَ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ فَذَلِكَ مِنْ تَشَعُّبِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلِّي مَا اطَّلَعْتُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ الَّتِي سَلَكَهَا الشَّيْخُ ﵁ وَقَلِيلًا مَا تَجِدُ أَقُولُ: مَا وَجَدْتُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، أَوْ وَجَدْتُ خِلَافَهَا فِيهَا.
فَإِذَا، وَقَفْتَ عَلَيْهِ فَانْسِبِ الْقُصُورَ إِلَيَّ لِقِلَّةِ الدِّرَايَةِ، لَا إِلَى جَنَابِ الشَّيْخِ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ فِي الدَّارَيْنِ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ! . رَحِمَ اللَّهُ مَنْ إِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَنَا طَرِيقَ الصَّوَابِ. وَلَمْ آلُ جُهْدًا فِي التَّنْقِيرِ، وَالتَّفْتِيشِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَنَقَلْتُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ كَمَا وَجَدْتُ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ﵁ مِنْ غَرِيبٍ أَوْ ضَعِيفٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا بَيَّنْتُ وَجْهَهُ غَالِبًا. وَمَا لَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ مِمَّا فِي الْأُصُولِ فَقَدْ قَفَّيْتُهُ فِي تَرْكِهِ، إِلَّا فِي مَوَاضِعَ لِغَرَضٍ، وَرُبَّمَا تَجِدُ مَوَاضِعَ مُهْمَلَةً، وَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى رَاوِيهِ فَتَرَكْتُ الْبَيَاضَ. فَإِنْ عَثَرْتَ عَلَيْهِ فَأَلْحِقْهُ بِهِ، أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكُ. وَسَمَّيْتُ الْكِتَابَ بِـ (مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ)، وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ، وَالْإِعَانَةَ، وَالْهِدَايَةَ، وَالصِّيَانَةَ، وَتَيْسِيرَ مَا أَقْصِدُهُ، وَأَنْ يَنْفَعَنِي فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمَاتِ. حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَاقْتِفَاءً لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ، حَيْثُ قَالَ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» " أَيْ: قَلِيلُ الْبَرَكَةِ، أَوْ مَعْدُومُهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْبَتْرِ، وَهُوَ الْقَطْعُ قَبْلَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَالْمُرَادُ بِذِي الْبَالِ ذُو الشَّأْنِ فِي الْحَالِ، أَوِ الْمَآلِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي (كِتَابِ الْجَامِعِ) وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ الْأَبْرَارُ فِي كِتَابَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الْأَشْعَارِ، فَمَنَعَهُ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَأَجَازَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَالْأَحْسَنُ التَّفْصِيلُ بَلْ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الشِّعْرَ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، فَيُصَانُ إِيرَادُ الْبَسْمَلَةِ فِي الْهَجَوَيَّاتِ وَالْهَذَيَانِ وَمَدَائِحِ الظَّلَمَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تُصَانُ فِي حَالِ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمَوَاضِعِ الْقَاذُورَاتِ وَحَالَةِ الْمُجَامَعَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُكْتَبُ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الْمَنْطِقِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ مَسَائِلِهَا، وَكَذَا فِي الْقِصَصِ الْكَاذِبَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِا، وَالْكُلُّ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: " ذِي بَالٍ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: " كُلُّ كَلَامٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي (عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) . وَبِلَفْظِ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ اللَّهِ سَوَاءٌ يَكُونُ فِي ضِمْنِ الْبَسْمَلَةِ، أَوِ الْحَمْدَلَةِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الرَّهَاوِيُّ فِي (أَرْبَعِينِهِ)، وَحَسَّنَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَفْظُهُ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» "، أَوْ يُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَسْمَلَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُهُ شَيْءٌ، وَحَدِيثُ الْحَمْدَلَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ، قِيلَ: وَلَمْ يُعْكَسْ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ أَقْوَى فِي الْمِنْهَالِ بِكِتَابِ اللَّهِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. إِنَّ تَوْفِيقَ الِافْتِتَاحِ بِالْبَسْمَلَةِ لَمَّا كَانَ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَمْدَلَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا لِتَكُونَ مُتَضَمِّنَةً لِلشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْمِنْحَةِ الْجَمِيلَةِ، هَذَا وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِابْتِدَاءِ افْتِتَاحٌ عُرْفِيٌّ مُوَسَّعٌ مَمْدُودٌ يُطْلَقُ عَلَى مَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ كَمَا يُقَالُ: أَوَّلُ اللَّيْلِ وَأَوَّلُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْوَقْتِ وَأَوَّلُ الدِّيَارِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنَّفِ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعٌ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ» " أَخْرَجَهُ الرَّهَاوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَإِنْ قِيلَ بِضَعْفِهِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» " عَلَى رِوَايَةِ ضَمِّ الْخَاءِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِ التِّرْمِذِيِّ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِي (بَابِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ)، وَكَذَا يُفْهَمُ مِنَ اعْتِرَاضِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي تَرْكِهِ الشَّهَادَةَ أَوَّلَ كِتَابِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، أَوْ بِأَنَّ رِوَايَتَهُ كَسْرُ الْخَاءِ لَا ضَمُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 / 3
ثُمَّ الْبَاءُ جَاءَ لِأَرْبَعَةَ عَشَرَ مَعْنًى، وَالْمُنَاسِبُ هَاهُنَا مِنْهَا الْإِلْصَاقُ، وَالِاسْتِعَانَةُ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ وَأُخِّرَ عَلَى الْمُخْتَارِ تَحْقِيقًا لِحَقِيقَةِ الِابْتِدَاءِ، وَتَعْظِيمًا لِلِاسْمِ الْخَاصِّ عَنِ الِانْتِهَاءِ، وَإِفَادَةً لِلِاهْتِمَامِ، وَإِرَادَةً لِمَقَامِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمَرَامُ؛ وَرَدًّا لِدَأْبِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا يَبْتَدِئُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَيَفْتَتِحُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ.
لَكِنْ قَالَ الْعَارِفُ الْجَامِيُّ: حَقِيقَةُ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَنْ لَا يُذْكَرَ بِاللِّسَانِ، وَلَا يَخْطُرَ بِالْجَنَانِ فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرُ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ لَا إِثْبَاتًا، وَلَا نَفْيًا، فَإِنَّ صُورَةَ نَفْيِ الْغَيْرِ مُلَاحَظَةٌ لِلْغَيْرِ فَهُوَ أَيْضًا مَلْحُوظٌ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَيْسَ الِابْتِدَاءُ مُخْتَصًّا بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ مُؤَخَّرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي التَّقْدِيرِ أَيْضًا مُقَدَّمًا كَمَا أَنَّهُ فِي الذِّكْرِ مُقَدَّمٌ اهـ.
وَالْمَعْنَى بِاسْمِ اللَّهِ أَبْدَأُ تَصْنِيفِي، أَوِ ابْتِدَائِي فِي جَمِيعِ أُمُورِي مُتَبَرِّكًا بِاسْمِهِ وَمُسْتَعِينًا بِرَسْمِهِ، وَالِاسْمُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي بُنِيَ أَوَائِلُهَا عَلَى السُّكُونِ، فَعِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهَا يَزِيدُونَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْعَجُزِ كَيَدٍ وَدَمٍ ; بِدَلِيلِ تَصَارِيفِهِ مِنْ سَمَيْتُ وَنَحْوِهِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ، وَهُوَ الْعُلُوُّ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَنْوِيهٌ بِالْمُسَمَّى، وَرَفْعٌ لِقَدْرِهِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيَّةِ أَصْلُهُ: وَسْمٌ: وَهُوَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمُسَمَّى فَحُذِفَ حَرْفُ الْعِلَّةِ تَخْفِيفًا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَسَقَطَتْ كِتَابَتُهَا فِي الْبَسْمَلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْجَلَالَةِ عَلَى خِلَافِ رَسْمِ الْخَطِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ الْكَتْبِيِّ وَطُوَّلَتِ الْبَاءُ دَلَالَةً عَلَيْهَا قَبْلَ ذِكْرِ الِاسْمِ فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالتَّيَمُّنِ. وَقِيلَ الِاسْمُ صِلَةٌ، وَهُوَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ ذَاتُ الْحَقِّ، وَالْوُجُودُ الْمُطْلَقُ إِذَا اعْتُبِرَ مَعَ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالرَّحْمَنِ مَثَلًا هُوَ الذَّاتُ الْإِلَهِيَّةُ مَعَ صِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالْقَهَّارِ مَعَ صِفَةِ الْقَهْرِ، فَهُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى بِحَسَبِ التَّحْقِيقِ وَالْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ بِحَسَبِ التَّعَقُّلِ، وَالْأَسْمَاءُ الْمَلْفُوظَةُ هِيَ أَسْمَاءُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَالْإِضَافَةُ لَامِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا اللَّهُ، وَالرَّحْمَنُ، وَالرَّحِيمُ، أَوْ يُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بِخُصُوصِهَا بِقَرِينَةِ التَّصْرِيحِ بِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَالتَّسْمِيَةِ، وَثَانِيهَا: - وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ - غَيْرُهُمَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعِزُّ ابْنُ جَمَاعَةَ: هُوَ الْحَقُّ، وَثَالِثُهَا: عَيْنُ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ الِاسْمُ غَيْرَ الْمُسَمَّى، وَرَابِعُهَا: لَا عَيْنَ، وَلَا غَيْرَ. وَالثَّالِثُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، لَكِنْ فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي: كَلِمَةَ الْجَلَالَةِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الِاسْمِ الذَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، كَالْعَالِمِ فَمَدْلُولُهُ الذَّاتُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ. وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامَانِ، الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِنِزَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَى التَّعَرُّفِ أَجْمَعُوا: أَنَّ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ هِيَ هُوَ، وَلَا غَيْرُهُ وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تَتَغَايَرُ، وَلَيْسَ عِلْمُهُ قُدْرَتَهُ، وَلَا غَيْرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا قُدْرَتُهُ عِلْمَهُ، وَلَا غَيْرَ عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ مِنَ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَسْمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْمَاءُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَتْ هِيَ اللَّهَ، وَلَا غَيْرَ اللَّهِ كَمَا قَالُوا فِي الصِّفَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْمَاءُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 / 4
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَحَيَّرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَدْقِيقِ اسْمِ اللَّهِ كَمَا تَحَيَّرَ الْعُرَفَاءُ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّاهُ، سُبْحَانَ مَنْ تَحَيَّرَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ! فَقِيلَ: إِنَّهُ عِبْرِيٌّ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِلَاهًا، فَحَذَفَتِ الْعَرَبُ الْأَلِفَ الْأَخِيرَةَ لِلتَّخْفِيفِ، كَمَا فَعَلُوا فِي النُّورِ، وَالرُّوحِ، وَالْيَوْمِ ; فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ كَانَتْ نُورًا وَرُوحًا وَيَوْمًا، وَهَذَا وَجْهُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُعَرَّبٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَوَافُقِ اللُّغَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ إِحْدَاهُمَا مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْأُخْرَى مَأْخُوذَةً عَنْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: اسْمٌ هُوَ أَمْ صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، أَوْ غَيْرُ مُشْتَقٍّ؟ عَلَمٌ، أَوْ غَيْرُ عَلَمٍ؟ وَمَا أَصْلُهُ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِقَاقِهِ؟ ! وَمُخْتَارُ صَاحِبِ (الْكَشَّافِ) أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ اسْمَ جِنْسٍ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا وَأَنَّ أَصْلَهُ الْإِلَهُ وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ بِمَعْنَى: تَحَيَّرَ فَاللَّهُ مُتَحَيَّرٌ فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ: اسْمٌ خَاصٌّ عَلَمٌ لِلَّهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَامِعًا لِأَسْمَائِهِ وَنُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَلَهْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا فَزَعْتَ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ قَالَ:
أَلَهْتُ إِلَيْكُمْ فِي بَلَايَا تَنُوبُنِي ... فَأَلْفَيْتُكُمْ فِيهَا كَرِيمًا مُمَجَّدًا
فَإِنَّ الْخَلْقَ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. أَوْ مِنْ أَنَّهُ الْفَصِيلُ، وَالْفَصِيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا وَلِعَ بِأُمِّهِ ; لِأَنَّ الْعِبَادَ يُولَهُونَ بِهِ وَبِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ تَأَلَّهْتُ أَيْ: تَضَرَّعْتُ فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يُتَضَرَّعُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ لَاهَ يَلُوهُ لَوْهًا وَلَاهًا إِذَا احْتَجَبَ وَارْتَفَعَ قَالَ:
لَاهَ رَبِّي عَنِ الْخَلَائِقِ طُرًّا ... فَهُوَ اللَّهُ لَا يُرَى وَيَرَى هُو.
