وقال بعض الحكماء: إذا استطاع الرجل الحر ألا يدينه أحد بنعمة يسديها إليه أو صنيعة يصطنعها عنده فليفعل، فإن شكر النعمة شيء لا يطيقه إلا أولو العزم. وقال أزدشير: الدين على ضربين؛ أحدهما يمكن أداؤه في غير زيادة، ولا نقص، وهو دين المال الذي تقترضه من الذهب، والفضة، والعروض، والثاني لا سبيل إلى أدائه مهما تفعل، ومهما تبذل، وهو دين النعمة المسداة، والصنيعة المهداة؛ لأن المعاني لا تقوم بالثمن، ولا تحدد بالكيل والوزن والعدد. قال أبو إسحاق النظام: فإذا أديت إلى دائنك ما أقرضك من ذهب أو فضة أو عرض، فقد أديت أخف الدينين حملا، وأيسرهما مئونة، وبقى في عنقك دين آخر لن تؤديه إلا بالشكر المتصل، والوفاء الدائم، والثناء الذي لا ينقضي. والهزل في هذا الباب - جعلت فداك - متصل بالجد؛ فحياة الناس في جميع أبوابها، وألوانها قد وصل فيها الهزل بالجد، والحق بالباطل، والحزامة الصارمة بالدعابة الحلوة، والفكاهة المسلية.
وكان لنا صديق يعرف بأبي الرمل، لم أر أجمل منه وجها، ولا أحسن منه منظرا، ولا أحلى منه حديثا، ولا أزكى منه ذكاء، ولا أزكن منه زكانة، ولا أنفذ منه بصيرة، ولا أدق منه فطنة، ولا أصفى منه ذهنا، وكان مع ذلك من أكفر الناس للنعمة، وأجحدهم للصنيعة، وأنساهم للمعروف، وأعقهم للصديق، وأشدهم إنكارا لحق الولي، والتواء بدين المحسن إليه. وقد سمعني أيام كنت أملي على أصحابنا فصولا من كتاب الحيوان في الجن، والغول، وفي السعلاة، والعفاريت، وما قالت العرب في ذلك من الجد، والهزل، ومن الصدق، والكذب، ومن الصحيح، والمحال، فكان يظهر الرضى بما يسمع، والارتياح له. ثم افتقدناه أياما، فلما سألت عنه بعض أصحابنا أخبرت أنه مريض، قد ألزمته العلة داره، فرأيت عيادته علي حقا، وزيارته من بعض ما تفرضه العشرة المتصلة، والمخالطة الطويلة. فسعيت إليه مع أصحابنا، فلم أكد أراه حتى أنكرت من أمره كل شيء. فقد رأيت رجلا غيرته العلة، وأنهكه المرض، حتى ذهبت نضرته، وذوت زهرته، واستحال جماله قبحا قبيحا، وصار إلى شر ما كان يكره له الصديق، ويتمنى له العدو. فلما سألته عن أصل علته، قال: ويحك أبا عثمان عفا الله عنك - وما أراه يفعل - فأنت أصل علتي، ومصدر بلائي، وأنت الذي جر علي المحنة، وصب علي النقمة، وملأ قلب الصديق - وما أقلهم - علي إشفاقا، وأفعم قلب العدو - وما أكثرهم - بي شماتة، فلولا ما حدثتنا به من أخبار الجان، والعفاريت، والغيلان والسعالي لما أصابني شر، ولا نزل بي مكروه. قلت: وما ذاك أبا الرمل! قال لقد أطلت التفكير فيما سمعت منك، وأكثرت إعادته، والحفظ له حتى شغلت به عن كل لون من ألوان العلم، وعن كل ضرب من ضروب المعرفة، وعن كل فن من فنون الحكمة.
