بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إذا وجد المختصون في علم ما فائدة ومتعة حين يخلون بأنفسهم إلى تراجم من سبقهم في هذا العلم، فإن متعتهم بتاريخ العلم نفسه أحفل وأعظم.
إننا نثني عادة على من يؤلف كتابا في حياة عالم، إذ يتيح لنا أن نعايشه فنعاين جده ودأبه، ونلذ نضاله لكشف الغامض ودفع العلم إلى الأمام ولو خطوة، ونجد الأسوة في استهانته بالعراقيل والمعوقات، ووقوفه للزمان والحساد والخصوم والجاهلين، وإن في حياة كل عالم من هذا لنصيبا؛
لذلك نشكر لهذا المؤلف ما يسر لنا من لذائذ سامية.
لكن المسهم في تاريخ العلم لا يحصل على الشكر والثناء في وقت قصير، وقد يقتضيه سطر واحد يخطه في تاريخ العلم من الجهد وطول العمل ما لم يعانه المؤلف الأول في مجلد. ومن ظن أن حياة باحث تفي بتاريخ علم فقد ظن باطلا، إنما يتم ذلك بتضافر جهود الباحثين في أجيال متلاحقة: يتسلم كل جيل تراث من قبله ويعمل في دأب وروية ليتقدم به قليلا أو كثيرا. وموضوعنا في هذه الدراسة: من تاريخ النحو العربي.
وبعد، فماذا يراد من كلمة "مذهب" أو "مدرسة" حين يقال في علوم اللغة العربية: مذهب البصريين أو مدرسة الكوفيين؟
1 / 3
إن نظرة فاحصة في دراسات المحدثين تقودنا إلى الشك في بعض ما عدوه من المسلمات انسحابا على أذيال بعض القدماء ممن تكلم في النحو والنحاة.
لقد أدار هؤلاء التصنيف على البلدان فقالوا: "نحاة الكوفة" و"نحاة البصرة" و"نحاة بغداد" حين ألفوا في الطبقات. فساق هذا -مع تساهل كبير- إلى أن قيل فيما بعد: "مذهب البصريين" و"مذهب الكوفيين" و"مذهب البغداديين".
وقد حان الوقت لتصحيح هذه التسمية، فالأقدمون ومن تأثر بنظرتهم من المحدثين جعلوا البصريين أهل القياس؛ لأن من ضبطه منهم كثيرون جدا ولهم فيه عناية بالغة، على حين عدوا الكوفيين أهل سماع؛ لأنهم سجلوا كل ما سمعوا، وأراغوا القياس عليه فلم يحكموه إحكام الأولين وإن أربوا عليهم في السماع مقدارا لا ضبطا وجودة.
هذه الصفحات محاولة في وضع الأمور في نصابها حيال ما يسمى بالمدارس أو بالمذاهب النحوية من جهة، ووقفة تاريخية فاحصة متروية عند نشأة هذا الفن من جهة أخرى.
والفن أو العلم كائن حي يخضع لما يخضع له الأحياء من سنن الحياة: يبدأ جنينا فرضيعا فطفلا فيافعا ففتى فشابا ...
وحول نشأة النحو بعض غموض اجتهدت في جلائه بما لدي من أضواء، ممتحنا الأخبار والروايات، متحريا فيها ما يشبه الحق وطبيعة الأشياء؛ حتى إذا اطمأننت إلى نتيجة أثبتها بعد امتحانها، ضاربا صفحا عن سطحيات وعناوين وتهاويل كثيرة يسميها أصحابها دراسات، الموضوع منها والمترجم سواء.
ورأيت أن ألحق بهذه الدراسة نصوصا مختارة لستة مؤلفين عظام في هذا الفن، تقوم كتبهم معالم في طريقه الطويلة، مع موجز من تراجمهم كما
1 / 4
وردت في "بغية الوعاة" للسيوطي مع اختصار أحيانا، وتعريف يسير بكتبهم التي اخترنا منها نصا أو أكثر١، بحيث تتبين للمطالع ملامح واضحة من الطريق الذي شقه النحو على مدى العصور. وسيعجب القارئ حين يرى أنه بدأ بقمة شامخة هي كتاب سيبويه، ثم أخذ ينحدر مع الزمان ...
ظاهرة غريبة لا أعرف لها مثيلا في تاريخ العلوم والفنون.
ولئن أسعف هذا الملحق من يبتغي النظرة العجلى، فإنه لن يغني بحال عن الدراسة الشخصية المتوسعة المتأنية التي يجب أن يقوم بها مستقلا الباحث أو الطالب الجامعى: إمعان في الآثار وتأن في استنباط النتائج، وصبر على ما يتطلبه البحث من جهد ووقت.
والله المسئول أن يأخذ بأيدينا ويسدد خطانا في خدمة العلم الخالص، متعلمين ومعلمين.
بيروت: الجامعة اللبنانية "قسم اللغة العربية"
سعيد الأفغاني
_________
١ مراعين في اختيارها حاجة الدارسين في شهادة "فقه اللغة العربية" في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.
1 / 5
توطئة تاريخية
مدخل
...
