छाया के दरार से
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
शैलियों
حاولت حفظ بعض الأبيات الشعرية بلغات محلية غير العربية التي أتحدث بها؛ لأننا كنا مزيجا مختلفا من قوميات مختلفة وخليطا غير متجانس من توجهات وأفكار متباينة بشدة أحيانا، إلا أن ما كان يوحدنا قضية واحدة. همنا في مواجهة الظلم والسعي إلى وطن حر خال من الفاشية والدكتاتورية، وطن نعيش به بهناء وسعادة نتحدث فيه ولا نخشى من حائط يسترق السمع فيه إلينا، وطن نفكر على أرضه وفي سمائه بصوت عال لا نخشى أن تقطع رءوسنا فيه؛ لأنها فقط مارست التفكير بلا قيود، وطن لا يخوض مغامرات دون كيشوتية تسفك فيها دماء أبنائه من أجل إرضاء نزوة حاكم بقرار اتخذه ولم يراع فيه مصلحة لشعبه ولا استمع لرأيه فيه. همنا كان الحرية، أن نعيش أحرارا نحن ووطننا كما جئنا لهذه الدنيا قبل أن يمارس طغاة مستكبرون جهلة يمقتون العلم والحياة مهمة الحكم فيه يحاولون استعباد الناس وتجهيلهم.
الشاعر المصرفي كانت له قصة خاصة؛ إذ اعتقل بوشاية خائن، ولم يكن اعتقاله علنيا، بل جرى اختطافه بكمين بشكل سري للغاية. ولم يكن يعرف أحد بأمره، لا من أهله ولا من رفاقه. كانوا يجهلون أنه يقبع في إحدى الزنزانات المظلمة الانفرادية في القبو الذي سكنت فيه طوال فترة التحقيق بظروفه الرهيبة. كان رجال الأمن يوهمون أهله ومتعلقيه بطرق شتى أنه هارب من السلطة خارج البلد، وهي تبحث عنه وتفتش أيضا عن أخباره. كانوا يشيعون عنه أخبارا عبر مندس خائن يعمل لصالح السلطة القمعية: بأنه استقر في دولة عربية مجاورة، ويتسلل بين حين وآخر عبر الحدود ويرسل رسائل من هناك. كان الأمن يصنعون هذه الرسائل بطرق احتيالية بالطلب منه كتابة مقاطع بحجة مطابقة الخطوط، أو اعترافات عليه أن يدونها بنفسه، وطرق أخرى، إيهاما منهم لرفاقه بأنها فعلا منه للإيقاع بأفراد التنظيم. وبعد ما يقارب السنة الكاملة أو يزيد من الإخفاء في زنزانة انفرادية في هذا القبو المرعب، تم إلقاء القبض على كامل المجموعة تقريبا، واكتشف رفاقه حقيقة اختفائه عندما التقوه للمرة الأولى أثناء التحقيق معهم. كان لون وجهه قد غدا أصفر شاحبا بعد أن حجبت الشمس عنه تماما طوال هذه السنة، وصار نحيلا جدا يتقيأ دما من جراء مرض التدرن الذي أصيب به جراء عتمة وعفونة الزنزانة التي كان يقطنها، كان سيموت حتما حتى لو تركوه لحاله لكنهم أبوا إلا أن يضعوا بصمتهم المقرفة على خاتمته، فقتلوه شنقا هو وبعض رفاقه.
كان يحدثني هو ورفيق له في المجموعة التي اعتقلت لاحقا له، عن العيش المر لأشهر عديدة في تلك الزنازين المظلمة، وكيف أن أجسادهم تتقرح من جروح تملؤها بسبب التعذيب المتواصل. هذه الجروح لم تكن تجد من يداويها ولا من سبيل لأن تبرأ، للظروف بالغة السوء في تلك الزنازين التي استعرضتها سابقا والتي سكنتها لفترة وجيزة. ظروف لا يتخيل أحد أنها تحصل لإنسان وربما حتى الذي يعرف وحشية النظام الدكتاتوري أيضا لم يكن ليصدق أنها تحصل. كانت أحداثها أشبه بلوحة سريالية سوداء، وهذه قصة واحدة من تلك اللوحات السريالية.
أسراب من الديدان تستوطن الزنزانات الانفرادية تعيش على جروح وقروح المعتقلين فيها تمتص دماءهم، ولا من حيلة لهم للخلاص منها لغزارتها أولا، ولحال الجسد المنهك ثانيا. إذ لا يمكن الاهتمام بنظافة الجسد بالمطلق كما شرحت من قبل عن ظروف هذه الزنزانات. كان في إحدى الزنزانات رفيق له يملك محلا لبيع المجوهرات والحلى الذهبية ولا يشكو عوزا ماديا، وهو من أوضح الأمثلة. إن من كان يعارض النظام الدكتاتوري لم يكن يفعل ذلك بسبب عوز مادي أو حاجة تنقصه أو فقر يدفعه للثورة، بل كانت معارضة طلبا للحرية ورفضا للدكتاتورية وتحديا للقمع والتسلط.
