وفقك الله إلى الخير والبر، وعصمك من الشر والإثم، وهداك إلى الرشد المفضي بأهله إلى الجنة، ووقاك من الغي الموفي بأهله على النار، وحبب إليك الحق الذي يملأ العقل نورا وحكمة، وكره إليك الباطل الذي يملأ القلب غرورا وجهالة، وحملك على الجادة التي تنتهي بك في كل ما تعمل إلى خير ما تحب لأمير المؤمنين من نصح، ولرعيته من العافية، ولنفسك من النجح، وارتفاع الذكر، وبعد الصوت، وقهر العدو، والاستعلاء على الخصم.
فقد قال الله عز وجل:
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .
وصرف الله عنك سوء الظن، فإنه مفسد لصدق الإخاء مكدر لسريرة الصديق، منغص لذات النفس. وجعل الله موقع النصح الذي يقدمه إليك الصديق الحميم، والمشير الأمين؛ حلوا في سمعك، عذبا في قلبك، حبيبا إلى نفسك. فقد كان يقال لا يحسن بالوزير الناصح للملك، والمشير الأمين عند السلطان إلا يقبل نصح أوليائه إن رفعوه إليه، فإنه إن أساء الظن بالناس أساء الناس الظن به، وكان خليقا أن يسوء به ظن السلطان.
وحدثني بعض أصحابنا من علماء الهند أن بيدبا الفيلسوف كان يقول لدبشليم الملك: إن علمت أن في بعض وزارئك استبدادا في الرأي، واستكبارا على الإشارة، وازورارا عن نصح الناصحين؛ فاعلم أنه جدير ألا يصدقك الرأي، ولا يخلص لك في النصح، فليس بناصح لك من لا ينتصح، وليس بمخلص لك من يشك في إخلاص الناس له. ولا ينبغي أن تأمن من لا يأتمن الناس، ولا أن تطمئن لمن لا يطمئن إلى أحد.
وكتب أرسطاطاليس صاحب المنطق إلى الإسكندر: لا خير في الصديق إذا لم يؤثرك على نفسه، ولم يظهرك على دخيلة قلبه، ولم ينصح لك في الغيب والشهادة. ولا خير فيه إن أصفاك بكل ذلك، ولم يكن له صديق يقدم له من ذات نفسه مثل ما يقدم إليك. فإن الرجل الذي يصادق من فوقه من ذوي الدرجات، وأصحاب المكانة، ولا يصادق من دونه من الأولياء، والسوقة خليق أن يكون أثرا يحب نفسه، ولا يحب غيره، ويبتغي بما يقدم إليك من النصح والمشورة أن يستأثر بك من دون الأولياء، وأن يختص نفسه بما يجد عندك من معروف أو سلطان.
جعلت فداك، إنما أكتب إليك ما أكتب من هذه الحكمة، وأسوق إليك ما أسوق من هذه الأحاديث لأمر عرفته اليوم في الديوان، فضاقت به نفسي، وحزن له قلبي، وأشفقت عليك من عاقبته، وكرهت لك مغبته، وخشيت أن يتجاوز الديوان إلى مجالس الإشراف في قصورهم، والقواد في جنودهم، والعامة في أنديتهم ومجالسهم، فيتحدث الناس عنك بما لم يتحدثوا بمثله عن الوزراء من قبلك، وتقع في نفوسهم لك مهابة تقوم على الخوف والبغض ، ولا تقوم على المحبة والتجله، وشر ما يتعرض له أصحاب السلطان أن يهابهم الناس خوفا، ورهبا، وخير ما يتاح لأصحاب السلطان أن يهابهم الناس حبا، وإكبارا، وطمعا فيما عندهم من الخير، ورغبة فيما يجدون عندهم من البر، والمعروف.
وقد كان كاتبك الحسن بن وهب يتحدث إلى بعض أصفيائه، وأنا أسمع على غير علم منه بمكاني؛ بأن شعرا قد رفع إليك فيه عيب لك، ونقد لبعض عملك، فغضبت له، وضقت به، وأمرت بالبحث عن قائله لتذيقه غضبك، وتصب عليه عذابك، وتعلمه عاقبة طيشه، ومغبة استخفافه بالسلطان، واجترائه على الحكام. ثم لم يكفك ذلك، ولم يقنعك، فأمرت أعوانك من الكتاب، والعمال أن يتقدموا إلى أصحاب الشعر المنظوم، والكلام المنثور، وإلى ذوي الأقلام المشرعة، والألسنة المنطلقة ألا يذكروك فيما ينظمون من شعر أو يكتبون من نثر أو يديرون من حديث إلا بالخير، فإن جنح منهم عن ذلك جانح أو انحرف منهم عن ذلك منحرف فإن السجن له مهيأ، والعقاب له مرصد، والعذاب عليه محتوم. وهو خليق إن مسه الأذى، ونزلت به العقوبة ألا يذوق للعافية طعما، ولا يجد للحرية روحا، ولا ينعم بلقاء الأهل، ومودة الصديق، ونعمة الدعة، حتى يخرج من هذه الحياة ملوما مدحورا.
جعلت فداك، فإني لم أكد أسمع هذا الحديث يسره الحسن بن وهب إلى بعض خاصته، وذوي مودته فيبسم له حين يتحدث، ويبسمون له حين يستمعون إليه، وتظهر في وجهه ووجوههم آية الطاعة الساخرة، والرهبة المستخفة، حتى جزعت، وفزعت، وحتى ارتعت والتعت، وحتى أشفقت عليه من أمر تعرف موارده، وتوشك ألا تعرف مصادره، وتتبين أوله، وتوشك ألا تتبين آخره.
وهو بعد ذلك لم يتح لأحد من الناس منذ كانت هذه الأمة، وقامت هذه الدولة، واستقر سلطان المسلمين في يثرب أيام الخلفاء الراشدين، وفي دمشق أيام بني أمية، وفي بغداد أيام بني العباس.
अज्ञात पृष्ठ