توطئة تاريخية:
جاء الإسلام واللغة العربية مستكملة أدوات التعبير، ولها تراث أدبي حافل مفصح عن شتى المشاعر الوجدانية والاجتماعية، قد اتفقت الكلمة على الاعتداد بهذا التراث والإعجاب به منذ عصر الجاهلية حتى اليوم.
والعرب أمة فصاحة وبلاغة تتأثر بالبيان الرفيع والجملة الوجيزة الموحية، وكانت أسواق العرب في جاهليتها قد قامت بالاصطفاء من لغات القبائل١، وأخذ الشعراء والبلغاء أنفسهم بما أجمعوا على استحسانه منها حتى تنافسوا في ذلك وأصبحت هذه اللغة المصطفاة هي المتفق على التعبير بها عما يخالج النفوس من أغراض وأحاسيس. وصرنا نسمع شبه هذا الإجماع على سلامة لغة قبائل الجزيرة والطعن بلغات أهل السواحل؛ لمخالطتهم الأجانب في الأسفار والتجارات.
_________
١ انظر في كتابنا "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" فصل سوق عكاظ.
1 / 7
فلما كانت الفتوحات واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب التي كانت تحت سيطرة الفرس والبيزنطيين والأحباش، ودخول كثير من هؤلاء في الإسلام، واضطرارهم إلى تعلم ما استطاعوا من العربية، وكان بين العرب الفاتحين وهؤلاء الشعوب اختلاط وأخذ وعطاء، تسرب الفساد إلى لغة كثير من العرب وبدأ يسمع لحن في التخاطب، قليلا في الأول ثم أخذ في الانتشار حتى لفت إليه أنظار المسئولين وغيرهم من أهل الحل والعقد.
يعتبر اللحن الباعث الأول على تدوين اللغة وجمعها وعلى استنباط قواعد النحو وتصنيفها؛ فقد كانت حوادثه المتتابعة نذير الخطر الذي هب على صوته أولو الغيرة على العربية والإسلام، ولا بأس من عرض تاريخي سريع لبعض أحداثه المتتابعة:
بوادر اللحن: بدأ اللحن قليلا خفيفا منذ أيام الرسول على ما يظهر، فقد لحن رجل بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم؛ فإنه قد ضل" ١ والظاهر أيضا أنه كان معروفا بهذا الاسم نفسه "اللحن" بدليل أن السيوطي روى عن رسول الله ﷺ قوله: "أنا من قريش ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن"٢ وقد كان أبو بكر _________ ١ الخصائص لابن جني ٢/ ٨ "مطبعة دار الكتب المصرية ١٩٥٠". وروي في إرشاد الأريب عن عبد الله بن مسعود ١/ ٨٢. ٢ المزهر للسيوطي ٢/ ٣٩٧ طبعة "دار إحياء الكتب العربية، القاهرة "بعناية محمد أحمد جاد المولى ورفيقيه"، ورواه السيوطي في الجامع الصغير عن الطبراني، وقد ضعفه المحدثون.
بوادر اللحن: بدأ اللحن قليلا خفيفا منذ أيام الرسول على ما يظهر، فقد لحن رجل بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم؛ فإنه قد ضل" ١ والظاهر أيضا أنه كان معروفا بهذا الاسم نفسه "اللحن" بدليل أن السيوطي روى عن رسول الله ﷺ قوله: "أنا من قريش ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن"٢ وقد كان أبو بكر _________ ١ الخصائص لابن جني ٢/ ٨ "مطبعة دار الكتب المصرية ١٩٥٠". وروي في إرشاد الأريب عن عبد الله بن مسعود ١/ ٨٢. ٢ المزهر للسيوطي ٢/ ٣٩٧ طبعة "دار إحياء الكتب العربية، القاهرة "بعناية محمد أحمد جاد المولى ورفيقيه"، ورواه السيوطي في الجامع الصغير عن الطبراني، وقد ضعفه المحدثون.
1 / 8
الصديق يقول: "لأن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن".
فإذا بلغنا عهد عمر رأينا المصادر تثبت عددا من حوادث اللحن. فتذكر أن١ عمر مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: "إنا قوم متعلمين" فأعرض مغضبا وقال: "والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم" سمعت رسول الله ﷺ يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه" وورد إلى عمر كتاب أوله: "من أبو موسى الأشعري" فكتب عمر لأبي موسى بضرب الكاتب٢ سوطا. والأنكى من ذلك تسرب اللحن إلى قراءة الناس للقرآن، فقد قدم أعرابي في خلافة عمر فقال: "من يقرئني شيئا مما أنزل على محمد؟ " فأقرأه رجل سورة براءة بهذا اللحن:
"وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ ... "٣ فقال الأعرابي: "إن يكن الله بريئا من رسوله، فأنا أبرأ منه" فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ... وقص القصة فقال عمر: "ليس هكذا يا أعرابي" فقال: "كيف هي يا أمير المؤمنين؟ " فقال: ﴿أن اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ فقال الأعرابي: "وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله
_________
١ إرشاد الأريب ١/ ٦٧ مطبوعات دار المأمون، والأضداد لابن الأنباري ص٢٤٤ طبع حكومة الكويت.