وَقِيلَ: مِنْ أَلَهْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا قُمْتَ بِهِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ صِفَتِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقِيمَ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ بُقْعَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَهْنَا بِدَارٍ لَا تَبِينُ رُسُومُهَا ... كَأَنَّ بَقَايَاهَا وِشَامٌ عَلَى الْأَيْدِي
وَقِيلَ: الْإِلَهُ أَصْلُهُ وِلَاهُ، فَهُوَ مِنَ الْوَلَهِ كَمَا قِيلَ فِي أُسَادَةٍ وَأُشَاحٍ وَأُجُوهٍ: وَسَادَةٌ وَوِشَاحٌ وَوُجُوهٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِبَادَ يُولَهُونَ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِلَهِ أَيْ: يَطْرَبُونَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
وَلِهَتْ نَفْسِيَ الطَّرُوبُ إِلَيْكُمْ ... وَلَهًا حَالَ دُونَ طَعْمِ الطَّعَامِ
وَقِيلَ: الْوَلَهُ: الْمَحَبَّةُ الشَّدِيدَةُ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَنَّهُ بِمَعْنَى عَبْدٍ، فَالْإِلَهُ: فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ كَالْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيَذَرُكَ وَإِلَاهَتَكَ) أَيْ: عِبَادَتَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ إِلَهٌ فَلَمَّا حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عُوِّضَتْ فِي أَوَّلِهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، ثُمَّ عِوَضًا لَازِمًا فَقِيلَ: اللَّهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْأَصْلُ فِي لَاهَ لَوِهَ عَلَى وَزْنِ دَوِرَ فَقَلَبُوا الْوَاوَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ: لَاهَ - عَلَى وَزْنِ دَارَ - ثُمَّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ التَّعْرِيفِ.
وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الرَّازِيُّ: الْأَصْلُ فِي اللَّهِ هُوَ الْإِلَهُ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَحُذِفَتْ فَصَارَتْ: اللَّاهَ، ثُمَّ أُجْرِيَتِ الْحَرَكَةُ الْعَارِضَةُ مَجْرَى الْأَصْلِيَّةِ، وَأُدْغِمَتِ اللَّامُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، قِيلَ: هَاهُنَا إِشْكَالٌ صَرْفِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا أَوَّلًا عَلَى مَا هُوَ الْقِيَاسُ، ثُمَّ حُذِفَتْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِدْغَامِ غَيْرَ قِيَاسِيٍّ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا يَجِبُ فِيهِمَا الْإِدْغَامُ إِذَا كَانَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: مَا سَلَكَكُمْ، وَمَنَاسِكَكُمْ، وَإِنْ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مَعَ حَرَكَتِهَا فَيَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ فِي تَخْفِيفِهَا، وَإِنْ كَانَ لُزُومُ الْإِدْغَامِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: هَذَا الِاسْمُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَمَا أَنَّ مُسَمَّاهُ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ قِيَاسِ النَّاسِ، وَأُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ، وَمَنْعِ كَوْنِ الْإِدْغَامِ فِي كَلِمَتَيْنِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّامَ عِوَضًا عَنِ الْهَمْزَةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَتِهَا، صَارَ كَأَنَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِدْغَامِ بَعْدَ الْعَلَمِيَّةِ فَيَكُونُ الِاجْتِمَاعُ فِي
1 / 5
كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قَطْعًا، قَلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ النَّقْلَ فِيهِ قِيَاسٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَكَذَلِكَ الْإِدْغَامُ فِي كَلِمَتَيْنِ، وَيَكْفِي جَوَازُهُ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى وُجُوبِهِ، مَعَ أَنَّ الْإِدْغَامَ فِي كَلِمَتَيْنِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَأْمَنَّا﴾ [يوسف: ١١] . وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨] فَإِنَّ الْأَصْلَ: لَكِنْ أَنَا، فَحَوَّلُوا الْفَتْحَةَ إِلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ النُّونِ فَاجْتَمَعَتْ نُونَانِ مُتَحَرِّكَتَانِ، فَأَسْكَنُوا الْأُولَى وَأَدْغَمُوهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِيهِ هَاءُ الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَائِبِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَوْجُودًا فِي نَظَرِ عُقُولِهِمْ وَأَشَارُوا إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ لَامَ الْمِلْكِ ; لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَمَالِكُهَا فَصَارَ (لَهُ)، ثُمَّ قَصَرُوا الْهَاءَ وَأَشْبَعُوا فَتْحَةَ اللَّامِ فَصَارَ: (لَاهُ)، وَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ ; فَزِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ تَعْظِيمًا وَفَخَّمُوهُ تَأْكِيدًا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَارَ (اللَّهُ) كَمَا تَرَى، وَهَذَا أَقْرَبُ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَحْقِيقِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ بِمُشْتَقٍّ بَلْ هُوَ عَلَمٌ ابْتِدَاءً لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَيُلَائِمُ هَذَا الْمَذْهَبَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَنَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِالصِّفَاتِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ لَا اتِّصَافِهَا بِهَا، وَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ، وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ سِوَاهُ، وَقَدْ خُصَّ هَذَا الِاسْمُ بِخَوَاصَّ لَا تُوْجَدُ فِي غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا: أَنَّهُ تُنْسَبُ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا يُنْسَبُ هُوَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ حَذَفُوا لَفْظَةَ يَاءٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَزَادُوا مِيمًا فِي آخِرِهِ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ، وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عِوَضًا لَازِمًا عَنْ هَمْزَتِهِ، وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أَللَّهُ فَقَطَعُوا هَمْزَتَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ يَا الَّتِي لِلنِّدَاءِ وَبَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ حَالَ سِعَةِ الْكَلَامِ. وَمِنْهَا: تَخْصِيصُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْقَسَمِ بِإِدْخَالِ (التَّاءِ وَايْمُنُ وَايْمُ) فِي قَوْلِهِمْ: تَاللَّهِ، وَايْمُنُ اللَّهِ، وَايْمُ اللَّهِ.
وَمِنْهَا: تَفْخِيمُ لَامِهِ إِذَا انْفَتْحَ مَا قَبْلَهُ، أَوِ انْضَمَّ ; سُنَّةً وَرِثَتْهَا الْعَرَبُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَتَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ الْقُرَّاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَحَذْفُ أَلِفِهِ لَحْنٌ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ.
وَ(الرَّحْمَنُ): فَعْلَانُ، مِنْ رَحِمَ كَغَضْبَانَ مِنْ غَضِبَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِجَعْلِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي لَازِمًا، فَيُنْقَلُ إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَيُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ. وَأَمَّا (الرَّحِيمُ): فَإِنْ جُعِلَ صِيغَةَ مُبَالَغَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ رَحِيمٌ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ جُعِلَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُشَبَّهَةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ (الْكَشَّافِ) فَالْوَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّحْمَنِ ثُمَّ فِي الرَّحْمَنِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الرَّحِيمِ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَهِيَ إِمَّا بِحَسَبِ شُمُولِهِ لِلدَّارَيْنِ وَاخْتِصَاصِ الرَّحِيمِ بِالدُّنْيَا كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: («يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَ الدُّنْيَا»)، وَإِمَّا بِحَسَبِ كَثْرَةِ أَفْرَادِ الْمَرْحُومِينَ وَقِلَّتِهَا كَمَا وَرَدَ: («يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ») وَإِمَّا بِحَسَبِ جَلَالَةِ النِّعَمِ وَدِقَّتِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَفِي الرَّحْمَنِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ لَيْسَتْ فِي الرَّحِيمِ فَيُقْصَدُ بِهِ رَحْمَةٌ زَائِدَةٌ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يُنَافِي مَا يُرْوَى عَنْ قَوْلِهِمْ: («يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا») لِجَوَازِ حَمْلِهِمَا عَلَى الْجَلَائِلِ وَالدَّقَائِقِ. وَقِيلَ: رَحْمَةُ الرَّحْمَنِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا وَرَحْمَةُ الرَّحِيمِ تَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْعُقْبَى، وَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الرَّحْمَنِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الرَّحِيمِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] وَلِذَا قِيلَ: الرَّحْمَنُ: خَاصُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمَعْنَى، وَالرَّحِيمُ: عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، ثُمَّ الرَّحْمَةُ فِي اللُّغَةِ: رِقَّةُ الْقَلْبِ وَانْعِطَافٌ يَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِحْسَانَ، وَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ التَّابِعَةِ لِلْمِزَاجِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، فَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي هِيَ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ، فَهِيَ
1 / 6
عِبَارَةٌ عَنِ الْإِنْعَامِ فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، أَوْ عَنْ إِرَادَةِ الْإِحْسَانِ فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبَّبٌ عَنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَالِانْعِطَافِ ; فَتَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَقُدِّمَ الرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ التَّرَقِّي فِي الصِّفَاتِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّحِيمَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِلرَّحْمَنِ، أَوْ لِزِيَادَةِ شَبَهِهِ بِاللَّهِ حَيْثُ اخْتَصَّ بِهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ عَلَمٌ لَهُ، أَوْ لِتَقَدُّمِ رَحْمَةِ الدُّنْيَا، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ وَعَدَمِ ذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ إِشْعَارٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: " «غَلَبَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» " وَفِي الْخَتْمِ بِالرَّحِيمِ إِيمَاءٌ بِحُسْنِ خَاتِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ بَعْدَ حُصُولِ رَحْمَتِهِ لِعُمُومِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ): قِيلَ: الْحَمْدُ، وَالْمَدْحُ، وَالشُّكْرُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَالْمُحَقِّقُونَ بَيْنَهَا يُفَرِّقُونَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْ نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالْمَدْحُ يَعُمُّ الِاخْتِيَارِيَّ وَغَيْرَهُ، وَلِذَا يُقَالُ: مَدَحْتُهُ عَلَى حُسْنِهِ، وَلَا يُقَالُ: حَمِدْتُهُ عَلَيْهِ، وَالشُّكْرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِمُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ سَوَاءٌ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، أَوِ الْجَنَانِ، أَوِ الْأَرْكَانِ، فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ خَاصٌّ وَمُتَعَلِّقُهُ عَامٌّ، وَالشُّكْرُ بِخِلَافِهِ، وَحَقِيقَةُ الشُّكْرِ مَا رُوِيَ عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَرَفْعُهُ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ للَّهِ، وَأَصْلُهُ النَّصْبُ وَقُرِئَ بِهِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ بِهِ إِلَى الرَّفْعِ دَلَالَةً عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَقُرِئَ بِإِتْبَاعِ الدَّالِّ اللَّامَ وَبِالْعَكْسِ تَنْزِيلًا لَهُمَا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا مَعًا مَنْزِلَةَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إِنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى ; لِتَسْمِيَةِ قَائِلِهَا بِهَا حَامِدًا وَلَوْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً مَعْنًى لَمْ يُسَمَّ إِلَّا مُخْبِرًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَقُّ لِلْمُخْبِرِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِذْ لَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: الضَّرْبُ مُؤْلِمٌ: ضَارِبٌ، فَإِنْ قِيلَ: جَازَ أَنْ يُعَدَّ الشَّرْعُ الْمُخْبِرُ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى حَامِدًا أُجِيبَ: فَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ: كُلُّ حَمْدٍ صَدَرَ مِنْ كُلِّ حَامِدٍ، فَهُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ، أَوْ لِلْجِنْسِ، وَيُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْ لَامِ الِاخْتِصَاصِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَجَمِيعُ أَفْرَادِ الْحَمْدِ مُخْتَصٌّ لَهُ تَعَالَى حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ بَعْضُهَا لِغَيْرِهِ صُورَةً، أَوِ الْحَمْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ: الْحَامِدَيَّةُ، وَالْمَحْمُودِيَّةُ ثَابِتَانِ لَهُ تَعَالَى، فَهُوَ الْحَامِدُ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ، أَوْ لِلْعَهْدِ فَإِنَّ حَمْدَهُ لَائِقٌ لَهُ، وَلِذَا أَظْهَرَ الْعَجْزَ أَحْمَدُ الْخَلْقِ عَنْ حَمْدِهِ وَقَالَ: («لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ») .
(نَحْمَدُهُ): اسْتِئْنَافٌ فَأَوَّلًا: أَثْبَتَ الْحَمْدَ لَهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، سَوَاءٌ حَمِدَ، أَوْ لَمْ يَحْمَدْ، فَهُوَ إِخْبَارٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِنْشَاءِ. وَثَانِيًا: أَخْبَرَ عَنْ حَمْدِهِ وَحَمْدِ غَيْرِهِ مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لِلتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ النَّعْمَاءِ وَتَعَدُّدِ الْآلَاءِ وَحُدُوثِهَا فِي الْآنَاءِ، أَوِ الْمُرَادُ نَشْكُرُهُ إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى تَوْفِيقِ الْحَمْدِ سَابِقًا. (وَنَسْتَعِينُهُ) أَيْ: فِي الْحَمْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَيَكُونُ تَبَرِّيًا مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ الْقَدَرِيَّةِ كَمَا أَنَّ فِيمَا قَبْلَهُ رَدًّا عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ ; لِأَنَّ مَقَامَ الِاخْتِصَاصِ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: لَوْلَا وُجُوبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَمَا قَرَأْتُهَا لِعَدَمِ صِدْقِي فِيهَا.
