هذا وقد عبروا عن الفرق بين الحسبة والقضاء أجمل تعبير، قالوا: إن للناظر في الحسبة من سلاطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاء؛ لأن الحسبة موضوعة للرهبنة، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالوقار أحق، وعلى هذا فبين الحسبة والنظر في المظالم شبه من حيث إن موضوعهما مستقر على الرهبنة المختصة بسلاطة السلطة وقوة الصرامة، ومن حيث جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح والتطلع إلى انكسار العدوان الظاهر، والفرق بينهما أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاء، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة.
والقاضي - لا المحتسب - ينظر في الحقوق التي يتداخلها التجاهد والتناكر؛ لأن الحاكم في هذه يقف على سماع بين وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينا على نفي الحق.
وقد استقر الأمر في المدن العربية على أن يجمع القاضي على الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين؛ مثل النظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقاتهم، وتزويج الأيامى عند الأولياء على رأي من رآه، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والحق؛ ليحصل له الوثوق بهم، وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته ونوابغ ولايته.
وأما النظر في المظالم فكانت وظيفته ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة، ومن الخلفاء من باشرها بنفسه، ومنهم من أضافها للقضاء، كما أن منهم من جعلها لصاحب الشرطة، ثم جعلت فيما بعد في يد من عرف بالوالي، وهي في خلال هذه الأطوار فيها توسع عن أحكام القضاء، وأصبح فيها للتهمة في الحكمة مجال، وأصبحت تفوق العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويحكم فيها - كما قالوا - بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية.
وبعد؛ فهذا وصف موجز لحكومة المدينة العربية في ماضيها الطويل، فما هي كلمة الحق في أمرها ... لا جدال في أنها حققت الخير للناس، وبدأت المدينة العربية مكانا عظيما وذكرا حسنا، ولا جدال في أن قضاتها أقاموا بأحكامهم صرحا للعدالة جليل الشأن، وأنهم عرفوا كيف يصونون الحقوق، ويتوخون المصالح العامة.
ولا جدال في أن محتسبيها صحوا المستهلك، أي مجموع الناس، وضربوا على أيدي المطففين والغشاشين والمدلسين والخائنين، ولا جدال في أن الناظرين في المظالم حفظوا الأمن وصانوه، لا جدال في هذا كله، ولكن للصورة جانب آخر، كما يقولون، فهذا المحتسب قد يجاوز حدود المصلحة، وقد ينتهي به الأمر إلى إرهاق الناس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولنا أن نسأل: أكان من المستطاع دائما أن يكون للمدينة محتسب يعرف من أسرار الطب وطرائق المعلمين والصناع ما يمكنه من أداء عمله على الوجه المعقول؟
وهذا الناظر في المظالم لا نستطيع إلا أن نقول عنه: إنه صان الأمن بالإرهاب، لا بإنفاذ القانون، وربما جاز لنا أن نقول: إن الناظرين في المظالم على تنوع أسمائهم هؤلاء أساءوا إلى الحياة الإسلامية كما عرفها التاريخ أكبر إساءة، وكانوا أسوأ من هدر الحقوق وهدم القانون وضيع الكرامات الإنسانية.
والمدينة العربية لم تملك أداة واحدة وهيئة واحدة للإشراف على مصالحها ومرافقها، كما تملك الآن في مجالسها البلدية، كما أنها لم تملك طرائق منتظمة للرقابة على أصحاب الوظائف فيها، أو للانتصاف من جورهم وتعسفهم، وجملة القول أن حكومة المدينة العربية افترضت ثبات الظروف المادية والمعنوية، افترضت عدم النمو وعدم التغيير، فإذا ما عرض لها عارض من قحط أو وباء أو تغلب عدو انهارت انهيارا تاما، على أن تاريخها ترك لنا في الوقت نفسه فصولا مجيدة من السعي للخير وفعله، من حفظ الدين وسياسة الدنيا، ومن قدر لا يستهان به من التوفيق بين سعادة الفرد ومصلحة الجماعة.
الفصل الثاني
अज्ञात पृष्ठ