٢ هو أبو الحصين بن أبي الحر العنبري كما في وفيات الأعيان "٥/ ٩٩"، وكان أبو موسى قد استكتبه بعد زياد.
٣ سورة التوبة ٩/ ٣.
1 / 9
منهم". فأمر عمر ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة١. ولعمر تنسب تلك المقولة المأثورة: "تعلموا العربية؛ فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة"٢.
ومر عمر برجلين يرميان فقال أحدهما للآخر: "أسبت" فقال عمر: "سوء اللحن أشد من سوء الرمي"٣ فجعل إبدال الصاد سينا من اللحن.
وتكاد قصة بنت أبي الأسود تكون المعْلم المشهور في تاريخ النحو: فقد دخل عليها أبوها في وقدة الحر بالبصرة فقالت له: "يا أبت، ما أشدُّ الحر! " رفعت "أشد" فظنها تسأله وتستفهم منه: أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: "شهرا ناجر".
فقالت: "يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك"٤.
_________
١ نزهة الألباء ص٧، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ٧/ ١١٠ مطبعة الترقي بدمشق ١٣٥١هـ، وانظر الخصائص لابن جني ٢/ ٨ وعيون الأخبار، وانظر مراتب النحويين ص١٨. هذا وروايات اللحن في هذه الآية لا تتفق على وتيرة، فمنها ما يجعل هذه القصة في زمن زياد، وأن زيادا هو الذي طلب من أبي الأسود وضع شيء يقيم عوج الألسنة اللاحنة، فأبى أبو الأسود، فبعث زياد رجلا يقعد له بطريقه، وأمره أن يقرأ شيئا من القرآن ويتعمد اللحن، فقرأ: ".. أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ.." بالجر، فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: "عز وجه الله، إن الله لا يبرأ من رسوله" ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: "يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت". انظر كتاب "الف باء" للبلوي ١/ ٤٦، ولا يبعد الجمع بين الروايات.
٢ إرشاد الأريب ١/ ٧٧ وفي ص"٧٨" أن الزهري كان يقول: "ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من تعلم النحو". هذا وقد زعموا أن عمر بن الخطاب كان يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ "ص٧٩" وأن ابنه عبد الله كذلك "ص٨٩".
٣ البخاري في "الأدب المفرد" ص٢٢٧.
٤ وتتمة الخبر في الأغاني للأصفهاني "١١/ ١٠١": أنه دخل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم، وأوشك أن تطاول عليها زمان أن تضمحل" وأخبره خبر ابنته ... فأملى عليه: إن الكلام كله =
1 / 10
ونتقدم خطوة في الزمن فيقص علينا ابن قتيبة أن رجلا دخل على زياد فقال له: "إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا" فقال زياد: "ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من مالك"، وأن أعرابيا سمع مؤذنا يقول: "أشهد أن محمدا رسولُ الله" فقال: "ويحك، يفعل ماذا؟ "١.
وأن أعرابيا دخل السوق "فسمعهم يلحنون فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح! "٢.
وروى الجاحظ أن "أول لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي "بدل عصاي" وأول لحن سمع بالعراق: حيِّ على الفلاح "بكسر الياء بدل فتحها""٢.
ثم شاع في العصر الأموي حتى تطرق إلى البلغاء من الخلفاء والأمراء كعبد الملك والحجاج، والناس يومئذ تتعاير به، وكان مما يسقط الرجل في المجتمع أن يلحن، حتى قال عبد الملك وقد قيل له: "أسرع إليك الشيب": "شيبني ارتقاء المنابر مخافة اللحن"٣. وكان يقول: "إن الرجل يسألني الحاجة فتستجيب
_________
= لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، وهذا القول أول كتاب سيبويه. ثم رسم أصول النحو كلها فنقلها النحويون وفرعوها. ا. هـ قلت: هذه إحدى روايات مشهورة في أولية النحو، وبعد صفحة نجد أبا الفرج يروي عن ابن أبي الأسود قوله: "أول باب وضعته في النحو: التعجب".
وفي الحادث الذي حفز أبا الأسود على وضع ما وضع روايات عدة، قد يأتي بعضها في بحث الخلاف، وانظر واحدة يرويها الزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين ص١٥ وفي النفس شيء من نسبة الأولية في وضع النحو، وسائر العلوم لعلي بن أبي طالب.
١ عيون الأخبار ٢/ ١٥٩، ومر أبو عمرو بن العلاء بالبصرة فإذا أعدال مطروحة مكتوب عليها: "لأبو فلان" فقال: "يا رب يلحنون، ويرزقون" إنباه الرواة ٢/ ٣١٩.
٢ البيان والتبيين ٢/ ٢١٩.
٣ مخطوطة الظاهرية من تاريخ دمشق لابن عساكر رقم ٢٢ تاريخ ج٥ الورقة ٤٩٠/ ١.
1 / 11
نفسي له بها، فإذا لحن انصرفت نفسي عنها"١ وكان يرى اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس٢.