(وَنَسْتَغْفِرُهُ) أَيْ: مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّقْصِيرَاتِ وَلَوْ فِي الْحَمْدِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ) أَيْ: نَلْتَجِئُ وَنَعْتَصِمُ بِعَوْنِهِ وَحِفْظِهِ (مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) أَيْ: مِنْ ظُهُورِ السَّيِّئَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي جُبِلَتِ الْأَنْفُسُ عَلَيْهَا
1 / 7
قِيلَ: مِنْهَا الْحَمْدُ مَعَ الرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ وَكَذَا مَعَ إِثْبَاتِ الْحَوْلِ، وَالْقُوَّةِ (وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) أَيْ: مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا، وَفِيهِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ الْبَوَاطِنَ وَالظَّوَاهِرَ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ وَمَحْشُوَّةٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلِذَا قِيلَ: وَجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبٌ. قِيلَ: مِنْهَا التَّصْنِيفُ بِلَا إِخْلَاصٍ وَعَدَمُ رُؤْيَةِ التَّوْفِيقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلَوْلَا حِفْظُهُ تَعَالَى مَعَ تَوْفِيقِهِ لَمَا اسْتَقَامَ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقِهِ، لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ) أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَعِنَايَتَهُ الْمُقَرِّبَةِ لَدَيْهِ. (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) أَيْ: فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى إِضْلَالِهِ مِنَ الْمُضِلِّينَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ أَجْمَعِينَ، (وَمَنْ يُضْلِلْ) أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ جَهَالَتَهُ وَعَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ ضَلَالَتَهُ (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أَيْ: فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِ مِنَ الْهَادِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرْسَلِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦] وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ إِلَّا مَا قَدَّرَ بِهِ وَقَضَاهُ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَلِظُهُورِ قُصُورِ عُقُولِنَا الْفَانِيَةِ عَنْ إِدْرَاكِ أَسْرَارِ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ الْبَاقِيَةِ، قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: " لَا يَظْهَرُ سِرُّ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْبَارِزَ ثَابِتٌ فِي (يَهْدِهِ)، وَأَمَّا فِي (يُضْلِلْ) فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَهُوَ عَمَلٌ بِالْجَائِزَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصْلٌ وَفِيهِ وَصْلٌ، وَالثَّانِي فَرْعٌ وَفِيهِ فَصْلٌ، وَفِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى لَا تَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الصَّفَا (وَأَشْهَدُ) أَيْ: أَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ (أَنْ لَا إِلَهَ) أَيْ: مَعْبُودَ، أَوْ لَا مَقْصُودَ، أَوْ لَا مَوْجُودَ فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ (إِلَّا اللَّهُ) أَيِ: الذَّاتُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ صَاحِبُ الْكَرَمِ وَالْجُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحُدُوثِ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ، فَأَشَارَ أَوَّلًا إِلَى التَّفْرِقَةِ وَثَانِيًا إِلَى الْجَمْعِ اهـ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ أُمُورٌ ظَاهِرِيَّةٌ يُحْكَمُ بِوُجُودِهَا عَلَى الْغَيْرِ أَيْضًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ غَيْبِيٌّ لَا يَعْلَمُ بِحَقِيقَتِهِ إِلَّا هُوَ (شَهَادَةً): مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: (تَكُونُ) أَيْ: بِخُلُوصِهَا (لِلنَّجَاةِ) أَيِ: الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاكْتِفَاءِ بِهَا (وَسِيلَةً) أَيْ: سَبَبًا لَا عِلَّةً (وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ) أَيِ: الْعَالِيَاتِ فِي الْجَنَّاتِ الْبَاقِيَاتِ (كَفِيلَةً) أَيْ: مُتَضَمِّنَةً مُلْتَزِمَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ وَأَنْتَجَتِ ارْتِكَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاجْتِنَابَ الْأَفْعَالِ الطَّالِحَةِ، صَارَتْ سَبَبًا لِعُلُوِّ الدَّرَجَاتِ، وَكَانَتْ مَانِعَةً عَنِ الْوُقُوعِ فِي الدَّرَكَاتِ، وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ انْدَفَعَ مَا يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ، وَلِكَوْنِ التَّوْفِيقِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ ﵊: " «لَنْ يُنَجَّى مِنْكُمْ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» ". (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا): هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ مُبَالَغَةَ حَمْدٍ نُقِلَ مِنَ الْوَصْفَيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، سُمِّيَ بِهِ، وَالْأَسْمَاءُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ لِوُصُولِهِ إِلَى الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ، وَالْآخِرُونَ (عَبْدُهُ): إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَخْصِيصٍ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ مَرْتَبَتِهِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْقِيَامِ فِي أَدَاءِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ ; وَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَوْصَافِهِ
1 / 8
وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا وَأَغْلَاهَا، وَلِذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَقَالَ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: ١٠] وَللَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِيَا
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَاضِي عِيَاضٍ:
وَمِمَّا زَادَنِي عَجَبًا وَتِيهًا ... وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي ... وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا
(وَرَسُولُهُ): إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْقُرْبِ، وَأَوْلَى مَنَازِلِ الْحُبِّ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَالْوَاصِلُ إِلَى الْمَقَامِ الْأَفْضَلِ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ تَعْرِيضٌ لِلنَّصَارَى حَيْثُ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ، وَأَطْرَوْا فِي مَدْحِ نَبِيِّهِمْ. ثُمَّ قِيلَ: النَّبِيُّ، وَالرَّسُولُ مُتَرَادِفَانِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّ النَّبِيَّ إِنْسَانٌ ذَكَرٌ حُرٌّ مِنْ بَنِي آدَمَ، أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ أُمِرَ بِهِ فَرَسُولٌ أَيْضًا، الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسَ، وَذِكْرُ الْأَخَصِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَصُّ عَلَى مَعْنَى الْمَرَامِ. (الَّذِي بَعَثَهُ) أَيِ: اللَّهُ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: أَرْسَلَهُ إِلَى الثَّقَلَيْنِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا.
وَقِيلَ: إِلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرُ مُسْلِمٍ («وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً») . (وَطُرُقُ الْإِيمَانِ): مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْكُتُبِ، وَالْعُلَمَاءِ. (قَدْ عَفَتْ آثَارُهَا) أَيِ: انْدَرَسَتْ أَخْبَارُهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي حَالِ كَمَالِ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ ﵊ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ الضَّلَالَةِ وَغَايَةٍ مِنَ الْجَهَالَةِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَعْرِفُهَا إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ أَتْبَاعِ عِيسَى ﵊ اسْتَوْطَنُوا زَوَايَا الْخُمُولِ وَرُءُوسَ الْجِبَالِ، وَآثَرُوا الْوَحْدَةَ، وَالْأُفُولَ عَنِ الْخَلْقِ بِالِاعْتِزَالِ. (وَخَبَتْ أَنْوَارُهَا) أَيْ: خَفِيَتْ وَانْطَفَأَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ اقْتِبَاسُ الْعِلْمِ الْمُشَبَّهِ بِالنُّورِ فِي كَمَالِ الظُّهُورِ. (وَوَهَتْ) أَيْ: ضَعُفَتْ حَتَّى انْعَدَمَتْ (أَرْكَانُهَا): مِنْ أَسَاسِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ، وَالزَّكَوَاتُ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ. (وَجُهِلَ): بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مَكَانُهَا): مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ، وَغَلَبَةِ الْفِسْقِ، وَكَثْرَةِ الظُّلْمِ، وَقِلَّةِ الْعَدْلِ (فَشَيَّدَ) أَيْ: رَفَعَ وَأَعْلَى وَأَظْهَرَ، وَقَوَّى بِمَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَمْ يُؤْتَهَا أَحَدٌ مِثْلُهُ فِيمَا مَضَى. (صَلَوَاتُ اللَّهِ) أَيْ: أَنْوَاعُ رَحْمَتِهِ، وَأَصْنَافُ عِنَايَتِهِ نَازِلَةٌ (عَلَيْهِ)، وَفَائِضَةٌ لَدَيْهِ، وَمُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ. وَفِي نُسْخَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى السَّيِّدِ عَفِيفِ الدِّينِ: زِيَادَةُ. (وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ): يَعْنِي جِنْسَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ فِي الدَّارَيْنِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ إِخْبَارِيَّةٌ، أَوْ دُعَائِيَّةٌ، وَهِيَ الْأَظْهَرُ (مِنْ مَعَالِمِهَا) جَمْعُ الْمَعْلَمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ (مَا عَفَا): مَا: مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ مَفْعُولُ شَيَّدَ، وَمِنْ: بَيَانِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ، وَبَيَّنَ مَا انْدَرَسَ، وَخَفِيَ مِنْ آثَارِ طُرُقِ الْإِيمَانِ، وَعَلَامَاتِ أَسْبَابِ الْعِرْفَانِ، وَالْإِيقَانِ، (وَشَفَى): عَطْفٌ عَلَى شَيَّدَ (مِنَ الْعِلَلِ): بَيَانٌ مُقَدَّمٌ لِمِنَ رِعَايَةً لِلسَّجْعِ (فِي تَأْيِيدِ التَّوْحِيدِ) أَيْ: تَأْكِيدُهُ، وَتَقْوِيَتُهُ، وَنُصْرَتُهُ، وَإِعَانَتُهُ مُتَعَلِّقٌ
1 / 9
بِشَفَى، وَمَفْعُولُهُ قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ عَلَى شَفَا) أَيْ: وَخَلَّصَ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي حُفْرَةِ الْجَحِيمِ، وَالسُّقُوطِ فِي بِئْرِ الْحَمِيمِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] أَيْ: طَرَفِ ﴿حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ: أَبْرَأَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْلُولِينَ مَنْ كَانَ عَلَى إِشْرَافٍ مِنَ الْهَلَاكِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ طَبِيبُ الْعُيُوبِ، وَحَبِيبُ الْقُلُوبِ. وَفِي الْكَلَامِ صَنْعَةُ جِنَاسٍ: وَهُوَ تَشَابُهُ الْكَلِمَتَيْنِ لَفْظًا، وَصَنْعَةُ طِبَاقٍ: وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَغْرَبَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ: وَالْعَلِيلُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا، وَجَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَيَكُونُ مِنَ الْغِلِّ بِمَعْنَى الْحِقْدِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ: إِمَّا لَفْظًا: فَلِفَوَتِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الشِّفَاءِ، وَالْعِلَّةِ، وَإِمَّا مَعْنًى: فَلِذَهَابِ عُمُومِ الْعِلَلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جِنْسِ الْعَلِيلِ وَاقْتِصَارِهِ عَلَى عِلَّةِ الْحِقْدِ فَقَطْ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِلْمَقَامِ (وَأَوْضَحَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ) أَيْ: بَيَّنَ، وَعَيَّنَ طَرِيقَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَسَبِيلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَهَا): وَالسَّبِيلُ يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ أَيْ: لِمَنْ طَلَبَ، وَشَاءَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا، وَإِرَادَةُ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (وَأَظْهَرَ كُنُوزَ السَّعَادَةِ) أَيِ: الْمَعْنَوِيَّةَ، وَهِيَ الْمَعَارِفُ، وَالْعُلُومُ، وَالْأَعْمَالُ الْعَلِيَّةُ، وَالْأَخْلَاقُ، وَالشَّمَائِلُ، وَالْأَحْوَالُ الْبَهِيَّةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْكُنُوزِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْخَزَائِنِ السَّرْمَدِيَّةِ. (لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا) أَيْ: بِمَلَكَةٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مِلْكِهَا، وَيَتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى مِلْكِهَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا﴾ [الإنسان: ٢٠] أَيْ: كَثِيرًا ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: ٢٠] وَفِي قَوْلِهِ أَرَادَ وَقَصَدَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالسَّعْيِ، وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْإِيضَاحِ، وَالْإِظْهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] ثُمَّ قِيلَ: يُرَدُّ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى النُّسْخَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالصَّلَاةِ دُونَ السَّلَامِ - مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ مِنْ كَرَاهَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ فِيمَنِ اتَّخَذَهُ عَادَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلِسَانِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى كِتَابَةِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، أَوِ الْكَرَاهَةُ بِمَعْنَى خِلَافِ الْأَوْلَى لِإِطْلَاقِهَا عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَهُوَ الْأَوْلَى.