تلك الديدان كانت تعيش على قروح وجروح صاحب محل المجوهرات، وكان معها كما هو مع كل الناس والدنيا رقيقا لدرجة أقرب من الخيال وصبورا بطريقة عجائبية. كان يشفق على تلك الديدان عندما تسقط من بعض جروحه ويعود ليلتقطها ثانية من الأرض ويرجعها إلى جرحه، قائلا لها: كلي من رزقك. الحياة عنده انتهت، والخاتمة باتت معروفة، فلماذا لا يساعد هذه الديدان على الحياة. لم يكن هذا يأسا منه ولا إحباطا كما قد يظنه البعض، بل كان على خلاف ذلك بالتمام، كان قويا جدا، ويتحمل صنوف التعذيب بطريقة عجيبة وصبر لا يوصف. صبره واستعداده للموت كان حافزا له لأن يهب الحياة لمن بعده حتى لو كان من هوام الأرض وديدانها. لا أستطيع أبدا - حتى هذه اللحظة - أن أصف مقدار رقتهما وإنسانيتهما هو وصاحبه المصرفي، وصدقا لو رويت لي شخصيا هذه القصة من ألف ناقل ثقة ما كنت أصدقها لولا أني رأيت بعيني جروح الرجل وندوبه، وإني نفسي عشت في المكان نفسه ولو لفترة وجيزة ورأيت فيه ما يشبه الخيال مما أعجز الآن عن سرده أو وصفه. كان أحدنا يقول: لو روينا ما يحصل هنا لقال الناس عنا كلمتين ليس غير: إنكم إما كذبة أو أنتم مجانين.
لكن هذا الذي لا يصدق قد حصل فعلا، وحصل مضافا لهذا كله أنهم قطعوا رأس صاحبي؛ المصرفي البارع والصائغ الرقيق مطعم الديدان.
11
في زنزانتنا كان الوضع أفضل من وضع الزنزانة الانفرادية؛ لأننا كنا نقوم بزيارات سريعة للاستحمام وإن كان لا يعدو عن جردل ماء يسكب على أجسادنا، ويحصل ذلك بطريقة كوميدية؛ حيث كنا نخرج كل اثنين سوية إلى دورة المياه، يجلس أحدنا لقضاء حاجته بعد أن يزوي كل ثيابه عنه متجردا منها، فيما يقوم الآخر في هذه الأثناء بملء جردل ماء ويسكبه على صاحبه، خلال ذلك توضع الملابس التي ينوى غسلها في حوض مغسلة الأيدي، ونمنع تسرب الماء منها إلى المجرى بحشر أي شيء في فتحتها؛ لكي تأخذ ملابسنا فرصة كافية لتغمر تماما في الماء، وبالطبع كنا ننقعها دون أي مسحوق غسيل، بيد أنه في بعض المرات قد يصدف هناك وجود بقايا لقطعة صابون نسارع لاستخدامها بحكها بالثياب. لكن هذا لم يحسن الوضع كثيرا؛ إذ سرعان ما اكتشفنا أي مأزق نحن الذي فيه، خصوصا مع حكة كانت تهرشنا في أماكن شتى من جسمنا، ولنكتشف بعد ذلك أن خلف هذه الحكة أسرابا بأعداد هائلة من قمل يزاحمنا العيش في هذه الزنزانة الضيقة بل يعتاش علينا.
كنا نخوض مع جمهورية القمل معركة لم ننتصر فيها أبدا، رغم حجم الخسائر الكبيرة التي نوقعها فيه. ولم تكن هذه المعارك خيارا تطوعيا، بل واجبا إلزاميا لا بد من خوضه بشكل شبه يومي. كانت تتجمع أسراب سوداء في حواشي ملابسنا بصورة كثيفة تتغذى على ما تبقى لدينا من دماء.
كان للصراع مع القمل طقوس خاصة لا بد أن يتحصل منها بالنتيجة خلع ما نكتسي به كلية. في البدء ننزع الملابس الخارجية ونبقي الداخلية منها علينا، ثم نعود لنستبدل الخارجية بالداخلية بعد الانتهاء من المرحلة الأولى أو العكس بالعكس، كل بحسب مزاجه إلا أن تقديم نزع الخارجية على الداخلية هو التقليد السائد والأكثر عملية، ثم نملأ أكوابا من ماء، هذه الأكواب كنا نحظى بها من لبن خاثر يعطى إلينا في مناسبات متفرقة كثيرة. تبدأ عملية الاصطياد التي نسميها «قصع» في جلسات طويلة نسحق القمل فيها بين أظافرنا بما سرقه من دمائنا وادخره في أحشائه. أظافرنا تتسخ بدمائنا ونحن نحسب أننا قتلنا عدونا، وهكذا هي المعارك الفاشلة.
अज्ञात पृष्ठ