والمجتمع العربي لا يفرق بين فنون جميلة أو رفيعة، وفنون ليست كذلك، ولا يفرق بين الفنان والصانع، قد يكون ما يصنع أنيقا أو ساذجا، يرضي الذوق أو لا يرضيه، وقد تكون مادة المصنوع معدنا نفيسا أو طينا، هذا ما كان يميز مصنوعا عن مصنوع آخر، ولكنهم كانوا لا يعرفون التمييز الذي نعرفه في الوقت الحاضر، التمييز الذي يقوم على إنتاج أشياء لمجرد الرمز أو لمجرد النظر أو لمجرد التعبير عن خاطر أو ما إلى ذلك، وإنتاج أشياء هي أدوات العيش.
ومن أجل ذلك لا نجد الفن العربي موضوعا يشتغل به النقاد، يعرضون قضاياه الفلسفية، ويبسطون آراءهم في معاييره ومقاييسه، مثلما فعلوا في الصناعتين - النظم والنثر - ولا يتحدثون في الفن إلا حينما يعرضون للحلال والحرام، للمباح والمحظور والمكروه، أو لآداب الحياة الاجتماعية، أو لشئون الصناع وأهل الحرف في المدن وهكذا، وبذلك خلا تاريخ الفن العربي من تعقيد أصاب غيره من أدوات التعبير، وانطلق أداة حرة.
لقد وصفته بالعربي: أكان كذلك؟ أيهما الأصح، الإسلامي أو العربي؟ سؤال يتكرر في مواضع أخرى، ومنذ سنوات غيروا رسميا اسم دار الآثار العربية، وجعلوه دار الفن الإسلامي، ما وجه الحق في ذلك؟ والذين غيروا اسم دار الآثار العربية قالوا: إن الفن كان فن الشعوب الإسلامية عربية وغير عربية، فالإسلامي إذن وصف أعم وأصدق، ونفس الشبهة تقع عند تسمية الفلسفة أو العلم، فما الرأي؟ لا أرى إشكالا كبيرا، فإنك تقول العلوم الإسلامية إذا أردت الدين، وتقول العلوم العربية إذا أردت علوم اللغة العربية، أو إذا أردت طورا عربيا من أطوار التاريخ والعلم عموما؛ أي تاريخ منحى معين من مناحي الفكر الإنساني، معبر عنه باللغة العربية بصرف النظر عن المشتغلين به.
وقد عرف كذلك في التواريخ التي صنفها الأوروبيون لتاريخ العلم عموما، والفلسفة لا جدال في تسميتها بالإسلامية، فكذلك سماها الذين اشتغلوا بها من العرب وغير العرب، من المسلمين ومن اللاإسلاميين.
وأما الفن، فلا جدال في عظم تأثير العقيدة والمثل العليا في تشكيله، ولا جدال في أن ذلك التأثير أسبغ على الفن في مختلف بلاد المسلمين لونا من الوحدة عظيم الشأن، ومع ذلك فيوجد في التعبير الفني في مختلف تلك البلاد قدرا من الاختلاف، يبرر كل التبرير أن نتكلم عن الفن العربي، والفن الإيراني، والفن الهندي، وهكذا، بل يوجد في الحياة الفنية العربية بالذات في مختلف أقاليم العالم العربي ما يوجب الاهتمام بمظاهره الإقليمية في العراق، أو في مصر وسوريا، أو في الأندلس والمغرب.
تتصل قضية الأمم أو الوصف على هذا النحو بقضية أساسية من قضايا التاريخ العربي: الوحدة والإقليمية ، لا جدال - كما قلت - في أن العقيدة أكسبت الفن ذلك القدر من الوحدة، الذي حدا ببعض العلماء إلى تفضيل وصفه بالإسلامي، فعلى أي وجه كان تأثير العقيدة؟ كان ذلك عن طريق إسلام الوجه لله، وعن طريق الابتكار الفني مظنة محاكاة الخلق - وإسلام الوجه لله وحده يجنب المخلوق الترفع، ويحتم عليه معرفة قدر نفسه، فالتواضع أخلق به - وقد ترتب على التزام التواضع في اختيار مادة المصنوع، الآجر للبناء، الجص للزخرفة: الفخار أو النحاس أو الزجاج للآنية، والطريف أن زيادة الغنى واكتساب عادات المترفين أدى إلى أسلوب من الفن يجمع بين تواضع الأساس، ومقتضيات الرفاهية والتنعيم، فيبقى الفخار ولكن تكسوه طبقة من المعدن البراق، بقي النحاس ولكنه يذهب أو يفضض، يبقى الآجر مادة البناء ولكن يكسوه القيشاني الخلاب أو الفسيفساء الباهرة، وهكذا الزجاج الموشى بالمينا أو النحاس أو الخشب المطعم، وأما عن تجنبه مظنة محاكاة الخلق فآثاره معروفة، إحالة المجسات مسطحات، إحالة الحيوانات أزهارا، المنحنيات مستقيمات والمستقيمات منحنيات، قطع الصلة بين السبب والمسبب.
وأما عن المثل العليا، وما كان من أثرها، فواضح أنها كسبت الصناعة والعاملين فيها شرفا ونبلا، ويكفي في هذا أن نذكر كيف كان الأنبياء يكسبون رزقهم من عمل أيديهم صناعا، وانتشار الخط العربي كان أيضا عاملا من عوامل وحدة الفن، هو في ذاته فن عمل فيه المسلمون جميعا ما شاء لهم حبهم له وإعجابهم به، وهو أيضا أساس من عناصر الزخرفة، لا يقتصر انتشاره على أقطار العالم الإسلامي، ولكن انتقل إلى الأقطار الأوربية، فاستخدمه الصناع فيها لأغراض الزخرفة، دون أن تؤدي الحروف أو الكلمات كلاما مفيدا، وهكذا كانت قضية وحدة الفن.
وأما قضية إقليميته: فإنها ترجع لأسباب ندرجها في الكلام على ثلاث مسائل: المسألة الأولى: نوع الفن السائد في أقاليم الدولة العربية، المسألة الثانية: تطور الفن في المجتمع العربي الذي تكون في تلك الأقاليم، والمسألة الثالثة: مصير هذا الفن العربي.
أبدأ بنوع الفن السائد في أقاليم الدولة العربية عند الفتح: كان فن الآثار الضخمة الشامخة التي خلفها المصريون القدماء ، أو البابليون، أو الآشوريون وأمثالهم، آثارا ضخمة شامخة حقا، لا يمكن إلا معاينتها، ولكن لم يزد الأمر عن المعاينة والتعجب.
أما فنون العمارة والزخرفة، فهي الفنون اليونانية الرومية في طورها المسيحي، مطعمة في أقدار متباينة بالفن الساساني، وأما الفنون الصغرى، فهذه تتنوع بطبيعة الحال بتنوع البيئات من إقليم إلى إقليم، وظاهر أن مادة الفن يتخذها الناس في الأغلب مما يكون في متناول أيديهم، وظاهر كذلك أن الأساليب تتنوع طبقا لحاجات الناس، وهذه الحاجات هي مما تمليه ظروف المناخ وما يتصل به، مثال ذلك الفنون المنزلية الخاصة بالأثاث والآنية والفنون الشخصية الكساء ... إلخ.
अज्ञात पृष्ठ