(أَمَّا بَعْدُ): أَتَى بِهِ اقْتِدَاءً بِهِ ﵊، وَبِأَصْحَابِهِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ فِي خُطَبِهِمْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ، وَيُسَمَّى فَصْلَ الْخِطَابَ قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِهِ دَاوُدُ ﵊، وَأَمَّا لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ، وَهُوَ كَلِمَةُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ فِعْلُهُ، وُجُوبًا، (وَبَعْدُ) مِنَ الظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَنْوِيٌّ. وَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يُذْكَرُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ بَعْدَمَا ذُكِرَ مِنَ الْبَسْمَلَةِ، وَالْحَمْدَلَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالثَّنَاءِ (فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَدْيِهِ) أَيِ: التَّشَبُّثَ، وَالتَّعَلُّقَ طَرِيقُهُ ﵊ (لَا يَسْتَتِبُّ): بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا يَسْتَمِرُّ، أَوْ لَا يَتَهَيَّأُ، وَلَا يَتَأَتَّى. (إِلَّا بِالِاقْتِفَاءِ) أَيْ: بِالِاتِّبَاعِ التَّامِّ (لِمَا صَدَرَ) أَيْ: ظَهَرَ (مِنْ مِشْكَاتِهِ) أَيْ: صَدْرِهِ، أَوْ قَلْبِهِ، أَوْ فَمِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; فَإِنَّ الْمِشْكَاةَ لُغَةٌ: هِيَ الْكُوَّةُ فِي الْجِدَارِ الْغَيْرِ النَّافِذِ يُوضَعُ فِيهَا الْمِصْبَاحُ، اسْتُعِيرَتْ لِصَدْرِهِ ﵊ ; لِأَنَّهُ كَالْكُوَّةِ ذُو جِهَتَيْنِ فَمِنْ جِهَةٍ يُقْتَبَسُ النُّورُ مِنَ الْقَلْبِ الْمُسْتَنِيرِ، وَمِنْ أُخْرَى يَفِيضُ ذَلِكَ النُّورُ الْمُقْتَبَسُ عَلَى الْخَلْقِ، وَشُبِّهَتِ اللَّطِيفَةُ الْقُدُسِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْقَلْبُ بِالْمِصْبَاحِ الْمُضِيءِ، ثُمَّ الْكُلُّ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ [النور: ٣٥] قِيلَ: نُورُ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: ٣٥]، هَذَا
1 / 10
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي (هَدْيِهِ) إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِهَدْيِهِ تَوْحِيدُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ قَوْلِهِ الْآتِي: (وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ) عَلَيْهِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ، وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ دَفْعًا لِلتَّوَهُّمِ، وَتَبَعًا لِلْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وَعُكِسَ فِي الْأَوَّلِ ; لِظُهُورِهِ، وَدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، فَلَوْ بُيِّنَ الضَّمِيرُ بِالتَّصْرِيحِ لَكَانَ أَوْلَى سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْفَصْلِ بِفَصْلِ الْخِطَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (وَالِاعْتِصَامَ) بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ أَيْ: التَّمَسُّكُ (بِحَبْلِ اللَّهِ): وَهُوَ الْقُرْآنُ: لِمَا وَرَدَ: («الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ») شُبِّهَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الصُّعُودُ إِلَى مَرَاتِبِ السُّعُودِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّعَلِّي، وَالتَّدَلِّي، لِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ» "، فَهُوَ كَالنِّيلِ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ، وَدِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦]، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: ٨٢] (لَا يَتِمُّ) أَيْ: لَا يَكْمُلُ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ (إِلَّا بِبَيَانِ كَشْفِهِ) أَيْ: مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] وَلَا خَفَاءَ فِي الْإِجْمَالَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالتَّبْيِينَاتِ الْحَدِيثَيَّةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مُجْمَلَةٌ لَمْ يُبَيِّنْ أَوْقَاتَهَا، وَأَعْدَادَهَا، وَأَرْكَانَهَا، وَشَرَائِطَهَا، وَوَاجِبَاتِهَا، وَسُنَنَهَا، وَمَكْرُوهَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِهَا إِلَّا السُّنَّةُ، وَكَذَا الزَّكَاةُ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُهَا، وَتَفَاصِيلُ نِصَابِهَا، وَمَصَارِفِهَا إِلَّا بِالْحَدِيثِ، وَكَذَا الصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَسَائِرُ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقَضَايَا، وَالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، وَتَمْيِيزُ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَتَفَاصِيلُ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَعَلَيْكَ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَبِالِاجْتِنَابِ عَنْ طَرِيقِ أَرْبَابِ الْهَوَى، وَأَصْحَابِ الْبِدْعَةِ ; لِتَكُونَ مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ السَّالِكَةِ طَرِيقَ الْمُتَابَعَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقَامَةِ. وَللَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ ... إِلَّا الْحَدِيثَ، وَإِلَّا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ
الْعِلْمُ مُتَّبَعٌ مَا فِيهِ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّ (حَدَّثَنَا) بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ مَرْضَاةَ الْمَوْلَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَدِّثِينَ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِلَى مَتَى الْعِلْمُ فَأَيْنَ الْعَمَلُ؟ ! قَالَ: عِلْمُنَا هَذَا هُوَ الْعَمَلُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - «أَنَّهُ ﵊ خَرَجَ يَوْمًا مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي ". قُلْنَا: مَنْ خُلَفَاؤُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خُلَفَائِي الَّذِينَ يَرْوُونَ أَحَادِيثِي، وَسُنَنِي، وَيُعَلِّمُونَهَا لِلنَّاسِ» . وَفَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ ارْتَحَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَسَافَةَ شَهْرٍ لِتَحْصِيلِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ. (وَكَانَ كِتَابُ الْمَصَابِيحِ): قِيلَ: أَحَادِيثُهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَزَادَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا فَالْمَجْمُوعُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ
1 / 11
وَأَرْبَعُونَ، وَيَنْضَبِطُ بِسِتَّةِ آلَافٍ إِلَّا كَسْرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ (الَّذِي صَنَّفَهُ) أَيْ: أَلَّفَهُ، وَجَمَعَهُ (الْإِمَامُ) أَيِ: الْمُقْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ كَانَ مُفَسِّرًا مُحَدِّثًا فَقِيهًا مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ. قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ سَاقِطٌ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي عِلْمِ الْقِرَاءَةِ عَابِدًا زَاهِدًا جَامِعًا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، كَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ بِلَا إِدَامٍ فَعُلَّ عَنْ ذَلِكَ لِكِبَرِهِ، وَعَجْزِهِ فَصَارَ يَأْكُلُهُ بِالزَّيْتِ. وَقِيلَ بِالزَّبِيبِ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ كَالْحَافِظِ أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ السُّهْرُوَرْدِيِّ عَمِّ صَاحَبِ الْعَوَارِفِ، وَلَهُ غَيْرُ الْمَصَابِيحِ تَصَانِيفُ مَشْهُورَةٌ كَشَرْحِ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيثِ، وَكِتَابِ التَّهْذِيبِ فِي الْفِقْهِ، وَمَعَالِمِ التَّنْزِيلِ فِي التَّفْسِيرِ.
(مُحْيِي السُّنَّةِ) أَيِ: الْأَدِلَّةِ الْحَدِيثَيَّةِ مِنْ أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَتَقْرِيرِهِ، وَأَحْوَالِهِ ﷺ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ السُّنَّةِ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ (أَحْيَاكَ اللَّهُ كَمَا أَحْيَيْتَ سُنَّتِي) فَصَارَ هَذَا اللَّقَبُ عَلَمًا لَهُ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِمَرْوَ، وَدُفِنَ عِنْدَ شَيْخِهِ، وَأُسْتَاذِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْمَرْوَزِيِّ فَقِيهِ خُرَاسَانَ (قَامِعُ الْبِدْعَةِ) أَيْ: قَاطِعُهَا، وَدَافِعُ أَهْلِهَا، أَوْ مُبْطِلُهَا، وَمُمِيتُهَا. (أَبُو مُحَمَّدٍ) كُنْيَتُهُ، (الْحُسَيْنُ) اسْمُهُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (ابْنُ مَسْعُودٍ): نَعْتُهُ (الْفَرَّاءِ): بِالْجَرِّ نَعْتٌ لِأَبِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَغِلُ الْفَرْوَ، أَوْ يَبِيعُهُ، وَهُوَ غَيْرُ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ الْمَشْهُورِ عَلَى مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ ; فَإِنَّهُ يَنْقُلُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِهِ (الْبَغَوِيُّ): بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَغَّ، وَقِيلَ: إِلَى بَغْشُورَ: قَرْيَةٌ بَيْنَ مَرْوَ وَهَرَاةَ فِي حُدُودِ خُرَاسَانَ، وَالِاسْمُ الْمُرَكَّبُ تَرْكِيبًا مَزْجِيًا يُنْسَبُ إِلَى جُزْئِهِ الْأَوَّلِ كَمَعَدِّيٍّ فِي مَعْدِي كَرِبَ، وَبَعْلِيٍّ فِي بَعْلَبَكَّ، وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْوَاوُ فِي النِّسْبَةِ إِجْرَاءً لِلَفْظَةِ بَغَّ مَجْرَى مَحْذُوفِ الْعَجُزِ كَالدَّمَوِيِّ، وَلِئَلَّا يَلْتَبِسُ بِالْبَغِيِّ بِمَعْنَى الزَّانِي، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوبٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ): وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ رَحْمَتَهُ، وَالْجُمْلَةُ دِعَائِيَّةٌ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]- (أَجْمَعَ كِتَابٍ) خَبَرُ كَانَ (صُنِّفَ) أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ (فِي بَابِهِ) أَيْ: فِي بَابِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّهُ جَمَعَ الْأَحَادِيثَ الْمُهِمَّةَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا سَالِكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ ; لِيَسْهُلَ الْكَشْفُ، وَيُفَسِّرُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ بَعْضَهَا الْإِجْمَالِيَّةَ، وَتَتَبَيَّنُ الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ بِمُقْتَضَى الدَّلَالَاتِ الْحَدِيثَيَّةِ. (وَأَضْبَطَ): عَطْفٌ عَلَى أَجْمَعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جُرِّدَ عَنِ الْأَسَانِيدِ، وَعَنِ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، وَتَكْرَارِهَا فِي الْمَسَانِيدِ صَارَ أَقْرَبَ إِلَى الْحِفْظِ، وَالضَّبْطِ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْغَلَطِ، وَالْخَبْطِ (لِشَوَارِدِ الْأَحَادِيثِ): جَمْعُ شَارِدَةٍ، وَهِيَ النَّافِرَةُ، وَالذَّاهِبَةُ عَنِ الدَّرْكِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ (وَأَوَابِدِهَا): عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ: وَحْشِيَّاتُهَا ; شُبِّهَتِ الْأَحَادِيثُ بِالْوُحُوشِ لِسُرْعَةِ تَنَفُّرِهَا، وَتَبَعُّدِهَا عَنِ الضَّبْطِ، وَالْحِفْظِ ; وَلِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ صَيْدٌ، وَالْكِتَابَةُ قَيْدٌ (وَلَمَّا سَلَكَ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ ﵁: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعَائِيَّةٌ أَيْ: ذَهَبَ فِي مَسْلَكِ تَصْنِيفِهِ هَذَا (طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ) أَيْ: بِالِاكْتِفَاءِ عَلَى مُتُونِ الْأَحَادِيثِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ (وَحَذْفِ الْأَسَانِيدِ): عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ مُضَافٌ عُطِفَ عَلَى طَرِيقٍ، وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْنَادِ: إِمَّا حَذْفُ الصَّحَابِيِّ، وَتَرْكُ الْمُخْرِجِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ، أَيْ: طَرَفَيِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرًا مِنْ قَوْلِهِ: (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ كَالْأَغْفَالِ)، وَأَمَّا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: وَهُوَ حِكَايَةُ طَرِيقِ مَتْنِ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ رُوَاتُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا حَذَفَهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهَا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنْ يُعْلَمَ عِنْدَ التَّعَارُضِ رَاجِحُ الْحَدِيثِ مِنْ مَرْجُوحِهِ، وَنَاسِخُهُ مِنْ مَنْسُوخِهِ، بِسَبَبِ زِيَادَةِ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ، وَتَقَدُّمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْهَا، وَلَمَّا عُدِمَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، وَنَدُرَ وُجُودُهُمْ فِي الْأَمْصَارِ، وَوَضَعَ هَذَا الْكِتَابِ لِلصُّلَحَاءِ
1 / 12