ودفعت ذات يوم إلى البادية لا أعرف لذلك سببا إلا إني كنت أحدث نفسي بأني قد ألقى فيها من الأعراب من يحدثني بمثل حديثك عن الجن، والغول. وإني لفي بعض الطريق في الصحراء، وقد ارتفع الضحى، وامتلأت الأرض حرا، ونورا، وترقرق الآل على الكثبان من بعيد ... وإذا امرأة تعرض لي لم أر أحسن منها حسنا، ولا أبرع منها جمالا، ولا أملح منها قدا، وقد اتخذت زي نساء البادية، وتزينت بزينتهن، فأسألها من هي فتنبئني ضاحكة بأنها هي التي خرجت ألتمس الحديث عنها. قلت مرتاعا: يا هذه، أوضحي ما تقولين، فإني لا أفهم عنك منذ اليوم! قالت: ألم تخرج ملتمسا لأنباء الغول متتبعا لأحاديثها؟ قلت: ومن أنبأك بذلك؟ قالت متضاحكة: ويحك أيها الرجل! ألم تعلم أننا نتصور فيما شاء الله من الصور، وأنا نخالط الناس فنسمع منهم، ونتحدث إليهم، ونشاركهم فيما يأتون، وما يدعون من الأمر، نراهم إن شئنا، ولا يروننا، ونسمعهم إن أحببنا، ولا يسمعوننا، ثم ننصرف عنهم إلى ديارنا، والأرض كلها لنا دار، فإني قد سمعت من صاحبك مثل ما سمعت من أخبارنا، وأحاديثنا، فأنكرت منه ما أنكرت، وعرفت منه ما عرفت ورأيتك بهذا الحديث معنيا، وله حافظا، وعليه مقبلا، فعلمت أنك قد خلقت للجن، والغول، ولم تخلق للناس الذين تعيش معهم، وتضطرب بينهم فلزمتك مصبحا وممسيا، ورافقتك غاديا ورائحا، وراقبتك يقظان ونائما، حتى إذا غدوت اليوم لما غدوت له رأيت أن قد بلغ الكتاب أجله، وانتهى أمرك إلى مدته، وآن أن تبلغ ما أنت ميسر له من عشرة الجن والغول، فتراءيت لك ثم أقبلت عليك، ثم إني لن أفارقك منذ اليوم، فستكون لي رفيقا، سواء أرضيت عن ذلك أم سخطت عليه.
وقد وليت عنها مدبرا، وعدت إلى داري مسرعا، ولكني لم أخط خطوة إلا رأيتها تخطو معي مثلها، وحديثها إلي متصل لا ينقطع، وإذا هي تلزمني لزوم الظل، وإذا هي تبلغ معي هذه الدار ، وتقوم بيني وبين أهلي وولدي، لا أقول لهم شيئا إلا ردته علي، ولا يقولون لي شيئا إلا ردت علي غيره، ثم هي تتشكل لي في أشكال مختلفة، وتتلون لي في ألوان متباينة، فإذا أحست مني إنكارا لبعض ما أرى من أمرها قالت بصوت كأنه صوت الشياطين:
فما تدوم على حال تكون بها
كما تلون في أثوابها الغول
قال أبو الرمل: فأنت كما ترى أصل علتي، والحق عليك أن تجد لي منها مخرجا، وتلتمس لي منها شفاء. ولم يكد يبلغ هذا الموضع من حديثه حتى ارتعنا جميعا، وأخذنا خوف أي خوف، فقد سمعنا صوتا يأتي من بعض نواحي الحجرة نسمعه، ولا نرى مصدره، وهو يقول: هيهات هيهات أبا الرمل لن يجد لك أبو عثمان من ضيقك مخرجا، ولن ينتهي بك من علتك إلى شفاء إلا أن تتغير نفسك فتصبح شاكرة للنعمة، عارفة للصنيعة، وهي قد فطرت على الكفر والجحود. وقد خرجنا من عند أبي الرمل، وليس منا إلا من يتلو:
قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس .
قلت لصاحبي: أجاد أنت في إضافة هذا الكلام إلى الجاحظ؟ قال، وهو يغرق في الضحك: ما أكثر ما أضاف الجاحظ إلى الناس ما لم يقولوا؛ فما يمنعني أن أضيف إليه ما لم يقل ...!
رسالة الأمر والنهي
अज्ञात पृष्ठ