والحجاج على أنه من الخطباء الأبيناء البلغاء، كان في طبعه تقزز من اللحن أن يقع منه أو من غيره، فإذا وقع منه حرص على ستره وإبعاد من اطلع عليه منه، ذكروا أنه سأل يحيى بن يعمر الليثي: "أتسمعني ألحن على المنبر؟ " فقال يحيى: "الأمير أفصح الناس إلا أنه لم يكن يروي الشعر" قال: "أتسمعني ألحن حرفا؟ " قال: "نعم، في آي القرآن" قال: "فذاك أشنع؛ وما هو؟ " قال تقول:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...﴾ ٣ تقرؤها "أحبُّ" بالرفع، فأنف الحجاج أن يطلع له رجل على لحن، فبعث به إلى خراسان٤. وكان الحجاح يعجب بفصاحة يحيى هذا فسأله يوما: "أخبرني عن عنبسة بن سعيد: أيلحن؟ " قال: "كثيرا" قال: "أفأنا ألحن؟ " قال: "لحنا خفيفا" قال: "كيف ذلك؟ " قال: تجعل "أن، إن" و"إن، أن" ونحو ذلك. قال: "لا تساكني ببلد، اخرج"٤، وكان الرجل إذا أراد أن يفلت من عمل
_________
١ من رسالة للجاحظ في صناعة القواد، ص٢٦٠ "رسائل الجاحظ" جمع السندوبي.
٢ عيون الأخبار ٢/ ١٥٨، ومن قول ابنه مسلمة: "اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه".
٣ سورة التوبة ٩/ ٢٤.
٤ تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ٤/ ٦٥ "روضة الشام ١٣٣٢هـ" وطبقات النحويين واللغويين ص٥.
ذكر ابن قتيبة: أن الحجاج أمَّ قوما فقرأ ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ وقرأ في آخرها: =
1 / 12
للحجاج عاذ باللحن فنجا١.
وهؤلاء تطرق إليهم قليل من اللحن لبعدهم عن قومهم في الجزيرة، مع أنهم نشئوا فيها وترعرعوا واكتهلوا، فلما كان من بعدهم عظم فشو اللحن فيهم حتى كان من أعظم المصائب في نفس عبد الملك أن ابنه الوليد لَحَّانة، وأنه أخذه بتعلم العربية فلم يفلح. ونقلوا عن عبد العزيز بن مروان الأمير الأموي المعروف وهو أخو عبد الملك لحنا، على أن عبد العزيز هذا وهو من أفصح الناس كان يعطي على العربية ويحرم على اللحن، حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة من قريش فجعل يقول للرجل منهم: "من أنت؟ " فيقول: "من بني فلان" فيقول للكاتب: "أعطه مائتي دينار" حتى جاءه رجل من بني عبد الدار فقال: "من أنت؟ " فقال: "من بنو عبد الدار" فقال: "تجدها من جائزتك" وقال لكاتبه: أعطه
_________
= "أن ربهم بهم يومئذ خبير" بفتح همزة "أن" ثم تنبه على اللام في ﴿لَخَبِيرٌ﴾ وأن "أن" قبلها لا تكون إلا مكسورة، فحذف اللام من ﴿لَخَبِيرٌ﴾ فقرأ: "أن ربهم بهم يومئذ خبير" عيون الأخبار ٢/ ١٦٠. ومع هذا فقد روي عن الأصمعي قوله: أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي وعبد الملك والحجاج بن يوسف وابن القرية، والحجاج أفضلهم. أمالي الزجاجي ص١٥.
١ في إرشاد الأريب "١/ ٨٧": بعث الحجاج إلى والي البصرة: أن اختر لي عشرة ممن عندك، فاختار رجالا منهم كثير بن أبي كثير وكان رجلا عربيا، قال كثير: فقلت في نفسي: "لا أفلت من الحجاج إلا باللحن". فلما أدخلنا عليه دعاني فقال: "ما اسمك؟ " قلت: "كثير" قال: "ابن من؟ " فقلت: "ابن أبا كثير" فقال: "عليك لعنة الله وعلى من بعث بك، جئوا في قفاه" فأخرجت.
1 / 13
مائة دينار"١.
وقال عمر بن عبد العزيز: "إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكملني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب فأجيبه إليها؛ التذاذا لما أسمع من كلامه". وكان يقول: "أكاد أضرس إذا سمعت اللحن".
"الأضداد لابن الأنباري ص٢٤٥".
وهذا معاوية بن بجير والي البصرة تشغله لحنة الناعي عن مصيبته بأبيه، فيقدم إنكارها.
_________
١ تاريخ دمشق لابن عساكر "مخطوطة الظاهرية رقم ٢٢ تاريخ ج٥ الورقة ١٥٠/ ١".