الْأَبْرَارِ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهَا نَفْعٌ كَثِيرٌ ; فَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الصِّحَّةِ، وَالْحُسْنِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ مِنَ الصِّحَاحِ، وَالْحِسَانِ إِكْمَالًا (تَكَلَّمَ فِيهِ): جَوَابُ لَمَّا، أَيْ: طَعَنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ كِتَابِهِ (بَعْضُ النُّقَّادِ): بِضَمِّ النُّونِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، أَيِ: الْعُلَمَاءِ النَّاقِدِينَ الْمُمَيِّزِينَ بَيْنَ الصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي رِجَالِ الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِسْنَادِهِ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِذِكْرِهِ، وَعَدَمِ ذِكْرِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِسْنَادَانِ، فَلَوْ ذَكَرَ لَهُ إِسْنَادَهُ الثَّابِتَ لَمَا وَجَدَ الطَّاعِنُ فِيهِ مَطْعَنًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ. . .) إِلَخْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ كَانَ اعْتِرَاضُ ذَلِكَ الْبَعْضِ مَدْفُوعًا عَنْهُ لِكَوْنِهِ ثِقَةً، وَإِذَا نُسِبَ الْحَدِيثُ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْمُخْرِجِينَ الْمُورِدِينَ لِلْحَدِيثِ مَعَ الْإِسْنَادِ بِقَوْلِهِ: الصِّحَاحُ: مَا فِيهِ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْحَسَنُ: مَا فِيهِ أَحَادِيثُ سَائِرِ السُّنَنِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَيْ: تَكَلَّمَ فِي حَقِّهِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُبْصِرِينَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْحَدِيثِ، وَسَقَمَهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْنَادِ، فَإِذَا لَمْ يُذْكُرْ لَمْ يُعْرَفِ الصَّحِيحُ مِنَ الضَّعِيفِ ; فَيَكُونُ نَقْصًا (وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ) أَيْ: نَقْلُ الْبَغَوَيِّ بِلَا إِسْنَادٍ، وَالْوَاوُ وَصْلَيَّةٌ (وَإِنَّهُ مِنَ الثِّقَاتِ) أَيِ: الْمُعْتَمَدِينَ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانِ صِحَّتِهِ، وَحُسْنِهِ، وَضَعْفِهِ (كَالْإِسْنَادِ) أَيْ: كَذِكْرِهِ، رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي (إِنَّهُ) عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي نَقْلِهِ، وَرُوِيَ: بِفَتْحِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى اسْمِ كَانَ يَعْنِي نَقْلَهُ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ وَكَوْنُهُ مِنَ الثِّقَاتِ كَالْإِسْنَادِ ; لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ اشْتُهِرَتْ أَمَانَتُهُ، وَعُلِمَتْ عَدَالَتُهُ، وَصِيَانَتُهُ فَيُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ إِسْنَادِ الشَّيْءِ لِمَحَلِّهِ (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ): أَعْلَامُ الشَّيْءِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ آثَارُهُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا (كَالْأَغْفَالِ): بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الْأَرَاضِي الْمَجْهُولَةُ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ تُعْرَفُ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا فَهُمَا مَصْدَرَانِ لَفْظًا، وَضِدَّانِ مَعْنًى، وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ كِتَابَهُ الْمِشْكَاةَ، وَبِالثَّانِي الْمَصَابِيحَ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَغْفَالٌ كَالْأَعْلَامِ، وَلَعَلَّهُ قَلَبَ الْكَلَامَ تَوَاضُعًا مَعَ الْإِمَامِ، وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ عَنْ بُلُوغِ ذَلِكَ الْمَرَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ فِي صَنِيعِ الْبَغَوِيِّ قُصُورًا فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ عَدَمُ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ أَوَّلًا، وَعَدَمُ ذِكْرِ الْمُخْرِجِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ آخِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ: أَمَّا ذِكْرُ الصَّحَابِيِّ فَفَائِدَتُهُ: أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَتَعَدَّدُ رُوَاتُهُ، وَطُرُقُهُ، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ، فَيُذْكَرُ الصَّحَابِيُّ لِيُعْلَمَ ضَعِيفُ الْمَرْوِيِّ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمِنْهَا: رُجْحَانُ الْخَبَرِ بِحَالِ الرَّاوِي مِنْ زِيَادَةِ فِقْهِهِ، وَوَرَعِهِ، وَمَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ، وَمَنْسُوخِهِ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الرَّاوِي، وَتَأَخُّرِهِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُخْرِجِ فَفَائِدَتُهُ: تَعْيِينُ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَتَبَيْيُنُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَعْرِفَةُ كَثْرَةِ الْمُخْرِجِينَ، وَقِلَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، لِإِفَادَةِ التَّرْجِيحِ، وَزِيَادَةِ التَّصْحِيحِ، وَمِنْهَا: الْمُرَاجَعَةُ إِلَى الْأُصُولِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُصُولِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوُصُولِ. هَذَا، وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْمِشْكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النُّقَّادِ) أَيْ: تَكَلَّمَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْحَذْفِ الَّذِي اسْتَلْزَمَ عِنْدَهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَعْضُ النُّقَّادِ كَالنَّوَوِيِّ، وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَغَيْرِهِمَا، فَقَالُوا: مَا جَنَحَ إِلَيْهِ فِي مَصَابِيحِهِ مِنْ تَقْسِيمِ أَحَادِيثِهِ إِلَى صِحَاحٍ، وَحِسَانٍ مَعَ صَيْرُورَتِهِ إِلَى أَنَّ الصِّحَاحَ: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْحِسَانَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ ; إِذِ الْحَسَنُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا غَيْرُ الْحَسَنِ مِنَ الصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، لَكِنِ انْتَصَرَ لَهُ الْمُؤَلِّفُ فَقَالَ: لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ بَلْ تَخْطِئَةُ الْمَرْءِ فِي اصْطِلَاحِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْبَغَوِيُّ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِالصِّحَاحِ كَذَا، وَبِالْحِسَانِ كَذَا، وَمَا قَالَ أَرَادَ الْمُحَدِّثُونَ بِهِمَا كَذَا فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ خُصُوصًا، وَقَدْ قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ضَعِيفٍ، أَوْ غَرِيبٍ أُشِيرُ إِلَيْهِ، وَأَعْرَضْتُ عَمَّا كَانَ مُنْكَرًا، أَوْ مَوْضُوعًا اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَمْلَ التَّكَمُّلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ. . .) إِلَخْ، وَلَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ) إِذْ لَا يَصْلُحُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا جَوَابًا، وَلَا الثَّانِي اسْتِدْرَاكًا صَوَابًا (فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى) أَيْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨] وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا:
1 / 13
" «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَلَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» "، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ خَيْرَهُ مِنْ شَرِّهِ " قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦] وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا. (وَاسْتَوْفَقْتُ مِنْهُ): بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ عَلَى الْقَافِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، أَيْ: طَلَبْتُ مِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقَ، وَعَلَى الِاسْتِقَامَةِ طَرِيقِ التَّوْثِيقِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، وَالْمَعْنَى: طَلَبْتُ الْوُقُوفَ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، وَمَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَالْقَافِ أَيْ: طَلَبْتُ الْوُثُوقَ، وَالثُّبُوتَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَرْدُودِ، وَالْمَثْبُوتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: أَخَذْتُ مِنَ الْمَصَابِيحِ مَا هُوَ الْوَثِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ عُرْيَةً عَنْ وَسْمِهَا بِصِحَاحٍ، وَحِسَانٍ، (فَأَوْدَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمِصْبَاحِ (فِي مَقَرِّهِ): كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذِهِ الْفِقْرَةُ مَوْجُودَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَضَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنَ الْكِتَابِ فِي مَحَلِّهِ الْمَوْضُوعِ فِي أَصْلِهِ مَنْ كُلِّ كِتَابٍ، وَبَابٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَتَأْخِيرٍ، وَزِيَادَةٍ، وَنُقْصَانٍ، وَتَغْيِيرٍ (فَأَعْلَمْتُ) أَيْ: فَبَيَّنْتُ مَا (أَغْفُلُهُ) أَيْ: تَرَكَهُ بِلَا إِسْنَادٍ عَمْدًا مِنْ ذِكْرِ الصَّحَابِيِّ أَوَّلًا، وَبَيَانِ الْمُخْرِجِ آخِرًا بِخُصُوصِ كُلِّ حَدِيثٍ الْتِزَامًا. (كَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ): جَمْعُ إِمَامٍ، وَأَصْلُهُ أَئِمَّةٌ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلَةٍ فَأُعِلَّ بِالنَّقْلِ، وَالْإِدْغَامِ، وَيَجُوزُ تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَسْهِيلُهَا، وَإِبْدَالُهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ هَاهُنَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنَ الْقَدِيمِ، وَالْحَدِيثِ (الْمُتْقِنُونَ) أَيِ: الضَّابِطُونَ الْحَافِظُونَ الْحَاذِقُونَ لِمَرْوِيَّاتِهِمْ مِنْ: أَتْقَنَ الْأَمْرَ إِذَا أَحْكَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨] (وَالثِّقَاتُ): بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثِقَةٍ، وَهُوَ الْعُدُولُ، وَالثَّبَاتُ. (الرَّاسِخُونَ) أَيِ: الثَّابِتُونَ بِمُحَافَظَةِ هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، وَالْقَائِمُونَ بِمُرَاعَاةِ طُرُقِ هَذَا الْفَنِّ الْمَنِيفِ. (مِثْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَبُوهُ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكٍ، وَصَحِبَ ابْنَ الْمُبَارَكِ، وَرَوَى عَنْهُ الْعِرَاقِيُّونَ. قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِي جَمِيعِ مَالِي دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ. (الْبُخَارِيُّ): نِسْبَةٌ إِلَى بُخَارَى: بَلْدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ; لِتَوَلُّدِهِ فِيهَا، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ لَهُ، وَلِكِتَابِهِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ: يُقَالُ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَنَاصِرُ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَنَاشِرُ الْمَوَارِيثِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، قِيلَ: لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ مِنْ جِهَةِ حِفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِتْقَانِهِ، وَفَهْمِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْ حَيْثِيَّةِ حِدَّةِ ذِهْنِهِ، وَرِقَّةِ نَظَرِهِ، وَوُفُورِ فِقْهِهِ، وَكَمَالِ زُهْدِهِ، وَغَايَةِ وَرَعِهِ، وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَعِلَلِهِ، وَقُوَّةِ اجْتِهَادِهِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ، وَكَانَتْ أَمُّهُ مُسْتَجَابَةَ الدَّعْوَةِ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَنَشَأَ فِي حِجْرِ وَالِدَتِهِ، ثُمَّ عَمِيَ، وَقَدْ عَجَزَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ مُعَالَجَتِهِ فَرَأَتْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِلًا لَهَا: قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى ابْنِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ لَهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَنَشَأَ مُتَرَبِّيًا فِي حِجْرِ الْعِلْمِ مُرْتَضِعًا مِنْ ثَدْيِ الْفَضْلِ، ثُمَّ أُلْهِمَ طَلَبَ الْحَدِيثِ، وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَكْتَبِ، وَلَمَّا بَلَغَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً رَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ بَبُخَارَى غَلَطًا وَقَعَ لَهُ فِي سَنَدٍ حَتَّى أَصْلَحَ كِتَابَهُ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ شَيْخًا مِنْ مَشَايِخِهِ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ حَدِيثِهِ قَالَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّهَيْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ الْبُخَارِيُّ: أَبُو الزُّهَيْرِ لَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَهَيَّبَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ الْبُخَارِيُّ: ارْجِعْ إِلَى الْأَصْلِ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ، فَقَامَ الشَّيْخُ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَطَالَعَ فِي أَصْلِهِ، وَتَأَمَّلَ فِيهِ حَقَّ تَأَمُّلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ: فَكَيْفَ الرِّوَايَةُ؟ فَقَالَ: لَيْسَ أَبُو الزُّهَيْرِ بِالْهَاءِ، إِنَّمَا هُوَ الزُّبَيْرُ بِالْبَاءِ، وَهُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَأَخَذَ الْقَلَمَ، وَأَصْلَحَ كِتَابَهُ. وَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَفِظَ كُتُبَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَعَرَفَ كَلَامَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ، وَأَخِيهِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ فَرَجَعَ أَخُوهُ، وَأَقَامَ هُوَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا طَعَنَ فِي ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً صَنَّفَ قَضَايَا الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَقَاوِيلَهُمْ، وَصَنَّفَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَ التُّرْبَةِ الْمُطَهَّرَةِ
1 / 14
تَارِيخَهُ الْكَبِيرَ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ، وَكَتَبُوا عَنْهُ، وَسِنُّهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَلَّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ رِجَالِ التَّارِيخِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدِي مِنْهُ حِكَايَةٌ، وَقِصَّةٌ إِلَّا أَنِّي تَرَكْتُهَا خَوْفًا مِنَ الْإِطْنَابِ، وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ ارْتَحَلَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي أَكْثَرِ الْمُدُنِ، وَالْأَقَالِيمِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ارْتَحَلْتُ فِي اسْتِفَادَةِ الْحَدِيثِ إِلَى مِصْرَ، وَالشَّامِ مَرَّتَيْنِ، وَإِلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَا أُحْصِي مَا دَخَلْتُ مَعَ الْمُحَدِّثِينَ فِي بَغْدَادَ، وَالْكُوفَةِ، وَأَقَمْتُ فِي الْحِجَازِ سِتَّ سِنِينَ طَالِبًا لِعِلْمِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْحَامِلُ لِي عَلَى تَأْلِيفِهِ أَنَّنِي رَأَيْتُنِي وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَبِيَدِي مِرْوَحَةٌ أَذُبُّ عَنْهُ، فَعُبِّرَ لِي بِأَنِّي أَذُبُّ عَنْهُ الْكَذِبَ، وَمَا وَضَعْتُ فِيهِ حَدِيثًا إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ، وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَخْرَجْتُهُ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَصَنَّفْتُهُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَعَلْتُهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، وَمَا أَدْخَلْتُ فِيهِ إِلَّا صَحِيحًا، وَمَا تَرَكْتُ مِنَ الصَّحِيحِ أَكْثَرُ ; لِئَلَّا يَطُولَ. وَصَنَّفْتُهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا أَدْخَلْتُ فِيهِ حَدِيثًا حَتَّى اسْتَخَرْتُ اللَّهَ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَتَيَقَّنْتُ صِحَّتَهُ. اهـ.
وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، وَتَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ كَانَ يُخْرِجُ الْأَحَادِيثَ بَعْدُ فِي بَلَدِهِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَحْمِلُ رِوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ يُصَنِّفُهُ فِي الْبِلَادِ ; إِذْ مُدَّةُ تَصْنِيفِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ لَمْ يُجَاوِرْ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِمَكَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَنَّفَ الصَّحِيحَ فِي الْبَصْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَنَّفَهُ فِي بُخَارَى. وَرُوِيَ عَنِ الْوَرَّاقِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ: جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْتَهَا فِي مُصَنَّفَاتِكَ هَلْ تَحْفَظُهَا؟ فَقَالَ: لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْهَا ; فَإِنِّي قَدْ صَنَّفْتُ كُتُبِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّكْرَارِ التَّبْيِيضَ، وَالتَّنْقِيحَ، وَلَعَلَّ كَثْرَةَ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَرِوَايَةُ أَنَّهُ جَعَلَ تَرَاجِمَهُ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَقْلِهَا مِنَ الْمُسَوَّدَةِ إِلَى الْمُبْيَضَّةِ، كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي جَزَرَةَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مِنَ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ مَا قُرِئَ فِي شِدَّةٍ إِلَّا وَفُرِّجَتْ، وَمَا رُكِبَ بِهِ فِي مَرْكَبٍ فَغَرِقَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَلَقَدْ دَعَا لِقَارِئِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِقِرَاءَتِهِ الْغَيْثَ، قِيلَ: وَيُسَمَّى التِّرْيَاقَ الْمُجَرَّبَ. وَنَقَلَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنْ عَمِّهِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْتُ الْبُخَارِيَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً لِلْوَقَائِعِ، وَالْمُهِمَّاتِ لِي، وَلِغَيْرِي، فَحَصَلَ الْمُرَادَاتُ، وَقَضَى الْحَاجَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ سَيِّدِ السَّادَاتِ، وَمَنْبَعِ السَّادَاتِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ. قِيلَ: وَكَانَ وِرْدُهُ فِي رَمَضَانَ خَتْمَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَثُلُثُهَا فِي سَحَرِ كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَسَعَهُ زُنْبُورٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ مَا لَسَعَكَ؟ ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهَا، وَكَانَ يَقُولُ: أَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يُحَاسِبَنِي أَنِّي مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُ عَلَيْكَ التَّارِيخَ ; فَإِنَّهُ غِيبَةٌ فَقَالَ: إِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ رِوَايَةً، وَلَمْ نَنْقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَقَالَ ﵊: " «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» " قَالَ: وَأَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ غَيْرَ صَحِيحٍ، أَيْ: بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ طُرُقِهَا مَعَ عَدِّ الْمُكَرَّرِ، وَالْمَوْقُوفِ، وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ، وَفَتَاوِيهِمْ مِمَّا كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ عَلَى كُلِّهِ حَدِيثًا. وَقِيلَ: كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا، وَيَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ نَظْرَةً وَاحِدَةً فَيَحْفَظُ مَا فِيهِ، وَكَانَ يَقُولُ: دَخَلْتُ بِلْخَ فَسَأَلَنِي أَهْلُهَا أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ، فَأَمْلَيَتُ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَلِبُلُوغِ نِهَايَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ كَانَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ يَقُولُ لَهُ: دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَيَا طَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ أَحَدًا بِالْعِرَاقِ، وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَكَانَ بِسَمَرْقَنْدَ أَرْبَعُمِائَةِ مُحَدِّثٍ اجْتَمَعُوا تِسْعَةَ أَيَّامٍ لِمُغَالَطَتِهِ، فَخَلَطُوا الْأَسَانِيدَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ: إِسْنَادُ الشَّامِيِّينَ فِي الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِسْنَادُ الْعِرَاقِيِّينَ فِي الشَّامِيِّينَ، وَإِسْنَادُ أَهْلِ الْحَرَمِ فِي الْيَمَانِيِّينَ، وَعَكْسُهُ، وَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَمَا اسْتَطَاعُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَغَلَّبُوا عَلَيْهِ سَقْطَةً لَا فِي إِسْنَادٍ، وَلَا فِي مَتْنٍ، وَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ فَعَلُوا مَعَهُ نَظِيرَ ذَلِكَ فَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ فَقَلَبُوا مُتُونَهَا، وَأَسَانِيدَهَا، وَدَفَعُوا لِكُلِّ
1 / 15
وَاحِدٍ عَشَرَةً لِيُلْقِيَهَا عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ الْغَاصِّ بِالنَّاسِ امْتِحَانًا، فَقَامَ أَحَدُهُمْ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الْعَشَرَةِ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الثَّانِي فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا إِلَى الْعَاشِرِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي فَكَانَ كَالْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ فَرَغُوا ; فَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا مُطَّلِعِينَ عَلَى أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، وَحِفْظِهِ قَالُوا: فَهِمَ الرَّجُلُ، وَالَّذِينَ مَا كَانَ لَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى الْقَضِيَّةِ تَوَهَّمُوا عَجْزَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى قُصُورِ ضَبْطِهِ، وَسُوءِ حِفْظِهِ ; فَالْتَفَتَ إِلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ: أَمَّا حَدِيثُكَ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ فَخَطَأٌ، وَصَوَابُهُ كَذَا، وَكَذَا، وَلَا زَالَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَكْمَلَ الْمِائَةَ فَبُهِرَ النَّاسُ، وَأَذْعَنُوا لَهُ، فَإِنَّ عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ، أَوْ يُهَانُ، وَعِنْدَ الْمُبْصِرِينَ هَذَا الْفَنَّ لَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ رَدُّ خَطَئِهِمْ إِلَى الصَّوَابِ ; لِأَنَّهُ كَانَ حَافِظَ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْأَسَانِيدِ، بَلْ كَانَ الْغَرِيبُ عِنْدَهُمْ حِفْظَهُ أَسَانِيدَهُمُ الْبَاطِلَةَ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهِ مَرَّةً، وَإِعَادَتَهَا مُرَتَّبَةً، وَهَذَا كَادَ أَنْ يَكُونَ خَرْقَ الْعَادَةِ، وَمَحْضَ الْكَرَامَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِلْهَامَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعِنَايَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ. وَلَمَّا قَدِمَ الْبَصْرَةَ نَادَى مُنَادٍ يُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِهِ فَأَحْدَقُوا بِهِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمْ مَجْلِسَ الْإِمْلَاءِ ; فَأَجَابَهُمْ فَنَادَى الْمُنَادِي يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ أَجَابَ ; فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعَ كَذَا، وَكَذَا أَلْفًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْفُقَهَاءِ فَأَوَّلُ مَا جَلَسَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَنَا شَابٌّ، وَقَدْ سَأَلْتُمُونِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ أَحَادِيثَ عَنْ أَهْلِ بَلَدِكُمْ تَسْتَفِيدُونَهَا، يَعْنِي لَيْسَتْ عِنْدَكُمْ، وَأَمْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِمْ مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَتَّى بَهَرَهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ ثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ حَتَّى صَحَّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّابِّ، وَاكْتُبُوا عَنْهُ ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ، وَفَقْهِهِ. وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَوَرِثَ مِنْ أَبِيهِ مَالًا كَثِيرًا فَكَانَ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَانَ قَلِيلَ الْأَكْلِ جِدًّا. قِيلَ: كَانَ يَقْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ بِلَوْزَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ لَوْزَاتٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَأْكُلِ الْإِدَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قِيلَ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَكَانَ يَصْرِفُهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَكَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي تَحْصِيلِ الْحَدِيثِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى الطَّلَبَةِ مُفْرِطًا فِي الْكَرَمِ، وَأُعْطِيَ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ رِبْحَ بِضَاعَةٍ لَهُ فَأَخَّرَ فَأَعْطَاهُ آخَرُونَ عَشَرَةَ آلَافٍ فَقَالَ: إِنِّي نَوَيْتُ بَيْعَهَا لِلْأَوَّلِينَ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أُغَيِّرَ نِيَّتِي، وَعَثَرَتْ جَارِيَتُهُ بِمَحْبَرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ تَمْشِينَ؟ ! فَقَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ كَيْفَ أَمْشِي؟ ! فَقَالَ: اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ للَّهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَغْضَبَتْكَ فَأَعْتَقْتَهَا فَقَالَ: أَرْضَيْتُ نَفْسِي بِمَا فَعَلْتُ. وَلَمَّا بَنَى رِبَاطًا مِمَّا يَلِي بُخَارَى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَبْنُونَهُ فَكَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فَيُقَالُ: قَدْ كُفِيتَ فَقَالَ: هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُنِي، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بُخَارَى نُصِبَتْ لَهُ الْقِبَابُ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا، وَاسْتَقْبَلَهُ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَنُثِرَ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ، وَبَقِيَ مُدَّةً يُحَدِّثُهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْبَلَدِ خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ الْخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ يَتَلَطَّفُ مَعَهُ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالصَّحِيحِ، وَيُحَدِّثَهُمْ بِهِ فِي قَصْرِهِ ; فَامْتَنَعَ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي لَا أُذِلُّ الْعِلْمَ، وَلَا أَحْمِلُهُ إِلَى أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ، فَمَنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَلْيَحْضُرْ فِي مَسْجِدِي، أَوْ دَارِي، فَإِنْ لَمْ يُعْجِبْكَ هَذَا فَأَنْتَ سُلْطَانٌ فَامْنَعْنِي مِنَ الْمَجْلِسِ لِيَكُونَ لِي عُذْرٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِّي لَا أَكْتُمُ الْعِلْمَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ يُؤْتَى، وَلَا يَأْتِي، فَرَاسَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا لِأَوْلَادِهِ، وَلَا يَحْضُرَ غَيْرُهُمْ ; فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا يَسَعُنِي أَنْ أَخُصَّ بِالسَّمَاعِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، فَحَصَلَتْ بَيْنَهُمَا وَحْشَةٌ ; فَاسْتَعَانَ الْأَمِيرُ بِعُلَمَاءِ بُخَارَى عَلَيْهِ حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ أَرِهِمْ مَا قَصَدُونِي بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَأَهَالِيهِمْ. فَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَلَمْ يَأْتِ شَهْرٌ حَتَّى وَرَدَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى الْأَمِيرِ فَأُرْكِبَ حِمَارًا فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَحُبِسَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ سَاعَدَهُ إِلَّا وَابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ شَدِيدَةٍ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بُخَارَى كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ يَخْطُبُونَهُ لِبَلَدِهِمْ ; فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ بِخَرْتَنْكَ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي الْأَشْهَرِ، أَوْ مَكْسُورَةٍ فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فَنُونٍ سَاكِنَةٍ فَكَافٍ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ بِسَمَرْقَنْدَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ
1 / 16
وَقِيلَ: نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ، فَقَوْمٌ يُرِيدُونَ دُخُولَهُ، وَآخَرُونَ يَكْرَهُونَهُ. وَكَانَ لَهُ أَقْرِبَاءُ بِهَا فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى يَنْجَلِيَ الْأَمْرُ فَأَقَامَ أَيَّامًا فَمَرِضَ حَتَّى وُجِّهَ إِلَيْهِ رَسُولٌ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ يَلْتَمِسُونَ خُرُوجَهُ إِلَيْهِمْ ; فَأَجَابَ، وَتَهَيَّأَ لِلرُّكُوبِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَتَعَمَّمَ، فَلَمَّا مَشَى قَدْرَ عِشْرِينَ خُطْوَةً إِلَى الدَّابَّةِ لِيَرْكَبَهَا قَالَ: أَرْسِلُونِي فَقَدْ ضَعُفْتُ فَأَرْسَلُوهُ فَدَعَا بِدَعَوَاتٍ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَقَضَى فَسَالَ مِنْهُ عَرَقٌ كَثِيرٌ لَا يُوصَفُ، وَمَا سَكَنَ الْعَرَقُ حَتَّى أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ. وَقِيلَ: ضَجِرَ لَيْلَةً فَدَعَا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ اللَّهُمَّ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ فَمَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ذَكَرٍ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَمَّا صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَوُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ فَاحَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَالْمِسْكِ جَعَلَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ إِلَى قَبْرِهِ مُدَّةً يَأْخُذُونَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَا وُقُوفُكَ هُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتَظِرُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَلَغَنِي مَوْتُهُ، فَنَظَرْتَ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِيهَا، وَبَعْدَ نَحْوِ سَنَتَيْنِ مِنْ مَوْتِهِ اسْتَسْقَى أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ مِرَارًا فَلَمْ يُسْقَوْا فَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ لِقَاضِيهَا: أَرَى أَنْ تَخَرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى قَبْرِ الْبُخَارِيِّ، وَنَسْتَسْقِي عِنْدَهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَسْقِيَنَا فَفَعَلَ، وَبَكَى النَّاسُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَتَشَفَّعُوا بِصَاحِبِهِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ بِمَاءٍ غَزِيرٍ أَقَامَ النَّاسُ مِنْ أَجْلِهِ نَحْوَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ الْوُصُولَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَكِبَارِ التَّابِعِينَ لَمْ تَكُنِ الْأَحَادِيثُ مُدَوَّنَةً ; لِنَهْيِهِ ﵊ أَصْحَابَهُ مِنْ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ مَخَافَةَ خَلْطِهِ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ، وَأَيْضًا دَائِرَةُ حِفْظِهِمْ كَانَتْ وَاسِعَةً بِبَرَكَةِ صُحْبَتِهِ، وَقُرْبِ مُدَّتِهِ، وَأَيْضًا أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ، فَظَهَرَ فِي آخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ تَدْوِينُ الْأَحَادِيثِ، وَالْأَخْبَارِ، وَتَصْنِيفُ السُّنَنِ، وَالْآثَارِ، وَتَصَدَّوْا لِهَذَا الْأَمْرِ الشَّرِيفِ كَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ دَأْبُهُمْ تَصْنِيفَ كُلِّ بَابٍ عَلَى حِدَةٍ إِلَى عَهْدِ كِبَارِ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، فَأَلَّفُوا الْحَدِيثَ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَصَنَّفَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مُقَدَّمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُوَطَّأَهُ، وَجَمَعَ فِيهِ أَحَادِيثَ أَهْلِ الْحِجَازِ مِمَّا ثَبَتَ وَصَحَّ عِنْدَهُ، وَأَدْرَجَ فِيهِ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ، وَفَتَاوَى التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَصَنَّفَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: أَبُو حَامِدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ. وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ. وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَبُو سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَبَعْدَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ أَلَّفَ كِتَابًا. وَكَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُحَدِّثِينَ مَسَانِيدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، لَكِنْ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يُمَيَّزِ الصَّحِيحُ، وَالضَّعِيفُ، وَلَمَّا اطَّلَعَ الْبُخَارِيُّ عَلَى تَصَانِيفِهِمْ حَصَلَ لَهُ الْعَزْمُ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ لِتَحْصِيلِ الْحَزْمِ عَلَى تَأْلِيفِ كِتَابٍ يَكُونُ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ صَحِيحَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ شَيْخِي إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ: لَوْ جَمَعْتُمْ كِتَابًا مُخْتَصَرًا بِصَحِيحِ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي تَصْنِيفُ كِتَابٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَقَدَّمَ رُؤْيَاهُ أَيْضًا، فَشَرَعَ فِيهِ، فَلَمَّا كَمَّلَهُ عَرَضَهُ عَلَى مَشَايِخِهِ مِثْلِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَغَيْرِهِمُ اسْتَحْسَنُوهُ، وَشَهِدُوا بِصِحَّةِ كِتَابِهِ، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي بَابِهِ، وَاسْتَثْنَوْا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ
1 / 17
