والجانب الفكري متغلغل في صميمها وإن برز مستقلا في مثل هذين البيتين:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
فاللبيب اللبيب من ليس يغتر
ر بكون مصيره للفساد
وهو في هذا الشعر العظيم المعبر الأمين عن مأساة الإنسانية وحيرتها الكبرى في جميع الأزمان.
ومن نماذج الشعر الصافي الذي تدعمه العاطفة مستقلة في مجمله في النهاية ولا تجد فيها الإنسانية إلهاما ولا عزاء أو سلوى. وبين الشواهد على ذلك نظم الكثيرين الذين روى لهم السيوطي في (نظم العقيان).
إن التجربة الشعرية هي الدعامة الأولى للشعر، فإذا افتقدت لم تكن للموسيقى النظمية ولا لمتانة الديباجة ولا للتخيل المصطنع أية فائدة للفن، بل كانت جميعها مفردات أو تراكيب للافتعال وللتحايل على الشعر، وما كان التطفل على الفن فنا. والشاعر الذي لا تشمل روحه الكونيات الخالدة ليس إلا شاعر نفسه أو بيئته أو زمنه أو موضوعه المحدود.
وكان بودي أن أضمن هذا التصدير الوجيز في التجربة الشعرية نماذج خالدة من الشعر العصري وعلى الأخص في العالم الجديد تؤيد وجهة نظري المتقدمة، لولا أنها عديدة، ولولا أني لا أحب أن يتوهم استشهادي بالبعض دليلا على عدم اعتباري لما عداه، في حين أني أعتز بالشعر العربي الأصيل الجميل قديمه وحديثه أينما كانت مصادره ومواطنه وكأني صاحبه. وما أقصد بهذا التصدير - استجابة إلى دعوة الناشرين - إلا خدمة الناشئين بين قرائي، وإجابة السائلين عن بعض آرائي الفنية، ثم الدفاع عن الشعر وعن حق الشعراء في تنويع إنتاجهم وفي التعبير عن تجاريبهم الشعرية حسب أذواقهم وحدها فهي - دون غيرها - التي تكيف نماذج الشعر وتغني آدابنا بروائعه المنوعة التي لن تحد ما تنوعت الإنسانية وما تجددت الحياة وما تعددت ضروب التفاعل معها.
بقيت كلمة لا غنى عنها لمجانبة عامل غريب أساء إلى التجربة الشعرية في أدبنا، ألا وهو الأسلوب الخبري التقريري الذي يقوم على البيت وتصنع الحكمة المنظومة، فإن هذا العامل التقليدي لم ينفع إلا الفحول من الشعراء المطبوعين الكلاسيكيين، وشتان بين قوة ابن دريد في مثل هذا الشعر الحكيم الداعي إلى التبصر والمبشر بالكفاح والاحتمال:
अज्ञात पृष्ठ