هذا ومن المقيد ذكر الباعث على عناية عبد العزيز بن مروان بالعربية، فقد روى ابن عساكر قبل هذا الخبر أنه "دخل على عبد العزيز رجل يشكو صهرا له فقال: "إن ختني فعل بي كذا وكذا" فقال له عبد العزيز: "من ختنَك؟ " فقال له: "ختنني الختان الذي يختن الناس" فقال عبد العزيز لكاتبه: "ويحك، بم أجابني؟ " فقال له: "أيها الأمير، إنك لحنتَ وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقول له: "ومن ختنُك؟ " فقال عبد العزيز: أراني أتكلم بكلام لا يعرفه العرب، لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن، فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية، فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس". ا. هـ. قلت: تروى هذه اللحنة للوليد بن عبد الملك. انظر ص١٤٣ من "نقد النثر" المنسوب لقدامة "مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ١٣٥٩هـ". خزانة الأدب ٣/ ٥٨٣.
وانظر في لحنه أيضا البيان والتبيين للجاحظ "٢/ ٢٠٤" فما بعد "مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ١٣٦٨".
أما أمر الوليد الذي مر آنفا فقد أهمّ عبد الملك، حتى أفضى بذات نفسه يوما إلى روح بن زنباع قائلا:
"يا أبا زرعة، قد غلبني الوليد باللحن، وسأظهر العشية كآبة فسلني عنها ودعني والوليد" فلما أذن العشاء أظهر كآبة وعنده لوليد وسليمان وروح، فقال له روح: "ما هذه الكآبة يا أمير المؤمنين، لا يسوءك "الله" ولا يريك مكروها؟! " قال: ذكرت ما في عنقي من أمر هذه الأمة، وإلى من أصير أمرها بعدي! قال له روح: يغفر الله لك يا أمير =
1 / 14
فأنت تجد مما تقدم أن الخوف على العربية له ما يفرضه من النُّذُر، وأنه تمكن في النفوس حتى تضافرت جهود العلماء وذوي السلطان على صيانة العربية، وأن الحرمان من المال أو العمل مما كان يصيب اللحانة، وأن فصاحة المرء قد ترفعه إلى الولايات والغنى، وتزيد شأنه عند أولي الأمر؛ وهذا من طرف السلطان كافٍ في الترغيب والترهيب. وسؤال الحجاج عن لحن بعض الناس ذوي الشأن مشعر باهتمام الحكومة والمجتمع بأمر اللحن، وذلك طبيعي من دولة قامت على العصبية العربية بعد أن رأت اللحن يفشو في الطبقات الرفيعة من الأمراء والحكام وأشراف الناس، وفي قصة بشكست النحوي تعبير واضح عن أمرين: فشو اللحن ونظرة المثقفين إليه، ولا بأس في إيرادها ففيها طرافة، وفيها ظرف:
_________
= المؤمنين، فأين أنت عن الوليد سيد شباب العرب!، قال: "يا أبا زرعة، لا ينبغي أن يلي أمر العرب إلا من يتكلم بكلامها" فقام الوليد فدخل منزله فجمع إليه أصحاب النحو، فأقام ستة أشهر معهم، وخرج يوم خرج وهو أجهل بالنحو منه يوم دخل، فقال عبد الملك: "قد أجهد وأعذر" المصدر السابق، الورقة ٤٢١/ ١.
واحتج على عبد الملك بلحن الوليد هذا، فقد ذكر ابن عساكر أن عبد الملك قال لرجل من قريش: "إنك لرجل، لولا أنك تلحن" فقال: "وهذا ابنك الوليد يلحن! " قال عبد الملك: "لكن ابني سليمان لا يلحن" قال الرجل: "وأخي فلان لا يلحن! " الورقة ٤٢٤/ ١.
بل كان لا يستطيع تجنب اللحن حتى على المنبر، ذكره أبو الزناد يوما فقال: "كان لحانا، كأني أسمعه على منبر النبي ﷺ يقول: يا أهلُ المدينة! ".
بل كان لا يستطيع تجنبه حتى في آيات القرآن: قرأ يوما على المنبر: "يا ليتها كانت القاضيةُ" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز "وكان تحت المنبر": يا ليتها كانت "القاضية" عليك وأراحتنا منك! " الورقة ٤٢٤/ جـ.
وكان عمر بن عبد العزيز هذا أشد الناس في اللحن على ولده وخاصته ورعيته، وربما أدَّب عليه. إرشاد الأريب ١/ ٨٩.
1 / 15
"وفد بشكست النحوي على هشام بن عبد الملك، فلما حضر الغداء دعاه هشام، وقال لفتيان بني أمية: "تلاحنوا عليه" فجعل بعضهم يقول: "يا أمير المؤمنين، رأيت أبي فلان ... " ويقول آخر: "مر بي أبي فلان ... " ونحو هذا، فلما ضجوا أدخل يده في صحفة فغمسها، ثم طلى لحيته وقال لنفسه: "ذوقي، هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال! "١.
إلى هذا المدى بلغ أمر اللحن في المائة الأولى للهجرة والدولة عربية محضة، والعصبية ذات سلطان، والقوم حديثو عهد بجزيرتهم ولا تزال مجتمعاتهم تتناقل القول المشهور: "ليس للاحن حرمة" وتتعامل به، هذا عبد الملك بن مروان استأذن عليه رجل من عِلْية أهل الشام وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج فقال: "يا غلام، غطها" فلما دخل الرجل فتكلم لحن، فقال عبد الملك: "يا غلام، اكشف عنها، ليس للاحن حرمة". "الأضداد لابن الأنباري ص٢٤٥".