وَتَوَقَّفُوا فِي صِحَّتِهَا. قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَالْحَقُّ مَعَ الْبُخَارِيِّ فِيهَا أَيْضًا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَشُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ فِي عَدَدِ أَحَادِيثِهِ بِالْمُكَرَّرِ، وَإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ جُمْلَةَ أَحَادِيثِهِ مَعَ التَّعَالِيقِ، وَالْمُتَابَعَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ، وَمَعَ الْمُكَرَّرَاتِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا، وَبِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ أَحَادِيثُهُ الْمَرْفُوعَةُ: أَلْفَانِ وَسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَأَعْلَى أَسَانِيدِ أَحَادِيثِهِ، وَأَقْرَبُهُ إِلَيْهِ ﵊ مَا يَكُونُ الْوَاسِطَةُ ثَلَاثَةً، وَوُجِدَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي صَحِيحِهِ مَعَ الْمُكَرَّرِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَبِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَقَدْ أَفْرَدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ اتَّفَقَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَلَقِّي الصَّحِيحَيْنِ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ أَرْجَحُهُمَا، وَأَصَحُّهُمَا قِيلَ: وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ أَحَدٍ التَّصْرِيحُ بِنَقِيضِهِ لِأَنَّ قَوْلَ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَصَحِّيَّتِهِ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّ نَفْيَ الْأَصَحِّيَّةِ لَا يَنْفِي الْمُسَاوَاةَ. وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ لِحُسْنِ السِّيَاقِ، وَجَوْدَةِ الْوَضْعِ، وَالتَّرْتِيبِ ; إِذْ لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصَحِّيَّةِ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِهِ لَرَدِّ عَلَيْهِمْ شَاهِدُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ مَا يَدُورُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَوْجُودَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ، وَأَسَدَّ ; فَإِنَّ شَرْطَهُ فِيهَا أَقْوَى، وَأَشَدُّ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ فَلِاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِمَنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَلَوْ مَرَّةً، وَاكْتَفَى مُسْلِمٌ بِمُجَرَّدِ الْمُعَاصَرَةِ نَظَرًا لِإِمْكَانِ اللَّقْيِ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَالَةُ، وَالضَّبْطُ فَلِأَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ تُكِلِّمَ فِيهِمْ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ تُكِلِّمَ فِيهِمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ مِنْ إِخْرَاجِ حَدِيثِهِمْ بَلْ غَالِبُهُمْ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ، وَمَارَسَ حَدِيثَهُمْ، وَمَيَّزَ جِيِّدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِ مِمَّنْ تُكَلِّمَ فِيهِ، هُوَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَصْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُحَدِّثَ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ شُيُوخِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَنْهُمْ. وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشُّذُوذِ، وَالْإِعْلَالِ ; فَلِأَنَّ مَا انْتُقِدَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَقَلُّ عَدَدًا مِمَّا انْتُقِدَ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا إِخْرَاجُهُمَا لِمَنْ طُعِنَ فِيهِ ; لِأَنَّ تَخْرِيجَ صَاحِبِ الصَّحِيحِ لِأَيِّ رَاوٍ كَانَ مُقْتَضٍ لِعَدَالَتِهِ عِنْدَهُ، وَصِحَّةِ ضَبْطِهِ، وَعَدَمِ غَفْلَتِهِ إِنْ خَرَّجَ لَهُ فِي الْأُصُولِ، فَإِنْ خَرَّجَ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ، وَالتَّعَالِيقِ كَانَتْ دَرَجَاتُهُ مُتَقَارِبَةً فِي الضَّبْطِ، وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَعَ حُصُولِ وَصْفِ الصِّدْقِ لَهُ فَالطَّعْنُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ أَحَدُهُمَا مُقَابِلٌ لِتَعْدِيلِهِ ; فَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَّا مُفَسَّرًا بِمَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، أَوْ فِي ضَبْطِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي ضَبْطِهِ لِخَبَرٍ بِعَيْنِهِ لِتَفَاوُتِ الْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ لِلْأَئِمَّةِ عَلَى الْجَرْحِ، إِذْ مِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ، وَمِنْهَا مَا يَقْدَحُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَقْدِسِيُّ يَقُولُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي الصَّحِيحِ هَذَا جَازَ الْقَنْطَرَةَ يَعْنِي لَا يُلْتَفَتُ لِمَا قِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى أَئِمَّةِ عَصْرِهِمَا، وَمَنْ بَعْدَهُمَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ، وَالْعِلَلِ، فَهُوَ أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ شَيْخِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ، وَكُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الْحَدِيثِ، وَأَفْرَدَهُ فَفِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْهُ فَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ حَتَّى إِنَّ مُسْلِمًا أَتَى بِأَحَادِيثِهِ مُفَرَّقًا فِي كِتَابِهِ، وَتَجَلَّدَ غَايَةَ التَّجَلُّدِ حَيْثُ لَمْ يُسْنِدْهَا إِلَى جَنَابِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَوْلَا الْبُخَارِيُّ لَمَا رَاحَ مُسْلِمٌ، وَلَا جَاءَ، أَخَذَ كِتَابَهُ، وَزَادَ عَلَيْهِ أَبْوَابَهُ. وَلِلْبُخَارِيِّ مُصَنَّفَاتٌ غَيْرُ الصَّحِيحِ: كَالْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّارِيخِ الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ، وَالصَّغِيرِ، وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَكِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَالْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ، وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، وَكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَكِتَابِ الْهِبَةِ، وَأَسَامِي الصَّحَابَةِ، وَكِتَابِ الْوِجْدَانِ، وَكِتَابِ الْعِلَلِ، وَكِتَابِ الْكُنَى، وَكِتَابِ الْمَبْسُوطِ، وَكِتَابِ الْفَوَائِدِ. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَوَيْتُ الْحَدِيثَ عَنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ مُحَدِّثٍ. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ كَمُسْلِمٍ فِي غَيْرِ صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ، قِيلَ: رَوَى عَنْهُ مِائَةُ أَلْفِ مُحَدِّثٍ. رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَعْيَنِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَزِيدَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِ الْبُخَارِيِّ لَفَعَلْتُ لَأَنَّ مَوْتِي مَوْتُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَوْتُ الْبُخَارِيِّ ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْعَالَمِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ:
إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ، وَفَتْوَى ... فَقَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ
1 / 18
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ: كُنْتُ نَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: (يَا أَبَا زَيْدٍ إِلَى مَتَى تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَدْرُسُ كِتَابِي؟ !) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا كِتَابُكَ؟ ! قَالَ: (جَامِعُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ) .
(وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيِّ): بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً إِلَى قُشَيْرٍ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ نَيْسَابُورِيٌّ أَحَدُ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ، جَمَعَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَالْقَعْنِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ، وَحُفَّاظِ دَهْرِهِ كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَأَبِي خُزَيْمَةَ، وَخَلَائِقَ. وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْجَلِيلَةُ غَيْرُ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ كَالْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ صَنَّفَهُ عَلَى تَرْتِيبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لَا عَلَى تَبْوِيبِ الْفِقْهِ، وَكَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ، وَكِتَابِ الْعِلَلِ، وَكِتَابِ أَوْهَامِ الْمُحَدِّثِينَ، وَكِتَابِ التَّمْيِيزِ، وَكِتَابِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ، وَكِتَابِ طَبَقَاتِ التَّابِعِينَ، وَكِتَابِ الْمُخَضْرَمِينَ. قَالَ: صَنَّفْتُ الصَّحِيحَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ بِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ، وَأَعْلَى أَسَانِيدِهِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ أَرْبَعَةُ وَسَائِطَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وُلِدَ عَامَ وَفَاةِ الشَّافِعِيِّ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ آخِرُ قُدُومِهِ بَغْدَادَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ بِنَيْسَابُورَ لِلْمُذَاكَرَةِ فَذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقُدِّمَتْ لَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تَمْرٌ فَكَانَ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ، وَيَأْخُذُ تَمْرَةً تَمْرَةً فَأَصْبَحَ وَقَدْ فَنِيَ التَّمْرُ، وَوَجَدَ الْحَدِيثَ، وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: كَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبَبٍ غَرِيبٍ نَشَأَ مِنْ غَمْرَةِ فِكْرَةٍ عِلْمِيَّةٍ. وَسِنُّهُ قِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَارَبَ السِتِّينَ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنَ الْجَزْمِ بِبُلُوغِهِ السِتِّينَ.
قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَبَحِّرِينَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْجَزَرِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ الْمُسَمَّى بِتَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: إِنِّي زُرْتُ قَبْرَهُ بِنَيْسَابُورَ، وَقَرَأْتُ بَعْضَ صَحِيحِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّيَمُنِ، وَالتَّبَرُّكِ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَرَأَيْتُ آثَارَ الْبَرَكَةِ، وَرَجَاءَ الْإِجَابَةِ فِي تُرْبَتِهِ.
(وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ): وَهُوَ غَيْرُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا تُوُهِّمَ (الْأَصْبَحِيِّ): نِسْبَةً إِلَى ذِي أَصْبَحَ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ أَحَدِ أَجْدَادِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ، وَأُخِّرَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ ذِكْرًا، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمَا وَجُودًا، وَرُتْبَةً، وَإِسْنَادًا لِتَقَدُّمِ كِتَابَيْهِمَا عَلَى كِتَابِهِ تَرْجِيحًا ; لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ تَصْحِيحًا، وَهُوَ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَقِيلَ: مِنَ التَّابِعِينَ إِذْ رُوِيَ أَنَّهُ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَصُحْبَتُهَا ثَابِتَةٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: كِتَابُ مَالِكٍ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مَنْ تَقَلَّدَهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَالْمُنْقَطِعِ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَاسِيلِ فَإِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ بِلَا شَرْطٍ، وَعِنْدَ مَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ - حُجَّةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا إِذَا اعْتُمِدَ، وَمَا مِنْ مُرْسَلٍ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَّا وَلَهُ عَاضِدٌ، أَوْ عَوَاضِدُ ; فَالصَّوَابُ إِطْلَاقُ أَنَّ الْمُوَطَّأَ صَحِيحٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابًا فِي وَصْلِ مَا فِي الْمُوَطَّأِ مِنَ الْمُرْسَلِ، وَالْمُنْقَطِعِ، وَالْمُعْضَلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا تَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءً، قَالَ الْبُخَارِيُّ إِمَامُ الصَّنْعَةِ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُنْتَشِرٌ مُشْتَهِرٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ قَالُوا: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ عَنْ مَالِكٍ الشَّافِعِيُّ ; إِذْ هُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَحْمَدُ: جَمَعْتُ الْمُوَطَّأَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، ثُمَّ مِنَ الشَّافِعِيِّ فَوَجَدْتُهُ أَقْوَمَهُمْ بِهِ، وَأَصَحُّهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَحْمَدُ، وَلِاجْتِمَاعِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذَا السَّنَدِ قِيلَ لَهَا: سِلْسِلَةُ الذَّهَبِ.
1 / 19
قِيلَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِكْثَارُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ إِخْرَاجَ حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، وَعَدَمُ إِخْرَاجِ أَصْحَابِ الْأُصُولِ حَدِيثَ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَعَلَّ جَمْعُهُ الْمُسْنَدَ كَانَ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِطَلَبِهِمُ الْعُلُوَّ الْمُقَدَّمَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ.
قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَتَيْنَا مَالِكًا فَجَعَلَ يُحَدِّثُنَا عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكُنَّا نَسْتَزِيدُهُ مِنْ حَدِيثِهِ، فَقَالَ لَنَا يَوْمًا: مَا تَصْنَعُونَ بِرَبِيعَةَ؟ ! هُوَ نَائِمٌ فِي ذَلِكَ الطَّاقِ ; فَأَتَيْنَا رَبِيعَةَ فَنَبَّهْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ رَبِيعَةُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قُلْنَا: الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْكَ مَالِكٌ؟ ! قَالَ: نَعَمْ قُلْنَا: كَيْفَ حَظِيَ بِكَ مَالِكٌ، وَلَمْ تَحْظَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مِثْقَالَ دُولَةٍ خَيْرٌ مِنْ حَمْلِ عِلْمٍ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالدُّولَةِ اللُّطْفَ الرَّبَّانِيَّ، وَالتَّوْفِيقَ الْإِلَهِيَّ. قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الثَّوْرِيُّ إِمَامٌ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامٌ فِي السُّنَّةِ، وَمَالِكٌ إِمَامٌ فِيهِمَا، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَالَ لَهُ: أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ دِينِي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ اذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْتُ عَلَى بَابِ مَالِكٍ كُرَاعًا مِنْ أَفْرَاسِ خُرَاسَانَ، وَبِغَالِ مِصْرَ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ! فَقُلْتُ: مَا أَحْسَنَهُ! فَقَالَ: هُوَ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: دَعْ لِنَفْسِكَ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَقَالَ: أَنَا أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَطَأَ تُرْبَةً فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ بِحَافِرِ دَابَّةٍ، وَكَانَ مُبَالِغًا فِي تَعْظِيمِ حَدِيثِهِ ﷺ حَتَّى كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّثَ: تَوَضَّأَ، وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ، وَسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وَتَطَيَّبُ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُلُوسِ عَلَى وَقَارٍ، وَهَيْبَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَمِنْ كَلَامِهِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ خَيْرٌ. وَقَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ لِي هَارُونُ الرَّشِيدُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَنْبَغِي أَنْ تَخْتَلِفَ إِلَيْنَا حَتَّى يَسْمَعَ صِبْيَانُنَا مِنْكَ الْمُوَطَّأَ، يَعْنِي الْأَمِينَ، وَالْمَأْمُونَ، فَقُلْتُ: أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنْكُمْ خَرَجَ فَإِنْ أَنْتُمْ أَعْزَزْتُمُوهُ عَزَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَذْلَلْتُمُوهُ ذَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَضَعْ عِزَّ شَيْءٍ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَالْعِلْمُ يُؤْتَى، وَلَا يَأْتِي، قَالَ: صَدَقْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ، كَانَ هَذَا هَفْوَةً مِنِّي اسْتُرْهَا عَلَيَّ اخْرُجُوا إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى تَسْمَعُوا مَعَ النَّاسِ. وَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ: أَلَكَ دَارٌ؟ قَالَ: لَا، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا دَارًا فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُنْفِقْهَا، وَلَمَّا أَرَادَ الرَّشِيدُ الشُّخُوصَ، قَالَ لِمَالِكٍ: يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجَ مَعِي ; فَإِنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمُوَطَّأِ كَمَا حَمَلَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أَمَّا حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْمُوَطَّأِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ افْتَرَقُوا بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ فَحَدَّثُوا فَعِنْدَ أَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ عِلْمٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» "، وَأَمَّا الْخُرُوجُ مَعَكَ ; فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ ﷺ قَالَ: " «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» "، وَهَذِهِ دَنَانِيرُكُمْ كَمَا هِيَ إِنْ شِئْتُمْ فَخُذُوهَا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَدَعُوهَا، يَعْنِي أَنَّكَ إِنَّمَا كَلَّفْتَنِي مُفَارَقَةَ الْمَدِينَةِ لِمَا صَنَعْتَ إِلَيَّ فَلَا أُوثِرُ الدُّنْيَا عَلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ. وَصَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ كِتَابٌ فِي الْعِلْمِ أَكْثَرُ صَوَابًا مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا قَبْلَ وُجُودِ الصَّحِيحَيْنِ، وَإِلَّا فَهُمَا أَصَحُّ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَرْسَلَهُ بِهَا أَهْلُ بَلَدِهِ فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهُ، فَقَالَ: لَا أُحْسِنُ. قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ قَالَ: قُلْ لَهُمْ: قَالَ مَالِكٌ لَا أُحْسِنُ! أَخَذَ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ تَابِعِيٍّ، وَأَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ تَابِعِيهِمْ. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ
1 / 20
أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهِ، وَوُلِدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ عَلَى الْأَشْهَرِ. قِيلَ: مَكَثَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَقِيلَ أَكْثَرَ، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: مَالِكٌ أَثْبَتُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الْمُنْكَدِرِ، وَنَافِعٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ شُيُوخِهِ، وَمِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ: ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ. قَالَ مَالِكٌ: قَلَّ مَنْ أَخَذْتُ عَنْهُ الْحَدِيثَ أَنَّهُ مَا جَاءَنِي، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنِّي الْفَتْوَى.
(وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ): نِسْبَةٌ إِلَى شَافِعٍ أَحَدِ أَجْدَادِهِ، قِيلَ: شَافِعٌ كَانَ صَاحِبَ رَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُسِرَ، وَفَدَى نَفْسَهُ فَأَسْلَمَ، وَقِيلَ: لَقِيَ شَافِعٌ النَّبِيَّ ﷺ، وَهُوَ مُتَرَعْرِعٌ، وَأَسْلَمَ أَبُوهُ السَّائِبُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ السَّائِبُ صَاحِبَ رَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُسِرَ، وَفَدَى نَفْسَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَخْصِيصِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ نِسْبَةُ أَهْلِ مَذْهَبِهِ أَيْضًا شَافِعِيٌّ.
وَقَوْلُ الْعَامَّةِ: شَافِعَوِيٌّ خَطَأٌ، وَهُوَ الْمُطَّلِبِيُّ الْحِجَازِيُّ الْمَكِّيُّ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ ﷺ، يَلْتَقِي مَعَهُ فِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَوَرْدَ خَبَرٌ («عَالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا») طُرُقُهُ مُتَمَاسِكَةٌ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ. وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَمِمَّنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَحْمَدُ، وَتَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وُلِدَ بِغَزَّةَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بِعَسْقَلَانَ، وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ: بِمِنًى، وَقِيلَ: بِالْبَحْرِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ اتِّفَاقًا، وَهِيَ سَنَةُ وَفَاةِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: وُلِدَ يَوْمَ مَوْتِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا التَّقْيِيدُ لَمْ أَجِدْهُ إِلَّا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَمَّا بِالْعَامِّ، فَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ التَّوَارِيخِ، وَنَشَأَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ فِي ضِيقِ عَيْشٍ بِحَيْثُ كَانَتْ لَا تَجِدُ أُجْرَةَ الْمُعَلِّمِ، وَكَانَ يُقَصِّرُ فِي تَعْلِيمِهِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَلَقَّفُ مَا يُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا ذَهَبَ عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ فَكَفَى الْمُعَلِّمَ أَمْرَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا لَوْ أَعْطَاهُ أُجْرَةً فَتَرَكَهَا، وَاسْتَمَرَّ حَتَّى تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ لِسَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ مُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ يَكْتُبُ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ فِي الْعِظَامِ، وَنَحْوِهَا، لِعَجْزِهِ عَنِ الْوَرَقِ، وَكَانَ يُؤْثِرُ الشِّعْرَ، وَالْأَدَبَ إِلَى أَنَّ تَمَثَّلَ بِبَيْتٍ، وَعِنْدَهُ كَاتِبُ أُسْتَاذِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ مُفْتِي مَكَّةَ، فَقَرَعَهُ بِسَوْطٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مِثْلُكَ يَذْهَبُ بِمُرُوءَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا! أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْفِقْهِ؟ ! فَهَزَّهُ ذَلِكَ إِلَى مُجَالَسَةِ مُسْلِمٍ، وَمِنْ أَشْعَارِهِ:
يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ حُبُّكُمُ ... فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْزَلَهُ
كَفَاكُمُ مِنْ عَظِيمِ الْقَدْرِ أَنَّكُمُ ... مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُمْ لَا صَلَاةَ لَهُ
ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَازَمَ مَالِكًا فَأَكْرَمَهُ، وَعَامَلَهُ لِنَسَبِهِ، وَعَلَّمَهُ، وَفَهَّمَهُ، وَأَدَّبَهُ، وَعَقَّلَهُ بِمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِمَا، وَكَانَ حَفِظَ الْمُوَطَّأَ بِمَكَّةَ لَمَّا أَرَادَ الرِّحْلَةَ إِلَى مَالِكٍ حِينَ سَمِعَ أَنَّهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَزِيدُهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ ; لِإِعْجَابِهِ بِهَا حَتَّى قَرَأَهُ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً لَمَّا تَفَرَّسَ فِيهِ النَّجَابَةَ، وَالْإِمَامَةَ: اتَّقِ اللَّهَ إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكَ شَأْنٌ، وَأُخْرَى إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَيْكَ نُورًا فَلَا تُطْفِئْهُ بِالْمَعْصِيَةِ ; قَالَ: فَمَا ارْتَكَبْتُ كَبِيرَةً قَطُّ. ثُمَّ بَعْدَ وَفَاةِ مَالِكٍ رَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْيَمَنِ، وَوَلِيَ بِهَا الْقَضَاءَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَجَدَّ فِي التَّحْصِيلِ، وَنَاظَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَغَيْرَهُ،
1 / 21
وَنَشَرَ عِلْمَ الْحَدِيثِ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَفَضْلُهُ إِلَى أَنْ مَلَأَ الْبِقَاعَ، وَالْأَسْمَاعَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مَدْحِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ اسْتَعَارَ مِنِّي كِتَابَ الْأَوْسَطِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَفِظَهُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَلَمَّا صَنَّفَ كِتَابَ الرِّسَالَةِ أُعْجِبَ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْسَانِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْخَوَارِقِ حَتَّى قَالَ الْمُزَنِيُّ: قَرَأْتُهُ خَمْسَمِائَةِ مَرَّةٍ مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَقَدِ اسْتَفَدْتُ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ أَكُنْ عَرَفْتُهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمَّا رَأَى اهْتِمَامَهُ بِنَصْرِ السُّنَّةِ. وَصَنَّفَ فِي الْعِرَاقِ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ الْمُسَمَّى بِالْحُجَّةِ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَصَنَّفَ كُتَبَهُ الْجَدِيدَةَ بِهَا، وَرَجَعَ عَنْ تِلْكَ، وَمَجْمُوعُهَا يَبْلُغُ مِائَةً وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مُصَنَّفًا، وَشَاعَ ذِكْرُهَا فِي الْبُلْدَانِ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْطَارِ لِلْأَخْذِ عَنْهُ، وَكَذَا أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ لِسَمَاعِ كُتُبِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ عَلَى بَابِ الرَّبِيعِ تِسْعُمِائَةِ رَاحِلَةٍ. وَابْتَكَرَ أُصُولَ الْفِقْهِ، وَكِتَابَ الْقَسَامَةِ، وَكِتَابَ الْجِزْيَةِ، وَكِتَابَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَكَانَ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ، وَأَذِنَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ مُفْتِي مَكَّةَ فِي الْإِفْتَاءِ بِهَا، وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرُبَّمَا أُوقِدَ لَهُ الْمِصْبَاحُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، وَلَمْ يُبْقِهِ دَائِمَ الْوَقُودِ. قَالَ ابْنُ أُخْتِهِ مِنْ أُمِّهِ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَجْلَى لِلْقُلُوبِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ، فَهُوَ مَذْهَبِي، وَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَانْفَرَدَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي غَيْرِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ كَلَامِهِ الدَّالِّ عَلَى إِخْلَاصِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّمَهُ النَّاسُ أُوْجَرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْمَدُونِي قَطُّ، وَوَدِدْتُ إِذَا مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ.
وَمِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ أَيْ: مَعَ الْعَمَلِ، وَمَا أَفْلَحَ فِي الْعِلْمِ إِلَّا مَنْ طَلَبَهُ فِي الذِّلَّةِ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَطْلُبُ الْقِرْطَاسَ فَيَعِزُّ عَلَيَّ، لَا يَتَعَلَّمُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمَلَكَةِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ، وَضِيقِ الْعَيْشِ أَفْلَحَ، تَفَقَّهْ قَبْلَ أَنْ تَرْأَسَ فَإِذَا تَرَأَّسْتَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَقُّهِ. زِينَةُ الْعِلْمِ الْوَرَعُ، وَالْحِلْمُ، لَا عَيْبَ فِي الْعُلَمَاءِ أَقَبَحُ مِنْ رَغْبَتِهِمْ فِيمَا زَهَّدَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَزُهْدِهِمْ فِيمَا رَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ. فَقْرُ الْعُلَمَاءِ فَقْرُ اخْتِيَارٍ وَفَقْرُ الْجُهَّالِ فَقْرُ اضْطِرَارٍ، النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ مِنْ سُورَةِ ﴿وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢] مَنْ لَمْ تُعِزَّهُ التَّقْوَى فَلَا تَقْوَى لَهُ، مَا فَرَغْتُ مِنَ الْعِلْمِ قَطُّ، طَلَبُ فُضُولِ الدُّنْيَا عُقُوبَةٌ عَاقَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ. مَنْ غَلَبَتْهُ شِدَّةُ الشَّهْوَةِ لِلدُّنْيَا لَزِمَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ لِأَهْلِهَا، وَمَنْ رَضِيَ بِالْقُنُوعِ زَالَ عَنْهُ الْخُضُوعُ، لَا يَعْرِفُ الرِّيَاءَ إِلَّا الْمُخْلِصُونَ، لَوِ اجْتَهَدْتَ كُلَّ الْجُهْدِ عَلَى أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَلَا سَبِيلَ لِذَلِكَ فَأَخْلِصْ عَمَلَكَ وَنِيَّتَكَ لِلَّهِ، لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِشَيْءٍ لَأَعْقَلِ النَّاسِ صُرِفَ لِلزُّهَّادِ، سِيَاسَةُ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ، الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَهُ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ مَذْمُومٍ، وَمَنْ نَمَّ لَكَ نَمَّ بِكَ، مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ، التَّوَاضُعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ، وَالتَّكَبُّرُ مِنْ شِيَمِ اللِّئَامِ. أَرْفَعُ النَّاسِ قَدْرًا مَنْ لَا يَرَى قَدْرَهُ. الشَّفَاعَاتُ زَكَاةُ الْمُرُوءَاتِ. مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَلَمْ يَفْتَقِرْ فَهُوَ لِصٌّ. لَا بَأْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ سَفِيهٌ يُسَافِهُ بِهِ. مُدَارَاةُ الْأَحْمَقِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. الِانْبِسَاطُ إِلَى النَّاسِ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالِانْفِرَادُ عَنْهُمْ مَكْسَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ فَكُنْ بَيْنَ الْمُنْقَبِضِ وَالْمُنْبَسِطِ، لَأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكَلَامِ فَإِنِّي وَاللَّهِ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا ظَنَنْتُهُ قَطُّ. وَكَانَ يَكْتُبُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يُصَلِّي ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنَامُ ثُلُثَهُ، وَيَخْتِمُ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً. أَقُولُ: لَعَلَّهُ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ. وَقَالَ: مَا كَذَبْتُ قَطُّ، وَلَا حَلَفْتُ بِاللَّهِ صَادِقًا، وَلَا كَاذِبًا، وَمَا تَرَكْتُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ قَطُّ، وَمَا شَبِعْتُ مُنْذُ سِتَّةَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا شِبْعَةً طَرَحْتُهَا مِنْ سَاعَتِي قَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، لَكِنْ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. وَكَانَ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي السَّخَاءِ، قَدِمَ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَمَا بَرِحَ مِنْ مَجْلِسِ سَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَّقَهَا كُلَّهَا، وَسَقَطَ سَوْطُهُ فَنَاوَلَهُ إِنْسَانٌ فَأَمَرَ غُلَامَهُ بِإِعْطَائِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَكَانَتْ سَبْعَةً، أَوْ تِسْعَةً، وَانْقَطَعَ
1 / 22