١- إضاءة: والأشياء التي يقال فيها إنها خيرات وشرور أو يتوهم أنها كذلك منها أمور يشترك في معرفتها وإدراكها الخاصة والجمهور ومنها أمور ينفرد بإدراكها ومعرفتها الخاصة دون الجمهور_ وكانت علقة جل أغراض الناس وآرائهم بالأشياء التي اشترك الخاصة والجمهور في اعتقادهم أنها خير أو شر، وكان أحق تلك الأشياء بأن يميل الناس إليها أو ينفروا عنها الأشياء التي فطرت النفوس على استذاذها أو التألم منها أو حصل لها ذلك بالاعتياد، وجب أن تكون أعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان وكانت دواعي آرائه متوفرة عليه، وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليها أو النفور عنها أو من حصول ذلك إليها بالاعتياد، ووجب أن يكون ما لم تتوفر دواعي أغراض الإنسان عليه وما انفرد بإدراكه المكتسب الخاصة دون الجمهور غير عريق في الصناعة الشعرية بالنسبة إلى المقاصد المألوفة والمدارك الجمهورية.
٢- تنوير: فأما بالنظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه، ولا ميزة بين ما اشتدت علقته بالأغراض المألوفة وبين ما ليس له كبير علقة إذا كان التخييل في جميع ذلك على حد واحد، إذ المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك.
٣- إضاءة: ولنبين الآن الطرق التي بها تكون علقة المعاني بالأغراض المألوفة عند الجمهور أكيدة وكيف لا تكون علقتها بذلك متأكدة: فأقول: إن الأقاويل المخيلة لا تخلو من أن تكون المعاني المخيلة فيها مما يعرفه جمهور من يفهم لغتها ويتأثر له، أو مما يعرفه ولا يتأثر له، أو مما يتأثر له إذا عرفه، أو مما لا يعرفه ولا يتأثر له لو عرفه. وأحق هذه الأشياء بأن يستعمل في الأغراض المألوفة من طرق الشعر ما عرف وتؤثر له، أو كان مستعدا لأن يتأثر له إذا عرف وكان في قوة كل واحد من جمهور من جبلته في الفهم صالحة أن يتصور ذلك إذا عرف به وذلك كالأخبار التي يحيل عليها الشعراء.
٤- تنوير: وأحسن الأشياء التي تعرف ويتأثر لها أو يتأثر لها إذا عرفت هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها أو التألم منها أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم كالذكريات للعهود الحميدة المتصرمة التي توجد النفوس تلتذ بتخيلها وذكرها وتتألم من تقضيها وانصرامها. فإذن طرق الشعر إذا في ثلاث جهات: إما أن تكون مفرحة محضة يذكر فيها لقاء الأحبة في حال وجوده واجتلاء الروض والماء وما ناسبهما والتنغم بمواطن السرور ومجالس الأنس، وإما أن تكون (مفجعة) يذكر فيها التفرق والتوحش وما ناسب ذلك وبالجملة أضداد المعاني المفرحة المنعمة، وإما أن تذكر فيها مستطابات قد انصرمت فيلتذ لتخيلها ويتألم لفقدها فتكون طريقة شاجية. واستقصاء القول في هذا يجيء في القسم الرابع ولعلي أن أدرج أيضًا في هذا القسم فضل بيان لذلك.
٥- إضاءة: فما فطرت نفوس الجمهور على استشعار الفرح منه والحزن أو الشجو أو حصل لها ذلك بالعادة هو المعتمد في الأغراض المألوفة في الشعر والمبنى عليه طرقها. وما لم توجد نفوسهم مفطورة عليه من ذلك بما اعتادته فإنما تقع في الأغراض المألوفة بحسب التبعية لما كانت مفطورة عليه أو معتادة له. وذلك بأن يستدرج مما وجد في النفس بحسب الجبلة والعادة إلى ما وجد بالكسب والاستفادة. وتذكر هذه على أنها بعيدة عن التأثير. فلذلك لا يحسن إيراد مثل هذه الأقاويل في الأغراض المألوفة من الشعر ولا يحسن أن تحاكى الأشياء العريقة في الشعر التي اشترطنا فيها الشروط المتقدمة إلا بمثلها مما توجد فيه تلك الشروط.
1 / 5