وبيت الخلافة أعرق بيوت قريش شرفا ومجدا وبلاغة وأقواها عصبية وعروبة٢، والعرب -كما قرر ابن جني-
_________
١ تاريخ دمشق لابن عساكر "مخطوطة الظاهرية" الجزء السابق الورقة ٤٥٤/ ١ ثم قال ابن عساكر فيه: "وكان نحويا أخذ عنه أهل المدينة، وكان يذهب مذهب الشراة ويكتم ذلك. فلما ظهر أبو حمزة الشاري بالمدينة "سنة ١٣٠هـ" خرج معه فقتل فيمن قتل بخلافة مروان بن محمد" واسمه عبد العزيز القارئ، وقيل في مقتله:
لقد كان بشكست عبد العزيز ... من أهل القراءة والمسجد
فبعدا لبشكست عبد العزيز ... وأما القرآن فلا يبعد
انظر النسخة الثانية من تاريخ دمشق لابن عساكر "رقم ٩/ ٣٣٧٤ تاريخ" ١٠ الورقة ٢٠٢، والأغاني ١/ ١١١ و٢٠/ ١٠٨ و١١٠، وإنباه الرواة ٢/ ١٨٣.
٢ هذا ومع ضعف السليقة العربية على الزمن لم يضعف استهجان الخاصة للحن، وحسبك هذه الحوادث الأربع رمزا إلى ذلك، وكلها في صدر الدولة العباسية: =
1 / 16
أشد استنكارا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولد، ولكنه لا ينطق باللحن.
ولذلك اشتد بلال بن أبي بردة على خالد بن صفوان لما رآه يلحن في حديثه العفوي معه فقال له: "أتحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقاءات؟! " فلنحاول تبيان ما اختط أهل العربية من خطط يعالجون بها استفحال الداء، وهل كانوا إلى الشدة حين شرطوا للاحتجاج تلك الشروط التي أسقطت الاحتجاج بكلام كثير من العرب حتى في زمن الجاهلية؟
تصنيف العرب من حيث الوثوق بسلامة لغتها:
من يحتج به:
يراد بالاحتجاج هنا إثبات صحة قاعدة، أو استعمال كلمة أو تركيب، بدليل نقلي صح سنده إلى عربي فصيح سليم السليقة على ما سيأتي تفصيله في موضعه.
_________
= تكلم أبو جعفر المنصور في مجلس فيه أعرابي فلحن، فصر الأعرابي أذنيه "حددهما مصغيا باهتمام" فلحن مرة أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابي: "أف لهذا، ما هذا؟! " ثم تكلم فلحن الثالثة فقال الأعرابي: "أشهد لقد وليت هذا الأمر بقضاء وقدر! ".
وقال سعيد بن سلم: "دخلت على الرشيد فبهرني هيبة وجمالا، فلما لحن خَفّ في عيني".
ودخل رسول والي الكوفة العباس بن محمد بن موسى على طاهر بن الحسين فقال له: "أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام" قال: "وما أنت منه؟! " قال: "كاتبه الذي يطعمه الخبز" فأمر توا بصرف العباس عن الكوفة؛ إذ لم يتخذ كاتبا يحسن الأداء عنه.
إرشاد الأريب ١/ ٨٣، ٨٤، ٨٦ بتصرف يسير، بل إن المأمون كان يأخذ عماله باللوم إذا كان في كتبهم إليه لحن، ويعد ذلك تفريطا في جانب مقام الخلافة، وإليك حديث ابن قادم النحوي الكوفي:
"وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي يوما فأحضرني، فلم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل وهو على غاية من الهلع والجزع، =
1 / 17
وإنما احتاج القوم إلى الاحتجاج لما خافوا على سلامة اللغة العربية بعد أن اختلط أهلها بالأعاجم إثر الفتوح، وسكنوا بلادهم وعايشوهم، فنشأ عن ذلك بسنة الطبيعة أخذ وعطاء في اللغة والأفكار والأخلاق والأعراف. وتنبه أولو البصر إلى أن الأمر آيل إلى إفساد اللغة وضياع العصبية من جهة، وإلى التفريط في
_________
= فقال لي بصوت خفي: "إنه إسحاق" ومر غير متلبث ولا متوقف حتى رجع إلى مجلس إسحاق، فراعني ذلك. فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال: "وهذا المال مالا" أو"وهذا المال مال"؟! فعلمت ما أراد ميمون، فقلت له: "الوجه "وهذا المال مال" ويجوز "وهذا المال مالا"" فأقبل إسحاق على ميمون بغلظة وفظاظة ثم قال: "الزم الوجه في كتبك، ودعنا من يجوز ويجوز" ورمى بكتاب في يده، فسألت عن الخبر فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون وهو ببلاد الروم عن إسحاق وذكر ما لا حمله، فكتب: "وهذا المال مالا" فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه في حاشيته: "تخاطبني بلحن!! " فقامت القيامة على إسحاق.
فكان ميمون بعد ذلك يقول: "ما أدري كيف أشكر ابن قادم، أبقى علي روحي ونعمتي!! " قال ثعلب راوي الحديث: "فكان هذا مقدار العلم وعلى حسب ذلك كانت الرغبة في طلبه والحذر من الزلل" قال: "وهذا المال مالا" ليس بشيء، ولكن أحسن ابن قادم في التأتي لخلاص ميمون. إنباه الرواة ٣/ ١٥٧ وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص١٥٣.
حتى إذا امتد الزمن خف الاستنكار شيئا ما، فصرنا نرى ثعلبا النحوي "لا يتكلف إقامة الإعراب في كلامه إذا لم يخش لبسا في العبارة" ونرى إبراهيم الحربي وقد ذكر له ذلك يقول: "أيش يكون إذا لحن في كلامه؟ كان هشام النحوي يلحن في كلامه، وكان أبو هريرة يكلم صبيانه بالنبطية". إنباه الرواة ١/ ١٤٠.
بل كان بعض الأمراء بالبصرة يقرأ "إن الله وملائكتُهُ" بالرفع، فمضى إليه الأخفش ناصحا له فانتهره وتوعده، وقال: "تلحنون أمراءكم!! " إنباه الرواة ٢/ ٤٣.
على أن من يعتد بهم في المجتمع مضوا على استهجان اللحن زمنا طويلا، فقد حدث حفص بن غياث قال:
"وجه إلينا عيسى بن موسى ليلا فصرنا إليه والجند سماطان، وقد امتلأنا رعبا منه فقال:
"ما دعوتكم إلا لخيرا" فزالت هيبته من قلوبنا لقبح لحنه". المصون للعسكري ص١٤٦ طبعة حكومة الكويت سنة ١٩٦٠م.
1 / 18
صيانة الدين من جهة ثانية، إذ كانت سلامة أحكامه موقوفة على حسن فهم المستنبط لنصوص القرآن الكريم والحديث الشريف، وكان في ضعف العربية تضييع لهذا الفهم.
بحث علماء العربية فيمن نقل الرواة عنهم من أهل المدر والوبر قدماء ومحدثين، وتقصوا أحوالهم ونقدوها، فاجتمعوا على الاحتجاج بقول من يوثق بفصاحته وسلامة عربيته، ونحن عارضون لأصناف هؤلاء زمانا ومكانا وأحوالا.
فأما الزمان، فقد قبلوا الاحتجاج بأقوال عرب الجاهلية وفصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني سواء أسكنوا الحضر أم البادية. أما الشعراء فقد صنفوا أصنافا أربعة: جاهليين لم يدركوا الإسلام، ومخضرمين أدركوا الجاهلية والإسلام، وإسلاميين لم يدركوا من الجاهلية شيئا، ومحدثين أولهم بشار بن برد١. وشبه الإجماع انعقد على صحة الاستشهاد بالطبقتين الأوليين واختلفوا في الطبقة الثالثة، وذهب عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب إلى جواز الاستشهاد بها٢ أما الطبقة الرابعة فلا يستشهد بكلامها في علوم اللغة والنحو والصرف خاصة، وكان آخر من يحتج بشعره على هذا الأساس بالإجماع إبراهيم بن هرمة "٧٠-١٥٠هـ" الذي ختم الأصمعي به الشعر٣. أما
_________
١ الاقتراح ص٣٢.
٢ خزانة الأدب ١/ ٢٠.
٣ الاقتراح للسيوطي ص٢٢ "مطبعة المعارف بحيدر آباد ١٣١٠هـ". هذا، وبعضهم يرى الاحتجاج بالطبقة الرابعة مستدلا باستشهاد سيبويه بشعر بشار بن برد في "الكتاب"، ويرد المعترضون بأنه إنما فعل ذلك خوفا من لسانه.
1 / 19
أهل البادية فقد استمر العلماء يدونون لغاتهم حتى فسدت سلائقهم في القرن الرابع الهجري١.
وعلى هذا "أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين، والمحدثين في اللغة العربية"٢.
وأما المكان أو بعبارة أخرى القبائل، فقد اختلفت درجاتها في الاحتجاج على اختلاف قربها أو بعدها من الاختلاط بالأمم المجاورة، فاعتمدوا كلام القبائل في قلب جزيرة العرب، وردوا كلام القبائل التي على السواحل أو في جوار الأعاجم، وإليك تصنيف أبي نصر الفارابي لهم في الاحتجاج:
أ- "كانت قريش أجود العرب انتقاء٣ للأفصح من
_________
١ قرر ياقوت في معجم البلدان مادة "عكد" أن جبلي "عكاد" فوق مدينة الزرائب "وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه".
"توفي ياقوت سنة ٦٢٦هـ" ثم جاء صاحب القاموس المحيط المتوفى سنة "٨١٧هـ" فقرر أن "عكادا" جبل باليمن قرب مدينة زبيد، وأهله باقية على اللغة الفصيحة.
ثم زاد المرتضي الزبيدي المتوفى سنة "١٢٠٥هـ" في شرحه للقاموس عند هذه المادة كلمة "إلى الآن" وقال: "لا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليالٍ خوفا على لسانهم! " ارجع إلى هذا المادة "عكد" في المراجع الثلاثة المذكورة. والزبيدي أقام في "زبيد" زمنا طويلا فهو بها عارف.
٢ الاقتراح ص٣١ وقد مال الزمخشري إلى استثناء أئمة العربية من ذلك، داعيا إلى "جعل الوثوق بكلامهم كالوثوق برواياتهم" وليس بشيء.
٣ قال ابن فارس: "وكانت قريش مع فصاحتها ... إذا اتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب" الصاحبي ص٢٣ "المطبعة السلفية بالقاهرة".
1 / 20
الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا وأبينها عما في النفس.
والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم:
قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.
ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم١.
ب- وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم:
لم يؤخذ من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط.
ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بصلاتهم بغير العربية.
ولا من تغلب ولا النمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية.
ولا من بكر؛ لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس.
_________
١ ومع هذا لم تكن لغات هؤلاء بالمرضية دائما، قال الحسن البصري يوما: "توضيت" فقيل له: "أتلحن يا أبا سعيد؟! " فقال: "إنها لغة هذيل، وفيها فساد". انظر كتاب "ألف باء" للبلوي ١/ ٤٦.
1 / 21
ولا من عبد القيس؛ لأنهم كانوا من سكان البحرين مخالطين للهند والفرس.
ولا من أزد عمان؛ لمخالطتهم للهند والفرس.
ولا من أهل اليمن أصلا؛ لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم.
ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم.
ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب، قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم١.
_________
١ الاقتراح للسيوطي ص٣٢ نقلا عن كتاب الفارابي "الألفاظ والحروف".
هذا وقد أورد الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" مقابلة طريفة بين لغات أهل مكة والبصرة والكوفة، يفيد إيرادها في شرح الظاهرة المذكورة أعلاه، قال الجاحظ: "أهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب؛ ولذلك نجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر.... وقال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: "ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة "هنا أهل مكة"" فقال محمد بن مناذر: "أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن وأكثرها موافقة له، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم: أنتم تسمون القدر برمة وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول "قدر" ونجمعها على قدور، وقال الله ﷿: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ وأنتم تسمون البيت "علية" وتجمعون هذا الاسم على علالٍ ونحن نسميه "غرفة" ونجمعه على غرف وغرفات، وقال الله: ﴿غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ وقال: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ﴾، وأنتم تسمون الطلع "الكافور والإغريض" ونحن نسميه الطلع وقال الله: ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ فعد عشر كلمات لم أحفظ أنا منها غير هذا.
ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيها ناس من الفرس في قديم الدهر، علقوا بألفاظ من ألفاظهم؛ ولذلك يسمون البطيخ "الخربز" ويسمون ... إلخ.
وكذا أهل الكوفة يسمون المسحاة: "بال" وبال بالفارسية، ولو علق ذلك لغة أهل البصرة إذ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبه إذ كان أهل =
1 / 22
وكأن هذا التصنيف حاز القبول وجرى عليه العمل وكان الخروج عليه مدعاة إلى النقد، ولما اعتمد ابن مالك على لغات لخم وجذام وغسان، تعقبه باللوم أبو حيان فقال في شرح التسهيل: "ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن"١.
وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لا أقول: "قالت العرب" إلا ما سمعت من عالية السافلة وسافلة العالية" يريد ما بين نجد وجبال الحجاز حيث قبائل أسد وتميم وبعض قبائل قيس٢، بل كان عثمان يقول: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"٢.
وأما أحوال هؤلاء العرب المحتج بهم فخيرها ما كان أعمق في التبدي وألصق بعيشة البادية؛ ولذا كان مما يفخر به البصريون على الكوفيين أخذهم عن الأعراب أهل الشيح والقيصوم وحرشة الضباب وأكلة اليرابيع، ويقولون للكوفيين: "أخذتم عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ"٣. وقد نص
_________
= الكوفة نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب، ويسمي أهل الكوفة الحوك "البقلة الحمقاء" بازورج، والبازورج بالفارسية والحوك كلمة عربية. وأهل البصرة إذا التقت أربع طرق يسمونها "مربعة" وتسميها أهل الكوفة "جهارسو" والجهار بالفارسية. ويسمون السوق أو السويقة وازار والوازار بالفارسية، ويسمون القثاء خيارا والخيار فارسية، ويسمون المجذوم يذي بالفارسية. ا. هـ ١/ ١٨.
وبهذه الأمثلة التي طغى فيها الأثر الاجتماعي على الأثر الجغرافي تدرك الحافز لعلماء العربية على إسقاط من أسقطوا في الاحتجاج من العرب في الجاهلية والإسلام.
١ الاقتراح ص٢٤.
٢ انظر مجلة مجمع اللغة العربية "بالقاهرة" ٨/ ١٤١.
٣ الشيراز: اللبن المصفى، والكامخ: إدام، انظر القاموس المحيط.
1 / 23